أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

العلم الاجمالي يسقطها ، إلاّ أن يقال إنّ اليد لا تسقط كما لا تسقط أصالة الحل لو كانت هي المرجع ، لأنّ اليد غير منحصرة بما أحاط به ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ هذا البناء العقلائي سواء جعلتموه من قبيل الأمارات أو جعلتموه من قبيل الأصل العملي ، لا يمكنكم إعماله في كلّ واحد من الأطراف ولو على التدريج ، لأنّ العلم بوجود التكليف بينها موجود ، وهو بحكم العقل مانع

__________________

الخامس في الطهارة من النجاسات [ راجع وسائل الشيعة ٢٤ : ١٦١ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦١ ح ١ ( مع اختلاف ) ].

الجواهر ٣٦ : ٢٨٣ في الأطعمة عند الكلام على حرمة نسل الحيوان الشارب لبن الخنزيرة : موثّق بشير بن سلمة عن أبي الحسن عليه‌السلام « في جدي يرضع من خنزيرة ثمّ ضرب في الغنم ، فقال عليه‌السلام : هو بمنزلة الجبن ، فما عرفت أنّه ضَرْبه فلا تأكله ، وما لم تعرفه فكل » [ راجع وسائل الشيعة ٢٤ : ١٦٢ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦١ ح ٢ ].

صحيحة ضريس قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن في أرض المشركين والروم أنأكله؟ فقال عليه‌السلام : ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكله ، وما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام ».

ذكرها في الحدائق في المقدّمات عند الكلام على الشبهة الغير المحصورة [ راجع الحدائق الناضرة ١ : ١٥٠ ، ١٤١. وراجع أيضاً وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٤ ح ١ ( مع اختلاف يسير ) ].

الرواية الأُولى والرابعة عن أبي جعفر عليه‌السلام وإحداهما تعضد الأُخرى لاختلاف الراوي مع وحدة المروي عنه وتقارب مضمون المتن ، والثانية عن الصادق عليه‌السلام ، والثالثة عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، وهما تشيران إلى أنّ مسألة الجبن معروفة لدى الرواة مسلّمة عندهم ، فهما تعضدان الأُولى والرابعة ، وهذا التعاضد يشعر بصحّة السند إلى الإمام عليه‌السلام وإن كان الراوي عنه في الأُولى أبا الجارود. فلا إشكال في الروايات من حيث السند ، وحيث إنّها متعاضدة كان من اللازم توحيد الدلالة من حيث مضمون المتن ، وإرجاع بعضها إلى بعض ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٢٠١

من المخالفة القطعية ، فأنتم إمّا أن تلتزموا بإسقاط العلم المذكور بدعوى كونه في نظر العقلاء كالعدم ، وهذا غير ممكن لأنّ حجّية العلم عقلية صرفة غير قابلة للتخصيص ، ولا محصّل لبناء العقلاء والسيرة العقلائية في الأحكام العقلية الصرفة ، وإلاّ لسهل الأمر في مثل قطع القطّاع ونحوه.

وإمّا أن تلتزموا بجريان هذا البناء العقلائي في البعض دون البعض ، وحينئذ يحصل التعارض والتساقط حتّى لو جعلتموه من قبيل الأمارات ، إذ لا ريب في أنّه لو قامت بيّنة مثلاً على طهارة هذا الطرف من أطراف العلم الاجمالي ، وقامت بيّنة أُخرى على طهارة ذلك الطرف وهكذا ، وأنت تعلم إجمالاً بوجود النجس بينها ، كنت مضطراً إلى إجراء التعارض في تلك البيّنات ، وحيث لا مرجّح كما هو المفروض في المقام ، ينتهي الأمر إلى التساقط.

لأنّا نقول : إنّ الأمر كما ذكرت ، إلاّ أنه لمّا قام الإجماع والروايات على الترخيص الذي هو عبارة أُخرى عن إمضاء ذلك البناء العقلائي ، وقام الدليل العقلي على عدم إجراء ذلك في تمام الأطراف ولو على سبيل التدريج ، لما ذكرتموه من المانع العقلي من ناحية العلم الموجود وجداناً ، كان من الضروري هو حصر ما دلّ على الترخيص في البعض دون البعض ، وحيث إنّ الترخيص نصّ في ارتكاب بعض الأطراف ، لا أنّه عام مثل دليل البيّنة أو سائر الأُصول العملية كي يرجع الأمر إلى التعارض والتساقط ، تعيّن القول بالترخيص في البعض على نحو التخيير ، فإنّ كلّ واحد من الأطراف وإن كان صالحاً لانطباق دليل الترخيص المذكور عليه ، ولازم ذلك هو التعارض والتساقط ، إلاّ أنا في المقام لا يمكننا الالتزام بالتعارض ، لأنّه موجب للغوية ذلك الترخيص ، لما عرفت من كونه مختصّاً بالشبهة غير المحصورة.

٢٠٢

وهذا لا إشكال فيه بناءً على أنّ الموجب للموافقة القطعية هو التعارض ، وأنّ الترخيص في بعضها لا يحتاج إلى جعل البدل ، سواء قلنا بكون ذلك البناء العقلائي من قبيل الأمارات ، أو قلنا بأنّه من قبيل الأصل العملي. وكذا لا إشكال فيه بناءً على كون العلم علّة تامّة في الموافقة القطعية ، لو قلنا بكون ذلك البناء العقلائي من قبيل الأمارات لأنّه من قبيل جعل البدل ، وأمّا بناءً على كونه أصلاً فالظاهر أنّه لا إشكال أيضاً فيه ، لأنّ الإشكال إنّما يكون في الأُصول العامّة ، أمّا لو نصّ الشارع على إعمال الأصل الخاصّ في طرف من أطراف العلم الاجمالي ، فلازمه أيضاً جعل البدل ، فلا ينبغي الإشكال فيه حتّى على هذا القول ، فلاحظ وتأمّل.

