أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

المردّد مع فرض العلم التفصيلي بنجاسة ذلك المعيّن ، كي يقال إنّهما اجتمعا في ذلك المعيّن ، فكان التنجّز فيه مستنداً إلى كلّ من العلم الاجمالي والتفصيلي ، ليكون سقوط العلم الاجمالي عن التأثير مستنداً إلى سقوطه عن الاستقلال في التنجّز ، وأنّه يعود بواسطة ذلك العلم التفصيلي إلى كونه جزء العلّة في التنجّز ، كي يقال إنّ الانحلال في ذلك حكمي أو أنّه عقلائي ونحو ذلك من العبارات.

نعم ، لو كان المنجّز التفصيلي في ذلك الطرف المعيّن هو غير العلم الوجداني ، بل كان هو أحد الطرق أو الأُصول المثبتة ولو من قبيل مجرّد المنجّز العقلي ، كما لو كان ذلك المعيّن من أطراف علم إجمالي آخر ، لم يكن الانحلال حقيقياً ، بل كان بحكم الانحلال إمّا بحكم الشارع كما لو كانت حجّية ذلك المنجّز شرعية ، أو بحكم الانحلال عقلاً كما لو كانت منجّزية ذلك المنجّز التفصيلي عقلية ، بأن كان أحد الطرفين مورداً لأصالة الاشتغال.

ومنه ما لو كان أحد الطرفين طرفاً لعلم إجمالي آخر ، مثل أن يعلم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ثمّ علم بنجاسة مردّدة بين إناء عمرو وإناء خالد ، فإنّ هذا العلم الاجمالي الثاني منحل بحكم العلم الاجمالي الأوّل ، وما نحن فيه من العلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو والعلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب الملاقي لإناء زيد وبين إناء عمرو من هذا القبيل ، فيقال إنّ نجاسة إناء عمرو قد تنجّزت بالعلم السابق رتبة أو زماناً أو زماناً ورتبة.

لكن الظاهر أنّه ليس من هذا القبيل بل هو من قبيل الانحلال الحقيقي ، بمعنى أنّه ليس في البين علم إجمالي حقيقي بين الثوب وإناء عمرو ، بل هو صوري خيالي ، ينكشف كونه خيالياً بواسطة العلم بأنّه لا مستند لنجاسة الثوب على تقديرها إلاّملاقاته لإناء زيد ، وأنّ العلم الاجمالي الحقيقي إنّما هو بين

٨١

الاناءين ، وأنّ نجاسة الثوب لا تكون إلاّموضوعاً جديداً من النجس أجنبياً عن دائرة العلم الاجمالي الحقيقي ، وأنّ العلم بين الاناءين لا يكون سبباً للعلم الحقيقي بين الثوب وإناء عمرو ، بل أقصى ما فيه أن يكون سبباً للعلم بنجاسة الثوب على تقدير كون النجس في العلم الأوّل هو إناء زيد. نعم في مقام التعبير يصحّ لنا أن نقول إنّه يتولّد من العلم الاجمالي الأوّل العلم الاجمالي الثاني ، لكنّه من مجرّد التعبير المبني على المسامحة.

ثمّ لا يخفى أنّ المثال الذي ذكرناه أعني العلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ثمّ العلم بها بين إناء عمرو وإناء خالد ، ليكون إناء عمرو ملتقى خطي العلمين ، تارةً يكون العلم الثاني علماً بوقوع نجاسة جديدة بين إناء عمرو وإناء خالد ، لكنّه يحتمل أنّ الثانية لم تؤثّر ، بأن كان يحتمل أنّ كلا النجاستين في إناء عمرو ، ويحتمل أنّ الأُولى في إناء زيد والثانية في إناء عمرو ، ويحتمل أنّ الأُولى في إناء زيد والثانية في إناء خالد ، ويحتمل أنّ الأُولى في إناء عمرو والثانية في إناء خالد.

وأُخرى هو هذا الفرض لكنّه يعلم أنّ الثانية قد أثّرت ، بأن يكون الاحتمال الأوّل ساقطاً وهو وقوع كلّ منهما في إناء عمرو ، ويكون التردّد بين الاحتمالات الثلاثة. وعلى أي حال لا يكون العلم الثاني منجّزاً لو كان متأخّراً بحسب الزمان. نعم لو حصل العلمان دفعة واحدة وجب الاجتناب عن الاناءات الثلاثة ، على تفصيل شرحناه في شرح عبارة شيخنا قدس‌سره في الوسيلة. ومثل هذين النحوين ما لو كان العلم بالنجاسة الثانية مردّداً بين الأطراف الثلاثة.

وثالثة يعلم أنّ الثانية لم تقع في إناء عمرو ، بل هي إمّا واقعة في إناء خالد أو واقعة خارج الاناءات الثلاثة ، لكن وقوعها في إناء خالد مقيّد بما إذا لم تقع الأُولى

٨٢

في إناء عمرو ، ووقوعها خارج الاناءات مقيّد بكون الأُولى واقعة في إناء عمرو ، فهو أوّلاً يعلم بأنّه قد تنجّس إناء زيد أو إناء عمرو ، ثمّ علم بأنّ الأُولى إن لم تقع في إناء عمرو فقد تنجّس إناء خالد بنجاسة جديدة ، وإن كانت الأُولى واقعة في إناء عمرو فإنّ إناء خالد لم تقع فيه تلك النجاسة الجديدة بل وقعت خارج الاناءات الثلاثة ، ويكون محصّل العلمين أنّ النجاسة الأُولى إن كانت في إناء زيد فقد وقعت نجاسة أُخرى في إناء خالد وبقي إناء عمرو على طهارته وتنجّس الاناء الأوّل والثالث ، وإن كانت في إناء عمرو فلم يتنجّس إناء خالد ولا إناء زيد. وفي الحقيقة يكون حاصل العلمين هو التردّد بين نجاسة الاناءين ـ أعني إناء زيد وإناء خالد ـ وبين نجاسة إناء عمرو فقط.

