أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

المأكولية ومانعية غير المأكول ، نقول : إنّه بناءً على الشرطية لا يمكن الحكم بجواز الصلاة فيه لعدم إحراز الشرط ، بخلاف مانعية غير المأكول ، فإنّه يمكن الحكم بجواز الصلاة فيه لعدم إحراز المانع ، وهو ـ أعني عدم إحراز المانع ـ كافٍ في البناء على عدمه ، بناءً على صحّة دعوى البناء على أصالة العدم عند الشكّ في وجود المانع ولو لم تكن الحالة السابقة معلومة ، لكنّه قد حقّق في محلّه فساد هذه الدعوى.

ولكن نقول : لو فرضنا صحّتها يظهر أثر للشرطية والمانعية في مورد الشكّ المذكور ، وأنّ الأوّل ـ أعني الشرطية ـ يوجب الكلفة الزائدة بلزوم إحرازه في مقام الشكّ ، بخلاف الثاني ـ أعني المانعية ـ فإنّها لا يلزم فيها إحراز عدم وجود المانع ، فهل تكون هذه الكلفة التي يحكم بها العقل في مقام الشكّ المزبور كافية لجريان البراءة في الشرطية بالنسبة إلى هذا المقدار من الضيق الذي يحكم به العقل في مقام الشكّ على تقدير الشرطية ، أو أنّ هذا المقدار من الكلفة ليست بالحكم الشرعي المجعول من جانب الشارع ، فلا يكون مصحّحاً لجريان البراءة.

وفي الدورات السابقة كان شيخنا الأُستاذ قدس‌سره يختار الثاني كما أُفيد في هذا التقرير (١) ، لكنّه في الدورة الأخيرة اختار الأوّل على ما في تحريراتي والتقرير المطبوع في صيدا (٢) ، وتقريبه : هو أنّ نفس هذه الكلفة وإن لم تكن بحكم الشارع ، بل كانت بحكم العقل ، إلاّ أن المنشأ فيها لمّا كان هو الحكم الشرعي وهو الشرطية ، كان ذلك كافياً في صحّة رفعها ، فراجع التقريرات المطبوعة في صيدا وتأمّل ، فإنّ هذا التقريب لا يخلو عن تأمّل ، حيث إنّ الشرطية وكذلك المانعية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٩١ ـ ٩٢.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩.

١٠١

على نظره قدس‌سره ليست من الأحكام الوضعية المجعولة ، وإنّما المجعول هو الأمر بالشرط فينتزع عنه الشرطية ، والنهي عن المانع وينتزع عنه المانعية.

فنقول : إنّه لو دار الأمر بين وجوب لبس المأكول نفسياً وحرمة لبس غير المأكول نفسياً أيضاً ، فلا إشكال في تنجّز كلا هذين التكليفين ، فلو شكّ حينئذ في مأكولية هذا اللباس ، فلا إشكال في جريان البراءة من حرمة لبسه لجريانها حتّى مع العلم التفصيلي بحرمة لبس غير المأكول ، وذلك لأجل الشكّ في كونه غير مأكول ، لكن هل له أن يكتفي بلبسه ، مع أنّه لو لبسه لم يحصل له الفراغ اليقيني من الوجوب الذي هو أحد التكليفين اللذين وقعا مورداً للعلم الاجمالي المفروض أنّه في نفسه لا تجري فيه البراءة. وهل يمكن أن يقال : إنّ الوجوب وإن لم يمكن جريان البراءة فيه من حيث نفسه ، لكنّه لمّا كان موجباً للضيق على المكلّف في مقام الشكّ زائداً على احتمال التحريم كانت البراءة جارية فيه بهذا المقدار.

ولا يخفى أنّه لو أُشكل على ما مثّلنا به للضدّين اللذين لا ثالث لهما بلباس المأكول ولباس غير المأكول ، بأنّه من قبيل ما لهما ثالث ، لإمكان اللباس من غيرهما أو عدم اللباس أصلاً ، فبدّل ذلك بمثال الكون في المسجد والكون في خارجه بالنسبة إلى الاعتكاف ، إذا دار الأمر بين أن يكون الكون في المسجد شرطاً أو يكون الكون في خارجه مانعاً ، وفرّع على ذلك فيما لو كان هناك قطعة من الأرض يشكّ في كونها مسجداً. ومثّل أيضاً بذلك لدوران الأمر بين الوجوب النفسي والحرمة النفسية ، وأنّه عند الدوران المذكور وإن جرت البراءة من حرمة الكون في ذلك المكان المشكوك ، إلاّ أنه لا تجري في ناحية الوجوب النفسي ، بل يلزم الاحتياط بالكون بما يحرز مسجديته فتأمّل ، هذا.

١٠٢

ولكن كلامه قدس‌سره في هذه المقدّمة من باب المثال ، وأنّه من قبيل الفرض في الفرض ، وإنّما جرى فيه على مذاق القائلين بجعل الشرطية والمانعية ، وأنّه عند الشبهة الموضوعية في ذلك يكون الأصل لزوم إحراز الشرط بناءً على الشرطية ، وبناءً على المانعية يكتفى بعدم إحراز المانع.

أمّا بناءً على أنّ المتأصّل في ذلك هو الأمر الضمني والنهي الضمني ، فلا يستقيم ذلك كلّه حتّى ما أُفيد في الصورة الأُولى ، أعني ما لو كان في البين ضدّ ثالث ، مثل ما لو شكّ في أنّ الواجب في سجود السهو هو الاستقبال أو أنّ الاستدبار يكون ممنوعاً عنه ، إذ لا ريب حينئذ أنّ المسألة تكون من باب العلم الاجمالي المردّد بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، واللازم حينئذ هو الاحتياط بترك ما احتمل حرمته وفعل ما احتمل وجوبه ، نظير ما لو علم أنّه مكلّف في هذه الساعة بتكليف هو إمّا وجوب وطء زوجته الكبرى وإمّا حرمة وطء زوجته الصغرى ، فإنّه يلزمه في هذه الساعة وطء الأُولى وترك وطء الأُخرى.

