أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

ناشئة من تعارض الأُصول الناشئ عن عدم جواز الجمع بين الأصلين ، فالظاهر أنّه لا مانع من إجراء الأصل في واحد منهما حسبما يختاره ، ونتيجة ذلك هو التخيير.

إلاّ أن يقال : إنّ التعارض الناشئ عن لزوم الترجيح بلا مرجّح يتحقّق في المقام ولو لم يمكن إجراء الأصل في كلّ منهما ولو على التدريج.

وبالجملة : أنّ المانع من الجمع بين الأصلين تارةً يكون هو لزوم المخالفة القطعية ، وأُخرى يكون هو أنّ الجمع بنفسه غير ممكن عقلاً كما فيما نحن فيه ، فإنّ الجمع في الترخيص العملي في الطرفين غير ممكن عقلاً ، وحينئذ تنتهي النوبة إلى إجرائه في أحدهما دون الآخر ، وبعد وصول النوبة إلى ذلك ينتهي الأمر إلى برهان التساقط وهو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، هذا كلّه فيما لو كانت المخالفة القطعية غير مقدورة عقلاً ولو بأن تكون محتاجة إلى زمان لا يسعه العمر.

أمّا لو [ لم ] تكن كذلك ، بل لم يكن في البين إلاّكونها غير مقدورة عادة ، بأن كانت محتاجة إلى كلفة لم تجر العادة بارتكابها مع فرض إمكانها عقلاً ، فالعقل لا يتنازل بمجرّد ذلك عن حكمه بقبحها والتنفّر منها والزجر عنها ، ولو سلّم ذلك فلا أقل من كونها في نظر العقل من قبيل غير المقدور عقلاً ، وقد عرفت الحال فيه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في تحرير السيّد سلّمه الله فإنّه بعد أن أفاد في ضابط الشبهة غير المحصورة بقوله : بل المدار فيه هو عدم إمكان الجمع في الارتكاب بحسب العادة وإن كان ممكناً عقلاً ، قال : أمّا من جهة حرمة المخالفة القطعية ، فلأنّ المفروض عدم التمكّن منها لكثرة الأطراف ، فلا يمكن

١٦١

أن يتّصف بالحرمة عقلاً أو شرعاً الخ (١). أمّا الحرمة شرعاً فلا محل لها في المقام ، إذ ليست حرمة المخالفة القطعية شرعية كي يتكلّم عليها. وأمّا الحرمة العقلية فليست هي إلاّعبارة عن حكم العقل بقبحها والتنفّر منها والانزجار منها والزجر عنها ، وذلك متحقّق فيما يكون ممكناً عقلاً وإن كان غير ممكن عادة. نعم لو كانت غير ممكنة عقلاً كما فرضه فيما لو احتاج ارتكاب الجميع إلى ما هو أزيد من العمر الطبيعي ، فقد عرفت أنّ ذلك من باب عدم حكم العقل بالقبح والزجر ، لا من باب الحكم بعدم القبح ، على وجه يكون العقل مسوّغاً للمخالفة القطعية ، ليكون ذلك موجباً لسقوط لزوم الموافقة القطعية.

وبالأحرى أن نقول : إنّ هذا العلم الاجمالي ليس له مخالفة قطعية كي تكون مورداً لحكم العقل بحسن أو قبح أو تسويغ أو زجر ، وهل هي بعد فرض عدم القدرة عليها عقلاً إلاّمن قبيل الجمع بين الضدّين أو النقيضين في أنّه لا مورد للحكم العقلي بها إلاّبالامتناع والاستحالة ، دون ما هو من مقولة الحسن أو القبح ونحوهما.

نعم ، لو كان لنا دليل شرعي يدلّ على أنّ المخالفة القطعية محرّمة شرعاً ، لكان ذلك التكليف الشرعي المتعلّق بترك المخالفة القطعية قبيحاً عند عدم التمكّن العادي منها ، كما يقبح النهي عن مثل شرب الخمر عند عدم التمكّن العادي من الإقدام عليه ، كما مرّ تفصيله في مبحث الخروج عن الابتلاء.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المراد هو أنّ التكليف الواقعي بمثل الاجتناب عن النجس يكون قبيحاً عند عدم التمكّن من ارتكاب جميع الأطراف الكثيرة التي يعلم إجمالاً بوجود النجس فيما بينها.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٢.

١٦٢

لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ ترتّب حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية على التكليف الواقعي لا يكون موجباً لقبحه ، إذ ليس ذلك مثل الحرج المترتّب على الحكم الواقعي بواسطة حكم العقل. مضافاً إلى أنّا قد منعنا ذلك في مثل الحرج فمنعه فيما نحن فيه أولى. مع أنّه لو تمّ فيما نحن فيه لكان موجباً لسقوط ذلك التكليف الواقعي بتاتاً ، فلا حاجة حينئذ إلى تكلّف سقوط لزوم الموافقة القطعية بما أُفيد من أنّه بعد سقوط حرمة المخالفة القطعية لا يبقى مانع من الجمع بين الأُصول النافية في الأطراف ، فإنّه بعد البناء على سقوط التكليف الواقعي بتاتاً لا معنى للتكلّم في وجوب موافقته الاحتمالية فضلاً عن موافقته القطعية.

لا يقال : لعلّ المراد هو أنّ عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية لا يوجب سقوط التكليف الواقعي بتاتاً ، بل إنّما يوجب سقوطه من حيث اقتضائه لحرمة المخالفة القطعية ، وحينئذ يبقى الكلام في سقوطه من حيث اقتضاء الموافقة القطعية ، فنحتاج في توجيه سقوطها بما أُفيد من أنّه لا مانع من الجمع بين الأُصول النافية في الأطراف.