والظاهر أنّ هذه الصورة الأخيرة مقاربة لما نحن فيه من الثوب الملاقي لإناء زيد ، فيكون التردّد بين نجاسة الثوب وإناء عمرو واقعاً موقع التردّد بين نجاسة إناء خالد وإناء عمرو ، في كون نجاسة إناء عمرو التي هي في قبال نجاسة الثوب أو نجاسة إناء خالد هي ليست بنجاسة جديدة ، بل إنّ إناء عمرو على تقدير كونه هو النجس في هذه المقابلة بينه وبين الثوب أو بينه وبين إناء خالد ، لا تكون نجاسته إلاّتلك النجاسة التي كانت معلومة بالعلم الاجمالي الأوّل المردّد بينه وبين إناء زيد. وغاية الفرق بين ما نحن فيه وبين المثال ، هو أنّه في المثال يكون نجاسة إناء خالد في عرض نجاسة إناء زيد ، وفيما نحن فيه يكون نجاسة الثوب في طول نجاسة إناء زيد ، وهذا المقدار من الفرق هو الذي أوجب كون العلم الثاني فيما نحن فيه صورياً لا واقعية له ، وفي المثال يكون العلم الثاني علماً حقيقياً ، ويكون مرجع العلمين فيه إلى العلم المردّد بين الأوّل والثالث وبين الثاني ، فيكون اللازم هو الاجتناب عن الجميع ، إلاّ إذا كان أحد العلمين سابقاً في

٨٣

الزمان على الآخر ، فيكون هو المؤثّر دون لاحقه ، فتأمّل.

قوله في المستمسك : ثمّ إنّ مقتضى الوجه الثاني الذي ذكره غير واحد من الأعيان في تقريب جواز الرجوع إلى الأصل في الملاقي ـ إلى قوله ـ فهذا التفصيل يكون نظير التفصيل الذي ذكره الأُستاذ قدس‌سره في كفايته ، غايته أنّ هذا تفصيل بين صور تقدّم أحد العلمين رتبة على الآخر وتأخّره عنه وكونهما في رتبة واحدة وذلك تفصيل من حيث تقدّم أحدهما على الآخر زماناً وتأخّره واقترانهما (١).

ويظهر أثر الخلاف بينهما في الصورة الثالثة من الصور التي ذكرها في الكفاية (٢) ، فإنّه بناءً على كون المدار على التقدّم الزماني يكون الاجتناب واجباً فيها عن الثلاثة ، بخلاف التقدّم الرتبي ، فإنّه بناءً عليه لا يكون الواجب إلاّ الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه ، دون الملاقي ـ بالكسر ـ.

ويظهر أيضاً في الصورة الثانية فيما لو كان التأخّر رتبياً لا زمانياً ، وذلك بأن تحصل ملاقاة ثوبه لإناء زيد مع فرض العلم بأنّه لو كان ثوبه نجساً لم تكن نجاسته إلاّمن ملاقاته لإناء زيد ، ثمّ يخبره المخبر بأنّ أحد الأمرين من ثوبه أو إناء عمرو نجس ، فإنّه في هذه الصورة يحصل له في الرتبة السابقة العلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بين ثوبه وإناء عمرو ، وعن هذا العلم ينتقل إلى العلم الاجمالي المردّد بين الاناءين ، من دون أن يكون في البين تقدّم زماني ، بل لا يكون بين العلمين إلاّ التقدّم الرتبي ، لكون الأوّل علّة في حصول الثاني ، فإنّه في هذه الصورة يجب الاجتناب عن الثلاثة بناءً على كون المدار هو التقدّم الزماني ، وعن الثوب وإناء عمرو فقط دون إناء زيد بناءً على كون المدار هو التقدّم الرتبي.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٩.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٦٣.

٨٤

نعم ، لو علم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، ثمّ بعد مضي مقدار من الزمان التفت إلى أنّ هذا الثوب لو كان هو النجس المعلوم لكانت نجاسته معلولة لكونه قد كان ملاقياً لإناء زيد ، وعند ذلك يحصل له العلم الاجمالي الثاني المردّد بين الاناءين ، ففي هذه الصورة لا يجب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ الذي هو إناء زيد على كلا القولين ، لحصول كلّ من التقدّم الرتبي والزماني فيها لأحد العلمين ، وهو العلم بين الثوب وإناء عمرو على العلم الآخر وهو العلم بين الاناءين. وهذه هي الصورة الثانية ممّا ذكره في الكفاية. أمّا التي هي مختصّة بالمقالة ، فهي ما عرفت من كون التأخّر فيها مقصوراً على التأخّر الرتبي.

ولا يخفى الفرق بين هذه الصورة المشتملة على التأخّر الرتبي فقط وبين الصورة الثالثة من الكفاية ، فإنّ السابق رتبة في هذه الصورة يكون هو العلم الاجمالي المردّد بين الثوب وإناء عمرو ، فيكون هو المنجّز ، بخلاف الصورة الثالثة في الكفاية فإنّ السابق رتبة فيها يكون هو العلم الاجمالي المردّد بين إناء زيد وإناء عمرو ، فتكون على العكس من الصورة المذكورة ، ويكون حال هذه الصورة الثالثة في كلام الكفاية حال الصورة الأُولى ، غير أنّها يكون التأخّر فيها رتبيّاً فقط ، وفي الأُولى يكون التأخّر رتبياً وزمانياً.