وحاصله : أنّه لو كان الأصل عاماً كان جريانه في هذا الطرف موقوفاً على جعل البدل ، وإذا توقّف شمول العام لفرد على إعمال عناية ، لا يحكم بتلك العناية بل يحكم بعدم الشمول إلاّبالأصل المثبت ، بأن نقول نجري عموم البراءة في هذا الطرف ، وجريان البراءة مستلزم لجعل البدل ، فعن البراءة في هذا الطرف ننتقل إلى لازمه وهو بدلية الطرف الآخر لا عن العموم ، وهو معنى الأصل المثبت. وهذا لا يجري فيما نحن فيه ، لأنّ المفروض أنّ الترخيص في بعض الأطراف وارد فيه بخصوصه لا بدليل [ عام ] ، ومقتضى هذا الترخيص الالتزام بلازمه وهو جعل البدل ، وإلاّ لكان الترخيص فيه لغواً ، أو ممتنعاً لكونه مناقضاً لما يقتضيه العلم إذا كان مجرّداً من جعل البدل.

ثمّ لا يخفى أنّ ضعف الاحتمال في بعض الأطراف بواسطة كثرة الاحتمالات لو سلّمنا أنّه يوجب الظنّ بعدمه في ذلك البعض ، فليس هو في تمام الأطراف ، بل إنّما هو في عدد خاصّ يكون الاحتمال فيها ضعيفاً بالقياس إلى

٢٠٣

الباقي ، مثل واحد في ضمن أُلوف مثلاً ، أو عشرة في ضمن ملايين. نعم هذا المقدار من العدد صالح لأن يطبّقه المكلّف على أي شاء من تلك الأطراف ، وأيّاً منها طبّقه عليه يكون التكليف فيه مظنون العدم ، ولعلّ هذا هو مراد الأُستاذ صاحب المقالة فيما تقدّم من نقل عبارتها (١).

وبتقريب آخر : أنّ ضعف الاحتمال والظنّ بالعدم في كلّ واحد واحد يستمرّ إلى أن يزيد العدد ويبلغ النصف أو أكثر بكثير ، يلتفت الإنسان إلى ما مرّ من الآحاد التي مرّت عليه واستضعف الاحتمال فيها ، فينقلب حاله بالنسبة إليها من الظنّ بالعدم في كلّ واحد منها إلى الظنّ بالوجود بالجملة فيها ، لأنّ الباقي عنده من الأعداد يكون ظنّه فيها ضعيفاً ، ولازمه انقلاب ما مرّ عليه من الظنّ بالعدم إلى الظنّ بالوجود.

وبالجملة : هو لا يبقى على الظنّ بالعدم إلى أن يستوفي تمام الأعداد ، ليكون ذلك من باب الظنّ بالسالبة الكلّية ، بل عند بقاء القليل ينقلب حاله بالنسبة إلى ما مرّ من الظنّ بالعدم إلى الظنّ بالوجود ، فلا يحصل له الظنّ حينئذ بالسالبة الكلّية.

والحاصل : أنّ هذه السالبة الكلّية المدّعى كونها مظنونة ، إن كانت دفعية فلا إشكال في أنّها ليست كذلك ، لأنّ الظنّ بالعدم دفعة إنّما هو في مقدار عدد خاصّ من تلك الأطراف يكون احتمال التكليف فيها ضعيفاً ، فيكون عدمه فيها مظنوناً ، غايته أنّه على نحو التبادل ، فأقصى ما في البين هو الظنّ بالسالبة الجزئية ، غايته أنّه على نحو التبادل. وإن كانت تدريجية ، فهو ـ أعني الظنّ بالعدم في كلّ واحد من الأطراف على نحو التدريج ـ إنّما يتمّ ويتمشّى إلى حدّ خاصّ ، وهو المقدار

__________________

(١) في الصفحة : ١٨٥.

٢٠٤

القليل ، ثمّ إذا استمرّ التعداد ووصل إلى مقدار النصف ونظر إلى ما تقدّم ممّا حصل له الظنّ بالعدم فيه من الأطراف ، يتبدّل الظنّ بالعدم فيه إلى خلافه ، وهكذا إلى أن يحصل له الظنّ فيما تقدّم بالوجود ، فأين السالبة الكلّية المظنونة التي هي ليست إلاّ اجتماع كلّ واحد من تلك الأعدام والظنّ فيها أجمع بالعدم ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى أي حال ، فلو قلنا بأنّ الضعف يوجب الظنّ بالعدم يكون ذلك من باب الأمارات الظنّية ، ويتأتّى فيه ما تقدّم من كون النتيجة هي التخيير في إعمال تلك الأمارة في ذلك المقدار من العدد الذي يكون الاحتمال فيه ضعيفاً بالقياس إلى البواقي ، لا إعمالها في جميع الأطراف.

والذي تلخّص لنا في هذه الدورة بعد الإشكال على ما أفاده شيخنا قدس‌سره ، وبعد بيان أنّ ما أفاده الحاج آغا رضا قدس‌سره لا يتمّ إلاّعلى كون المدرك في التنجيز هو تعارض الأُصول ، بخلاف ما لو قلنا إنّ المنجّز هو العلم ، وبعد بيان ما أفاده الشيخ قدس‌سره وإرجاع ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره إليه ، وأنّه يحتاج إلى الدليل الخاصّ مثل السيرة أو الإجماع أو الروايات ، فلو تمّت فهو المطلوب ، وإلاّ كان المتعيّن هو ما أفاده العلاّمة الخراساني قدس‌سره في الكفاية (١) من عدم الأثر لعدم الحصر ، إلاّ إذا رجع إلى العسر والحرج ، أو الخروج عن الابتلاء ونحو ذلك ممّا هو من مسقطات العلم الاجمالي عن التأثير. ولو كان في البين إجماع أو كان مورداً لبعض الروايات ، فالقدر المتيقّن إنّما هو فيما يكون راجعاً إلى إحدى المسقطات دون مجرّد عدم الحصر ، فلاحظ وتأمّل. مضافاً إلى ما قد عرفت من أنّ الروايات لا يمكن الاستدلال [ بها ] ، لما ذكره المرحوم الحاج آغا رضا من كون روايات الجبن واردة مورد التقية ، إذ لا إشكال عندنا في حلّية الإنفحة. وأمّا روايات

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٥٩ و ٣٦٢.