لأنّا نقول : قد تقدّمت (١) الاشارة في مباحث الاضطرار إلى غير المعيّن إلى أنّه لا معنى لاسقاط التكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية دون حيث وجوب الموافقة القطعية ، فإنّ التكليف الواقعي واحد لا تعدّد فيه من هذه الحيثيات العقلية.

لا يقال : يمكن أن ينزّل ما أُفيد هنا في وجه سقوط العلم الاجمالي على ما أُفيد في مسألة الخروج عن الابتلاء ، من أنّه لو كان بعض الأطراف معيّناً غير مقدور الارتكاب عادةً لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً ، حيث إنّ الحال فيما نحن

__________________

(١) في الصفحة : ١١٤.

١٦٣

فيه كذلك ، لأن بعض الأطراف بواسطة عدم إمكان الجمع لا يتمكّن عادةً منها.

لأنّا نقول : إنّ العلم الاجمالي إنّما يسقط عن التأثير في تلك المسألة لكون المعلوم على تقدير انطباقه على ذلك الطرف الخارج عن الابتلاء يكون التكليف بالاجتناب عنه قبيحاً ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يتأتّى فيما نحن فيه ، لأنّ المفروض أنّ أيّ طرف من هذه الأطراف لا يكون التكليف بالاجتناب عنه لو كان هو النجس قبيحاً ، لفرض التمكّن منه عقلاً وعادة ، وإنّما كان عدم التمكّن العادي بالنسبة إلى جهة الجمع التي هي المعبّر عنها بالمخالفة القطعية ، وقد عرفت الإشكال في اتّصاف حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية بالقبح المذكور.

ولعلّه قدس‌سره أشار إلى ذلك بقوله في حاشية العروة في ضابط الشبهة غير المحصورة بما هذا لفظه : لو بلغت المشتبهات من الكثرة حدّاً لا يتمكّن عادة من جميعها وإن تمكّن من آحادها على البدل ، كان ذلك من غير المحصور (١) فقوله : وإن تمكّن من آحادها الخ ، إشارة إلى أنّه ليس الميزان والضابط في الشبهة غير المحصورة هو كون الكثرة موجبة لعدم التمكّن من ارتكاب تلك الأطراف على البدل ، ليرجع الملاك في الشبهة غير المحصورة إلى الملاك فيما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن الابتلاء ، بل إنّ الملاك في غير المحصورة هو عدم إمكان ارتكاب الجميع بواسط كثرة الأطراف ، وحينئذ فيكون مختصّاً بالكثرة البالغة إلى هذا الحدّ ، ولا يشمل الخروج عن الابتلاء ، فلاحظ وتدبّر.

تنبيه : ربما يتوهّم الايراد على ما أفاده قدس‌سره في ملاك الشبهة غير المحصورة بعدم القدرة على المخالفة القطعية بما إذا كان عدم القدرة شرعياً ، مثل الأُختين اللتين يعلم بحرمة إحداهما من جهة كونها ذات زوج لو عقد بكر عليها وشكّ في

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام ) ١ : ١٠٩ مسألة «١».

١٦٤

المعقود عليها منهما ، فإنّ زيداً مثلاً يعلم بكون إحداهما ذات زوج ، وبمقتضى عدم قدرته على الجمع بينهما شرعاً ينبغي أن يقال إنّه يجوز لزيد أن يتزوّج إحداهما.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه وإن لم يكن قادراً على الجمع بينهما من جهة حرمة الجمع بين الأُختين ، إلاّ أنه قادر على المخالفة القطعية لذلك العلم الاجمالي بأن يتزوّج إحداهما ثمّ يطلّقها ويتزوّج الأُخرى.

والأولى أن يمثّل لذلك بالاناءين المملوكين لزيد ، وقد أذن لعمرو في شرب واحد منهما وترك الآخر ، فصار جواز شرب كلّ منهما مقيّداً بترك الآخر ، وحرمة شرب كلّ منهما مقيّدة بشرب الآخر ، وحينئذ فلو علم عمرو بوقوع نجاسة في أحدهما كان من موارد عدم القدرة شرعاً على ارتكابهما ، لكنّها لا تؤثّر في حكم العقل بالمنع من شربهما معاً ، لكونه مخالفة قطعية لكلّ من التكليفين المفروض كونها مقدورة عقلاً ، وحينئذ تكون الموافقة القطعية لازمة على كلّ من القول بكون العلّة هي العلم الاجمالي والقول بأنّ العلّة هي التعارض.

قوله : وأمّا الوجه الثاني ، وهو دعوى استلزام الموافقة القطعية فيها للعسر والحرج غالباً ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو كان المراد هو سقوط الموافقة القطعية في الشبهات غير المحصورة التي لا يكون الاجتناب عن أطرافها حرجياً لأجل كون ذلك هوالغالب في الشبهات غير المحصورة ، فهو كما أُفيد من أنّ ذلك لا يكون إلاّمن قبيل حكمة التشريع الذي لا يصدر الحكم على طبقه إلاّمن الشارع ، وأمّا لو كان المراد هو إسقاط الموافقة القطعية في خصوص الشبهات غير المحصورة التي تكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٢٠.