واعلم أنّ هذه الصورة ـ أعني ما لو تقدّم العلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو على العلم بالنجاسة المردّدة بين الاناءين ، سواء كان التقدّم رتبياً فقط أو انضمّ إليه التقدّم الزماني ـ لا يكون مسلك تعارض الأُصول نافعاً فيها في تسويغ الارتكاب بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ الذي هو الثوب ، وذلك لأنّه بمجرّد حصول العلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو تقع المعارضة بين الأصلين فيسقطان ، وبعد حصول العلم الثاني رتبة أو زماناً المردّد بين إناء زيد

٨٥

وإناء عمرو يكون الأصل في إناء زيد بلا معارض ، فلا محيص حينئذ في هذه الصورة بكلا شقّيها لمن يدّعي جريان الأصل في الثوب كما هو مسلك شيخنا قدس‌سره من دعوى كون العلم الثاني موجباً لانقلاب العلم الأوّل ، على ما شرحناه غير مرّة.

والذي تلخّص لك في هذه الصورة : أنّ الشقّ الثاني منها يكون الواجب فيها هو الاجتناب عن الثوب وإناء عمرو ، سواء قلنا إنّ المدار على التقدّم الزماني أو على التقدّم الرتبي ، أو على تعارض الأُصول ، إلاّعلى دعوى كون العلم الثاني موجباً لانقلاب العلم الأوّل. وأمّا الشقّ الأوّل ، فعلى تقدير كون المدار على التقدّم الزماني كما هو مسلك الكفاية ، ينبغي القول فيها بوجوب الاجتناب عن الثلاثة. وعلى تقدير الاكتفاء بالتقدّم الرتبي لأحد العلمين على الآخر ، يكون وجوب الاجتناب منحصراً بالثوب وإناء عمرو ، دون إناء زيد. وعلى تقدير مسلك التعارض يكون الأمر كذلك ، إلاّعلى دعوى الانقلاب.

أمّا الصورة الثالثة ممّا أفاده في الكفاية ، فقد عرفت أنّها يجب الاجتناب فيها عن الثلاثة على مسلك صاحب الكفاية ، وأنّه على مسلك صاحب المقالة يكون وجوب الاجتناب منحصراً بالاناءين دون الثوب ، لكون العلم بين الاناءين سابقاً في الرتبة على العلم بين الثوب وإناء عمرو ، وكذلك على مسلك التعارض لحصول التعارض في طرفي العلم السابق رتبة بين الاناءين ، ويبقى الثوب الذي هو طرف العلم الاجمالي المتأخّر رتبة مورداً لقاعدة الطهارة بلا معارض ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا الصورة الثالثة ممّا أفاده صاحب المقالة (١) ، وهي ما لو حصل العلمان في رتبة واحدة ، بأن أخبرنا الصادق بالنجاسة المتردّدة بين المتلاقيين وبين إناء

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٨.

٨٦

عمرو ، فيلزم الاجتناب فيها عن الثلاثة على كلّ من مسلكه ومسلك صاحب الكفاية. أمّا على مسلكه فلعدم التقدّم الرتبي بين العلمين ، لأنّ المفروض حصولهما من سبب وعلّة واحدة ، وهي إخبار الصادق بنجاستهما أو نجاسة إناء عمرو ، ولم يكن في البين انتقال من أحد العلمين إلى العلم الآخر كي يكون بينهما تقدّم رتبي. وأمّا على مسلك صاحب الكفاية فلعدم التقدّم الزماني بين العلمين.

والظاهر أنّ الحال كذلك على مسلك التعارض الذي هو مسلك الشيخ قدس‌سره ومسلك شيخنا قدس‌سره ، إلاّ أن يلتزم بالانقلاب ، على تأمّل في ذلك سيأتي ذكره.

فتلخّص : أنّ مسلك التعارض محتاج في جواز ارتكاب الملاقي ـ بالكسر ـ الذي هو الثوب في مثالنا إلى دعوى الانقلاب في الصورة الثانية بكلا شقّيها ، وفي الصورة الثالثة ممّا ذكره صاحب المقالة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مسلك التعارض نافع في هذه الصورة أيضاً ، فإنّ العلمين وإن حصلا دفعة ، ولا تقدّم ولا تأخّر فيهما لا بحسب الزمان ولا بحسب الرتبة ، لكنّا لا يمكننا إيقاع التعارض دفعة واحدة بين قاعدة الطهارة في إناء زيد وفي الثوب الملاقي له ، وبين قاعدة الطهارة في إناء عمرو ، لأنّ قاعدة الطهارة في الثوب ليست في عرض قاعدة الطهارة في إناء زيد كي يكونا معاً معارضين لقاعدة الطهارة في إناء عمرو ، بل إنّ قاعدة الطهارة في الثوب متأخّرة رتبة عنها في إناء زيد ، فالمعارض حينئذ لقاعدة الطهارة في إناء عمرو هو القاعدة في إناء زيد ، وبعد تساقطهما تبقى قاعدة الطهارة في الثوب بلا معارض ، فيكون مسلك التعارض نافعاً في هذه الصورة من دون حاجة إلى دعوى الانقلاب ، إلاّعلى تقدير كون العلم علّة تامّة في التنجّز وإن لم تتعارض الأُصول في أطرافه. هذا كلّه بناءً على كون المدار على تعارض الأُصول.