٢٠٥

الجدي الشارب لبن الخنزيرة فلما عرفت من أنّ ظاهرها الشبهة المحصورة ، فتكون مقصورة على خصوص المورد ، هذا.

ولكن الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته (١) أتمّ المطلب بدعوى بناء العقلاء على إلغاء الاحتمال في كلّ واحد من الأطراف وتعيّنه في غيره ، وبعد إثبات حجّية هذا البناء العقلائي ولو بأصالة عدم الردع عنه ، يكون مرجعه إلى جعل البدل ، ولكن العمدة في تحقّق هذا البناء العقلائي ، فلاحظ وتأمّل.

ولا يخفى أنّه لو تمّ هذا البناء العقلائي لم يكن مقتضاه إبقاء الواحد الذي هو بمقدار المعلوم بالاجمال ، بل الظاهر أنّ البناء العقلائي على عدم التكليف في هذا الطرف الذي يكون محصّله هو البناء العقلائي على وجوده فيما عداه من الأطراف مختصّ بالأطراف التي لم يرتكبها ، وحينئذ يكون الحاصل هو البناء على ذلك إلى حدّ يخرج الاحتمال عن الضعف ، فيلزمه الاجتناب حينئذ عن الباقي وإن كان كثيراً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله قدس‌سره : تذييل ـ إلى قوله ـ وكان شيخنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضاً (٢).

وقد ذكر ذلك في وسيلته طبع النجف في المسألة العاشرة (٣).

ولكن مسلكه قدس‌سره في سقوط العلم الاجمالي عند كون الشبهة غير محصورة لا يوجب سقوط حكم الشكّ والرجوع إلى الأصل ، اللهمّ إلاّ أن يكون مبناه على ضعف الاحتمال ، ويكون ما ذكره من سقوط حرمة المخالفة القطعية الموجب

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٢٢.

(٣) وسيلة النجاة : كح [ لا يخفى أنّه قد رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].

٢٠٦

لسقوط وجوب الموافقة القطعية برهاناً على ذلك الأمر الوجداني أعني ضعف الاحتمال ، وكون العلم في غير المحصور بمنزلة العدم في أنظار العقلاء ، فراجع ما شرحناه في هذه المسائل.

تنبيهان : الأوّل : أنّه قد تلخّص أنّ في الشبهة غير المحصورة مبنيين ، أوّلهما : ضعف الاحتمال وبناء العقلاء الممضى من جانب الشارع على إلغاء احتمال وجود التكليف في بعض غير معيّن من الأطراف. الثاني : ما هو نقلناه عن المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره من احتمال وجود أطراف أُخر بحيث إنّه يوجب عدم العلم الاجمالي فيما أحاط به من الأطراف.

وهذان المبنيان بينهما عموم من وجه ، إذ ربما اجتمعا بحيث كانت كثرة الأطراف موجبة لكلا الأمرين ، وربما وجد المبنى الأوّل دون الثاني ، كما لو كانت الأطراف من الكثرة بالغة حد ضعف الاحتمال في بعضها ، وإن كانت مضبوطة محصورة في أطراف كثيرة العدد ولو بالملايين. وربما وجد الثاني دون الأوّل ، كما لو كانت الأطراف المحصورة التي أحاط بها المكلّف قليلة العدد مثل طرفين أو ثلاثة ، ولكنّه يحتمل وجود طرف آخر لها لم يحصل له العلم بوجوده فيما بينها.

الثاني : أنّه لو شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة ، فعلى المبنى الأوّل لا إشكال في لزوم الاحتياط ، للشكّ في وصول ضعف الاحتمال إلى حدّ يبني العقلاء على عدم التكليف في البعض ، فيكون من قبيل الشكّ في قيام الأمارة أو الأصل العقلائي على الترخيص في بعض الأطراف.

أمّا على المبنى الثاني ففيه إشكال ، لأنّ مرجع الشكّ في الحصر وعدمه بناءً على المبنى المذكور إلى الشكّ في وجود طرف آخر. وإن شئت قلت : إنّ مرجع

٢٠٧

هذا المبنى إلى الشكّ في وجود أطراف أُخر ، وهذا المعنى لا يقبل الشكّ ، فالذي ينبغي أن يقال إنّه بناءً عليه لا يكون الحصر وعدمه قابلاً للشكّ ، بل إنّ الشبهة حينئذ إمّا أن تكون معلومة الحصر ، وإمّا أن تكون معلومة عدم الحصر. ولو سلّم جدلاً أنّها تكون محلّ الشكّ ، كان مرجع الشكّ المتوهّم إلى الشكّ في تحقّق التكليف فيما أحاط به من الأطراف ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى عدم العلم الاجمالي فيما أحاط به من الأطراف.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره بقوله على قول الشيخ قدس‌سره : فإذا شكّ في كون الشبهة محصورة الخ (١) ، ما هذا لفظه : بناءً على ما اخترناه من الضابط ، حاله حال ما لو شكّ في كون بعض الأطراف مورداً للابتلاء وعدمه ، وقد تقدّم بعض الكلام فيه فراجع (٢). إذ قد عرفت أنّه بناءً على ما أفاده من الضابط على ما شرحناه في المقدّمات الثلاث ، لا يكون عدم الحصر بالمعنى المزبور قابلاً للشكّ ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وما ينسب إلى المحقّق الخونساري ... الخ (٣).

