أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

في البين ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه.

فنقول بعونه تعالى : إنّ حاصل ما تقدّم هو أنّ للعقل في باب الاطاعة حكمين : أحدهما : ما يمكن أن نسمّيه واقعياً ، وهو حكمه بالاطاعة وتفريغ الذمّة عمّا تنجّز على المكلّف ، بحيث إنّه لو كان له لسان لعبّر عن ذلك الحكم بقوله أطع الحكم.

الثاني : ما نسمّيه ظاهرياً احتياطياً ، وهو حكمه بعدم الاتّكال في مقام الاطاعة وتفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به على الاحتمال ، وهو مانعبّر عنه بمفاد قاعدة الاشتغال ، وأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وحاصله : حصّل العلم بفراغ ذمّتك عمّا اشتغلت به ، في قبال الاكتفاء باحتمال الفراغ.

وحينئذ نقول : إنّ الاستصحاب ـ أعني استصحاب التكليف الذي نريد إجراءه في مقام قاعدة الاشتغال ـ إن لم يكن يترتّب عليه إلاّنفس ذلك الأثر الموجود وجداناً بحكم قاعدة الاشتغال ، لم يكن الاستصحاب المذكور جارياً ، وإن ترتّب عليه أثر آخر وهو حكم العقل بالاطاعة وإلزامه المكلّف بتفريغ ذمّته عمّا اشتغلت به ذمّته ، كان الاستصحاب المذكور جارياً ، وكان جريانه رافعاً لموضوع قاعدة الاشتغال. وعليك بتطبيق هذا الضابط على ما ذكرناه من الأمثلة.

قوله : بيان ذلك ... الخ (١).

ملخّص ما أفاده قدس‌سره في درس الفقه وفي هذا المقام هو : أنّ مقتضى تقدّم الاطاعة التفصيلية على الاحتمالية ، هو لزوم تقليل دائرة الاحتمال مهما أمكن ، فلو صلّى كلاً من الفريضتين إلى كلّ جهة ، بحيث إنّه لا ينتقل من الجهة الأُولى مثلاً إلى الجهة الثانية إلاّبعد الفراغ من كلا الفريضتين فيها وهكذا ، يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٣٨.

٢٤١

الاحتمال في فساد العصر ناشئاً عن احتمالين : أحدهما من جهة احتمال كون هذه الجهة ليست قبلة ، والآخر من جهة احتمال أنّه لم يفرغ من الظهر ، فلم يكن المكلّف حاصلاً على إحراز كلّ من الشرطين ، بخلاف ما لو صلّى إحدى الفريضتين إلى جميع الجهات ثمّ بعد الفراغ منها يصلّي الثانية إلى الجهات المذكورة ، فإنّ فساد صلاة العصر حينئذ ينحصر باحتمال واحد ، وهو احتمال عدم كون هذه الجهة قبلة ، فيكون بذلك قد حصل على إحراز أحد الشرطين وهو الترتيب.

ويمكن أن يقال : إنّ تقليل الاحتمال وإن كان لازماً ، إلاّ أنه في مثل المقام غير لازم ، إذ لا يكون مرجع الاحتمالين إلاّ إلى احتمال واحد ، وهو عدم كون هذه الجهة قبلة ، ويلزمه حينئذ بطلان كلّ من الظهر والعصر.

وبعبارة أُخرى : إن كانت تلك الجهة قبلة فقد حصل على كلّ من الترتيب والقبلة وصحّت الصلاتان ، وإن لم تكن هي القبلة فسدت الصلاتان معاً ، وفساد صلاة العصر حينئذ وإن كان من جهتين إلاّ أنه لا دخل لذلك بأصل المطلب وهو لزوم تقليل الاحتمال ، لأنّ معنى تقليل الاحتمال هو تقريب الاطاعة الاحتمالية إلى الاطاعة التفصيلية ، والمدار في ذلك على احتمال الصحّة والأمر ، بمعنى أنّه يلزم أوّلاً أن يكون الأمر والصحّة محرزين ، فإن لم يحصل على إحراز ذلك يلزمه تقليل الاحتمال في ناحية الأمر والصحّة ، فلو كان احتمال كون هذه الجهة هي القبلة مقروناً باحتمال عدم الأمر من ناحية أُخرى ، بأن يكون على تقدير كونها قبلة يحتمل أنّها غير مأمور بها لجهة يمكن إزالتها ، كما لو وجب عليه صلاة الصبح مثلاً وكان متردّداً في القبلة إلى أربع جهات ، وكان عنده ثوبان أحدهما تصحّ الصلاة فيه والآخر لا تصحّ فيه لكونه نجساً مثلاً ، وكان يمكنه إزالة الشكّ

٢٤٢

الثاني بالفحص عن الطاهر منهما أو الصلاة في ثوب آخر يعلم بطهارته ، وكما لو تردّد في القبلة بين جهتين مثلاً وتردّد في الفريضة بين كونها الظهر أو الجمعة وأمكنه إزالة الشكّ الثاني ، لكان ذلك لازماً ، بل هو عين الالتزام بتقدّم الاطاعة التفصيلية من هذه الجهة ، أمّا إذا كان احتمال عدم الأمر من تلك الناحية ملازماً لعدم إحرازه من الناحية الأُخرى ، لم يكن ذلك من قبيل تقليل الاحتمال.

قوله : وكأنّه قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ... الخ (١).

لعلّ نظر المحقّق القمي قدس‌سره إلى التفصيل بين الشرط المنتزعة شرطيته من الأمر والشرط الذي تكون شرطيته أصلية ، وحيث إنّه يرى عدم وجوب الموافقة القطعية أو عدم حرمة المخالفة القطعية في الشبهات المحصورة الوجوبية ، التزم بسقوط شرطية الشرط فيما لو كانت شرطيته منتزعة من الأمر الوجوبي.

