أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

سقوط الاطاعة التفصيلية ، ليكون سقوطها موقوفاً على عدم التمكّن منها المتوقّف على لزوم الشرط المتوقّف على التمكّن منه ، لما عرفت من أنّ لزوم ذلك الشرط سابق في الرتبة على اعتبار الاطاعة التفصيلية ، فلا يعقل أن يكون موقوفاً على سقوط الاطاعة التفصيلية.

وهذه الجهة هي العمدة في المسألة ، وبها صرّح في تحرير السيّد سلّمه الله بقوله : وذلك لأنّ قصد القربة وإن كان وجوبه شرعياً عندنا ، إلاّ أنه بأمر آخر وفي مرتبة متأخّرة عن الأمر ببقية الأجزاء والشرائط الخ (١) وإن كان الأولى إسقاط قصد القربة وإبداله بالاطاعة التفصيلية كما هو واضح ، لأنّ هذا ـ أعني سقوط الاطاعة التفصيلية عند مزاحمته بهذه الشروط ـ لا يمكن أن يقاس عليه أصل اعتبار قصد القربة ، فإنّه لو فرض محالاً مزاحمتها ببعض الشرائط ، تكون موجبة لسقوط الشرط إن كانت شرطيته مشروطة بالتمكّن ، وذلك من جهة أنّ مدخلية أصل قصد القربة لم تكن مقيّدة بالتمكّن ، فلا يمكن أن تزاحم بما هو مقيّد بالتمكّن وإن كان سابقاً في الرتبة عليها ، فتأمّل. إلاّ أن ذلك الفرض ـ أعني مزاحمة أصل قصد القربة ببعض الأجزاء والشرائط ـ لا واقعية له ، بل هو ممتنع على الظاهر.

قوله : وينبغي فرض الكلام في غير ما إذا كان الترديد لطرو ما يحتمل المانعية ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ احتمال عروض المبطل تارةً يكون من جهة الشبهة الحكمية ، وهو فعلاً لا يعرف حكمها إلاّبالسؤال بعد الانفصال من الصلاة. وأُخرى يكون الحال كذلك ، لكنّه لا يمكنه معرفة حكمها حتّى بعد الانفصال من الصلاة ، كمن

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٥٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٣.

٥٠١

عرضه الشكّ بين الاثنتين والثلاث قبل إكمال السجدتين ، وكان مجتهداً محتاطاً في هذه المسألة ، أو مقلّداً لمن يقول بالاحتياط فيها. وثالثة يكون في عروض المبطل المفروض كونه مبطلاً ولكنّه يشكّ في عروضه ، والكلام في هذا البحث إنّما هو في الصورة الأُولى دون الثانية والثالثة.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما تقدّم من جواز الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، يكون هذا البحث ساقطاً من أصله ، بل يلزمه في هذه الفروع إتمام الصلاة بداعي احتمال الصحّة ، ثمّ بعد الفراغ والسؤال إن ظهر بطلانها أعاد وإلاّ فلا ، ولا يحتاج في احتمال المانعية إلى التمسّك بعموم ( لا تُبْطِلُوا )(١) كي يتوجّه عليه كونه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، فإنّ الغرض هو مجرّد جواز المضي في الصلاة بداعي احتمال الصحّة.

ولا يخفى أنّه لو كانت الشبهة في القاطعية أو المانعية حكمية ، وكان المكلّف مجتهداً أو مقلّداً لمن كان رأيه الاحتياط في مثل الشكّ بين الاثنتين والثلاث قبل رفع الرأس من السجدة الأخيرة ، فإنّه بناءً على سقوط حرمة الابطال ولزوم الاطاعة التفصيلية ، يلزمه قطع الصلاة واستئناف صلاة أُخرى ، لتمكّنه من الاطاعة التفصيلية ولو باستئناف صلاة أُخرى خالية من الشكّ المزبور ، ولا أظنّهم يلتزمون بذلك.

وهكذا الحال في مسألة الشكّ في عروض المبطل بعد الفراغ عن كونه مبطلاً. وعلى الظاهر لا فرق بينه وبين من تمكّن من الاطاعة التفصيلية بالسؤال والفحص.

__________________

(١) محمّد ٤٧ : ٣٣.