١٦٥

الموافقة القطعية فيها مستلزمة للعسر والحرج ، فلا يتوجّه عليه الايراد المذكور ، لكن لابدّ في كيفية تحكيم دليل نفي العسر والحرج من أحد وجهين :

أحدهما : تسليطه على نفس التكليف الواقعي ، بدعوى أنّه يكفي في كونه حرجياً هو استلزامه للحرج ولو بواسطة حكم العقل بلزوم الاحتياط ، فتكون النتيجة حينئذ هي سقوط الاحتياط بالمرّة ، وعدم حرمة المخالفة القطعية كما يوجب عدم لزوم الموافقة القطعية.

ثانيهما : ما تقدّم (١) من طريقة تقييد إطلاق التكليف الموجود في هذا الطرف سواء اجتنب البواقي أو لم يجتنب ، ولازم ذلك تبعيض الاحتياط وسقوطه بمقدار ما يرتفع به الحرج.

ولا يخفى أنّه لو خلّينا نحن والعسر والحرج لكان مقتضاه تعيّن الوجه الثاني ، للزوم الاقتصار على ما يرتفع به العسر والحرج ، ومع ارتفاع العسر والحرج بتقييد الاطلاق المزبور لا وجه للوجه الأوّل الذي يكون مقتضاه رفع التكليف بتاتاً.

أمّا الإجماع فالظاهر أنّه لا ريب فيه. وما أُفيد من أنّه ليس في البين إجماع تعبّدي لا يخلو عن تأمّل ، لأنّا لو خلّينا نحن ودليل العسر والحرج لكان مقتضاه هو الطريقة الثانية ـ أعني طريقة إسقاط الاطلاق ـ التي يكون مقتضاها الاقتصار على ما يرتفع به العسر والحرج ، والظاهر من الإجماع أنّه إجماع على جواز ارتكاب الأطراف بقول مطلق من دون اختصاص بالمقدار الذي يرتفع به العسر والحرج.

نعم ، يبقى الكلام حينئذ في أنّ ذلك الإجماع هل يشمل الشبهات غير

__________________

(١) في الصفحة : ١١٦ وما بعدها.

١٦٦

المحصورة التي لا تكون الموافقة القطعية فيها مستلزمة للعسر والحرج ، أو أنّ القدر المتيقّن منه هو خصوص ما كانت الموافقة القطعية فيه مستلزمة للعسر والحرج ، والقدر المتيقّن من الإجماع المذكور وإن كان هو خصوص ما كان مستلزماً للعسر والحرج ، إلاّ أن الإنصاف أنّه لا يخلو عن ظهور في الاطلاق ، وبناءً على ذلك تكون النتيجة هي قيام الإجماع على سقوط التكليف في جميع الشبهات غير المحصورة وإن لم تكن موافقتها القطعية مستلزمة للعسر والحرج.

وحينئذ يكون كلّ من وجوب موافقته القطعية وحرمة مخالفته القطعية ساقطاً ، ولا يمكن تخصيص ذلك السقوط بالموافقة القطعية ، لأنّها حكم عقلي لا تتمشّى فيه حجّية الإجماع ، فلابدّ أن نصرفه إلى جهة شرعية وهي سقوط نفس التكليف الواقعي ، إمّا في جميع الشبهات المذكورة أو في خصوص ما كانت الموافقة القطعية فيه حرجية ، وبأيّ أخذنا يكون جواز الإقدام في كلّ واحد من أطراف الشبهة غير المحصورة غير محتاج إلى إجراء الأصل النافي ، لأنّه بعد الاعتراف بسقوط التكليف الواقعي المعلوم وجوده فيما بينها ، لا يبقى شكّ في آحاد الأطراف من ناحية العلم الاجمالي. وبعبارة أُخرى : لا يكون ذلك العلم الاجمالي مؤثّراً حتّى في توليد الشكّ في آحاد الأطراف ، بل يكون ذلك العلم بمنزلة العدم ، بل لا يكون علماً بوجود التكليف أصلاً.

ومع قطع النظر عن الإجماع المزبور فالرواية الشريفة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض » الخ (١) بعد فرض العمل على طبقها ، كافية في إتمام المطلب المزبور ، فإنّها ظاهرة بل صريحة في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٥ ( مع اختلاف يسير ).

١٦٧

عدم لزوم الاجتناب عن أطراف الشبهة. وما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) في ردّها بكون المراد هو أنّ جعل الميتة في مكان خاصّ لا يوجب العلم بوجودها فيه في باقي الأمكنة بعيد غاية البعد ، بل يكاد يقطع بعدم إرادته.

نعم ، لو كان ذلك المكان معيّناً عند السائل لأمكن أن يقال : إنّ مفاد الرواية حينئذ هو أنّ علمك بوجود الحرام في ذلك المكان لا يوجب الاجتناب عن جميع ما في الأرض ، لكن المفروض أنّه لم يعيّن مكاناً خاصّاً ، وإنّما أقصى ما عنده هو أنّه قد علم بوجود المحرّم في جملة الجبن الموجود في الأرض من جهة أنّه أخبره من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فصار بسبب ذلك يعلم إجمالاً بأنّ ما في الأرض بعضه محرّم ، هذا.

مضافاً إلى تصريح الإمام عليه‌السلام بأنّه عليه‌السلام يشتري اللحم من السوق ، وأنّه عليه‌السلام لا يظنّ أنّ كلّهم يسمّون ، الظاهر في أنّ المراد من نفي الظنّ نفي الاحتمال ، كما أفاده الشيخ نفسه في بيان معنى قوله عليه‌السلام : « ما أظن كلّهم يسمّون » ، فإنّ إرادة نفي الاحتمال من نفي الظنّ شائع كثير.