ولا محصّل للقول بأنّ ذلك من قبيل الأقل والأكثر ، بدعوى أنّ ذلك التكليف إن كان هو حرمة وطء الثانية فلا يلزمه إلاّترك وطئها ، بخلاف ما لو كان التكليف المتوجّه إليه هو وجوب وطء الأُولى ، فإنّه يلزمه ترك وطء الثانية وترك وطء الثالثة وغيره من باقي الأضداد الوجودية لوطء الأُولى حتّى الأكل والشرب والنوم ، بل حتّى الترك المجرّد ، فإنّ ذلك مبني على أنّ الأمر بوطء الأُولى عبارة عن النهي عن جميع أضداده.

وهكذا الحال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، مثل الكون في المسجد والكون في خارج المسجد ، وتوجّه إليه تكليف مردّد بين وجوب الكون في

١٠٣

المسجد وحرمة الكون في خارجه ، وكانت هناك قطعة خاصّة يشكّ في كونها من المسجد ، فإنّ مقتضى هذا العلم الاجمالي عدم الكون في تلك القطعة تحصيلاً للفراغ اليقيني ممّا اشتغلت به ذمّته ، سواء كان ذلك التكليف المردّد استقلالياً أو كان شرطياً ضمنياً ، كما لو دار الأمر في الاعتكاف بين كون الكون في المسجد شرطاً في صحّته أو كون الكون في خارجه مانعاً فيه ، فإنّ اللازم عليه هو اجتناب الكون في تلك القطعة الخاصّة المشكوكة ، إلاّعلى القول بكون المجعول هو الشرطية والمانعية ، وأنّه يكفي في المانعية مجرّد عدم إحراز المانع. وكلّ من القولين خلاف مسلكه قدس‌سره.

وحينئذ فلا يكون كلامه قدس‌سره في هذه المقدّمة إلاّمن باب المثال لما هو بصدده ، وهو أنّ المجعول المردّد بين المتباينين لو كان في حدّ نفسه ممّا لا تجري فيه البراءة ولو باعتبار العلم الاجمالي المردّد بين ذينك المتباينين ، لكن اتّفق في بعض صور ذلك الترديد أنّ أحد الوجهين يوجب الكلفة الزائدة دون الآخر ، فهل تجري البراءة في ذلك بالنظر إلى تلك الكلفة الزائدة أو لا ، كما فيما نحن فيه ، فإنّه لا إشكال في وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس ، غايته أنّه تردّد وجوبه المذكور بين كونه موضوعاً جديداً من النجس أو كونه بنفس وجوب الاجتناب عن أصله.

ولا ريب أنّ شيئاً من هذين الوجهين لا مورد فيه للبراءة ، للعلم بوجوب الاجتناب عن ملاقي النجس على كلّ من الوجهين ، لكن في صورة كون الملاقى ـ بالفتح ـ أحد طرفي العلم الاجمالي بالنجاسة ، يكون مقتضى الوجه الأوّل هو عدم وجوب الاجتناب عن ملاقيه لخروجه عن العلم الاجمالي ، بخلاف مقتضى الثاني لدخوله في العلم الاجمالي القاضي بلزوم الاحتياط ، فهل تجري البراءة عن

١٠٤

الوجه الثاني ولو باعتبار كونه موجباً للضيق الزائد على المكلّف في هذه الصورة ، فيه تأمّل.

ولا يبعد القول بعدم الجريان ، فإنّ هذه الكلفة الزائدة لم تكن بجعل الشارع وإنّما جاءت من حكم العقل بلزوم الاحتياط في مورد العلم الاجمالي ، وهل ذلك إلاّ من قبيل من علم بأنّه يجب عليه إكرام عمرو أو إكرام زيد ، وكان عمرو معروفاً عنده بشخصه وكان زيد مردّداً بين أشخاص متعدّدين ، فيقال : إنّ المجعول الشرعي لو كان هو وجوب إكرام زيد لكانت الكلفة فيه أزيد من الكلفة لو كان المجعول الشرعي هو وجوب إكرام عمرو ، فتجري البراءة في إكرام زيد من هذه الجهة الموجبة للكلفة الزائدة ، لا أظنّ أحداً يلتزم بذلك ، والظاهر أنّه لا فرق بينه وبين ما نحن فيه ، فلاحظ وتأمّل.

وخلاصة البحث : أنّ دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعية آخر يكون على صور :

الأُولى : أن لا يكون بينهما ضدّية ، مثل دوران الأمر بين شرطية الاستعاذة ومانعية قول آمين. وفي هذه الصورة لا ينبغي الإشكال في كون العلم الاجمالي موجباً للاتيان بالاستعاذة وترك قول آمين ، نظير سائر المقامات التي يدور الأمر فيها بين وجوب شيء وتحريم شيء آخر.