٨٧

وأمّا بناءً على ما ربما يظهر من كلمات شيخنا قدس‌سره من أنّ المدار في مسألة الملاقي والملاقى على تقدّم المعلوم وإن كان العلم به متأخّراً ، فقد عرفت أنّه بظاهره لا يستقيم مع كون العلم الاجمالي بالنسبة إلى التنجّز على نحو الموضوعية والعلّية ، الموجب لاستحالة أن يتقدّم عليه أثره الذي هو التنجّز ، ولا شكّ أنّ شيخنا قدس‌سره لا يريد ذلك ، كيف وهو بنفسه قد صرّح بأنّ العلم وإن كان بالنسبة إلى متعلّقه على نحو الطريقية ، لكنّه بالنسبة إلى التنجّز على نحو الموضوعية والسببية ، كما صرّح به فيما نقلناه (١) في مقدّمة المسألة التي أفاد فيها الشيخ قدس‌سره أنّ الملاقي ـ بالكسر ـ يقوم مقام الملاقى ـ بالفتح ـ فيما لو فقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم الاجمالي ، وبذلك صرّح أيضاً فيما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي في مبحث الاضطرار (٢) فراجع. بل المراد بما أفاده من أنّ المدار على تقدّم المعلوم ، هو كون العلم الثاني المتعلّق بما هو مقدّم على المعلوم بالعلم الأوّل ، يوجب الخلل بالعلم الأوّل وانقلابه من كونه علماً بتوجّه التكليف على كلّ من الطرفين إلى كونه من الدوران بين الأمرين اللذين يكون لأحدهما أثر ، ولا يكون للآخر أثر.

وتقريبه يحتاج إلى مقدّمات :

الأُولى : أنّه لو علم بنجاسة إناء زيد تفصيلاً ، ثمّ انتقض ذلك العلم التفصيلي بالعلم بأنّه كان طاهراً أو بالشكّ الساري ، فإنّ هذا العلم وإن كان بحدوثه مؤثّراً إلاّ أنه ما دام موجوداً ، فإذا حصل ما أزاله من أصله وتبدّل إلى العلم بالطهارة السابقة أو إلى الشكّ فيها بنحو الشكّ الساري ، يزول أثره وينكشف أنّه لا واقعية

__________________

(١) في الصفحة : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٩٥.

٨٨

له.

الثانية : أنّه لو علم بنجاسة إناء عمرو تفصيلاً ، ثمّ علم بنجاسة إمّا فيه أو في إناء زيد ، لم يكن ذلك العلم الاجمالي الثاني إلاّصورياً ، ولا يكون إلاّمن قبيل العلم التفصيلي بنجاسة إناء عمرو والشكّ البدوي في نجاسة إناء زيد ، فإنّه بالنسبة إلى وقوع النجاسة وإن كان من العلم الاجمالي ، إلاّ أن نفس وقوع النجاسة لا اعتبار بها ، وإنّما الاعتبار بالحكم التكليفي الناشئ عن وقوعها ، وهو وجوب الاجتناب ، والمفروض أنّ وجوب الاجتناب عن إناء عمرو معلوم تفصيلاً ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل الشكّ البدوي في وجوب الاجتناب عن إناء زيد ، وهو ما ذكرناه من كون العلم بالنسبة إلى وجوب الاجتناب في العلم الثاني صورياً لا واقعية له. وكذا لو علم بوقوع قطرتين إمّا كلاهما في إناء عمرو ، أو أنّ إحداهما فيه والأُخرى في إناء زيد.

والمثال الثاني يكون العلمان مقترنين في الزمان بخلاف المثال الأوّل ، وفي المثال الثاني يكون حاصل العلمين راجعاً إلى الأقل والأكثر ، بخلاف الأوّل فإنّه وإن كان الحاصل منهما هو ذلك ، لكن بعد حصول الثاني وبعد مضي مدّة على تنجّز الأوّل ، فتأمّل.

الثالثة : لو علم إجمالاً بالنجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك علم تفصيلاً بأنّ إناء عمرو قد وقعت فيه نجاسة قبل النجاسة المردّدة بينهما ، كان هذا العلم التفصيلي المتأخّر سارياً إلى ذلك العلم الاجمالي السابق ، ومبدّلاً له من العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي ، بخلاف ما لو كانت النجاسة التفصيلية حادثة بعد العلم الاجمالي ، فإنّ العلم بها لا أثر له في العلم الاجمالي السابق ، بل يكون التبدّل من حين العلم بها إلى ما بعد ، ولا يسري إلى ما قبل ، أمّا

٨٩

لو كانت تلك النجاسة التفصيلية سابقة على ما هو المعلوم أوّلاً ، فإنّ العلم بها تفصيلاً ثانياً يسري إلى العلم الاجمالي السابق ويكشف عن حاله وأنّه صوري ، وأنّه لم يكن إلاّمن قبيل تخيّل ورود التكليف على كلّ حال.

وإن شئت فقل : إنّ العلم بها ثانياً يوجب التبدّل في المعلوم السابق ، وانكشاف أنّه لم يكن علماً بتكليف مردّد بين المتباينين ، بل ينكشف أنّه من قبيل الأقل والأكثر ، بمعنى أنّا كنّا متخيّلين أنّ معلومنا الاجمالي بين المتباينين ، ولكنّه انكشف أنّه بين الأقل والأكثر.

الرابعة : أنّه لو علم بالنجاسة بين إناء خالد وإناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك علم بوقوع نجاسة سابقة إمّا في إناء زيد أو إناء عمرو ، فنسبة هذا العلم الاجمالي الثاني إلى العلم الاجمالي الأوّل كنسبة العلم التفصيلي الثاني في المقدّمة السابقة إلى العلم الاجمالي الأوّل ، في كونه كاشفاً عن كونه لم يكن المعلوم فيه مؤثّراً على كلّ تقدير ، فيكون موجباً لسقوطه ، ويكون المدار على العلم الاجمالي الثاني وإن كان متأخّراً زماناً أو رتبة عن الأوّل ، أو كان مقارناً له زماناً ورتبة ، وقد تقدّم توضيح ذلك مراراً (١).