وبالجملة : أنّ الرواية ظاهرة بل صريحة في الاستنكار على من يلتزم بالاجتناب عن الجبن الموجود في الأرض لوجود الميتة في بعض أطرافه ، وهو عين ما نحن فيه من الشبهة غير المحصورة.

ولا يبعد أن يكون مدرك ذلك الإجماع هو هذه الرواية الشريفة ، وحيث إنّها لم تقيّد جواز الارتكاب بمقدار ما يرتفع به العسر والحرج ، كان تنزيلها على الوجه الثاني من وجهي إعمال العسر والحرج مقطوعاً بعدمه. ونظراً إلى أنّ الاجتناب عن الجبن الموجود في جميع أقطار الأرض ممّا يحتمل أنّه فيه الميتة

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

١٦٨

ليس بحرجي ، بل يمكن أن يقال : إنّه لا حرج في ترك أكل الجبن حتّى ما علم أنّه ليس فيه الميتة فضلاً عن ترك خصوص ما يحتمل فيه الميتة على نحو الشبهة غير المحصورة ، وبواسطة هذه الجهة تكون الرواية دليلاً على جواز ارتكاب الأطراف وإن لم تكن الموافقة القطعية فيها حرجية.

نعم ، يمكن أن تكون الحكمة في ذلك هو رفع الحرج ، نظراً إلى أنّ الغالب من موارد الشبهات غير المحصورة يكون فيه الحرج ، وحينئذ يصحّ ما ذكره البعض من التعليل بأغلبية العسر والحرج ، لكنّه حكمة لا دليل.

وكيف كان ، فالرواية الشريفة بناءً على ذلك تكون دالّة على سقوط التكليف في الشبهات غير المحصورة بقول مطلق ، وعدم حرمة المخالفة القطعية فضلاً عن لزوم الموافقة القطعية.

وما يقال في الإجماع من تنزيله على جعل البدل فلا يدلّ على سقوط حرمة المخالفة القطعية ( كما حرّرته عن درس الأُستاذ العراقي ) لا يتأتّى في الرواية الشريفة ، لما عرفت من إطلاقها ودلالتها على جواز الارتكاب بقول مطلق ، من غير تقييد بعدم استلزام المخالفة القطعية ، إذ لو كانت منزّلة على ذلك لكان اللازم أن يشار إليه في الرواية الشريفة ، وكون الغالب هو بقاء مقدار الحرام المعلوم لا يصحّح إطلاق الحكم بجواز الارتكاب.

والحاصل : أنّ جعل البدل إنّما يتأتّى في مثل قاعدة الفراغ ونحوها دون أمثال هذه الموارد ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوائل العلم الاجمالي (١) ، وأنّ أمثال البراءة ونحوها لا تتكفّل بجعل البدل.

__________________

(١) في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، فراجع الحاشية المذكورة في الصفحة : ٣٧٠ ، وكذا راجع الصفحة : ٤١٤ وما بعدها ، وكذا الحاشية المذكورة في الصفحة : ٤٢٥.

١٦٩

ومنه يظهر لك أنّ طريقة جعل البدل مخدوش فيها حتّى في الإجماع المزبور.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على اختصاص الإجماع والرواية بخصوص ما كانت فيه الموافقة القطعية مستلزمة للعسر والحرج ، يكون الضابط واضحاً. أمّا بناءً على التعميم لجميع الشبهات غير المحصورة فلابدّ أن نقول : إنّ الضابط فيها هو كثرة الأطراف عرفاً ، على وجه يكون ملاحظة العلم الاجمالي فيها مورداً للاستنكار والاستغراب كما تضمّنته الرواية الشريفة بقوله عليه‌السلام : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض » ، ولعلّه يكفي فيه أن تكون الأطراف من الكثرة بحيث تكون كثرتها موجبة لضعف الاحتمال ، وعدم اعتناء العقلاء به.

لكن في النفس شيء من هذه التوسعة ، والذي يظهر ممّا راجعته في شروح الشرائع والقواعد كمفتاح الكرامة (١) وكشف اللثام (٢) والجواهر (٣) والمسالك (٤) وصلاة المرحوم الحاج آغا رضا (٥) في مكان المصلّي عند الكلام على الشبهة المحصورة وغيرها في مبحث مسجد الجبهة ، هو تعليل أغلبهم بالمشقّة والعسر والحرج ، فراجع كلماتهم في هذا المقام ونحوه.

ثمّ لا يخفى أنّ المتحصّل ممّا ذكرناه في كيفية سقوط الاحتياط في موارد الشبهة غير المحصورة وجوه ثلاثة ، بعضها أوسع من بعض :

__________________

(١) مفتاح الكرامة ٣ : ٤٤٣.

(٢) كشف اللثام ٣ : ٣٤٩.

(٣) جواهر الكلام ٨ : ٤٤٥.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٥) مصباح الفقيه ( الصلاة ) ١١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

١٧٠

أوّلها : أن نقول باطلاق الرواية ومعقد الإجماع وشموله لجميع الشبهات غير المحصورة ، سواء كان الاجتناب عن أطرافها حرجياً أو لم يكن ، ونقول بأنّ مفاد الإجماع والرواية هو رفع التكليف في موارد الشبهة المذكورة مطلقاً.

الثاني : أن نخصّص ذلك بخصوص ما كان فيه العسر والحرج ، ونقول بأنّ المرفوع في ذلك هو نفس التكليف الواقعي لا إطلاقه.