يمكن أن يكون نظر هذا المحقّق إلى اعتبار نيّة الوجه ، وأنّ الاحتياط بالتكرار مسقط لها ، فإذا قلنا باعتبارها في العبادة حتّى في مورد عدم التمكّن منها ، كان لازم ذلك هو سقوط التكليف بتلك العبادة في مورد العلم الاجمالي في الشبهة الوجوبية المردّدة بين العبادتين المتباينتين.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٧٣.

(٢) حاشية فرائد الأُصول : ٢٣٠.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٢٤.

٢٠٨

لكن الظاهر ممّا حرّره الشيخ قدس‌سره (١) ونقله من كلماته وكلمات صاحب القوانين هو أنّ نظرهم إلى ما حرّره الشيخ قدس‌سره ونقله شيخنا قدس‌سره من دعوى مدخلية العلم التفصيلي في التنجيز ، وأنّ المعلوم بالاجمال غير صالح للبعث والتنجّز ، فراجع وتأمّل.

قوله : ربما يتوهّم أنّ وجوب الاتيان بالمحتمل الآخر عند الاتيان بأحد المحتملين ممّا يقتضيه استصحاب بقاء التكليف ... الخ (٢).

الظاهر أنّ ما هو محلّ الكلام مقرون بتنجّز المعلوم بالاجمال ، بأن كان قد علم بوجوب إحدى الصلاتين قبل الاتيان بإحداهما ، أمّا لو كان قد أتى بإحداهما باعتقاد أنّها هي الواجبة ثمّ بعد فراغه منها حصل له العلم الاجمالي المذكور ، فالظاهر سقوط أصالة الاشتغال في مثل ذلك ، وانحصار المرجعية بالاستصحاب ، وهل الجاري هو استصحاب انشغال ذمّته أو أنّ الجاري هو استصحاب الكلّي أو الفرد المردّد. والحاصل : أنّ المنظور إليه هو الصورة الأُولى وهي صورة منجّزية العلم الاجمالي ، دون الثانية ، وحين إذ اتّضح ما هو محلّ الكلام فنقول بعونه تعالى :

إنّه بناءً على كون العلم الاجمالي علّة تامّة في وجوب الموافقة القطعية كما هو كذلك بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، لا يكون النزاع في الرجوع إلى استصحاب الاشتغال بمعنى استصحاب شغل الذمّة القاضي بلزوم الاتيان بالثانية من باب الاحتمال والاشتغال بعد الاتيان بالأُولى إلاّعلمياً صرفاً ، إذ لا إشكال حينئذ في لزوم الاتيان بالثانية ، ولكن هل الموجب لذلك هو مجرّد قاعدة

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٨٤ ـ ٢٨٦ ، ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٢٥.

٢٠٩

الاشتغال الناشئة عن العلم الاجمالي ، أو أنّ الموجب له هو مجرّد استصحاب الاشتغال.

نعم ، لو ادّعي أنّ الاستصحاب يسوّغ الاتيان بالثانية بنيّة الجزم والوجه على أنّها واجبة ، يكون للنزاع حينئذ ثمرة عملية ، وهي هل الموجب لذلك هو الاستصحاب فيصحّ إتيانها بداعي الأمر المحرز ، أو أنّ الموجب له هو الاحتياط فلا يصحّ الاتيان بها إلاّبداعي الاحتمال ، لكن ذلك مبني على الاستصحاب المثبت ولا نقول به ، بل لا يقول به القائل بالاستصحاب هنا أيضاً ، إلاّعلى دعوى خفاء الواسطة كما صنعه المحقّق الخراساني قدس‌سره فيما سيأتي من نقل كلامه.

أمّا لو قلنا بأنّ العلم الاجمالي لا يوجب إلاّحرمة المخالفة القطعية وإنّما يلزمنا بالموافقة الاحتمالية فراراً من المخالفة القطعية ، فإنّه حينئذ يكون للنزاع المذكور ثمرة عملية ظاهرة ، فإنّه بناءً على جريان الاستصحاب يجب الاتيان بالثانية بعد الأُولى ، بخلاف ما لو بقينا نحن والعلم الاجمالي فإنّه حينئذ لا يجب الاتيان بها ، لحصول الفرار عن المخالفة القطعية بالاتيان بالأُولى.

واعلم أنّه لا فرق في سقوط الاستصحاب بناءً على لزوم الموافقة القطعية بين القول بكون العلم الاجمالي علّة تامّة في ذلك ، وبين القول بكونه مقتضياً إلاّ أنّه بعد تعارض الأُصول تكون الموافقة القطعية لازمة ، إذ على أيّ حال يكون اللازم عقلاً هو الاتيان بالثانية بعنوان الاحتمال بعد الاتيان بالأُولى ، فلا يكون لاستصحاب بقاء التكليف أثر عملي من هذه الجهة ، إذ لا يغيّر شيئاً من حالنا إلاّ إذا قلنا بحجّية الأصل المثبت ، وأنّه بعد جريان الاستصحاب المذكور نحكم بأنّ الواجب هو الباقي ، فنأتي به من باب إحراز وجوبه.

فظهر لك أنّه ينبغي سدّ باب الاستصحاب المذكور بناءً على القولين

٢١٠

المذكورين من هذه الجهة ، أعني عدم ترتّب الأثر العملي عليه. مضافاً إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قوله : الأوّل : يعتبر في الاستصحاب أن يكون الشكّ راجعاً إلى بقاء الحادث ، لا إلى أنّ الباقي هو الحادث ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وأمّا إذا كان الشكّ في أصل الحدوث وأنّ الحادث ما هو ، لتردّده بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل لا معنى لجريان الاستصحاب فيه ، لعدم كونه من قبيل الشكّ في بقاء الحادث ، وإنّما هو من قبيل الشكّ في نفس الحادث ما هو ، وهل هو الذي يكون مقطوع البقاء أو هو مقطوع الارتفاع.