قوله : والضرورات إنّما تتقدّر بقدرها ، فلابدّ من سقوط ما يلزم منه العسر والحرج ، ولا موجب لسقوط الزائد عن ذلك ... الخ (٢).

الأولى أن يقال : إنّ الشبهة الوجوبية لا يكون الامتثال في اطرافها غالباً إلاّ تدريجياً ، وحينئذ نقول : إنّ العسر والحرج لا يجري دليلهما قبل الإقدام على الاحتياط ، وإنّما يجري دليلهما بعد أن يأخذ المكلّف بالاحتياط ويلتزم بالاتيان بكلّ ما يحتمل أنّه المأمور به إلى أن يعسر عليه الاتيان بالباقي فيسقط حينئذ ، لأنّ التكليف الواقعي لو كان موجوداً في ذلك الباقي لكان حرجياً ، فيسقط التكليف الواقعي لو كان موجوداً في تلك البواقي ، وبعد الحكم بسقوطه يسقط الاحتياط

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٣٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٢.

٢٤٣

في تلك البواقي. وهذه الطريقة موافقة في النتيجة لطريقة التقييد.

ومن ذلك يعلم الحال فيما أشرنا إليه أخيراً في الشبهة التحريمية غير المحصورة ، من عدم تأتّي الضابط المتقدّم في الشبهة الوجوبية (١) ، فإنّ العلم الاجمالي بوجوب أحد هذه الأشياء مع احتمال وجود طرف آخر لا نعلمه ، لا يكون غير مؤثّر ، بل يؤثّر في لزوم الاحتياط حتّى في الطرف المحتمل الطرفية ، غايته أنّه يكون الاحتياط فيه حرجياً ، فيلزم إسقاطه بمقدار رفع العسر والحرج. وفيه تأمّل ، فإنّه لو علم بوجوب إكرام العالم وتردّد العالم بين أطراف كثيرة واحتمل أنّ في البين أطرافاً لا يعلم بوجودها ، يتأتّى فيه الملاك الذي ذكرناه في الشبهة التحريمية من عدم تنجّز التكليف لو كان في تلك الأطراف التي لا يعلم بوجودها. نعم طريقة العسر والحرج مسقطة للاحتياط أيضاً.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره من الضابط في الشبهة التحريمية غير المحصورة من عدم التمكّن من المخالفة القطعية ، يمكن جريانه في بعض الشبهات الوجوبية ، كما لو فرض أنّ المكلّف لا يتمكّن عادةً من ترك جميع أطراف الشبهة الوجوبية إمّا لكثرتها أو لجهة أُخرى ، ولازم ما أُفيد من التلازم بين سقوط حرمة المخالفة القطعية وسقوط وجوب الموافقة القطعية ، هو أنّه في مثل الفرض يجوز له ترك بعض الأطراف حتّى إذا لم يكن فعلها جميعاً حرجياً عليه.

__________________

(١) الظاهر أنّه قدس‌سره يقصد بالضابط المتقدّم ما نقله عن المحقّق الهمداني قدس‌سره وأوضحه في الصفحة : ١٨١ وما بعدها ، وقد ذكر قدس‌سره في الصفحة : ١٨٤ أوّلاً أنّ هذا الضابط لا يجري في الشبهات الوجوبية ، ثمّ تأمّل فيه وحكم بجريانه فيها كما هو الحال في هذه الحاشية. كما أنّه قدس‌سره في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٢٣ صرّح بجريان الضابط المذكور في الشبهات الوجوبية ، فلاحظ.

٢٤٤

[ دوران الأمر بين الأقل والأكثر ]

قوله : فهذه جملة الأقسام المتصوّرة في باب الأقل والأكثر ، وسيأتي مثال كلّ قسم ... الخ (١).

لا يخفى أنّ مقتضى هذه التقسيمات هو أن تكون الأقسام المتصوّرة عبارة عن ١٩٢ قسماً ، لكن لا يخفى أنّ جملة منها غير متصوّر وجملة منها متصوّر لكنّه داخل في غيره.

قوله في وجه التأمّل : وجهه هو أنّه قد يختلج في البال ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الذي ينبغي أن يقال : هو أنّ لنا في كلّ من السببية ومتعلّق التكليف مقامين ، ففي السببية يكون لنا مقام جعل السببية ومقام تأثير ذلك المجعول سبباً ، وفي متعلّق التكليف يكون لنا مقام جعل التكليف وإيراده على المركّب الذي هو المكلّف به ومقام إيجاد ذلك المركّب الذي هو مقام الامتثال. والإنصاف : أنّ كلاً من السببية ومتعلّق التكليف بالنسبة إلى المقام الثاني منهما يكون الأكثر هو المتيقّن ، ويكون الأقل مشكوكاً ، فإنّه كما يكون تأثير الأكثر في السببية معلوماً ويكون تأثير الأقل مشكوكاً ، فكذلك يكون حصول الامتثال بالاتيان بالمركّب الأكثر معلوماً وحصوله بالأقل مشكوكاً.

أمّا بالنسبة إلى المقام الأوّل الذي هو مقام الجعل والتشريع فهما مختلفان ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ) : ١٤٧.

٢٤٥

حيث إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب قابل للتقطيع ، فيكون تعلّقه بالأقل معلوماً وتعلّقه بالزائد عليه مشكوكاً. وهذا بخلاف السببية فإنّ نفس السببية المجعولة الواردة على المركّب لا تتقطّع بحسب كثرة الاجزاء وقلّتها ، فهي في الحقيقة خارجة عن التردّد بين الأقل والأكثر ، بل تكون السببية الواردة على الأكثر مباينة للسببية الواردة على الأقل ، لا أنّ السببية الواردة على الأقل موجودة في ضمن السببية الواردة على الأكثر ، فلا يكون في البين قدر متيقّن كي يؤخذ به وينفى الزائد بالأصل كما في التكليف الوارد على ما هو مردّد بين الأقل والأكثر ، حيث إنّ الوجوب الوارد على الأقل يكون حاصلاً في ضمن الوجوب الوارد على الأكثر ، ويكون ورود الوجوب على القدر الزائد مشكوكاً ، فينفى بالأصل.