الثالث : أن نقول بأنّ المرفوع من ذلك هو إطلاق التكليف ، فلا يسوغ لنا إلاّ ارتكاب المقدار الذي يكون ارتكابه رافعاً للعسر والحرج.

وبأيّ من هذه الوجوه أخذنا لم نكن محتاجين إلى إجراء الأصل النافي فيما ساغ لنا ارتكابه ، وذلك واضح.

ومنه يتّضح لك الحال فيما لو كانت الشبهة غير المحصورة متعلّقة بوجود المضاف في ضمن إناءات كثيرة كلّها مطلقة ما عداه ، فإنّه لا يتوقّف الإقدام على الوضوء من أحدها على إجراء الأصل ، بل لو توقّف لكان الأصل هو المنع ، لعدم إحراز الشرط. ولكن هذا المثال إنّما يكون ممّا نحن فيه لو قلنا بحرمة الوضوء من المضاف ، أمّا لو قلنا كما هو الظاهر بأنّه ليس بحرام ، غايته أنّه باطل ، فلا يكون المثال المزبور داخلاً فيما نحن فيه.

وكيف كان ، فلا يخفى أنّ هذا ـ أعني ارتفاع الحكم الواقعي الذي هو التحريم في المورد الذي ساغ لنا ارتكابه وعدم الاحتياج في ارتكابه إلى الأصل النافي ـ إنّما هو من حيث وجوب الاجتناب ليس إلاّ ، فلا يكون جواز ارتكابه موجباً لصحّة العمل ، بحيث إنّه لو تبيّن أنّ ذلك الماء الذي توضّأ به كان هو النجس أو كان هو المضاف أو كان ذلك الموضع الذي سجد عليه هو النجس ، لم يكن ما حكمنا به أوّلاً من جواز الإقدام عليه موجباً لصحّة الوضوء أو الصلاة ، بل

١٧١

لابدّ من أخذ ذلك ـ أعني الحكم بصحّة الوضوء أو الصلاة ـ من دليل آخر إن كان ، وإلاّ كان اللازم هو الاعادة ، ولا منافاة بين الحكم بالفساد ولزوم الاعادة ، وبين ما حكمنا به أوّلاً من جواز الإقدام وارتفاع الحكم بوجوب الاجتناب بلا حاجة إلى الأصل العملي.

ثمّ لا يخفى أنّا لو قلنا بالوجه الثالث لكان جارياً في الشبهات الوجوبية التي لا يمكن فيها الجمع بين المحتملات ، سواء كان من جهة كثرتها أو كان من جهة أُخرى غير الكثرة.

أمّا الوجه الثاني ، فإن استندنا فيه إلى حديث نفي العسر والحرج ، كان أيضاً جارياً في الشبهات الوجوبية ، وإن استندنا فيه إلى الإجماع أو الرواية الشريفة ، فالظاهر انحصار موردهما في الشبهات التحريمية دون الوجوبية. وهكذا الحال في الوجه الأوّل.

ولم أعثر في كلمات الجماعة المارّ ذكرهم على إشارة إلى حال الشبهة الوجوبية غير المحصورة ، بل ظاهر كلماتهم متّجه نحو الشبهات التحريمية ، ولكن الشيخ قدس‌سره قد تعرّض لذلك في التنبيه الخامس من تنبيهات مسألة الشبهة الوجوبية الموضوعية المتردّدة بين المتباينين (١) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى التعرّض لذلك في كلام شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٢). هذا غاية ما أمكنني تنقيحه في مفاد هذا الإجماع والرواية الشريفة.

ولكنّ في النفس شيئاً من ذلك ، فإنّ تنزيل الإجماع المزبور والرواية

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٣٠٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، وللمصنّف قدس‌سره حاشيتان على ذلك إحداهما في الصفحة : ٢٢٣ والأُخرى هي الحاشية الثانية في الصفحة : ٢٤٣.

١٧٢

الشريفة على سقوط التحريم واقعاً بعيد يأباه الذوق ، فإنّ لازمه كون الشبهة غير المحصورة أقوى تأثيراً من الشبهة البدوية ، فإنّ الرفع في الشبهة البدوية لا يكون إلاّ ظاهرياً ، فكيف نقول إنّه في الشبهة غير المحصورة يكون واقعياً. بل ربما كانت الشبهة البدوية مورداً للأُصول المثبتة للتكليف مثل أصالة عدم التذكية ، ولو كانت الشبهة غير محصورة كما لو كانت ذبائح غير محصورة كلّها مذكاة إلاّواحدة منها ميتة ، فإنّ الالتزام فيها برفع حرمة الميتة واقعاً مع أنّها لو كانت شبهة بدوية لكانت مجرى أصالة عدم التذكية ، ممّا يأباه الذوق السليم.

مضافاً إلى أنّه لو كان الرفع واقعياً ، وكان مفاده إثبات الحلّية الواقعية ، لكان مقتضاه الصحّة ولو انكشف الخلاف بحيث إنّه لو تبيّن لمرتكب أحد أطراف الشبهة غير المحصورة ، بأن توضّأ فانكشف له أنّه كان ذلك الماء هو النجس أو المضاف ، أو اشترى أو باع فانكشف له أنّ ذلك الذي اشتراه أو باعه كان هو الميتة ، كان وضوءه وبيعه وشراؤه صحيحاً ، وهذا أيضاً ممّا يأباه الذوق.