الثانية : أن يكون ذلك بين الضدّين اللذين لهما ثالث ، مثل دوران الأمر في سجود التلاوة مثلاً بين كون الاستقبال فيها شرطاً وكون الاستدبار فيها مانعاً. وفي هذه الصورة يكون الأمر كذلك ، يعني لزوم الاستقبال وترك الاستدبار ، لكن قيل بحلّ العلم الاجمالي ، لكونه بالنسبة إلى الترك من قبيل الأقل والأكثر ، نظراً إلى أنّه لو كان الواقع هو المانعية فلا يكون المطلوب إلاّترك الاستدبار ، بخلاف ما

١٠٥

لو كان الواقع هو شرطية الاستقبال فإنّ المطلوب حينئذ هو ترك الاستدبار وترك مواجهة المغرب وترك مواجهة المشرق ، فلو قيل بذلك كان المرجع هو أصالة البراءة من لزوم التركين الأخيرين ، وحينئذ لا يظهر لذلك أثر في مقام الشكّ على نحو الشبهة الموضوعية.

الثالثة : أن يكون ذلك بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كما مثّلنا بمسألة الاعتكاف ، وأنّ الكون في المسجد شرط فيه أو أنّ الكون في خارج المسجد مانع فيه. وفي هذه الصورة يكون العلم الاجمالي القاضي بلزوم الكون في المسجد وترك الكون في خارجه بحاله ، ولا يمكن القول بحلّه باعتبار التروك ، لأنّ ترك الكون في خارج المسجد يكون عين الكون في داخله. لكن في صورة الشبهة الموضوعية كما في القطعة المشكوك كونها من المسجد أو من خارجه ، بناءً على الاكتفاء بعدم إحراز المانع يمكن القول بالانحلال ، بدعوى كون الشرطية فيها كلفة زائدة في المقام ، وهي لزوم إحراز الشرط ، بخلاف المانعية فإنّه بناءً عليها لا تكون الكلفة المذكورة موجودة ، فتجري البراءة في الشرطية باعتبار هذه الكلفة الزائدة.

ولا يخفى أنّ هذا التقريب لا يتوقّف على جعل الشرطية والمانعية ، وإنّما يتوقّف على القول بالاكتفاء بعدم إحراز المانع في مسألة المانعية ، ولعلّ هذا هو مراد شيخنا قدس‌سره من هذه المقدّمة ، فلاحظ وتأمّل.

١٠٦

[ الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ]

قوله : الأمر الخامس : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض الأطراف ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف تارةً يكون اضطراراً إلى إتلافه وصرفه فيما لا يكون مشروطاً بالطهارة ، مثل الاضطرار إلى إطفاء النار به ، أو إلى سقيه لحيوان يلزم حفظ حياته ونحو ذلك. وأُخرى يكون اضطراراً إلى استعماله فيما يشترط فيه الطهارة ، وهذا على نحوين ، لأنّ استعماله فيما يشترط فيه الطهارة إمّا أن يكون باتلافه فيه كأن يضطرّ إلى شربه ، وإمّا أن لا يكون ذلك إتلافاً له كما في الاضطرار إلى لبس الثوب في حال الصلاة.

أمّا القسم الأوّل وهو الاضطرار إلى إتلافه فيما لا يشترط فيه الطهارة ، فهو وإن أوجب سقوط العلم الاجمالي ، إلاّ أنه إنّما يسقطه من جهة كونه من قبيل الخروج عن الابتلاء ، على ما تقدّم (٢) من أنّ العلم الاجمالي لا يكون مؤثّراً لو كانت مخالفة التكليف في أحد طرفيه غير مقدورة عقلاً أو عادة أو شرعاً ، وهذا من قبيل ما تكون المخالفة غير مقدورة شرعاً ، لأنّه بواسطة الأمر بصرف ذلك الماء في إطفاء النار لا يكون شربه أو الوضوء به مقدوراً شرعاً ، فلا يصحّ النهي عن شربه أو الوضوء به.

ومن ذلك يعلم أنّه لابدّ في هذا القسم من كون الاضطرار بالغاً حدّ الوجوب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٩٣.

(٢) في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٣٩ وما بعدها.

١٠٧

ولا ينفع فيه مجرّد العسر والحرج ، لكن هل يمكن أن يكون منهياً عن الوضوء به أو شربه ولو على نحو الترتّب؟ الظاهر نعم ، وقد حقّقنا ذلك في شرح عبارة الوسيلة فراجع (١). ولا يخفى أنّه لو أمكن فيه الترتّب كان العلم الاجمالي منجّزاً وموجباً لسقوط الأصل في كلّ من الطرفين ، فتأمّل.

وأمّا القسم الثاني وهو ما كان مضطرّاً إلى استعماله فيما يشترط فيه الطهارة ، وكان الاستعمال المذكور موجباً لإتلافه ، فإن كان له أثر آخر وكان مشروطاً بالطهارة ، كما لو كان أحدهما ماء وكان مضطرّاً إلى شربه وكان له أثر آخر وهو المنع عن الوضوء به ، كان ملحقاً بالقسم الأوّل في كون وجوب صرف ذلك الطرف في الشرب موجباً لعدم القدرة شرعاً على الوضوء به ، فيكون سقوط العلم الاجمالي عن التأثير بالنسبة إلى الأثر الأوّل من باب الاضطرار ، وبالنسبة إلى الأثر الثاني من باب الخروج عن محلّ الابتلاء ، لكن بالنظر إلى الترتّب يكون العلم الاجمالي منجّزاً بالنسبة إلى الأثر الثاني ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ الترتّب لا يصحّح التكليف من ناحية الوضوء ، لكونه مشروطاً بالقدرة التي لا مجال فيها للترتّب.