نعم ، لو قلنا في مسألة التكليف المتعلّق بما هو مردّد بين الأقل والأكثر ، بأنّ التكليف الوارد على الأكثر يباين التكليف الوارد على الأقل ، لم يمكن أن يقال إنّ الأقل معلوم والأكثر مشكوك ، كما لم يمكن أن يقال إنّ سببية الأقل معلومة وسببية الأكثر مشكوكة أو بالعكس ، بل تكون كلّ من سببية الأقل وسببية الأكثر مشكوكة ، كما يكون كلّ من وجوب الأقل ووجوب الأكثر مشكوكاً (١).

وبالجملة : أنّ عمدة الفارق بين السببية والتكاليف ، هو أنّ الوجوب قابل للتقطيع بخلاف السببية ، ولأجل أنّ الوجوب قابل للتقطيع نقول : إنّ تعلّق الوجوب بالأقل معلوم وتعلّقه بذلك المقدار الزائد مشكوك فينفى بالأصل ، فيكون المنفي بالأصل هو وجوب الزائد ، لا أنّ المنفي به هو وجوب الأكثر بتمامه كما ربما يتراءى من ظاهر تعبير هذا التقرير ، فإنّ نفي وجوب الأكثر بتمامه لا يثبت وجوب الأقل ، بل هما حينئذ متباينان.

__________________

(١) [ في الأصل « معلوماً » بدل « مشكوكاً » والصحيح ما أثبتناه ].

٢٤٦

والحاصل : أنّه في متعلّقات التكليف لمّا كان تعلّق الوجوب بالأقل معلوماً وكانت جزئية المشكوك ناشئة عن تعلّق الوجوب بالأكثر ، وهو ـ أعني تعلّق الوجوب بالأكثر ـ مشكوك ، كان جريان البراءة من وجوب الأكثر كافياً في الاكتفاء بالأقل لكونه معلوم الوجوب ، وهذا بخلاف الأسباب فإنّ تعلّق جعل السببية للأقل مشكوك ، وحينئذ نقول إنّ مدخلية الجزء المشكوك وإن كانت ناشئة عن جعل السببية للأكثر المفروض كونه مشكوكاً ، لم يكن إجراء البراءة في جعل السببية للأكثر كافياً في الاكتفاء بالأقل ، لأنّ سببية الأقل لم تكن معلومة.

ولكن لا يخفى أنّ رفع وجوب الأكثر لا يصحّح الاكتفاء بالأقل وإن كان تعلّق الوجوب الأعمّ من الوجوب الاستقلالي والضمني به معلوماً ، لكنّه لا ينفع في إثبات الاكتفاء به في مقام الامتثال إلاّبالتقطيع الذي أشرنا إليه ، وهذا التقطيع لا يتأتّى في السببية ، لما عرفت من بساطتها ، فتأمّل.

وحينئذ نقول : إنّ رفع وجوب الأكثر وكذلك رفع سببية الأكثر وإن كان موجباً لرفع جزئية ما شكّ في جزئيته للواجب أو للسبب ، إلاّ أن ذلك لا يوجب تعيّن الأقل للواجب أو للسبب إلاّبالأصل المثبت ، وهكذا الحال لو قلنا بكون الجزئية للواجب أو للسبب مجعولة شرعاً ، وأنّ حديث الرفع يرفعها ، إلاّ أن رفع جزئية المشكوك لا يثبت وجوب الباقي ولا سببيته ، فلم يبق إلاّرفع وجوب المشكوك بناءً على ما ذكرناه من التقطيع غير الجاري في السببية ، لأنّها لا تتقطّع بحسب أجزاء السبب كي يقال إنّ سببية الجزء المشكوك غير معلومة فهي مرفوعة. وأمّا المدخلية في الجملة فهي ليست إلاّجزئية السبب ، وقد عرفت أنّ رفع جزئية السبب عمّا يشكّ في جزئيته لا يثبت سببية الباقي.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما أُفيد في الأصل من كون سببية الأكثر معلومة فلأجل

٢٤٧

ذلك لا يجري فيها حديث الرفع ، لا يمكن إتمامه ، لما عرفت من أنّ سببية الأكثر غير معلومة كوجوب الأكثر ، فلا يكون عدم جريان حديث الرفع فيها لكونها معلومة (١) ، بل إنّما لا يجري فيها لأنّ رفع سببية المجموع بنفسه لا يثبت سببية الأقل ، وكذلك إذا أُريد من رفعها رفع ما ينشأ عنها وهو جزئية الجزء المشكوك ، فلاحظ وتأمّل. وما أُفيد في الحاشية من أنّ سببية الأقل معلومة أيضاً ، لا يمكن إتمامه ، لما عرفت من عدم معلومية جعل السببية للأقل.

قوله : الفصل الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهات التحريمية ، إلى آخر ما في الفصل الثالث (٢).