وبالجملة : إذا كان الحادث مردّداً بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع ، لا يصحّ أن يضاف الشكّ في البقاء إلى الشكّ في الحدوث ويجري الاستصحاب بالنظر إلى الشكّ في البقاء ، إذ ليس الشكّ في البقاء في مثل ذلك إلاّعين الشكّ في الحدوث ، بل في الحقيقة لم يكن البقاء متعلّق الشكّ ، وإنّما تعلّق الشكّ بأنّ هذا الذي يبقى على تقدير كونه هو الحادث هل هو الحادث ، ويكون الشكّ شكّاً في حدوث ما يبقى لا في بقاء ما حدث ، فجعله من قبيل الشكّ في بقاء الحادث مغالطة نشأت من قلب الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً ، فإنّ حقيقة القضية هي الشكّ في حدوث ما يبقى ، فقلَبها المغالط إلى الشكّ في بقاء ما حدث ، ومحصّل الأُولى أنّ ما يبقى حادث أو لا ، ومحصّل الثانية أنّ ما حدث باقٍ أو لا ، وبين القضيتين بون بعيد ، والثانية هي مورد الاستصحاب ، والأُولى ليست مورداً له ، وهي المنطبقة على ما نحن فيه دون الأُخرى ، انتهى.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٢٦.

٢١١

وبالجملة : أنّه بعد العلم بارتفاع أحدهما لو كان هو الحادث ، لا معنى لاستصحاب الفرد المردّد بينهما ، إذ لم يكن الشكّ حينئذ شكّاً في البقاء ، وإنّما هو شكّ في حدوث ما يبقى ، ففي مثل ما نحن فيه أعني العلم بوجوب أحد الأمرين من الظهر والجمعة ، لو شكّ في الاتيان بهما ، يمكن الرجوع إلى استصحاب وجوب ما حدث وجوبه ، سواء كان هو الظهر أو الجمعة ، ويكون هذا الاستصحاب حاكماً على أصالة الاشتغال ، كما لو علم تفصيلاً بأنّه مكلّف بالظهر وشكّ في الاتيان بها ، فإنّه مع قطع النظر عن الاستصحاب مورد لقاعدة الاشتغال ، لكن استصحاب بقاء وجوب الظهر حاكم على أصالة الاشتغال. أمّا إذا كان ذلك بعد الاتيان بالظهر فيما نحن فيه ، فإنّ استصحاب الفرد المردّد لا مورد له فيه ، إذ ليس الشكّ في هذه الصورة شكّاً في البقاء ، وإنّما هو شكّ في حدوث ما يبقى وهو صلاة الجمعة.

ولو أُغضي النظر عن هذه الجهة ففيه إشكال آخر ، وهو أنّه إن أُريد من هذا الاستصحاب إثبات وجوب الجمعة ، فهو مبني على الأصل المثبت ، وإن أُريد منه مجرّد لزوم الاتيان بالباقي الذي هو صلاة الجمعة من باب احتمال أنّها هي ذلك الفرد المردّد ، فهذا حاصل بالوجدان نظراً إلى أصالة الاشتغال ، ويكون الأمر حينئذ من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وهكذا الحال لو كان المستصحب هو بقاء الكلّي أعني القدر الجامع بينهما ، فإنّه بعد فرض أنّه لا أثر للقدر الجامع في المقام ، يتردّد الأمر بين أن يكون الغرض من استصحاب ذلك الكلّي هو إثبات وجوب الباقي فيكون الأصل حينئذ مثبتاً ، أو يكون الغرض منه هو لزوم الاتيان بالباقي لاحتمال كون الكلّي كان حادثاً في ضمنه ، فيؤتى به من باب احتمال كونه هو الحادث وجوبه ، فيكون من قبيل

٢١٢

الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، وسيأتي (١) إن شاء الله تعالى توضيحه في بيان كون حكم العقل بلزوم تفريغ الذمّة على نحوين : واقعي محصّله لزوم تفريغ الذمّة في قبال عدم التفريغ ، وآخر ظاهري محصّله لزوم تحصيل العلم بالفراغ في قبال الاكتفاء بالفراغ الاحتمالي ، والثاني هو مورد قاعدة الاشتغال.

فالأصل إن كان مفاده هو هذا الأثر الثاني كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، وإن كان مفاده هو إثبات بقاء اشتغال الذمّة كان حاكماً على قاعدة الاشتغال إن كان له مورد ، بأن علم بوجوب الظهر وشكّ في الاتيان بها ، أو علم بوجوب إحدى الفريضتين من الظهر والجمعة وشكّ في الاتيان بهما ، أمّا لو أنّه علم بذلك وقد أتى بالظهر مثلاً ثمّ أراد استصحاب ما وجب عليه ، فلا مورد للاستصحاب المذكور ، لما عرفت من أنّه لا معنى لاستصحاب الحادث المردّد ، كما أنّه لا معنى لاستصحاب الكلّي هنا أيضاً ، لعدم الأثر له. وإن أُريد بذلك الاستصحاب إثبات أنّ الباقي وهو صلاة الجمعة هو الواجب فهو مثبت ، وإن أُريد مجرّد لزوم الاتيان بالجمعة لاحتمال أنّها هي الواجبة كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

قوله : فالأقوى أنّه لا فرق بين الشرائط وغيرها في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع وتردّده بين أُمور محصورة ، فيجب تكرار الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، أو في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس أو الحرير بغيره ... الخ (٢).