لأنّا نقول : إنّ المشروط بالقدرة الشرعية إنّما هو وجوب الوضوء ، لا النهي عنه الذي نريد أن نقول إنّه مترتّب على عصيان الأمر بالشرب ، بحيث يكون المحصّل اشرب هذا الاناء وإن عصيت ولم تشربه فلا تتوضّأ به ، ومن الواضح أنّ النهي عن الوضوء بالنجس ليس بمشروط بالقدرة الشرعية كي يقال إنّه لا يتأتّى فيه الترتّب ، وإن شئت فاترك النهي عن الوضوء واجعل الأمر الثاني كحرمة بيعه مثلاً.

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

١٠٨

وإن لم يكن له أثر آخر ، كما لو كان أحد الطرفين ميتة ما لا نفس له كالسمكتين اللتين يعلم أنّ إحداهما ميتة ، فإنّ الأثر المترتّب على الميتة من السمك منحصر بحرمة الأكل ، فلو فرضنا اضطراره إلى واحدة معيّنة ، أو فرضنا العلم الاجمالي بنجاسة هذا الاناء أو كون هذه السمكة ميتة ، وكان مضطراً إلى أكل السمكة ، لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً على التفصيل المرقوم في المتن ، وشرحناه أيضاً في شرح عبارة الوسيلة.

ومنه يعلم الحال في القسم الثالث ، وهو ما لو كان مضطرّاً إلى استعمال الطرف فيما يشترط فيه الطهارة ، ولم يكن الاستعمال موجباً لإتلافه ، كما لو كان أحدهما ثوباً واضطرّ إلى لبسه في الصلاة ، فإن لم يكن أثر آخر مترتّب على نجاسة الثوب ممّا يشترط فيه الطهارة ، كان حاله [ حال ] النحو الثاني من القسم الثاني في كونه موجباً لسقوط العلم الاجمالي. وإن كان له أثر آخر ولو مثل حرمة البيع ، لم يكن الاضطرار إلى اللبس موجباً لسقوط العلم الاجمالي بالنجاسة بين الثوب المذكور وغيره ممّا يكون طرفاً له في العلم الاجمالي بالنجاسة بينهما.

فقد تلخّص لك : أنّ الداخل فيما نحن فيه من الاضطرار الموجب لسقوط العلم الاجمالي ، هو ما لو كان الأثر المترتّب على المعلوم بالاجمال في أحد الطرفين منحصراً فيما اضطرّ إلى مخالفته ، سواء كان الاستعمال المضطرّ إليه موجباً لإتلافه كما لو كان أحد الطرفين ميتة السمك وكان مضطراً إلى أكلها ، أو كان غير موجب لإتلافه كما لو كان أحدهما ثوباً وعلم بالنجاسة بينه وبين طرف آخر ، ولم يكن لنا أثر يترتّب على نجاسة الثوب إلاّحرمة الصلاة فيه ، وكان مضطرّاً إلى الصلاة فيه ، من دون فرق في ذلك بين كون الاضطرار بالغاً حدّ الوجوب أو كونه غير بالغ لحدّ الوجوب ، بل كان من مجرّد العسر والحرج

١٠٩

الموجبين لرفع ذلك الأثر على تقدير انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك الطرف المضطرّ إليه.

قال الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته ـ بعد أن أفاد أنّ الاضطرار إلى واحد معيّن قبل العلم الاجمالي أو مقارناً يوجب سقوط العلم الاجمالي ـ ما هذا لفظه : نعم لو كان الاضطرار المزبور ناشئاً عن تقصير في مقدّماته بنحو يخرج عن صلاحية العذر ، لا بأس بدعوى بقاء العلم الاجمالي على منجّزيته وإن لم يكن فعلاً علم بالخطاب الفعلي ، إذ مثل هذه الجهة بعد ما لا يكون مانعاً عن تنجيز الخطاب ـ بمحض تمكّنه من حفظه سابقاً ـ فلا يصلح مانعيته عن فعلية الخطاب [ للمنع ] عن تنجّز الخطاب بطريقه ، وكأنّه يصير من قبيل إلقاء النفس عن الشاهق. والظاهر أنّ إطباق كلماتهم أيضاً على مانعية مثل هذا الاضطرار عن منجّزية العلم بل عن وجوده منصرف عن صورة التقصير المزبور كما لا يخفى (١).

قلت : لا يخفى أنّ الاضطرار إنّما يكون غير منافٍ للتنجّز بحيث يكون من قبيل الاضطرار بسوء الاختيار إذا كان بعد توجّه الخطاب وبعد تنجّزه ، وهو هنا لا يكون إلاّبالعلم الاجمالي الذي صرّحوا بأنّ الاضطرار فيه لا يكون موجباً لسقوط العلم عن التنجّز ، أمّا لو كان قبل العلم أو كان مقارناً للعلم ، بأن كان له إناءان من الماء فأراق أحدهما عمداً وبقي الآخر ، ثمّ حدث اضطراره إلى شرب الباقي وحدث العلم الاجمالي المردّد بين نجاسة الاناء الباقي وبين ثوبه مثلاً ، فهذا الاضطرار ممّا لا ينبغي الريب في كونه خارجاً عن التقصير وعن كونه اضطراراً بسوء الاختيار ، فلاحظ وتأمّل.

والحاصل : أنّ كون الاضطرار بسوء الاختيار موجباً لبقاء العقاب وإن سقط

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٤.

١١٠

معه الخطاب ، إنّما هو فيما لو ألقى نفسه بالاضطرار بعد العلم بالتكليف ، كما لو دخل الفجر وصنع ما يوجب اضطراره إلى الافطار وعدم قدرته على الصوم ، ويلحق به ما لو صنع ذلك في أوّل الليل وكان عالماً بأنّه لا يقدر مع ذلك الصنع على الصوم في نهار غد ، أمّا لو كان قبل العلم بالتكليف بل قبل توجّه التكليف بل قبل حدوث سببه كما فيما نحن فيه فيما عرفته من المثال ، فلا يكون لذلك الاقدام أثر في إسقاط الاضطرار عن كونه مسقطاً لكلّ من التكليف والعقوبة على مخالفته ، فلاحظ وتأمّل. هذا كلّه فيما لو كان الاضطرار إلى واحد معيّن.