٥٠٢

وهكذا الحال في من طرأه الشكّ في السجود مثلاً حين النهوض إلى القيام ، وكان مجتهداً لكنّه كان محتاطاً في هذه المسألة من جهة التردّد بين كونه مورداً لقاعدة التجاوز أو هو مورد لقاعدة الشكّ في المحل ، فإنّه بناءً على تقدّم الاطاعة التفصيلية يلزمه قطع الصلاة ، واستئناف أُخرى خالية من الشكّ المزبور.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلام في هذا البحث كلّه ليس براجع إلى الاطاعة التفصيلية في نفس الجزء كي يرد على شيخنا قدس‌سره أنّك لا توجب الاطاعة التفصيلية في الجزء ليكون هذا البحث ساقطاً على نظره الشريف ، وذلك لأنّ الاطاعة التفصيلية في جميع هذه الفروع راجعة إلى نفس المأمور به لا إلى جزئه ، وذلك واضح لا يخفى هذا.

ولكن لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره إنّما أخرج مورد الشكّ في طروّ المانع أو القاطع ، لأنّ جلّ الغرض من هذا التنبيه هو دفع توهّم التزاحم بين حرمة الابطال وبين وجوب الاطاعة التفصيلية ، وعند الشكّ في طروّ ما يوجب بطلان الصلاة لا يكون في البين ما ينقّح حرمة الابطال ، وحينئذ يبقى وجوب الاطاعة التفصيلية بالقطع والاعادة بلا مزاحم.

ومن ذلك تعرف أنّ الاحتياط في مسألة الشكّ بين الاثنتين والثلاث قبل إكمال السجدة الأخيرة لا يجتمع مع الحكم بلزوم الاطاعة التفصيلية ، فلو كان المكلّف مردّداً بين الصحّة والبطلان تعيّن عليه قطع الصلاة والاستئناف. وهكذا الحال في مسألة الشكّ في السجود في حال النهوض ، فإنّ الاحتياط فيها لا يجتمع مع القول بتقدّم الاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، إلاّ أن نقول بسقوط الاطاعة التفصيلية في المقام لتقدّم حرمة الابطال عليها.

نعم ، إنّ الاحتياط في أمثال ذلك إنّما يلتزمون به لأجل كون الشبهة حكمية

٥٠٣

مع توقّف الفقيه في الفتوى ، وحينئذ يكون من موارد عدم التمكّن من الاطاعة التفصيلية حتّى لو قطع الصلاة ، إذ لا مجال للفحص في مثل ذلك ممّا قد توقّف عن الفتوى فيه.

نعم ، قد يقال : إنّه يلزمه استئناف الصلاة لعلّه لا يبتلى في الصلاة الجديدة بذلك الشكّ ، فيحصل فيها حينئذ على الاطاعة التفصيلية.

ولا يخفى ما فيه من التأمّل ، لأنّ المدار في لزوم القطع هو الفحص عن حكم المسألة ، لا أنّه لمجرّد أن يشرع في صلاة جديدة اعتماداً على عدم عروض مثل ذلك الشكّ فيها.

ثمّ لا يخفى أنّ الاحتياط في أمثال هذه المسألة إنّما يكون بتلافي السجود ، فلا تكون الاطاعة الاحتمالية إلاّفي ناحية الجزء دون الأمر بالمركّب ، فما ذكرناه من الجواب عن الإشكال على شيخنا قدس‌سره لا يخلو من تأمّل.

نعم ، يمكن المناقشة في أصل المسألة ، أعني التفرقة بين الأمر بالمجموع المركّب والأمر بالجزء ، بدعوى وجوب الاطاعة التفصيلية في الأوّل دون الثاني ، فإنّ الظاهر أنّه وإن كان الأمر بالمجموع معلوماً ، إلاّ أنه عند الوصول إلى الجزء لابدّ من قصده وقصد الأمر الضمني المتعلّق به ، وحيث لا تكون الجزئية معلومة ، لا تكون الاطاعة بالنسبة إلى ذلك الجزء إلاّ احتمالية مع فرض التمكّن من تحصيل الاطاعة التفصيلية فيه.