قد تحرّر في باب العموم والخصوص الفرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي بما محصّله وحدة الطلب في العموم المجموعي وتعدّده حسب تعدّد الأفراد في العموم الاستغراقي ، ولازم ذلك هو عدم الارتباط في العموم الاستغراقي والارتباط في العموم المجموعي. أمّا المركّب والعدد فإن أُخذت الأجزاء والآحاد فيهما على نحو العموم الاستغراقي كانت غير ارتباطية ، وإن أُخذت على نحو العموم المجموعي كانت ارتباطية ، وحيث قد رجع الأمر في الواجبات غير الارتباطية إلى أوامر متعدّدة لا ربط بينها في مقام الاطاعة والمعصية ، وأنّ حالها حال العمومات الاستغراقية ، يتّضح لك جلياً صحّة الرجوع إلى البراءة فيما عدا المقدار المعلوم ، فإنّه يكون من قبيل العلم بأنّه قد وجب عليه الصوم والصلاة والزكاة وغيرها من الواجبات القطعية والشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، من دون حاجة في ذلك إلى دعوى الانحلال ، إذ لا يكون علم

__________________

(١) [ في الأصل : غير معلومة ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٨ ـ ١٥٠.

٢٤٨

إجمالي بمركّب كي نحتاج إلى حلّه بالعلم التفصيلي والشكّ البدوي ، وإن كان ذلك صحيحاً في نفسه ، إلاّ أن المسألة أوضح من ذلك ، هذا في الواجبات.

وأمّا المحرّمات فقد حرّرنا أيضاً في باب العموم والخصوص عن الأُستاذ قدس‌سره أنّ النهي المتعلّق بعنوان كلّي يكون على نحوين ، العموم الاستغراقي والعموم المجموعي ، فلو كان على نحو العموم الاستغراقي وتردّد بين الأقل والأكثر ، مثل ما لو علم بحرمة الغناء وتردّد بين كونه مطلق الترجيع أو كونه مقيّداً بالاطراب ، فالذي يظهر منه قدس‌سره في هذا التقرير هو أنّ الأقل مطلق الترجيع والأكثر هو الترجيع المقيّد بالاطراب.

وفيه : أنّه وإن كان الأمر كذلك نظراً إلى الاطلاق والتقييد ، إلاّ أنه لا داعي للجمود على ذلك ، بل لنا أن نقول إنّ المراد بالأكثر هنا هو الأكثر تكليفاً ، ولا ريب أنّ ذلك إنّما يكون في جانب الاطلاق ، وحيث إنّ العموم استغراقي الذي عرفت أنّ لازمه عدم الارتباطية ، يكون تحريم ما هو أقلّ أفراداً ـ أعني تقييد الحرام بالاطراب ـ هو القدر المتيقّن ، ويكون الزائد على ذلك ممّا كان مشتملاً على الترجيع بدون إطراب مشكوك التحريم ، فتنفى حرمته بالبراءة من دون حاجة إلى الالتزام بأنّ باب المحرّمات عكس باب الأوامر ، بل يكون كلا البابين على نمط واحد بعد فرض كون العموم في كلّ منهما استغراقياً ، ألا ترى أنّه لو علم بأنّه قد أُمر باكرام كلّ عالم ، ولكنّه احتمل تقييده بخصوص العالم العادل ، كان المتيقّن إيجاب إكرامه هو الأقل أفراداً وهو تقييد العالم بالعادل ، وكان إيجاب إكرام ما زاد على ذلك وهو العالم غير العادل مشكوكاً منفياً بالبراءة.

والسرّ في ذلك : هو أنّ الأكثر قيوداً في باب العموم الانحلالي يكون أقلّ أفراداً ، والأقل قيوداً يكون هو الأكثر أفراداً ، من دون فرق في ذلك بين كون

٢٤٩

الحكم في العموم الانحلالي هو الايجاب مثل أكرم كلّ عالم ، أو أكرم كلّ عالم عادل ، أو يكون الحكم فيه هو النهي والتحريم مثل لا تكرم الفاسق ، أو لا تكرم الفاسق المتجاهر في فسقه ، فإنّ الأوّل في كلّ من البابين يكون هو الأكثر أفراداً من الثاني ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء الله في مباحث الأقل والأكثر (١).

نعم ، لو قوبل العموم الاستغراقي في باب النهي بالعموم البدلي في باب الأوامر الذي يكون المطلوب فيه هو صرف الطبيعة مثل أكرم عالماً ، وشكّ في التقييد بالعدالة ، كان الحال فيه على العكس من حال النهي ، بناءً على أنّ القدر المتيقّن هو المطلق ، وأنّ لزوم كونه مقيّداً بقيد العدالة مشكوك منفي بأصالة البراءة ، ويتّضح ذلك بما لو كان مركز التقييد هو نفس الفعل المأمور به دون موضوعه ، كما لو أُمر بالصلاة وشكّ في تقييدها بلبس العمامة مثلاً.

ومن ذلك يتّضح : أنّه لو توقّف أحد في إجراء البراءة في الواجبات المردّدة بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا يلزمه التوقّف في إجراء البراءة عن حرمة الصوت المشتمل على الترجيع المجرّد من الاطراب ، لما عرفت من عدم كون ذلك من قبيل الارتباطيات التي هي محلّ التوقّف. ومنه يتّضح الخدشة فيما أُفيد في هذا التقرير بقوله : والذي خالف في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية ينبغي أن لا يقول الخ (٢). نعم يجري ذلك في المحرّمات الارتباطية كما سيأتي (٣) إن شاء الله في محرّمات الصوم. هذا حال النواهي التي يكون عمومها استغراقياً.

وأمّا النواهي التي يكون عمومها مجموعياً فلابدّ أن تكون ارتباطية ، بناءً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٤ ، راجع أيضاً حاشية المصنّف الآتية في الصفحة : ٣٢٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٩.

(٣) في الصفحة : ٢٥٥.