وأمّا لو كان الاضطرار إلى واحد من الطرفين غير معيّن ، كما لو علم إجمالاً بأنّ إحدى هاتين السمكتين ميتة ، ولم يكن لنا من الآثار المترتّبة على ميتة السمك إلاّ حرمة الأكل ، وكان مضطرّاً إلى أكل واحدة غير معيّنة منهما ، فإن كان الاضطرار بالغاً حدّ الوجوب بأن أشرفت نفسه على التلف ، بل ولو لم يكن في البين تلف نفسه ، بل كان يجب عليه الأكل مقدّمة لصوم غد ، بحيث إنّه لو لم يأكل شيئاً لم يقدر على الصوم الواجب ، ولم يكن له من المأكول إلاّهاتان السمكتان ، فلا ريب في وجوب أكل إحداهما وعدم جواز أكل الأُخرى ، لكونه حينئذ ملحقاً بدوران الأمر بين وجوب أحد الطرفين وحرمة الآخر مع اشتباههما ، كما لو نذر أحدهما المعيّن وحرم عليه الآخر معيّناً واشتبها ، فيكون ممنوعاً من أكلهما معاً ، لأنّه موجب للمخالفة القطعية للتحريم ، كما أنّ ترك أكلهما معاً موجب للمخالفة القطعية للوجوب ، فينحصر أمره بحكم العقل بأكل إحداهما وترك الأُخرى ، ويكون ذلك من قبيل تبعيض الاحتياط ، بل ما نحن فيه أولى بذلك من مسألة دوران الأمر بين وجوب أحد الطرفين وحرمة الآخر مع اشتباههما ، فإنّه لو أكل إحدى السمكتين وترك الأُخرى يحصل على الموافقة القطعية للوجوب مع

١١١

الموافقة الاحتمالية للتحريم.

ويمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه هو عين مسألة العلم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر مع اشتباههما ، نظراً إلى أنّ الوجوب لا يتوجّه إلاّ إلى ما هو المباح واقعاً ، وحيث إنّهما قد اشتبها يكون عين مسألة اشتباه الواجب بالحرام ، ولا فرق بينهما إلاّفي أنّ الوجوب في تلك المسألة يكون قبل الاشتباه وفيما نحن فيه يكون بعد الاشتباه. ويمكن فرضه فيه قبل الاشتباه ، بأن يعلم بعين ما هو الحرام وعين ما هو المباح ثمّ يحصل له الاضطرار الموجب لإيجاب الارتكاب ثمّ يحصل الاشتباه بينهما.

فتلخّص : أنّ الاضطرار لو كان بالغاً إلى حدّ الوجوب الشرعي لم يكن لنا محيص من القول بتبعيض الاحتياط ، ومثله لو كان ذلك بحكم العقل ، بأن حكم العقل بلزوم الارتكاب في بعض الأطراف ، كما ذكروا ذلك في دليل الانسداد فيما لو كان الاحتياط التامّ مخلاًّ بالنظام ، فإنّ نتيجة ذلك حينئذ هي تبعيض الاحتياط. هذا إذا كان الاضطرار بالغاً إلى هذا الحدّ من الوجوب العقلي أو الشرعي.

أمّا إذا كان الاضطرار غير بالغ إلى ذلك الحدّ ، بل كان من قبيل مجرّد العسر والحرج ففيه تأمّل ، من جهة أنّ دليل العسر والحرج لا يجري في المباحات ، وإنّما يتأتّى في التكاليف الالزامية إذا كانت موجبة للعسر والحرج ، والمفروض أنّ التكليف الالزامي فيما نحن فيه الذي هو حرمة أكل الميتة الموجودة في البين لم يكن مصطدماً مع العسر والحرج ، كما أفاده الأُستاذ قدس‌سره (١) في وجه وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر ، وما لم يكن العسر والحرج مصطدماً بالتكليف الواقعي لم يمكن أن يتحكّم عليه ، فلم يبق لنا إلاّ أن نقول إنّ التكليف الواقعي وإن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٩٨ وما بعدها.

١١٢

لم يكن بنفسه حرجياً ، إلاّ أنه لمّا كان الجمع بين محتملاته حرجياً ، كان ذلك كافياً في تحكيم أدلّة الحرج عليه ، لكن لازم ذلك هو سقوط الاحتياط بالمرّة ، لسقوط نفس ذلك التكليف الواقعي بكون الجمع بين محتملاته حرجياً.

وهكذا الحال لو قلنا بأنّ التكليف الواقعي في حدّ نفسه لم يكن حرجياً ، إلاّ أنّه لو كان منطبقاً على ذلك الفرد الذي يختاره المكلّف لرفع الحرج عنه يكون دليل الحرج رافعاً له ، كما أفاده في الكفاية (١) وكما ذكره في التقرير (٢) في توجيه كون الترخيص واقعياً ، وكونه من قبيل التوسّط في التكليف ، فإنّه وإن لم يكن مسقطاً للتكليف وموجباً للقطع بعدمه كما في التوجيه الأوّل ، إلاّ أنه إذا كان سابقاً على العلم الاجمالي يكون موجباً لسقوط الاحتياط ، ويكون حاله من هذه الجهة حال الاضطرار إلى المعيّن في كونه من قبيل التوسّط في التكليف في ملاك سقوط الاحتياط ، وهو أنّه إن كانت الميتة الواقعية منطبقة على هذا الفرد المعيّن الذي اضطرّ إليه ، أو كانت منطبقة على هذا الفرد الذي اختاره المكلّف لسدّ ضرورته ، كانت حرمتها مرتفعة بدليل العسر والحرج ، وإن كانت منطبقة على الطرف الآخر تكون حرمتها باقية.