بل قد تقدّم (٢) ما محصّله : أنّا لو قلنا إنّ المدار على العلم الاجمالي السابق فيما ذكرناه في المثال ، إلاّ أنه يمكننا عدم الالتزام به فيما نحن فيه من مثال العلم الاجمالي بين الثوب وإناء عمرو ثمّ يلحقه العلم الاجمالي بين إناء زيد وإناء عمرو ، بدعوى عدم المقابلة حقيقة بين الثوب وإناء عمرو وإنّما هي بين الاناءين ، ويتفرّع على نجاسة الأوّل منهما نجاسة الثوب ، لا أنّه دخيل في المقابلة

__________________

(١) راجع الحاشية الثانية المتقدّمة في الصفحة : ٥٠.

(٢) راجع ما تقدّم في الصفحة : ٨١ ـ ٨٢.

٩٠

بينهما ، وحينئذ فالعلم الحاصل أوّلاً بين الثوب وإناء عمرو لو لحقه العلم الثاني ينكشف خطؤه وأنّ العلم الاجمالي الذي كان مردّداً بينهما كان خطأ ، وأنّ الترديد إنّما هو بين الاناءين لا بين الثوب وإناء عمرو.

وعلى أيّ حال ، فإنّ مرجع هذه الدعوى إلى أنّ العلم الاجمالي الثاني يخرج العلم الأوّل عن كونه علماً بالتكليف الفعلي على كلّ حال ، أو أنّه يخرجه عن كونه علماً إجمالياً حقيقياً ، وينكشف أنّه كان صورياً لا واقعية له.

ولا معنى للقول بأنّ هذا ليس بأولى من العكس ، كما تضمّنته عبارة المستمسك بقوله : ودعوى كون العلم اللاحق يخرج به العلم السابق عن كونه علماً بالتكليف الفعلي ليست بأولى من دعوى العكس ، بل هي المتعيّنة ، لما عرفت من استناد التنجّز إلى أسبق العلمين الخ (١) لما عرفت من أنّ هذه الدعوى ليست براجعة إلى أنّ المنجّز هو العلم المتأخّر ، وأنّ العلم المتأخّر يرفع تنجّز العلم السابق ، كي يتّجه عليها أنّها ليست بأولى من دعوى العكس بل إنّ العكس هو المتعيّن ، بل إنّ هذه الدعوى راجعة إلى أنّ العلم الثاني كاشف عن خطأ العلم الأوّل على نحو الشكّ الساري ، ولا ريب أنّ العلم الأوّل لا يعقل أن يكون كاشفاً عن خطأ الثاني ، لأنّ الثاني علم بتوجّه تكليف مردّد بين إناء زيد وإناء عمرو ، لأنّ النجاسة في أيّ واحد وقعت تحدث وجوب اجتناب فيه ، وهذا المقدار من العلم بتوجّه وجوب اجتناب مردّد بين الاناءين لا يرفعه العلم السابق المردّد بين الثوب وإناء عمرو.

نعم ، إنّ العلم الثاني بالنجاسة السابقة المردّدة بين الاناءين يرفع العلم الأوّل المردّد بين وجوب الاجتناب عن الثوب أو إناء عمرو ، ويكشف عن أنّه

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٨.

٩١

ليس بعلم بوجوب اجتناب جديد بين الثوب وإناء عمرو ، بل إنّه خيال ، وأنّه ليس هناك في الأوّل إلاّ التردّد بين وجوب الاجتناب عن الثوب الذي هو موضوع مستقل ، أو الاجتناب عن إناء عمرو الذي كان متحقّقاً قبل هذا واقعاً ، فتأمّل.

وخلاصة هذه الأبحاث على ما فيها من التطويل ولعلّه بلا طائل : هي أنّ الشبهة المتقدّمة في عدم انحلال العلم الاجمالي فيما لو كان أحد طرفيه مجرى الأصل المثبت غير الاحرازي ، كما تقدّم (١) في مسألة الدوران بين كون المتروك ركناً أو غير ركن ، وكما تقدّم في الاناء الكبير الذي هو ملتقى خطي العلم الاجمالي الأوّل بين الصغير والكبير والعلم الاجمالي الثاني بين الكبير والمتوسّط ، جارية في ملاقي الصغير عندما تجعله طرفاً للكبير ، فإنّ الكبير هنا يكون حسابه حساب ذلك الكبير ، والعلم الثاني المردّد بين الثوب الملاقي للصغير وبين الكبير لا ينحلّ ، سواء تأخّر زماناً عن الأوّل الذي هو بين الصغير والكبير ، بأن علم بنجاسة أحدهما ثمّ إنّ ثوبه لاقى الصغير منهما ، أو لم يكن في البين إلاّ التأخّر الرتبي بأن علم بنجاسة أحدهما بعد العلم بالملاقاة ، أو علم بنجاسة أحدهما ثمّ علم بسبق الملاقاة على علمه بنجاسة أحدهما ، فإنّ العلم الثاني بين الثوب والكبير لا يخرج عن كونه بين المتباينين. وكون الكبير مجرى الأصل المثبت سابقاً على العلم الاجمالي الثاني لا يوجب الانحلال إلى الأقل والأكثر.

اللهمّ إلاّ أن نرجعه إلى الأقل والأكثر ، بدعوى أنّ النجس لو كان هو الصغير وجب الاجتناب عنه وعن الثوب ، وإن كان هو الكبير وجب الاجتناب عنه فقط ، فالقدر الجامع بين الاناءين أعني أحدهما هو الأقل ، والزائد عليه هو الاجتناب

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب في الصفحة : ٣٦٣ وما بعدها.

٩٢

عن الثوب. لكن التخريج على ذلك مشكل ، إذ يعتبر في الأقل أن يكون داخلاً في الأكثر ، وليس الأقل كذلك فيما نحن فيه ، فإنّ له تقديرين يكون بأحدهما داخلاً في الأكثر ، ويكون بالآخر خارجاً عنه.