٢٥٠

على ما عرفت من أنّ المجموعية عين الارتباطية ، لكن قد حرّرنا عنه قدس‌سره في باب العموم أيضاً أنّ العموم المجموعي في باب الأوامر لا يكون إلاّقسماً واحداً. أمّا العموم المجموعي في باب النواهي فهو على قسمين ، فإنّه إذا قال : لا تكرم الفسّاق مثلاً ، أو قال : لا تأكل هذه الأرغفة ، فتارةً : يكون المراد منه النهي عن أكل جميعها وتمامها على وجه يكون مفاد النهي بمنزلة رفع الايجاب الكلّي ، بحيث يكون المحرّم هو أكل جميع تلك الأرغفة ، فلو أكل بعضها وترك بعضاً لم يكن عاصياً ، وعلى ذلك ينزّل النهي عن تصوير الحيوان بناءً على أنّ المنهي عنه هو تصوير جميع صورة الحيوان بتمام أجزائه ، فلو صوّر بعض أجزائه دون بعض لم يكن عاصياً ، لكن لو صوّره بتمامه أو أكل تمام الأرغفة أو أكرم جميع الفسّاق ، لم يكن منه إلاّعصيان واحد لا عصيانات متعدّدة ، ومن خصوص هذه الجهة نسمّيه ارتباطياً ، فالارتباطية فيه إنّما هي بالنظر إلى العصيان ، بمعنى أنّه لو ارتكب الجميع لا يكون إلاّعصياناً واحداً ، بخلاف ما لو لم يكن ارتباط فإنّه عصيانات متعدّدة ، وإلاّ فإنّك قد عرفت أنّ من خصائص الارتباطية هو أنّه لو فعل بعضاً وترك بعضاً آخر كان عاصياً أيضاً ، لا أنّه مطيع فيما ترك وعاص فيما فعل كما هو شأن عدم الارتباطية ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى ـ أعني تحقّق العصيان بفعل البعض دون بعض ـ لا يجري في هذا النحو من العمومات المجموعية.

وأُخرى : يكون المراد من العموم المجموعي في باب النواهي النهي عن أكل المجموع ، بحيث يكون كلّ واحد من تلك الأفراد أو الأجزاء محرّماً ومنهيّاً عنه ، لكن أُخذت تلك التروك كترك واحد وتعلّق به الطلب بهذا اللحاظ ، أعني لحاظه تركاً واحداً ، ولو من جهة دلالة الدليل الخارجي على أنّ تحقّق الاطاعة في كلّ واحد من تلك التروك مشروط بالترك الآخر وهكذا ، ولازم ذلك أنّه لو فعلها

٢٥١

جميعاً يكون عاصياً بعصيان واحد ، ولو ترك بعضاً وارتكب البعض الآخر يكون عاصياً أيضاً ، لا أنّه يكون عاصياً فيما فعله مطيعاً فيما تركه كما هو الشأن في غير الارتباطية.

ويشترك القسمان في أنّ ارتكاب الجميع يكون عصياناً واحداً ، وفي آن ترك البعض وفعل البعض الآخر لا يكون من باب تحقّق كلّ من الاطاعة والمعصية. لكن يفترقان في أنّ الأوّل في هذه الصورة لا يكون عاصياً أصلاً ، بخلاف الثاني فإنّه في هذه الصورة يكون عاصياً صرفاً كما لو ارتكب الجميع.

والحاصل : أنّ عصيان الأوّل يكون في صورة واحدة وهي شرب الجميع ، وإطاعته في صورتين : ترك الجميع وشرب البعض دون البعض ، والثاني بالعكس فإنّ إطاعته تكون في صورة واحدة وهي ترك الجميع ، وعصيانه يكون في صورتين : شرب الجميع وشرب البعض دون البعض.

ويمكننا أن ننزّل الصوم على النحو الثاني بناءً على أنّه مجموعة تروك عرضية ، وهي ترك الأكل وترك الشرب وترك الجماع مثلاً ، وطولية وهي الترك في الساعة الأُولى والساعة الثانية وهكذا ، وأنّ هذه التروك مربوط بعضها ببعض في مرحلة الاطاعة والعصيان ، لكون كلّ ترك مشروطاً بباقي التروك ، ولعلّه لأجل ذلك حكموا بأنّه لو تكرّر منه الافطار في يوم واحد لم تتكرّر الكفّارة وإن وجب عليه الامساك بعد فعل المفطر الأوّل ، لأنّ ذلك ليس من باب الصوم ، بل من باب مجرّد لزوم الامساك كما صرّح به في الجواهر (١).

إذا عرفت ذلك فنقول بعونه تعالى : إنّه لو شكّ في الأقل والأكثر في النحو الأوّل ، كما لو نهي عن أكل تمام ما في هذه الآنية مثلاً من الأرغفة وكان فيها صغار

__________________

(١) جواهر الكلام ١٦ : ٣٠٤.

٢٥٢

وكبار ، واحتمل كون المنهي عن أكل تمامه هو خصوص الكبار ، كان القدر المتيقّن هو تحريم إتمام الكبار والصغار ، وكان تحريم إتمام خصوص الكبار مشكوكاً فينفى بأصالة البراءة.

وإن شئت قلت : إنّ ترك إتمام مجموع الصغار والكبار داخل في ترك خصوص الكبار ، فيكون ترك المجموع المذكور مطلوباً على كلا التقديرين ، وبذلك ينحلّ العلم الاجمالي.

ومنه يظهر الحال فيما لو شكّ في شمول النهي عن تصوير الحيوان لتصوير بعض أجزائه ، فإنّه وإن لم يكن التقابل فيه بين الاحتمالين مثل ما ذكرناه من مثال الأرغفة من كونه من قبيل العموم المجموعي على كلا التقديرين ، بل كان التقابل فيه من قبيل مقابلة العموم الشمولي بالعموم المجموعي ، لأنّه على تقدير كون المحرّم هو تصوير تمام الصورة فهو من العموم المجموعي ، وإن كان المحرّم هو مطلق التصوير المتعلّق بالحيوان ولو كان أيّ جزء منه كان من العموم الاستغراقي ، إلاّ أنّ الحكم في هذا الشكّ هو عين الحكم في مثال الأرغفة ، وهو كون القدر المتيقّن هو تحريم مجموع الصورة ، وأنّ تصوير أجزائه مشكوك التحريم ، وأنّ ترك تمام الصورة حاصل بترك تصوير كلّ واحد من الأجزاء.