ومن ذلك تعرف أنّ ما أُفيد في آخر البحث من هذا التقرير من أنّه لا أثر يترتّب على كون المقام من قبيل التوسّط في التكليف ، أو من قبيل التوسّط في التنجيز ليس كما ينبغي ، بل إنّ ذلك هو العمدة والأساس في وجوب الاحتياط في الباقي.

وخلاصة المبحث : أنّا نحتاج في جريان دليل العسر والحرج إلى حكم

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٠٧.

١١٣

شرعي إلزامي يكون دليل الحرج حاكماً عليه ، فإن كان ذلك الحكم الشرعي هو الحكم الواقعي المعلوم أعني حرمة الميتة الموجودة في البين ، ففيه أنّها ليست حرجية ، وإنّما الحرجي هو الاحتياط والجمع بين محتملاتها. ولو سلّم اتّصاف تلك الحرمة بأنّها حرجية ولو باعتبار استدعائها الاحتياط المذكور ، كان ارتفاعها موجباً للقطع بارتفاع التكليف ، ومستلزماً لارتفاع الاحتياط بالمرّة. والقول بأنّها ترتفع بمقدار اقتضاء وجوب الموافقة القطعية دون اقتضاء حرمة المخالفة القطعية ، ممّا لم يظهر وجهه وانطباقه على الصناعة ، فإنّ هذه الجهات أحكام عقلية ناشئة عن وجود التكليف الواقعي ، فإن كان موجوداً ترتّبت وإلاّ لم يترتّب شيء منها.

وإن شئت قلت : إنّ اقتضاء التكليف الواقعي لحرمة المخالفة القطعية ولوجوب الموافقة القطعية ، لم يكن بحكم من الشارع كي يكون مرتفعاً عند كونه حرجياً ، وارتفاع التكليف بالقياس إلى هذا الأثر العقلي له دون الأثر الآخر ممّا لم نتعقّله.

هذا إن أُريد تحكيم دليل العسر والحرج على نفس التكليف الواقعي المعلوم في البين بقول مطلق ، وإن أُريد تحكيمه عليه على تقدير انطباقه على الطرف الذي يختاره المكلّف لسدّ ضرورته ، كما أفاده في الكفاية وجعله برهاناً على عدم وجوب الاحتياط في الطرف لكونه راجعاً إلى التوسّط في التكليف ، ففيه ما لا يخفى.

أمّا أوّلاً : فلأنّ هذه السمكة التي قدّمها المكلّف لنفسه ليسدّ بها ضرورته لو كانت هي الميتة واقعاً لم تكن حرمتها ضررية ولا حرجية ، لوجود السمكة الأُخرى.

١١٤

وأمّا ثانياً : فلأنّا لو سلّمنا ذلك لكان حاله حال الاضطرار إلى المعيّن في عدم إسقاط الاحتياط فيما لو تأخّر عن العلم ، لكونه حينئذ من قبيل التردّد بين الطويل والقصير.

وأمّا ثالثاً : فلما ستأتي الاشارة إليه من عدم الدليل على كون المكلّف مخيّراً في ارتكاب أيّهما شاء.

وما أُفيد في التقرير المذكور وحرّرناه نحن أيضاً في التقرير وفي الشرح المشار إليه من أنّ المسوّغ له والموقع له في أكل الميتة على تقدير كونها هي التي أكلها هو جهله لا اضطراره ، غير خال عن التأمّل والإشكال ، إذ ليس الكلام في سبب معذوريته ، وإنّما الكلام في كيفية تحكيم دليل العسر والحرج ، والحيرة إنّما هي في الحكم الشرعي الذي يصطدم به ويكون حاكماً عليه ، بعد ما قدّمناه من تلك المقدّمة القائلة بأنّه لابدّ في جريان دليل العسر والحرج من وجود حكم شرعي يكون موجباً للعسر والحرج ، ومن الواضح أنّ كون الجهل عذراً لا دخل له بهذه الجهة أصلاً.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ ما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا أيضاً لا يخلو عن تأمّل ، وذلك قوله : وهذا بخلاف الاضطرار إلى غير المعيّن ، فإنّ رافع التكليف فيه منحصر باختيار المكلّف في مقام التطبيق ، فإنّه على تقدير انطباق الحرام على مورد اختياره يكون التكليف فيه ساقطاً ، فلا مقتضي للسقوط قبله ، وعليه فالتكليف قبل الاختيار ـ ولو كان الاضطرار سابقاً على حدوث التكليف أو العلم به ـ يكون فعلياً على كلّ تقدير ، ويشكّ في سقوطه عن الطرف الآخر بعد اختيار المكلّف أحد الطرفين الخ (١)