وهل يمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه مثل ما لو وقعت القطرة مردّدة بين الصغير والكبير ، ثمّ أُخرى مردّدة بين الكبير وحده أو توزّعت بين الصغير والمتوسّط ، وذلك عبارة أُخرى عن الاتّساع. أو هو مثل ما لو وقعت القطرة مردّدة بين الصغير والكبير ، ثمّ علمنا بأنّها على تقدير عدم وقوعها في الكبير فهي قد وقعت موزّعة بين الصغير والمتوسّط ، فنقايس الثوب الملاقي للصغير في مسألتنا بالاناء المتوسّط ، وذلك أيضاً مبني على الاتّساع.

ويمكن أن يقال : إنّ هذه المسألة خارجة عن كون العلم الاجمالي علّة في التنجّز ، لأنّه علّة في تنجيز ما تعلّق به ، دون الزائد ، فإنّ نجاسة الملاقي ـ أعني الثوب ـ زائدة على أصل النجاسة التي تعلّق بها العلم ، فإنّ الثوب وإن ضممناه إلى الكبير إلاّ أنه ضمّ صوري ، والنجس المعلوم هو ما بين الاناءين ، لا ما بين الصغير والثوب وبين الكبير ، ولا ما بين الثوب والكبير.

وبالجملة : إدراج الثوب في أطراف العلم مغالطة ، والطرفية إنّما هي بين الاناءين والثوب خارج عنهما. نعم لو كانت النجاسة واقعة في الصغير لكانت ملاقاة الثوب له موجبة لتنجّس الثوب ، وكانت نجاسة الثوب متفرّعة عن نجاسة الصغير ، فأين ذلك من كون نجاسة الثوب طرفاً أو جزءاً من الطرف. وهذا كلّه ناش عن التفرّع المذكور ، ولولا التفرّع بأن كانت نجاسة الثوب ملازمة لنجاسة الصغير ملازمة اتّفاقية من دون تفرّع ، ولو من جهة أنّ تلك النجاسة على تقدير عدم وقوعها في الكبير فهي موزّعة بين الصغير والثوب ، أو أنّها تقارن قطرة

٩٣

أُخرى تقع في الثوب مضافاً إلى القطرة الواقعة في الصغير ، لصحّ لنا جعل الثوب طرفاً أو جزءاً من الطرف في مقابل الكبير. والسرّ في ذلك هو أنّ التلازم مع المعلوم يدخله تحت العلم ، بخلاف التفرّع فإنّ نجاسة الثوب المتفرّعة على نجاسة الاناء الصغير لا تدخل تحت العلم المتعلّق بالصغير ، لكونها موضوعاً آخر ، وليس في عرض الموضوع الأوّل بل هو في طوله ، فيحتاج تنجّز التكليف فيه إلى منجّز غير العلم المتعلّق بأصله ، ولو بأن يكون العلم تفصيلاً بنجاسة الصغير موجباً للعلم التفصيلي بنجاسة الثوب ، بخلاف ما لو لم يكن إلاّ العلم الاجمالي بنجاسة الصغير والكبير. وبالجملة : فرق واضح بين الملازم العرضي كما في المثالين ، والملازم الطولي كما فيما نحن فيه ، فإنّ الأوّل يدخل تحت العلم بخلاف الثاني ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : فأصالة الطهارة الجارية في الملاقي ـ بالكسر ـ ليست في عرض أصالة الطهارة الجارية في الملاقى ـ بالفتح ـ لتسقط بسقوطها ... الخ (١).

لا يقال : إنّ هذه الجملة مخالفة لمسلكه قدس‌سره (٢) في مسألة الاناءين اللذين يكون أحدهما مستصحب الطهارة والآخر مجرى قاعدة الطهارة ، فإنّه قدس‌سره التزم هناك بأنّ القاعدة في مورد الاستصحاب ساقطة بسقوطه.

لأنّا نقول : فرق بين المقام وذلك الفرع ، فإنّ ذلك الفرع يكون ما هو مجرى الحاكم والمحكوم موضوعاً واحداً ، وحيث إنّ الحكم بطهارته ولو بحسب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٨٤.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧ ـ ٤٩.

٩٤

المراتب النازلة يكون منافياً للحكم بطهارة الفرد الآخر ، لاستلزام ذلك للمخالفة القطعية ، كان المحكوم في ذلك الموضوع ساقطاً بسقوط الحاكم ، بخلاف مقامنا ، فإنّ ما هو مجرى الحاكم موضوع وهو الملاقى ـ بالفتح ـ ، وما هو مجرى المحكوم موضوع آخر وهو الملاقي ـ بالكسر ـ ، ويكون كلّ منهما في حدّ نفسه محكوماً بقاعدة الطهارة بحكم مستقل ، فلا يتأتّى فيه ما أفاده قدس‌سره في ذلك الفرع من كون الحكم بالطهارة في أحد الطرفين الذي هو مستصحبها يكون بجميع مراتبه معارضاً للحكم بالطهارة في الطرف الآخر.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكمين الموجودين في الملاقى والملاقي وإن كان الثاني منهما متأخّراً عن الأوّل رتبة ، إلاّ أنهما معاً على اختلاف رتبتهما واقعان في حيّز المعارضة للحكم في الطرف الآخر. وفيه تأمّل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجهة ـ أعني الحكومة ـ لو لم تتمّ في إسقاط العلم الاجمالي المذكور ، لكان في الجهتين الباقيتين كفاية ، وهما تقدّم المعلوم زماناً وتقدّمه رتبة لو لم يكن متقدّماً زماناً كما عرفت تفصيله فيما تقدّم. ولا يخفى أنّ هذا الإشكال وجوابه مذكوران في تحريرات السيّد سلّمه الله (١) عنه قدس‌سره فراجعه.

قوله : ولا يخفى عليك أنّ هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الاجمالي ... الخ (٢).