قوله : وأقوى الوجوه هو الوجه الثاني ، من وجوب قطع العمل واستئنافه بداعي الامتثال التفصيلي ... الخ (١).

الذي ينبغي أن يقال : هو أنّه بعد البناء على لزوم الاطاعة التفصيلية ، يقع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٦.

٥٠٤

الكلام أوّلاً في مزاحمة حرمة الابطال بنفس الأجزاء والشرائط الأصلية ، كما لو فقد في أثناء الصلاة ما يصحّ السجود عليه ، ولا ريب في تقدّم الأجزاء والشرائط الأصلية على حرمة الابطال ، فيلزمه قطع الصلاة وتحصيل ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، سواء كان ممّا ليس له البدل أو كان ممّا له البدل ، على كلام في جريان حديث « لا تعاد » (١) في مثل الفروع المشار إليها ، حرّرناه في مسألة مستقلّة (٢) معلّقة على كثير من فروع العروة.

ثمّ بعد الفراغ عن سقوط حرمة الابطال في قبال الأجزاء والشرائط الأصلية ننقل الكلام إلى ما نحن فيه من مزاحمة حرمة الابطال بهذا القيد الخاصّ أعني الاطاعة التفصيلية ، بعد فرض كون كلّ من الحكمين ـ أعني حرمة الابطال ووجوب الاطاعة التفصيلية ـ مقيّداً ومشروطاً بالتمكّن.

فإن قلنا إنّ هذا القيد ـ أعني الاطاعة التفصيلية ـ كسائر القيود الأصلية في تقدّمه رتبة على حرمة الابطال ، فلا ريب في سقوط حرمة الابطال عند المزاحمة به ، كما تسقط عند المزاحمة بشرط ما يسجد عليه ، كما عرفت في مثال من فقد ما يسجد عليه في أثناء الصلاة مع تمكّنه من الحصول عليه عند قطعها واستئناف صلاة أُخرى.

وإن قلنا كما هو غير بعيد بأنّ هذا القيد متأخّر رتبة عن أصل الأجزاء وباقي الشرائط الأصلية ، كما تقدّم بيانه في الفرع الأوّل (٣) ، وحينئذ يكون كلّ من حرمة الابطال ولزوم الاطاعة التفصيلية في عرض الآخر ، ويكونان حكمين واردين

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٧١ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨.

(٢) وهي مخطوطة لم تطبع بعدُ.

(٣) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥٠٠.

٥٠٥

على مجموع العمل بما له من الأجزاء والشرائط الأصلية ، كان كلّ من الحكمين المذكورين في مورد التزاحم رافعاً لموضوع الآخر وسالباً لقدرة المكلّف عليه ، لما عرفت من كون كلّ من الحكمين مشروطاً بالتمكّن ، فيقع التزاحم بينهما حينئذ مع فرض عدم الأهمية لأحدهما ، فتكون النتيجة حينئذ هي التخيير.

لكن يمكن أن يقال بتقدّم حرمة الابطال ، نظراً إلى أنّ الابطال سابق في الزمان على الاتيان بالاطاعة التفصيلية ، إذ لا تحصل الاطاعة التفصيلية إلاّبعد تحقّق الابطال ، فيكونان من قبيل توقّف الواجب على الحرام مع كون الحرام سابقاً زماناً على الواجب ، وقد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّه عند التساوي في الأهمية يكون الساقط هو الوجوب ، لتقدّم الحرام زماناً ، الموجب لكونه في وقته بلا مزاحم ، بمعنى أنّه لم ينهض في وقته ما يوجب رفع اليد عن حرمته من أهمية الواجب عليه.

ولكن الأولى في وجه التقديم هو أن يقال : إنّ الاطاعة التفصيلية وإن كانت متأخّرة عن جملة الأجزاء والشرائط ، كما تقدّم بيانه في الفرع الأوّل ، إلاّ أنها مع ذلك سابقة في الرتبة على حرمة الابطال ووجوب الاتمام ، لأنّه ليس إلاّعبارة عن وجوب إتمام العمل على جميع ما اشتمل عليه من الأجزاء والشرائط ، وسائر ما يعتبر فيها من قصد القربة وتوابعها ، التي من جملتها الانبعاث عن الأمر المعلوم الذي هو عبارة أُخرى عن الاطاعة التفصيلية ، ومن الواضح أنّه حينئذ يكون دخيلاً في موضوع وجوب الاتمام ، الذي هو عبارة أُخرى عن حرمة الابطال ، فيكون مقدّماً في الرتبة ، فالمتعيّن للسقوط حينئذ هو حرمة الابطال.