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

١١٥

ووجه الإشكال والتأمّل ، هو أنّه ليس الكلام فيما لو ارتكب ما يسدّ به ضرورته قبل العلم الاجمالي ، وإلاّ لكان من قبيل العلم الاجمالي بعد تلف أحد الطرفين ، وإنّما محل الكلام هو أنّه لو حصل له العلم الاجمالي المذكور وكان مضطراً إلى ارتكاب أحد الطرفين لا بعينه باضطرار سابق على ذلك العلم الاجمالي. كما أنّه ليس الكلام فيما يكون حاله بعد الفراغ من ارتكاب أحد الطرفين لسدّ ضرورته ، فإنّها من قبيل الشكّ في المسقط حتّى لو لم يكن في البين اضطرار ، لاحتمال كون الحرام هو الذي ارتكبه فيكون من قبيل المسقط ، ويكون الشكّ في انطباق ذلك المعلوم بالاجمال على ذلك الذي ارتكبه موجباً لكونه من قبيل الشكّ في المسقط ، كان في البين اضطرار أو لم يكن. وإنّما عمدة الكلام هو في المسوّغ له ارتكاب ذلك الطرف الذي اختاره ، وقد عرفت أن لا مسوّغ إلاّدليل العسر والحرج ، وهو يحتاج إلى أن يصطدم بالتكليف الواقعي ليتحكّم عليه ، والمفروض أنّه لا يصطدم به.

وكما يتوجّه الإشكال المزبور على ما أفاده شيخنا قدس‌سره ، فهو يتوجّه على ما في الكفاية ، فإنّ الاضطرار لو كان بالغاً إلى حدّ الوجوب كان المكلّف مخيّراً في ارتكاب أيّهما شاء ، أمّا إذا لم يكن في البين إلاّ العسر والحرج فلا دليل على هذا التخيير ، وعليه يكون اللازم هو الاحتياط وعدم إعمال دليل العسر والحرج. وهذا المبحث عين المبحث في دليل الانسداد من سقوط الاحتياط إذا بلغ العسر فيه اختلال النظام ، أمّا إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد العسر والحرج ، فإنّ دليل نفيهما لا يوجب سقوطه إلاّ إذا طبّقناه على نفس التكليف المعلوم في البين.

ويمكن الجواب عن أصل الإشكال ، بأنّ الحرج إنّما جاء من جهة الجمع بين الاجتناب عن هذا الطرف والاجتناب عن الطرف الآخر كما هو مقتضى العلم

١١٦

الاجمالي ، فإنّ مقتضى العلم الاجمالي بوجود الميتة بين السمكتين ، هو أنّ الميتة لو كانت هي هذه السمكة لوجب الاجتناب عنها بقول مطلق ، سواء اجتنب عن السمكة الأُخرى أو لم يجتنب ، وهكذا الحال من طرف العكس ، وهذا الجمع إنّما نشأ من إطلاق التكليف الواقعي المعلوم في البين ، وحيث كان الجمع المذكور حرجياً ، كان المرفوع بدليل رفع الحرج هو إطلاق التكليف المعلوم في البين ، لا أصل وجوب الاجتناب ، فيكون الحاصل أنّه إن كانت هذه هي الميتة لكان وجوب الاجتناب عنها مقيّداً بعدم الاجتناب عن الأُخرى ، وهكذا الحال من طرف العكس ، إذ لو كانت هذه هي الميتة لكان وجوب الاجتناب عنها عند الاجتناب عن تلك حرجياً ، فيكون مرفوعاً بدليل الحرج ، فلا يكون المرفوع حينئذ إلاّوجوب الاجتناب عن كلّ واحدة منهما لو كانت هي الميتة عند الاجتناب عن تلك ، أمّا عند ارتكاب إحداهما فلا يكون الاجتناب عن الأخرى حرجياً لو كانت الميتة هي الأُخرى.

والحاصل : أنّ العسر إنّما نشأ عن الجمع بين الاجتنابين ، وهو ـ أعني الجمع المذكور ـ لم ينشأ عن نفس ذلك التكليف الواقعي ، وإنّما نشأ عن إطلاقه وشموله لما إذا اجتنب عن الأُخرى وما إذا لم يجتنب عنها ، فيكون المرفوع هو الاطلاق المزبور.

وإن شئت فقل : إنّ الميتة لو كانت منطبقة على هذه السمكة لكان وجوب الاجتناب عنها عند الاجتناب عن الأُخرى مرفوعاً.

وهذا التقريب هو المستفاد ممّا أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره في درسه ، وأشار إليه في مقالته (١) ونتيجته هي تبعيض الاحتياط كما أفاده شيخنا قدس‌سره ، وقد تعرّض

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٥.

١١٧

لذلك في ملحق الجزء الثاني من المستمسك في مبحث القبلة (١).

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الميتة لو كانت هي هذه السمكة لكانت الأُخرى مباحة ، فلا يكون إطلاق وجوب الاجتناب عن هذه السمكة وشموله لصورة ترك الأُخرى حرجياً ، كما هو الشأن في كلّ واجب قوبل بمباح يكون الجمع بينه وبينه حرجياً ، مثل أن يكون الصوم حرجياً عند التعرّض للشمس ، فإنّ ذلك لا يرفع إطلاق وجوب الصوم وشموله لصورة التعرّض ، بل يبقى وجوب الصوم على حاله من الاطلاق وشموله لصورة التعرّض ، ويكون اللازم على المكلّف هو اجتناب التعرّض.

وإنّما تتأتّى هذه الطريقة ـ أعني طريقة التقييد ـ فيما لو كان كلّ منهما واجباً مع فرض اتّفاق عدم القدرة على الجمع بينهما ، أو كون الجمع المذكور حرجياً ، أمّا لو كان أحدهما واجباً والآخر مباحاً فلا يلتزم بتقييد الوجوب بعدم ذلك المباح ، بل يبقى ذلك الوجوب بحاله ، ويلتزم بعدم ذلك المباح ، لعدم كون إطلاق ذلك الوجوب وشموله لوجود المباح حرجياً ، إذ لم يكن الحرج آتياً من إطلاق الوجوب ، وإنّما هو آت حينئذ من ناحية المكلّف مع فرض تمكّنه من ترك ذلك المباح.