وما ذكرناه من أنّ الرفع والسقوط إنّما يتوجّه إلى نفس الحكم التكليفي مع بقاء الحكم الوضعي بحاله ، لا يكاد يجتمع مع قوله عليه‌السلام في الرواية المشار إليها (١) : « وما لم تعلم فاشتر وبع وكل » ، فإنّ ظاهره هو الحكم بصحّة البيع والشراء ، فلابدّ حينئذ من الحمل على السقوط الظاهري ليكون صحّة البيع والشراء ظاهرية لا واقعية.

نعم ، يتوجّه على الالتزام في الرواية والإجماع بالترخيص الظاهري ، أنّه لا يجتمع مع العلم الاجمالي بالتكليف المنجّز كما حرّرناه في بعض مباحث العلم

__________________

(١) في الصفحة : ١٦٧ ، وسيأتي ذكرها في هامش الصفحة : ٢٠٠.

١٧٣

الاجمالي من مباحث القطع (١) ، وأنّ الترخيص ولو في بعض الأطراف لا يجتمع مع العلم الاجمالي بالتكليف ، وحقّقنا هناك أنّ تنزيل ذلك الترخيص على جعل البدل لا يتأتّى في الأُصول النافية للاشتغال ، بل إنّما يتأتّى في الأُصول الجارية في وادي الفراغ مثل قاعدة التجاوز والفراغ ، أمّا مثل أصالة البراءة أو قاعدة الحل والطهارة ، فلا يكون مفادها إلاّنفي الاشتغال ، فلا تجري في مورد العلم بالاشتغال.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الترخيص فيما نحن فيه ليس هو مفاد البراءة أو مفاد قاعدة الطهارة أو الحل أو حديث الرفع ونحو ذلك ممّا يرجع إلى نفي الاشتغال ، بل هو أصل آخر غير تلك الأُصول ، يكون مفاده الاكتفاء في امتثال ذلك التكليف المعلوم بترك جملة من أطرافه ، ويكون مفاد هذا الأصل هو جواز الارتكاب لجملة من الأطراف ، لا لأجل الأُصول النافية فيها ، لأنّه ربما كان الأصل في كلّ واحد من تلك الأطراف مثبتاً للتكليف ، كما في موارد الشبهة بالماء المضاف ، وكما في موارد الشبهة في الميتة مع فرض عدم السوق ، بأن كان هناك ذبائح غير محصورة مع فرض العلم بأنّ بعضها ميتة ، مع فرض عدم كونها في سوق المسلمين ولا تحت يد المسلم ، ونحو ذلك ممّا يكون أطرافه في حدّ نفسها مجرى للأصل المثبت.

والحاصل : أنّ هذا الأصل الجاري في أطراف الشبهة غير المحصورة المستفاد من الرواية والإجماع المذكورين يكون فوق الأُصول الكلّية الجارية في الشبهات البدوية ، بل هو أصل مستقل برأسه ، ويكون المصحّح لجعله في مورد العلم الاجمالي هو كونه راجعاً إلى جعل البدل واكتفاء الشارع في اجتناب ذلك

__________________

(١) راجع المصادر المشار إليها في هامش الصفحة : ١٦٩.

١٧٤

المعلوم بالاجمال باجتناب جملة من أطرافه ، ويكون لازم ذلك هو عدم جواز المخالفة القطعية.

ولكن يتوجّه عليه ما تقدّم آنفاً من لزوم كون الشبهة غير المحصورة أقوى في جواز الترخيص من الشبهة البدوية ، فإنّ في هذا المثال تكون جملة من الأطراف جائزة الارتكاب مع أنّها لا يجوز ارتكابها في الشبهة البدوية ، نظراً إلى الأصل المثبت وهو أصالة عدم التذكية. وأيضاً يعود إشكال أمره عليه‌السلام بالبيع والشراء ، فإنّ مجرّد جعل البدل واكتفاء الشارع به لا يوجب إحراز شرط البيع في الأطراف التي يرتكبها المكلّف ، فلا يمكن الحكم بصحّته لا واقعاً ولا ظاهراً ، هذا.

مع أنّ ظاهر الرواية والإجماع أجنبي عن جعل البدل ، بل ليس مفاده إلاّ الترخيص ، بل إنّ ظاهرهما هو أنّ المستند في ذلك الترخيص هو عين المستند في الشبهات البدوية أعني تلك الأُصول النافية الكلّية الجارية في الشبهات البدوية ، وهذا ممّا يوجب الحيرة في توجيه الإجماع والرواية المذكورة.

ولكن الإنصاف أنّه يمكن الجواب عن هذه المناقشات. أمّا لزوم كون الشبهة غير المحصورة أقوى من الشبهة البدوية ، فيمكن الالتزام به إذا دلّ الدليل عليه ولو من جهة حفظ النظام وتوقّف سوق المسلمين إذا الزم بالاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، ويكشف عن الأقوائية هذا اللازم المذكور ، فإنّ الشارع سوّغ الارتكاب في شبهة السمن في الشبهة المحصورة كما يستفاد من الروايات الآتية ، مع أنّ الشبهة البدوية فيه لا يسوغ فيها الارتكاب. وبذلك يندفع الإشكال المبني على دعوى أنّ هذا الترخيص عين الترخيص في باقي الشبهات ، فإنّه بعد البناء على ما ذكر يكون هذا الترخيص أعلى من تلك الترخيصات.

١٧٥

وأمّا إشكال البيع والشراء ، فيمكن أن يقال : إنّ هذا الترخيص مرجعه إلى جعل البدل ، لكنّه ترخيص ظاهري أقصى ما فيه أنّه يحرز صحّة البيع ظاهراً ، فلا ينافيه أنّه هو وجعل البدل منوط بالجهل ، فإذا انكشف الخلاف ينكشف بطلان البيع ، فتأمّل.