ألا ترى أنّه لو فرض محالاً أنّه لا يمكنه إتمام العمل على وجه القربة ، فهل ترى من نفسك أنّ حرمة الابطال ووجوب الاتمام مزاحم لاعتبار قصد القربة.

٥٠٦

وبالجملة : أنّ الاطاعة التفصيلية وإن كان وجوبها مقيّداً بالتمكّن ، إلاّ أن المراد بالتمكّن هو التمكّن منه في حدّ نفسه ، نظير باقي ما يعتبر في الصلاة ممّا يكون مقيّداً بالتمكّن ، كما لو اتّفق أنّه لا يمكنه إتمام الصلاة قائماً ، فإنّه لا ينتقل إلى الجلوس باعتبار أنّه غير متمكّن من القيام بواسطة حرمة الابطال.

والحاصل : أنّ حرمة الابطال لا تحقّق عدم التمكّن بالنسبة إلى كلّ ما يعتبر في الصلاة ولو كان هو مقيّداً بالتمكّن ، فالتمكّن في حرمة الابطال في طول التمكّن من باقي الأجزاء أو الشرائط الأصلية ، والتي هي تابعة لقصد القربة ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الوجه في بطلان التخيير ، وهو ما ذكره في تحرير السيّد سلّمه الله بقوله : مع الغفلة عن أنّ التخيير بين الحكمين المتزاحمين إنّما يكون مع كونهما في مرتبة واحدة لا في مثل المقام على ما عرفت تفصيله (١).

وأمّا ما أجاب به في هذا التحرير بقوله : فلأنّ الحكم الخ (٢) ، فكأنّه أجنبي عن المطلب ، لأنّ التزاحم بين حرمة الابطال ووجوب الاطاعة التفصيلية ليس من قبيل تزاحم القيود ، ولعلّه لذلك أمر بالتأمّل ، فتأمّل.

وما اشتمل عليه المطبوع من تقريرات درس المرحوم الأُستاذ العراقي قدس‌سره (٣) من الايراد على ما اشتمل عليه هذا التحرير من الجواب عن القول بالتخيير في محلّه ، إلاّ أنه كان عليه أن ينظر إلى ما اشتمل عليه تحرير السيّد سلّمه الله ، وبه يتمّ إبطال القول بالتخيير الذي اختاره في التقرير المزبور ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٥٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٦.

(٣) نهاية الأفكار ٣ : ٤٦٨.

٥٠٧

قوله : وأمّا الوجه الرابع ، فلأنّ الجمع بين الإتمام والإعادة لا أثر له ، بل هو كرّ على ما فرّ منه ، إذ لا يمكن الإعادة بداعي الامتثال التفصيلي خصوصاً مع تبيّن مصادفة المأتي به للواقع ، بل غاية ما يمكن هو الإعادة بداعي الاحتمال ، فلا يمكن الجمع بين الوظيفتين ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّ ما أفاده في مسألة من نسي الركوع حتّى سجد الأُولى من بطلان الصلاة وإن كان الأحوط التلافي والاعادة (٢) ، وكذلك ما ذكره في العروة ولم يعلّق عليه شيخنا قدس‌سره من أنّه عند الشكوك المعتبر فيها إكمال السجدتين لو انضم إليه الشكّ في السجدتين أو إحداهما تبطل صلاته وإن كان الأحوط الاتمام والاعادة (٣) ، إنّ هذه الاحتياطات بالاتمام والاعادة تفويت للاطاعة التفصيلية ، وينبغي أن يكون لزوم القطع في هذه المسائل أولى منه فيما إذا لم يكن في البين احتمال البطلان.