ففيما نحن فيه نقول : إنّ هذه السمكة لو كانت هي الميتة لم يكن إطلاق وجوب الاجتناب عنها وشموله لترك أكل الأُخرى حرجياً ، لفرض كون ترك الأُخرى حينئذ مباحاً ، فيمكنه أن لا يترك أكل الأُخرى ، فلا يكون وجوب الاجتناب عن هذه حرجياً. وهكذا الحال من طرف العكس ، هذا.

ولكن يمكن إتمام هذه الطريقة ـ أعني طريقة التقييد المذكور ـ بما تقدّمت

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٥ : ٢٠٢.

١١٨

الاشارة إليه ، وحاصل ذلك أن نقول : إنّ إطلاق وجوب الاجتناب عن هذه السمكة لو كانت هي الميتة وإن لم يكن في نفسه حرجياً ، إلاّ أنه بواسطة العلم الاجمالي بوجود الميتة بين هاتين السمكتين الموجب عليه الاجتناب عن كلّ منهما ، يكون إطلاق وجوب الاجتناب عن هذه السمكة لو كانت هي الميتة وشموله لصورة الاجتناب عن الأُخرى حرجياً ، بمعنى أنّه بعد العلم الاجمالي بوجود الميتة في البين ، الذي يكون مقتضاه بحكم العقل هو وجوب الاجتناب عن كلّ منهما ، وبعد فرض أنّ المكلّف يعسر عليه الاجتناب عنهما معاً نقول : إنّ هذه السمكة لو كانت في الواقع هي الميتة ، يكون إطلاق وجوب الاجتناب عنها وشموله لما إذا اجتنب عن الأُخرى حرجياً ، فنحكّم دليل العسر والحرج على ذلك الاطلاق ، ويكون محصّله هو رفع وجوب الاجتناب عن هذه عند الاجتناب عن الأُخرى ، وهكذا من ناحية العكس ، ويكون هذا التحكيم بعد العلم الاجمالي ، ويكون الفرق بين الاضطرار إلى المعيّن والاضطرار إلى غير المعيّن ، أنّه في صورة الاضطرار إلى المعيّن يكون تحكيم دليل العسر والحرج على التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على الفرد المضطرّ إليه قبل العلم الاجمالي ، فيكون العلم الاجمالي وارداً على تكليف محكوم لدليل العسر والحرج أو تكليف غير محكوم لذلك الدليل ، بخلاف صورة الاضطرار إلى غير المعيّن ، فإنّه قبل العلم الاجمالي لو كانت الميتة هي هذه السمكة لم يكن دليل العسر والحرج وارداً وحاكماً على إطلاق وجوب الاجتناب عنها ، إذ لم يكن حينئذ ذلك الاطلاق حرجياً ، وإنّما يكون الاطلاق المذكور حرجياً بعد تحقّق العلم الاجمالي الذي مقتضاه الجمع بين الاجتنابين الذي هو حرجي.

وبالجملة : أنّ كون إطلاق التكليف حرجياً ناشئ عن لزوم الجمع ، وهو

١١٩

ناشئ عن العلم الاجمالي ، فيكون اتّصاف ذلك الاطلاق بالحرجية متأخّراً في الرتبة عن العلم الاجمالي وعن تأثيره في لزوم كلا الاجتنابين ، فلا يعقل أن يرفع أثره بالمرّة ، ويكون حاله حال الاضطرار إلى المعيّن الواقع بعد العلم الاجمالي ، فكما أنّ ذلك لا يسوّغ له إلاّ ارتكاب ما اضطرّ إليه ، فكذلك الاضطرار إلى غير المعيّن السابق في الزمان على العلم الاجمالي ، فإنّه وإن كان سابقاً في الزمان على العلم الاجمالي ، إلاّ أن اتّصاف إطلاق التكليف الواقعي بالحرجية لمّا كان متأخّراً في الرتبة عن العلم الاجمالي ، لم تكن حرجية ذلك الاطلاق مسوّغة له إلاّرفع ذلك الاطلاق الذي يكون مقتضاه وجوب الاجتناب عن كلّ منهما عند الاجتناب عن الأُخرى ، وحينئذ فلا يكون موجباً للخدشة في ذلك العلم الاجمالي إلاّ بمقدار تلك الحرجية ، وهو أنّه عند اجتناب تلك يجوز له ارتكاب هذه ، لا أنّه يجوز له ارتكاب كلّ منهما بقول مطلق ، فراجع ما حرّرناه (١) في شرح عبارة الوسيلة في هذا المقام ، وتأمّل في هذه الجهة التي ذكرناها هنا أيضاً ، وهي أنّ المائز بين الاضطرار إلى المعيّن والاضطرار إلى غير المعيّن فيما لو كان الاضطرار سابقاً بحسب الزمان على العلم الاجمالي ، هو تأخّر عملية دليل العسر والحرج عن عملية العلم الاجمالي في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن ، وتقدّمها عليه في صورة الاضطرار إلى المعيّن ، وأنّ هذه الجهة هي التي أوجبت سقوط العلم الاجمالي في صورة الاضطرار إلى المعيّن ، وعدم سقوطه في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن ، بحيث كان الاضطرار إلى غير المعيّن السابق بحسب الزمان على العلم الاجمالي ملحقاً بما إذا كان متأخّراً عن العلم الاجمالي ، وسرّ الإلحاق هو ما عرفت من تأخّر عمليّته عنه.

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بَعدُ.

١٢٠