وفي هذه الصورة يكون الأكثر هو المتيقّن ويكون تحريم الأقل مشكوكاً ، على العكس في باب الأوامر ، وكأنّ ما في التقريرات المطبوعة في صيدا من قوله : فلا يحرم إيجاد بعض الأجزاء الخ (١) ، ناظر إلى هذه الصورة ، كما أنّ قوله في هذا التحرير : والظاهر أن تكون الشبهات التحريمية على عكس الشبهات الوجوبية ، فإنّه في الشبهات الوجوبية يكون الأقل متيقّن الوجوب والأكثر مشكوكاً ، وفي

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٨٧.

٢٥٣

الشبهات التحريمية الأكثر متيقّن الحرمة والأقل مشكوكاً الخ (١) ، لا ينطبق إلاّعلى هذه الصورة ، فإنّ الأكثر وهو تصوير تمام الصورة أو أكل جميع الأرغفة يكون معلوم الحرمة ، والأقل وهو تصوير بعض الصورة أو أكله خصوص الكبار من الأرغفة يكون مشكوك الحرمة.

ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ الأقل والأكثر في هذه الصورة ليس على العكس من الشبهات الوجوبية ، فإنّ حرمة إتمام الصغار والكبار وإن [ كان ] أكثر في الصورة من حرمة إتمام الكبار فقط ، إلاّ أن المكلّف به على تقدير تعلّق النهي باتمام الكبار والصغار يكون أقلّ من المكلّف به على تقدير تعلّق النهي باتمام الكبار فقط ، فإنّه على الأوّل يكون المنهي عنه هو إتمام الكبار في حال انضمامه إلى إتمام الصغار وهو ضيّق الدائرة ، بخلافه على الثاني فإنّه عليه يكون المنهي عنه هو إتمام الكبار سواء ضمّ إليه إتمام الصغار أو أنّه أتمّها وحدها ، فيكون التكليف حينئذ على تقدير الثاني أكثر منه على التقدير [ الأوّل ].

ويتّضح ذلك في مسألة التصوير ، فإنّه على تقدير كون النهي متعلّقاً باتمام الصورة يكون النهي منحصراً بها أعني الصورة التامّة ، بخلاف ما لو كان النهي متعلّقاً بتصوير ذي الروح ولو ببعض أجزائه ، فإنّ التحريم يكون حينئذ شاملاً لتمام الصورة ولبعضها ، فتمام الصورة وإن كانت هي أكثر صورة ، إلاّ أن التكليف بتركها يكون أقلّ من التكليف بالترك الشامل لتمام الصورة ولبعض أجزائها ، فيكون الأقل تكليفاً وهو حرمة تمام الصورة هو المتيقّن ، والأكثر تكليفاً وهو حرمة مطلق التصوير ولو ببعض الصورة مشكوكاً ، ويكون القدر المتيقّن هو خصوص المنع عن الاتمام ، والزائد عليه وهو المنع عن البعض مشكوكاً فينفى

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

٢٥٤

بالبراءة ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا لو كان الشكّ في الأقل والأكثر في النحو الثاني بأن احتملنا كون الكذب مطلوب الترك في باب الصوم ، أو احتملنا أنّ تلك التروك مطلوبة فيما بين غروب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية ، كان ذلك المشكوك زائداً على المقدار المتيقّن ، وكان وجوبه أو حرمة الفعل مشكوكة في ذلك ، ويكون المرجع هو البراءة ، وكان الأقل هو القدر المتيقّن ، ويكون حاله حال الواجب المركّب المردّد الأجزاء بين الأقل والأكثر ، فمن توقّف في إجراء البراءة في الشبهات الوجوبية المردّدة بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ينبغي أن يتوقّف في إجرائها في الشبهات التحريمية التي يكون عمومها مجموعياً إذا كانت على النحو الثاني.

ويمكن أن يقال : إنّ النحو الأوّل أيضاً كذلك ، وإن كان الالحاق لا يخلو عن خفاء ، لأنّ ترك الأكثر الذي هو تمام الأرغفة الصغار والكبار منها ليس بداخل في ضمن ترك الكبار فقط. نعم إنّ ترك مجموع الكبار والصغار ملازم لترك خصوص الكبار ، وحينئذ فمن توقّف في إجراء البراءة في الأكثر في باب الواجبات الارتباطية ، لا يلزمه التوقّف في ذلك في هذا النحو من العمومات المجموعية في باب النواهي.

ومن ذلك يتّضح لك : أنّ النحو الثاني (١) هو الذي ينطبق عليه ضابط التحريم الارتباطي ، أعني كون تحريم الأقل الذي هو تحريم ما عدا الكذب مثلاً داخلاً في تحريم الأكثر الذي هو تحريم المجموع حتّى الكذب. ومنه ينقدح الخدشة في قوله في هذا التقرير : والأمثلة التي تخطر بالبال لا تنطبق على هذا المعنى (٢) ، فإنّه قد

__________________

(١) [ في الأصل : النحو الأوّل ، لكن سياق العبارة يقتضي ما أثبتناه ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٩.