لو أبدل الحرير بغير المأكول كان أولى ، لأنّ الحرير محرّم فيكون حاله حال

__________________

(١) في الصفحة : ٢٣٧ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٣٥.

٢١٣

الذهب والمغصوب في أنّ الشبهة المحصورة منه مانعة عقلاً من اللبس ، فيلزمه الصلاة عارياً.

ثمّ إنّ هذا فيما لو تمكّن من الجمع بين الصلوات ، أمّا مورد عدم التمكّن إلاّ من البعض ، فإن كان ذلك من قبيل العسر والحرج الآتي من الجمع بين محتملات الوجوب ، فإن كانت الأطراف تدريجية لزمه الاحتياط حتّى يبلغ العسر والحرج فيسقط في الباقي ، لأنّ الباقي إن كان هو الواجب الواقعي كان التكليف به حرجياً وإن كان الواجب غيره ممّا أتى به كان الباقي غير واجب. وإن لم تكن الأطراف تدريجية بل كانت دفعية ، كما مرّ من مثال الصوم والكون في المسجد تمام اليوم لزمه الاتيان بأحدهما ، وأيّاً منها اختاره سقط الباقي وكان حاله حال الاضطرار إلى واحد غير معيّن في الشبهات التحريمية. هذا في الاضطرار الحرجي.

أمّا لو كان بالغاً حدّ عدم القدرة العقلية ، كان حكمه التخيير وتبعيض الاحتياط من أوّل الأمر ، من دون فرق بين التدريجيات وغيرها ، لأنّ الحاكم بلزوم الاتيان بالطرفين هو العقل ، وهو أيضاً حاكم بعدم لزوم الاتيان بهما في مورد عدم القدرة ، ويكون نتيجة ذلك هو لزوم الاتيان بأحدهما فراراً من المخالفة القطعية.

أمّا لو كان ذلك من جهة عدم سعة الوقت ، فإن كان لا قضاء له كما في صلاة الآيات غير الزلزلة ، فالظاهر أنّ حكمه كذلك ، أعني التخيير. أمّا ما يكون له القضاء كما في الصلوات اليومية ، فلا إشكال في التخيير في الوقت وأنّه فعلاً يصلّي إلى إحدى الجهات ، أو في أحد الثياب ، ولكن هل يسقط عنه الاتيان بالباقي في خارج الوقت ، أو أنّه يلزمه الاتيان بالباقي في خارجه؟ الظاهر الثاني ، لأنّه فعلاً مكلّف بالصلاة إلى القبلة الواقعية أو مع اللباس الصحيح ، وعدم تمكّنه من الجمع بين المحتملات في الوقت للحصول على ما هو مقدوره من القبلة

٢١٤

الواقعية أو مع اللباس الصحيح لا يلحقه بمن لم يتمكّن من تحصيل القبلة أو من لم يتمكّن في الوقت من الصلاة مع غير المتّخذ من غير المأكول ، كي يكون ذلك مجزياً عن الاتيان بالباقي خارج الوقت ، كما أفاده شيخنا قدس‌سره هنا بقوله : وقياس باب العلم والجهل الخ (١).

وبالجملة : أنّ ذلك ليس من قبيل سقوط شرطية القبلة أو سقوط مانعية ما لا يؤكل لحمه كما إذا انحصر لباسه فيه ، فإنّ ذلك يسقط الشرطية بالنسبة إلى الساتر ويصلّي عارياً ، ولا يمكننا القول بأنّه في صورة دوران اللباس بين ثوبين أحدهما ممّا لا يؤكل وقد ضاق الوقت إلاّعن صلاة واحدة ، أنّه يصلّي عارياً ، إذ الظاهر أنّ ذلك لا وجه له. ولو قلنا به لم يكن لنا بدّ من الاكتفاء به وعدم لزوم القضاء خارج الوقت ، فالجمع بين الصلاة عارياً في مسألة اشتباه غير المأكول مع الالتزام بلزوم القضاء خارج الوقت كما يظهر من بعضهم ممّا لم يظهر له وجه ، فراجع العروة وحواشيها في هذه المسألة (٢) وتأمّل. هذا فيما لو كان من قبيل الاضطرار إلى غير المعيّن.

وأمّا لو كان إلى المعيّن بأن لم يتمكّن من الاتيان بواحد معيّن من طرفي العلم الاجمالي بالوجوب ، فلا شبهة في سقوط التكليف المحتمل فيما اضطرّ إليه ، ولكنّه هل يسقط العلم الاجمالي في الباقي فيما لو كان الاضطرار سابقاً على العلم الاجمالي أو كان مقارناً له ، كما في الاضطرار إلى المعيّن في الشبهة التحريمية؟ الظاهر أنّه كذلك ، كما لو رأى الشخص غريقين يعلم بأنّ أحدهما لا بعينه واجب الانقاذ ، وكان الآخر غير واجب الانقاذ ، ولكنّه لم يقدر على الشرقي

__________________

(١) المصدر المتقدّم.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٣٥٦ / المسألة «٤٧».

٢١٥

منهما لكونه بعيداً عنه مثلاً عند التفاته إليهما ، بخلاف ما لو طرأ البعد الموجب لعدم القدرة بعد التفاته إليهما. ولو علم بوجوب إحدى الصلاتين الظهر أو الجمعة ، ولكنّه كان عاجزاً عن الجمعة ، فالظاهر لزوم الاتيان بالظهر مطلقاً ، لكون التكليف المعلوم المردّد بينهما سابقاً على طروّ عدم القدرة. وكذلك الحال فيما لو علم بوجوب أحد الأمرين من جلسة الاستراحة والاستعاذة ، واتّفق عدم قدرته على الأوّل منهما مثلاً ، كان العلم الاجمالي المذكور ساقطاً في الآخر.