نعم ، يمكن المناقشة في دلالة الرواية السابقة على كون المورد من موارد الشبهة غير المحصورة ، بحمل قوله عليه‌السلام : « أمن أجل مكان واحد » الخ على صورة عدم العلم باختلاط ما كان في ذلك المكان الذي أخبر السائل به بالجبن الموجود في هذه البلدة مع كونه خارجاً عن الابتلاء ونحو ذلك ممّا يسوغ معه الرجوع إلى أصالة البراءة وقاعدة [ الحل ] ، وقولِه عليه‌السلام : « والله لا أظنّ أنّ كلّهم يسمّون » على معنى عدم العلم ، واستعمال الظنّ بمعنى العلم كثير شائع ، أو حمله على مجرّد الاستبعاد بأن يكون المراد من نفي الظنّ الذي هو طرف راجح إثبات نقيضه وهو الاستبعاد والاحتمال المرجوح ، نظير ما يستفاد الرجحان من نفي البأس. ولكن الحمل الأوّل أعني نفي العلم أقرب ، هذا كلّه.

مضافاً إلى الخدشة في سندها بواسطة أبي الجارود ، بل ناقش بعضهم في البرقي ، وإن لم تكن مناقشته فيه مقبولة إلاّ أن المناقشة في أبي الجارود مسلّمة على الظاهر.

والحاصل : أنّ الرواية المذكورة لا تخلو من مناقشة في كلّ من دلالتها وسندها ، فلا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس هذا الأمر المهمّ ، وهو إسقاط التكليف في موارد الشبهة التحريمية غير المحصورة ، سواء أُريد به الاسقاط الواقعي أو الاسقاط الظاهري.

وأمّا الإجماع فلم يعلم حاله خصوصاً بعد استدلال الكثير منهم بالمشقّة

١٧٦

والعسر والحرج ، ويكون الحاصل حينئذ أنّ الشبهة غير المحصورة لا خصوصية لها من بين الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، ولعلّ وجه الإجماع هو كون عدم الحصر ملازماً لخروج بعض الأطراف عن الابتلاء.

ثمّ إنّي بعد هذا كلّه عثرت على أخبار أُخر يمكن الاستدلال بها لعدم لزوم الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، منها : ما ذكره في الحدائق في المسألة الرابعة من البحث الأوّل من المقصد الثاني من الباب الخامس في الطهارة من النجاسات ، وذلك موثّقة حنّان بن سدير عن الصادق عليه‌السلام « في جدي رضع من خنزيرة حتّى شبّ واشتدّ عظمه ، استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ، ما تقول في نسله؟ فقال عليه‌السلام : أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه ، وأمّا ما لم تعرفه فإنّه بمنزلة الجبن » (١). وحمله في الحدائق على الشبهة غير المحصورة لكثرة تلك الغنم. ولا يخفى أنّ تنظيره بالجبن يعطي أنّ مسألة الجبن وأنّ في جملته الميتة كان من المطالب المعروفة لدى أهل ذلك العصر.

ثمّ قال في الحدائق : ويمكن ـ ولعلّه الأقرب ـ أنّ الوجه فيه إنّما هو عدم معلومية بقاء ما خرج من نسله في تلك الغنم لكثرتها ، فلعلّه قد ذهب منها بأحد وجوه الذهاب كما يشير إليه التنظير بالجبن من حيث عدم معلومية الحرام منه بعينه (٢).

ولا يخفى بعده بل عدم صحّة الحكم بجواز الارتكاب حينئذ ، إذ لا يكون التلف مؤثّراً إلاّ إذا كان قبل العلم الاجمالي بوجود النسل ، مع أنّ مفروض الرواية الشريفة هو العلم الاجمالي قبل احتمال التلف.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٦١ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٢٥ ح ١ ( مع اختلاف ).

(٢) الحدائق الناضرة ٥ : ٢٨٤.

١٧٧

ونظير هذه الموثّقة ما ذكره في الجواهر (١) في كتاب الأطعمة عند الاستدلال على ما ذكره الماتن من أنّ الحيوان إذا شرب لبن الخنزيرة فإن اشتدّ حرم لحمه ولحم نسله ، وذلك موثّق بشر بن سلمة (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام « في جدي يرضع من خنزيرة ثمّ ضرب في الغنم ، فقال عليه‌السلام : هو بمنزلة الجبن ، فما عرفت أنّه ضَرْبُه فلا تأكله ، وما لم تعرفه فكل » (٣).

ويبعد كلّ البعد أن يكون مفروض الرواية هو عدم العلم بتحقّق النسل ، بل الظاهر من التعبير بالمعرفة وقوله عليه‌السلام : « أنّه ضَرْبُه » المشتمل على الضمير في « أنّه » الراجع إلى النسل المتصيّد من الكلام ، هو العلم الاجمالي بوجود النسل. ولا يمكن حمله على أنّ المقدار المعروف أنّه نسله هو بمقدار المعلوم بالاجمال لينحلّ بذلك العلم الاجمالي ، إذ لم يكن ذلك ظاهراً من الرواية ، بل الظاهر منها أنّ المدار في عدم وجوب الاجتناب هو عدم معرفة المكلّف بأنّ ما يرتكبه هو من ذلك النسل ، سواء عرف بعضها أو لم يعرف. وبقرينة قوله : « ضرب في الغنم » من دون تقييد لها بمقدار خاصّ ، وقوله عليه‌السلام : « هو بمنزلة الجبن » يحمل على خصوص الشبهة غير المحصورة (٤)

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٢) [ في الجواهر : بشير بن مسلمة ، وفي الطبعات الحديثة من الوسائل والكافي والتهذيب والاستبصار : بشر بن مسلمة ].