الإنصاف : أنّ ما أُفيد في هذه الجملة إلى قوله : تذييل ، إنّما ينفع في إبطال

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٤٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٨٦.

٩٥

الصورة الثالثة التي ذكرها في الكفاية (١) لوجوب الاجتناب عن المتلاقيين. وكذلك ينفع في إبطال الصورة الأُولى التي ذكرها لوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى. وأمّا الصورة الثانية من ذلك ، وهي ما لو كان الملاقى ـ بالفتح ـ خارجاً عن الابتلاء حين العلم الاجمالي ، ثمّ بعد الملاقاة عاد إلى الابتلاء ، فلا ينفع في إبطالها ما أُفيد في هذه الجملة من كون التكليف المعلوم بين الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه سابقاً في الزمان أو في الرتبة على التكليف المعلوم بالاجمال بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف أصله ، وذلك لأنّ النجاسة في الملاقى ـ بالفتح ـ وإن كانت سابقة في الزمان أو في الرتبة على نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ، إلاّ أنّ نفس النجاسة ليست من التكاليف كي يكون العلم بها منجّزاً قبل نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ، وإنّما المدار في ذلك على وجوب الاجتناب ، والمفروض أنّه لم يتحقّق إلاّبعد العود إلى محلّ الابتلاء الذي هو متأخّر زماناً عن الملاقاة.

وهكذا الحال فيما لو كان الملاقى ـ بالفتح ـ عند حصول العلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بينه وبين طرفه مضطرّاً إلى ارتكابه ، ولكن بعد الملاقاة ارتفع الاضطرار المذكور ، فإنّه أيضاً نقول فيه : إنّ نجاسة المضطرّ إليه وإن كانت سابقة زماناً على نجاسة ملاقيه ، إلاّ أن المدار على وجوب الاجتناب ، وهو في الملاقى ـ بالفتح ـ متأخّر زماناً عن وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ ، فلا يمكن أن يكون العلم المردّد بين وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ بعد رفع الاضطرار إليه وبين طرفه موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف أصله.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٣.

٩٦

قوله : فنقول : إنّه يعتبر في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجيز بقاؤه على صفة حدوثه وعدم تعقّبه بما يوجب انحلاله وتبدّل المنكشف به لأنّ اعتبار العلم الاجمالي إنّما هو لكونه طريقاً وكاشفاً عن التكليف المولوي ... الخ (١).

توضيح ذلك : هو أنّه لو دار المعلوم بالاجمال بين كونه تكليفاً سابقاً وكونه تكليفاً لاحقاً ، مثل أن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين الصغير والكبير ، بأن يعلم بوقوع نجاسة إمّا الآن في الصغير أو بالأمس في الكبير ، فكان التكليف بالاجتناب المردّد بينهما مردّداً بين كونه قد توجّه إليه فعلاً أو أنّه كان متوجّهاً إليه من الأمس ، فلا شبهة في تأثير العلم الاجمالي المذكور ، لكونه علماً بأنّه قد اشتغلت ذمّته بوجوب الاجتناب ، إمّا من الآن أو من الأمس. لكن لو فرضنا أنّ الكبير كان معلوم النجاسة وأنّه يجب الاجتناب عنه من الأمس ، ثمّ بعد ذلك العلم التفصيلي حصل له العلم الاجمالي بوقوع نجاسة في أحد الاناءين المذكورين ، فهو حين العلم بوقوع النجاسة في أحدهما وإن علم وجداناً بأنّه إمّا مكلّف بوجوب الاجتناب عن الصغير أو بوجوب الاجتناب عن الكبير ، لكنّه لمّا كان قبل هذا يعلم تفصيلاً بوجوب الاجتناب عن الكبير ، لم يرجع علمه الاجمالي المذكور إلى العلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته بوجوب الاجتناب على كلّ من طرفي هذا العلم ، بل يرجع ذلك العلم الاجمالي إلى العلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته بوجوب الاجتناب عن الكبير والشكّ في انشغالها بوجوب الاجتناب عن الصغير ، وفي الواقع أنّ هذا العلم الاجمالي بوجوب الاجتناب صوري محض ، ولا حقيقة له إلاّ الشكّ في اشتغال ذمّته بوجوب الاجتناب عن الصغير مضافاً إلى ما كان يعلمه من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٨٧.

٩٧

وجوب الاجتناب عن الكبير.

ثمّ ننقل الكلام إلى درجة ثانية ، وهي ما لو تأخّر ذلك العلم التفصيلي زماناً عن ذلك العلم الاجمالي مع فرض كون المعلوم التفصيلي سابقاً في الزمان على ذلك المعلوم الاجمالي ، بأن علم اليوم بوقوع نجاسة إمّا في الصغير أو الكبير ، ثمّ علم تفصيلاً أنّ الكبير كان متنجّساً من الأمس ، فهذا العلم الاجمالي الذي حدث صباح هذا اليوم مثلاً وإن كان حين حدوثه موجباً للحكم بانشغال ذمّته بأحد الوجوبين ، إلاّ أنه بعد ذلك لمّا علم تفصيلاً بأنّ الكبير كان نجساً وكان يجب الاجتناب عنه من الأمس ، كان هذا العلم التفصيلي كاشفاً عن خطأ علمه الاجمالي المذكور ، لأنّه يتبيّن له بذلك العلم التفصيلي أنّه لم يكن وقوع تلك النجاسة في أحدهما موجباً لانشغال ذمّته على كلّ حال ، كي يكون عالماً بأنّه قد لحقه تكليف على كلّ حال ، لاحتمال وقوع تلك النجاسة في الكبير الذي لا تؤثّر فيه وجوب الاجتناب وجوباً جديداً. وحاصل ذلك : أنّه تبيّن له بواسطة ذلك العلم التفصيلي أنّ انكشاف انشغال ذمّته بالاجتناب على كلّ حال كان خطأ. هذا حال العلم التفصيلي المتأخّر إذا كان متعلّقه متقدّماً زماناً على المعلوم بالاجمال.