أمّا باب الشرائط والموانع ففيه تفصيل ، وهو أنّه لو لم يقدر على الصلاة إلى جهة معيّنة ، لم يسقط عنه الصلاة إلى باقي الجهات ، ولا يكتفي بصلاة واحدة ، ولعلّ السرّ في ذلك هو تقدّم العلم بالتكليف في أمثال ذلك على طروّ الاضطرار. وهكذا الحال في الثياب المتعدّدة المشتبهة بالنجس ، والمفروض أنّه لا يقدر على الصلاة في واحد معيّن منها. ولو كانا ثوبين فقط ولم يقدر على الصلاة في أحدهما المعيّن فالظاهر أنّه كذلك ، بل ربما قلنا إنّه تجري قاعدة الطهارة في الآخر ، فيلزمه الصلاة فيه لا من باب العلم الاجمالي. ولو كان أحدهما ممّا لا يؤكل لحمه تردّد الباقي بين وجوب لبسه لاحتمال كونه ممّا يؤكل ، ولزوم تركه لاحتمال كونه ممّا لا يؤكل ، فيكون المقام بالنسبة إلى الباقي من قبيل الدوران بين الشرطية والمانعية ، لكن أصالة البراءة من مانعيته الانحلالية توجب حلّ الشبهة وتلزمه بالصلاة فيه ، فلاحظ وتدبّر.

وتفصيل الكلام في هذا المقام أن يقال : إنّه لو توجّه تكليف إلى الشخص باكرام عالم مثلاً على نحو العموم البدلي ، واتّفق أنّ مصداق العالم انحصر في أربعة أشخاص يعلم أنّ أحدهم لا بعينه عالم بخلاف الباقين ، واتّفق أيضاً أنّ ذلك الشخص لا يقدر على إكرام واحد معيّن من أُولئك الأربعة وهو زيد مثلاً ، فإن كان

٢١٦

زيد هو العالم منهم سقط عنه التكليف باكرام عالم ، لفرض انحصاره في هؤلاء الأربعة وفرض أنّ زيداً العالم منهم لا يقدر على إكرامه ، وحينئذ يكون المقام من قبيل الشكّ في السقوط ، ويتعيّن عليه بمقتضى علمه بوجوب إكرام عالم إكرام الباقين. ولا يكون المقام من قبيل الشكّ في التكليف ، بدعوى عدم علمه بوجود العالم بين الثلاثة الباقين ، وأنّه إن كان العالم منهم هو زيداً فهو غير مكلّف باكرامه ، وأنّ كون العالم منهم غيره غير معلوم ، فيكون حاله حال الاضطرار إلى ارتكاب واحد معيّن من موارد الشبهة المحصورة التحريمية.

وفيه : ما لا يخفى ، للفرق الواضح بين مفروض المقام وبين مسألة الشبهة التحريمية ، لما عرفت من أنّه في مفروض المقام قد علم تفصيلاً بأنّه يجب عليه الحصول على ما اشتغلت به ذمّته من إكرام عالم ، وإنّما حصل التردّد بين الأربعة للعلم بانحصار العالم فيما بينهم ، فيكون اضطراره إلى ترك إكرام زيد من قبيل الشكّ في السقوط ، فيلزمه الحصول على إكرام الباقين ، لاحتمال كون أحدهم عالماً ، فهو نظير الشكّ في القدرة بالنسبة إلى الباقين الذي قد حقّق في محلّه لزوم الاحتياط ، غايته أنّه في سائر الموارد يكون الاحتياط بلزوم الفحص ، وفي المقام يكون الاحتياط بلزوم إكرام الباقين وإن احتمل عدم وجود العالم بينهم ، بل لو كان من أوّل الأمر قد علم بأنّه لا عالم غير هؤلاء الثلاثة واحتمل أن يكون أحد هؤلاء الثلاثة عالماً ، لوجب عليه إكرامهم جميعاً ، بل لو علم أنّه لا عالم أصلاً سوى أنّه احتمل أن يكون هذا الشخص عالماً ، لوجب عليه إكرامه.

ونظير ذلك ما لو وجب عليه الوضوء وكان عنده مائع يحتمل كونه ماء مطلقاً ويحتمل أنّه مضاف ، لوجب عليه الوضوء منه وإلحاقه بالتيمّم ، قال السيّد قدس‌سره في العروة : مسألة ٣ : والأولى الجمع بين التيمّم والوضوء به. وقال

٢١٧

شيخنا قدس‌سره في الحاشية : بل هو الأحوط (١).

وهذا بخلاف الشبهة التحريمية ، فإنّ انشغال الذمّة إنّما يتولّد من العلم بوجود النجس فيما بين الأواني الأربعة ، فإذا اقترن ذلك بالاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، وكان ذلك الاضطرار مقارناً للعلم الاجمالي أو سابقاً عليه ، كان المقام بالنسبة إلى ما عدا ما اضطرّ إليه من قبيل الشكّ في التكليف.

ومثله ما لو علم بوجوب إكرام كلّ عالم على نحو العموم الانحلالي الاستغراقي وقد علم بوجود عالم بين هؤلاء الأربعة ، واقترن ذلك العلم بوجوده بينهم بعدم القدرة على إكرام واحد معيّن منهم وهو زيد ، فإنّه بالنسبة إلى الباقين يكون من قبيل الشكّ في التكليف ، فلا يلزمه فيهم الاحتياط.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ باب الشرائط مثل القبلة وطهارة اللباس وكونه ممّا يؤكل لحمه ، أو كون ما لا يؤكل مانعاً ، لو انحصر في أربعة وكان الطاهر أو الذي ليس ممّا لا يؤكل واحداً ، مع فرض نجاسة الباقي أو كونه ممّا لا يؤكل ، واتّفق أنّه لا يقدر على واحد معيّن من ذلك ، يكون من قبيل القسم الأوّل ، أعني ما يكون المكلّف به واحداً من اللباس الطاهر أو واحداً من اللباس غير المأكول (٢) أو من الصلاة إلى القبلة ، فإنّ اضطراره المذكور لا يسقط عنه التكليف بذلك الواحد ، ويلزمه تكرار الصلاة إلى باقي الجهات ومع باقي الثياب ، خروجاً عن عهدة قوله : صلّ إلى القبلة أو البس الثوب الطاهر أو البس الثوب الذي ليس هو ممّا لا يؤكل.