٢٥٥

ظهر لك أنّ أمثلة التحريم المجموعي الذي يكون على النحو الثاني كلّها ممّا ينطبق عليها الضابط المذكور ، وأمثلته في باب النذر كثيرة إن لم نقل إنّ باب تروك الصوم من هذا القبيل ، والشاهد على ذلك هو ما حكموا به من انحلال النذر والعهد واليمين المتعلّقة بالتروك بأوّل مخالفة ، فراجع الجواهر (١) والمسالك (٢) فيما لو حلف على ترك الدخول في الدار ودخلها نسياناً أو إكراهاً ، بل صرّح بعض محشّي الروضة ـ وهو الشيخ أحمد (٣) ـ بأنّه لم يظهر الخلاف من أحد في انحلال هذه الثلاثة بالمخالفة. ولا يخفى أنّ ذلك لا يتمّ إلاّعلى التنزيل على العموم المجموعي على النحو الثاني ، فتأمّل. بل يظهر من بعضهم أنّ العموم في الايجاب يكون مجموعياً ، وسننقل كلمات بعضهم في آخر المبحث إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : أنّ أمثلة النهي المجموعي على النحو الثاني أمثلة متصوّرة معقولة وكثير منها واقع في الفقه ، فراجع ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره في رسالة المشكوك المطبوعة في النجف (٤).

وأمّا مثال تحريم تصوير الحيوان فليس هو من هذا القبيل ، بل هو من النحو الأوّل من النهي المجموعي ، الذي عرفت أنّ ترك القدر المتيقّن وهو تصوير تمام الصورة ليس بداخل في ترك تصوير بعض الصورة ، نعم هو ملازم له.

لكن يمكن أن يقال : إنّ تحريم تصوير تمام الصورة داخل في تحريم

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٥ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

(٢) مسالك الأفهام ١١ : ٢٨٩.

(٣) تأتي عبارته قدس‌سره في الصفحة الآتية.

(٤) رسالة الصلاة في المشكوك : ١٩٠ وما بعدها ، وكذا راجع الصفحة : ٢٨٤.

٢٥٦

بعض الصورة ، والأمر سهل في الأمثلة بعد اتّضاح أصل المطلب.

وأمّا ما في التقريرات المطبوعة في صيدا من قوله : الثاني فيما إذا دار متعلّق التكليف التحريمي بين الأقل والأكثر ، وحيث إنّ التحريم إذا كان متعلّقاً بمركّب من أُمور فلا محالة يكون المبغوض هو وجود الأجزاء من حيث إنّها كذلك لا كلّ جزء جزء ، فلا يحرم إيجاد بعض الأجزاء من دون قصد إيجاد المجموع ، وعليه تكون حرمة الأكثر متيقّنة وحرمة الأقل مجرّداً مشكوكاً فيها ، فتجري البراءة العقلية والنقلية في مورده (١) ، فقد عرفت أنّه ناظر إلى خصوص النحو الأوّل من العموم المجموعي في باب النواهي ، وأغفل القسم الثاني مع أنّه في باب العموم ذكر النحوين كليهما ، فقال في المجلّد الأوّل ما نصّه : ثمّ إنّ امتثال الحكم في العام المجموعي إذا كان إيجابياً لا يكون إلاّبالاتيان بجميع الأفراد ، وأمّا إذا كان تحريمياً فيمكن أن يكون المطلوب هو مجموع التروك ، فلو أخلّ بواحد منها كان عاصياً. ويمكن أن يكون ترك المجموع فيتحقّق الامتثال بترك فرد واحد من الأفراد ، فلابدّ في تعيين واحد منهما من قرينة خارجية (٢).

قال في الروضة : واعلم أنّ الكفّارة تجب بمخالفة مقتضى الثلاثة ( يعني النذر والعهد واليمين ) عمداً اختياراً ، فلو خالف ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً فلا حنث ، لرفع الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، وحيث تجب الكفارة تنحل ( يعني الثلاثة ). وهل تنحل في الباقي ( يعني ما عدا صورة وجوب الكفّارة ) وجهان ، واستقرب المصنّف في قواعده الانحلال ، لحصول المخالفة وهي لا

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٥٧

تتكرّر كما لو تعمّد ، وإن افترقا بوجوب الكفّارة وعدمها (١).

قال الشيخ أحمد في حاشيته على قوله « تنحل » : أي تنحلّ الثلاثة ، بمعنى أنّه إذا خالف مقتضاها عمداً اختياراً لم يعد حكم اليمين فيما سيأتي. وهذا الحكم لم يظهر فيه خلاف ( من أحد ) أحمد رحمه‌الله (٢). والظاهر ممّا أفاداه قدس‌سرهما هو انحلال النذر وأخويه بأوّل مخالفة ، سواء كان المتعلّق إيجابياً أو كان سلبياً.

قال الحاج الكلباسي قدس‌سره في مناهجه : ولو كان متعلّقه ( أي النذر ) عاماً ، كما لو نذر تهجّد كلّ ليل أو صوم كلّ خميس وترك فرداً منه عمداً ، انحلّ ( النذر ) ولزم عليه الكفّارة ، إلاّ أن الأحوط عدم تركه بعد ذلك بلا عذر. ومثله لو نذر صوم شهر معيّن. وكذا لو نذر ترك عمل عموماً كما لو نذر ترك معصية أبداً ، انحلّ ( نذره ) بفعله مرّة فيجب عليه الكفّارة. وكذا لو نذر ترك الطبيعة. هذا كلّه لو لم ينو في نذره أن يكون كلّ فرد من أفراد المنذور واجباً عليه بالانفراد ، بحيث لو فات وجب عليه آخر إلى آخر العمر ، وإلاّ فحينئذ يتكرّر الكفّارة بتكرّر الترك (٣).