ومنه يعلم الحال في العلم الاجمالي المتأخّر لو كان متعلّقه أيضاً متقدّماً زماناً على علم إجمالي سابق ، بأن يعلم صباح هذا اليوم بوقوع نجاسة إمّا في الصغير أو الكبير ، ثمّ بعد ذلك ينكشف أنّ هناك نجاسة وقعت بالأمس إمّا في الكبير أو في إناء ثالث ، فكما أنّ هذا العلم الاجمالي الثاني لو كان سابقاً في الزمان على العلم الاجمالي الأوّل يوجب سقوط العلم الاجمالي الأوّل ، لأنّه لا يكون حينئذ علماً بانشغال ذمّته على كلّ حال ، لاحتمال وقوع النجاسة المعلومة فيه في الكبير الذي يحتمل كونه متنجّساً بالعلم الاجمالي السابق ، فكذلك الحال فيما لو

٩٨

كان العلم الاجمالي الثاني متأخّراً زماناً عن العلم الاجمالي الأوّل ، فإنّه يكون كاشفاً عن أنّه لم يكن علماً بانشغال ذمّته على كلّ حال.

ثمّ بعد ذلك ننقل الكلام إلى ما نحن فيه ، ونجعل الملاقي ـ بالكسر ـ عوض الإناء الصغير ، ونقول : إنّ علمنا السابق المردّد بين الملاقي ـ بالكسر ـ وبين طرف الملاقى ـ بالفتح ـ يسقط عن التأثير بواسطة علمنا اللاحق المردّد بين الملاقى ـ بالفتح ـ وبين طرفه ، فلا يكون تقدّم العلم بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف أصله باقياً على ما هو عليه بعد أن لحقه العلم المردّد بين الملاقى ـ بالفتح ـ وبين طرفه ، لكون المعلوم بالعلم الثاني سابقاً بحسب الزمان على المعلوم بالعلم الأوّل.

قوله : وأُخرى يكون بين الشيئين واسطة ... الخ (١).

لابدّ من الضدّية بين الشيئين ، وإلاّ فإنّ دوران الأمر بين شرطية مثل الاستعاذة ومانعية قول آمين ممّا لا ضدّية بينهما ، لا يرجع فيه إلى أصالة البراءة من الشرطية وإن كان بينهما ثالث بأن يتركهما معاً ، بل يلزمه في مثل ذلك الاحتياط بالاتيان بالاستعاذة وترك قول آمين ، وإنّما يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة من الشرطية إذا كان بين الشيئين ضدّية ، وذلك مثل ما لو دار الأمر في الواجب كسجود السهو بين شرطية الاستقبال ومانعية الاستدبار ، فإنّ شرطية الاستقبال تتكفّل المنع عن الجهات الثلاث ، بخلاف مانعية الاستدبار فإنّها لا تمنع إلاّمن نفس الاستدبار دون باقي الجهات ، فكانت الشرطية ـ أعني شرطية الاستقبال ـ مشتملة على زيادة التكليف ، فإنّ المنع عن الاستدبار متحقّق على كلّ من شرطية الاستقبال ومانعية الاستدبار ، وتزيد شرطية الاستقبال على مانعية الاستدبار بالمنع عن الجهتين

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٨٩.

٩٩

الأُخريين أعني الشرق والغرب ، فيكون المرجع في هذه الجهة الزائدة من التكليف هو البراءة.

وأمّا ما أُفيد من مثال الدوران بين شرطية الوحدة ومانعية القران بالنسبة إلى السورة ، فليست المقابلة فيه بين قيدية السورة وشرطيتها بعدم الثانية ومانعية الثانية بعد الفراغ عن وجوب السورة وكونها جزءاً ، وإلاّ كانا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، بل المقابلة إنّما هي بين شرطية نفس السورة الواحدة ومانعية السورة الثانية ، ليكونا حينئذ من الضدّين اللذين لهما ثالث ، ويكون شرطية السورة الواحدة متكفّلاً لجهة زائدة من التكليف على مانعية السورة الثانية ، فإنّ مانعية السورة لا تتكفّل إلاّبالمنع عن السورة الثانية بعد الأُولى ، بخلاف شرطية السورة الواحدة فإنّها تتكفّل بالمنع عن السورة الثانية وبالمنع عن عدم السورة رأساً ، فتجري البراءة من الشرطية لأجل هذه الكلفة الزائدة.

وأمّا الضدّان اللذان لا ثالث لهما فلا يكون شرطية أحدهما مشتملة على كلفة زائدة على مانعية الآخر كي يرجع في ذلك إلى البراءة ، بل لا يترتّب أثر عملي على الدوران المذكور ، لأنّه على كلّ من شرطية أحد الضدّين المذكورين ومانعية الآخر يلزمه ترك الضدّ الآخر ، وترك الضدّ الآخر المحتمل المانعية هو عين الاتيان بالضدّ المحتمل الشرطية ، لأنّ المفروض أنّه لا واسطة بينهما.

نعم ، في مقام الشكّ يترتّب على الدوران المذكور أثر عملي بناءً على صحّة الرجوع إلى أصالة عدم المانع ، يعني البناء على عدمه ، بحيث يكون الشكّ فيه كافياً في صحّة العمل وإن لم يكن في البين استصحاب عدمه ، بخلاف الشرطية فإنّه لابدّ من إحرازها ، فعند كون اللباس أو جزء منه من الحيوان ولم يعلم أنّه من مأكول اللحم أو من غير مأكول اللحم ، لو دار الأمر بين شرطية

١٠٠