نعم ، هو في مثل طهارة الثوب وعدم كونه ممّا لا يؤكل يكتفي من الباقي

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١١٢.

(٢) [ الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح : « واحداً من اللباس المأكول » أو « واحداًمن اللباس الذي ليس من غير المأكول » ].

٢١٨

بواحد ، استناداً إلى قاعدة الطهارة وأصالة البراءة من مانعية ذلك الثوب ، ولا يعارضها بمثله في غيره ممّا قد اضطرّ إلى عدم لبسه ، لأنّها لا أثر لها فيه ، وليس المنجّز هو العلم الاجمالي بينها ، بل إنّ المنجّز هو علمه التفصيلي بوجوب الصلاة إلى القبلة ، وبوجوب لبس الثوب الطاهر ، أو الذي ليس ممّا لا يؤكل لحمه.

هذا ملخّص ما استفدته حسب فهمي القاصر ممّا أفاده المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره في صلاته في مبحث القبلة (١) من الفرق بين الشبهات التحريمية وما نحن فيه من الشرائط ، فراجعه لعلّك تفهم منه شيئاً آخر.

ولكنّ في النفس شيئاً من ذلك ، فإنّه لو تمّ فإنّما يتمّ فيما لو كان الموجب للسقوط في الطرف المعيّن هو عدم القدرة عقلاً ، لكونه من قبيل السقوط. أمّا لو كان من قبيل العسر والحرج ونحوهما ممّا هو من حدود التكليف ، وكان قد اتّفق وجود ذلك المانع قبل صدور التكليف ، بأن كان الاستقبال مثلاً إلى هذه الجهة المعيّنة مشتملاً على العسر والحرج ونحوهما قبل الوقت ، وقد دخل عليه وتوجّه إليه الأمر بالصلاة وهو على تلك الحال ، فإنّ توجّه وجوب الاستقبال إليه في ذلك الحال يكون مشكوكاً من أوّل الأمر ، لاحتمال انطباقه على تلك الجهة التي كان الاستقبال إليها حرجياً مثلاً ، الموجب لعدم وجوب الاستقبال عليه لو كانت هي القبلة الواقعية ، وحينئذ يكون الاستقبال مشكوك الوجوب ، فلا يلزمه إلاّصلاة واحدة إلى أي جهة شاء ، نظراً إلى أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، لكن هذا إنّما يظهر أثره في القبلة ونحوها ممّا لا يكون في البين أصل موضوعي منقّح للتكليف. ومثله ما لو اشتبه الماء المطلق بين أوانٍ أربعة مثلاً وكان الوضوء من أحدها المعيّن متعذّراً عليه.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) ١٠ : ١٠١ وما بعدها.

٢١٩

أمّا لو كان في البين أصل موضوعي كما عرفت من اشتباه الطاهر من اللباس أو ما يؤكل لحمه وقد تعذّر عليه الصلاة في أحدها المعيّن ، فإنّ أصالة الطهارة أو البراءة من مانعية غير ما تعذّر عليه ، تنقّح موضوع وجوب الصلاة فيه من دون حاجة إلى التكرار في تمام الباقي ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ أساس ما أفاده هو الفرق بين مثل أكرم عالماً ومثل أكرم كلّ عالم ، في أنّ وجود مصداق العالم في الثاني شرط في فعلية وجوب إكرامه ، بخلاف الأوّل فإنّه يكون من قبيل المقدّمة الوجودية ، وقال فيه : ومن هذا القبيل ما لو قال الشارع : يجب إكرام كلّ عالم من أهل البلد أو تجب الصلاة على كلّ ميّت مسلم أو نحو ذلك ، فإنّ هذا النحو من التكاليف كلّها واجبات مشروطة بتحقّق موضوعاتها ، فلو لم يعلم المكلّف بوجود عالم في البلد لا يتنجّز في حقّه التكليف ، ولا يجب الفحص عنه ما لم يعلم بوجوده إجمالاً ، ويرجع في موارد الشكّ إلى أصل البراءة ، ومع العلم الاجمالي بوجود عالم مردّد بين أشخاص محصورة إلى قاعدة الاحتياط ، بشرط أن يكون العلم الاجمالي صالحاً للتأثير لا مطلقاً ، وهذا بخلاف ما لو تعلّق طلب مطلق باكرام عالم مثلاً ، فإنّه يجب حينئذ الفحص عن مصداق العالم والخروج عن عهدة التكليف بالموافقة القطعية مع الامكان ، وإلاّ فما هو الأقرب إليه فالأقرب ، حتّى أنّه لو لم يوجد عالم وتمكّن من تعليم أحد بحيث اندرج في موضوع العالم من غير مشقّة رافعة للتكليف وجب عليه ذلك من باب المقدّمة ، وهذا بخلاف الفرض الأوّل الذي جعل العالم فيه بنفسه موضوعاً لوجوب الاكرام ، لا إكرامه من حيث هو متعلّقاً للطلب كي يكون تحصيل العالم من المقدّمات الوجودية للواجب المطلق كما في الفرض الثاني ، فليتأمّل (١)

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) ١٠ : ١٠٢ ـ ١٠٣ ( مع اختلاف يسير ).

٢٢٠