وقال المحقّق القمي في أثناء الكلام على جواب سؤال يتعلّق بمثل ما نحن فيه : وبالجملة المشهور أنّ المخالفة للنذر عمداً يوجب الانحلال مطلقاً. ونقل عن بعض الأصحاب القول بعدمه إذا تعدّد أفراد المخالفة كما لو نذر صوم كلّ خميس ، فلا ينحلّ بافطار خميس أو خميسين ، فيلزمه تعدّد الكفّارة بتكرّر المخالفة ، فإنّه يصدق على ترك صوم كلّ يوم أنّه خالف النذر عمداً ووجب عليه الكفّارة ـ إلى أن قال ـ والأظهر ما عليه المشهور من إطلاق انحلال النذر ، من غير

__________________

(١) الروضة البهية ٣ : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) الروضة البهية ( الطبعة الحجرية ) ١ : ٢٧٦.

(٣) منهاج الهداية إلى أحكام الشريعة : صفحة ٣ من كتاب النذر والعهد واليمين.

٢٥٨

فرق بين ما تعدّدت أفراده وغيره ، ووجهه أنّ بمخالفة النذر عمداً يجب الكفّارة إجماعاً ، وظاهرهم الاتّفاق على أنّ كلّ ما يجب فيه الكفّارة ينحلّ معه النذر ، إنّما الإشكال في أنّ هذا انحلال أم لا ، فنظر المشهور إلى أنّ مخالفة النذر يحصل بالمخالفة في فرد من أفراد ما له أفراد أيضاً ، إذ نقيض الموجبة الكلّية هو السالبة الجزئية ، كما أنّ نقيض السالبة الكلّية هو الموجبة الجزئية ، فمن نذر صوم كلّ خميس إذا أفطر خميساً يصدق عليه أنّه خالف كلّية ، وهكذا من نذر أن لا يضرب أحداً فضرب رجلاً واحداً ، فلم يبق مورد النذر بعد ذلك المخالفة حتّى يصدق مخالفته ، فتحصيل المخالفة بعد ذلك تحصيل الحاصل وهو محال. فلابدّ من حمل الروايتين ( يعني بذلك روايتين تقدّم ذكرهما في كلامه عن علي بن مهزيار وعن إبراهيم بن محمّد ) على فدية النذر ـ لا ( على ) كفّارة الحنث ـ على سبيل الاستحباب ، والمدّ أقلّها والصدقة على سبع أكثرها. ثمّ قال : ويلزم هذا القائل القول بتعدّد الكفّارة فيما كان المنذور إيجاباً كلّياً كنذر كلّ خميس ، وما لو كان سلباً كلّياً كترك كلّ كبيرة أو ترك طبيعة كترك الزنا ، فإنّه لا يحصل إلاّبترك الجميع ، ففي كلّ زنا مخالفة (١). ثمّ إنّه نقل كلام صاحب المفاتيح ونقله نقل الإجماع على ذلك ونقله الخلاف عن بعض المعاصرين ، وأفاد المحقّق أنّ المظنون أنّ ذلك المخالف هو البهائي قدس‌سره. وقد نصّ على ذلك بعض شرّاح المفاتيح وهو ابن أخ المرحوم الفيض ، قال في الشرح : بل ربما ادّعى بعضهم الإجماع عليه ( أي على عدم الانحلال ) إلاّ أن شيخنا البهائي رحمه‌الله جزم بعدم الانحلال إذا كانت المخالفة ممّا تتعدّد أفراده لجواز تكرار المخالفة وعدم لزوم تحصّل الحاصل حينئذ الخ (٢)

__________________

(١) جامع الشتات ٢ : ٥١٦.

(٢) [ لم نعثر عليه في مظانه ].

٢٥٩

قلت : لا يخفى أنّ ما أفاده في توجيه مذهب المشهور من كون الموجبة الجزئية نقيضاً للسالبة الكلّية والسالبة الجزئية نقيضاً للموجبة الكلّية ، لا ينفع في إثبات الانحلال ، وإنّما أقصى ما فيه هو إثبات أنّ الموجبة الجزئية تكون مخالفة للسالبة الكلّية المنذورة ، والسالبة الجزئية تكون مخالفة للموجبة الكلّية المنذورة ، فلا يثبت بذلك إلاّتحقّق الحنث بذلك ولزوم الكفّارة ، وأمّا أنّ كلّ ما أوجب الكفّارة فقد أوجب انحلال النذر فممّا لم يقم عليه برهان. نعم يمكن أن يقال : إنّ ما أوجب الكفّارة فقد أوجب الانحلال بمقداره ، وهو واضح مسلّم ، إلاّ أن ذلك لا دخل له بانحلال النذر في البواقي.

وبالجملة : أنّ الأمر في الانحلال وعدمه يدور على ما تقدّمت الاشارة إليه من كون العموم استغراقياً أو كونه مجموعياً ، فإن كان استغراقياً لم تكن المخالفة في بعض الأفراد موجبة لانحلال النذر في الباقي ، وإن أوجبت الكفّارة ، لأنّ النذر حينئذ ينحلّ إلى نذور متعدّدة حسب تعدّد ما تعلّق به من الأفراد التي ينحلّ ذلك العام إليها.

وإن كان العموم مجموعياً كانت المخالفة في بعض الأفراد موجبة لانحلال النذر ، لعدم تعدّده حينئذ إلى نذور متعدّدة ، فلابدّ من إقامة البرهان على أنّ العموم في باب النذر لا يكون إلاّمجموعياً ، وهو في غاية الإشكال بعد أن تحرّر في الأُصول أنّ الظاهر والأصل في باب العموم هو الاستغراق والانحلالية سيّما في النواهي ، ولم أتوفّق لمعرفة الوجه الفارق بين باب التكاليف وبين باب النذر. وقد نقلت في بعض تحريراتي عن الأُستاذ الأعظم قدس‌سره في مسألة اللباس المشكوك ما محصّله : أنّ مطلوبية الترك في النذر إنّما نشأت من وجوب الوفاء به ، فلا ربط له بالمفسدة والمبغوضية حتّى يكون النهي فيه انحلالياً ، وإنّما يكون وجوب الوفاء

٢٦٠