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٦٢ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٢٥ ح ٢.

(٤) وفيه تأمّل ، فإنّ إحدى الموثّقتين تشتمل على قوله : « في غنمه » أو على « في غنم له » ولا ريب في كونها محصورة. وأمّا اشتمال الأُخرى على قوله « ثمّ ضرب في الغنم » فالظاهر أنّها أيضاً محصورة ، لأنّ المراد بالغنم هي غنم صاحبه لا غنم جميع

١٧٨

ومن تلك الروايات صحيحة ضريس ، قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن في أرض المشركين والروم ، أفآكله؟ فقال عليه‌السلام : ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكله ، وما لم يعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (١) ذكرها في

__________________

الناس.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذا الذي دلّت عليه الموثّقتان مقصور على مورد النصّ ، فلا يشمل الرضاع من الكلبة ولا من الكافرة ، بل ربما قيل بأنّه لا يشمل الشرب من لبن الخنزيرة من دون رضاع. وحينئذ يمكن أن يقال : إنّ ما تضمّنتاه من جواز الأكل إذا لم يعلم كونه من ضربه ، مع فرض العلم الاجمالي وكون الشبهة محصورة ، مختصّ بمورده أعني اشتباه نسله ، فلا يجري في غير المورد المذكور ، بل إنّ غيره يجري عليه قواعد العلم الاجمالي أو يعمل فيه القرعة ، كما لو اشتبه موطوء الإنسان بغيره من قطيع الغنم.

نعم ، ربما قيل : إنّ الحمل على ذلك لا يلائم قوله عليه‌السلام : « إنّه بمنزلة الجبن » المتعيّن حمله على غير المحصورة ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا روايات الجبن فقد قال المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره بعد ذكره هذه الأخبار في الجبن : ويظهر من مثل هذه الروايات وجود قسم حرام في الجبن ، والمراد به ـ على الظاهر ـ ما يطرح فيه إنفحة الميّت ، لمعروفية حرمتها لدى العامّة ، فالظاهر جريها مجرى التقية ، والأجوبة الواقعة فيها ربما يتراءى منها التورية ، والله العالم. قال ذلك في الجزء الأخير من طهارته ، وذكر هناك طهارة الإنفحة وحلّيتها ، وذكر الرواية المفصّلة التي يرويها أبو حمزة عن الباقر عليه‌السلام في الإنفحة وأنّها حلال كالبيضة [ فراجع مصباح الفقيه ( الطهارة ) ٧ : ٩٥ ، ٩١ وما بعدها ، وسائل الشيعة ٢٤ : ١٧٩ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٣ ح ١ ].

وبناءً على ذلك وعلى ما ذكرناه في روايات الجدي لا يبقى لنا من الروايات ما يمكن الركون إليه في سقوط العلم الاجمالي في الشبهات غير المحصورة [ منه قدس‌سره ].

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٤ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

١٧٩

الحدائق في المقدّمات عند الكلام على الشبهة غير المحصورة (١).

ولا يخفى ظهورها في العلم الاجمالي مع كون الشبهة غير محصورة. أمّا الأوّل ، فلأنّ موردها ـ وهو السمن والجبن الموجودان في أرض المشركين وأرض الروم ـ ممّا يعلم إجمالاً بوجود الميتة فيه ، فإنّ ذلك ـ أعني خلطه بالميتة ـ واقع [ في ] ذلك العصر في بلاد المسلمين كما تضمّنته رواية المحاسن وغيرها (٢) ، فكيف حال بلاد المشركين والروم الذين لا يرون البأس في الميتة.

وأمّا الثاني فواضح ، إذ لا ريب في عدم حصر الجبن والسمن الموجود في تلك البلاد ، ولعلّ المتتبّع يعثر على روايات أُخر.

وكيف كان ، فإنّ المتتبّع للنصوص والفتاوى والإجماعات المنقولة يكاد يحصل له القطع في أنّ الشبهات التحريمية غير المحصورة لا يجب الاحتياط في تمام أطرافها. ولا يبعد تنزيل تلك الأدلّة على أنّ في خصوص الشبهة غير المحصورة أصلاً مختصّاً بها ، وهو ما ذكرناه من الترخيص الظاهري المقرون بجعل البدل ، وأنّ ذلك الترخيص والبدلية كلاهما ظاهريان ، كما أنّه يكاد يحصل له القطع بأنّ هذا الترخيص ليس ترخيصاً واقعياً ، وأنّه ليس ملاكه هو الاضطرار أو العسر والحرج ، وإن وقع التعبير في عبائر جملة من الأساطين بالمشقّة ونحو ذلك ، لأنّ ظاهر تلك الأخبار أنّ موجب الترخيص هو عدم العلم وعدم معرفة أنّ ما يرتكبه هو الحرام ، لا الاضطرار أو العسر والحرج ، كما أنّ حمل ذلك كلّه على كون بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء يكاد يحصل القطع بعدمه.

وأحسن ما عثرت عليه في توجيه هذا الترخيص هو ما أفاده المرحوم

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٥٠ وقد ذكر متنها في ص ١٤١.

(٢) الآتية في هامش الصفحة : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

١٨٠