لكن لا يخفى أنّه قدس‌سره قد جرى في حواشي العروة على مذاق الجماعة من لزوم الاتمام بأحد الوجهين ثمّ السؤال بعد الفراغ ، وأمّا الوجه الثاني فإنّما بنى عليه بعد تلك الحواشي كما سيأتي نقل ذلك عن تصحيح الوسيلة ، وحينئذ يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) في مسألة ١٤ فيما لو سها عن الركوع حتّى دخل في السجدة الثانية بطلت صلاته ، قال شيخنا قدس‌سره في الحاشية : بل في الأُولى على الأقوى ، لكن لو تذكّر قبل الدخول في الثانية فالأحوط تدارك الركوع وإتمام الصلاة ثمّ الاعادة [ منه قدس‌سره ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢١٥ ].

(٣) مسألة ٦ في الشكوك المعتبر فيها إكمال السجدتين : إذا شكّ في إتيان السجدتين أو إحداهما ، يقول : بطلت صلاته وإن كان الأحوط الاتمام والاعادة ، وليس لشيخنا قدس‌سره حاشية عليه [ منه قدس‌سره ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٥٠ ].

٥٠٨

احتياطه في المقام بالاتمام لأجل أنّه لم يكن حين رسم ذلك بانياً على الوجه الثاني ، وإن أمكن توجيه ذلك الاحتياط حتّى بناءً على الوجه الثاني ، بأنّ الفتوى بالبطلان ولزوم الاستئناف توجب الحصول على الاطاعة التفصيلية في الصلاة الآتية لأنّها على طبق الفتوى ، لكن يدخل ذلك حينئذ فيما تقدّم (١) من أنّه عند قيام الدليل على أحد الطرفين يكون اللازم تقديمه ، وبعد الفراغ لو أراد الاحتياط يأتي بالطرف الآخر.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذه الطريقة لا يمكن أن تأتي فيما نحن فيه ، من جهة عدم إمكان تأخير ما هو على خلاف الفتوى ، أعني الاحتياط بالاتمام.

وكيف كان ، فإنّ هذه الإشكالات إنّما تأتي فيما لو كانت الفتوى هي البطلان ، أمّا لو كانت الفتوى في أصل المسألة هي الصحّة ـ كما لو شكّ بين الاثنتين والثلاث بعد تمام الذكر وقبل رفع الرأس من السجدة الأخيرة ، فإنّه يحكم فيه بالصحّة ، وإن كان الأحوط البناء على الثلاث والاتمام والاحتياط ثمّ الاعادة ـ فلا يكون الاحتياط مفوّتاً للاطاعة التفصيلية.

وكذلك لو لم يُفت في هذه المسألة بالصحّة بل توقّف ، وكان الاحتياط بالاتمام ثمّ الاعادة لازماً عنده ، فإنّ هذا الاحتياط لا يفوّت الاطاعة التفصيلية ، لأنّ المفروض عدم التمكّن منها ، إلاّبما تقدّمت (٢) الاشارة إليه من القطع والشروع في صلاة جديدة لعلّه لا يتّفق فيها هذا الشكّ.

واعلم أنّه في العروة في مسائل التقليد ذكر هذه المسألة ، وهي ما لو عرضه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٤ وما بعدها ، وراجع أيضاً الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٧٤.

(٢) في الصفحة : ٥٠٤.

٥٠٩

في أثناء الصلاة شكّ لا يعرف حكمه ، وأفتى بأنّه يختار أحد الوجهين ، ثمّ بعد الفراغ يسأل فإن صادف الصحّة فهو وإلاّ أعاد ، ولم يعلّق عليه شيخنا فراجع م ٤٩ (١).

وفي أحكام الخلل ذكر عين هذه المسألة وزاد : أنّ الأحوط الاعادة في صورة الموافقة أيضاً ، وعلّق عليه شيخنا قدس‌سره قوله : إن كان الوقت واسعاً فالاحتياط لا يترك (٢) والظاهر أنّ ذلك كلّه مناف لما اختاره قدس‌سره هنا من الوجه الثاني ، أعني وجوب القطع ثمّ السؤال والاعادة.

وقد جرى في الوسيلة على نحو ما جرى عليه في العروة ، لكنّه صحّحه بعد الطبع فقال : ويصحّ ولو مع بقاء التردّد المذكور والمضي في العمل بانياً على استعلام حكمه بعد إتمامه (٣). هذه العبارة المطبوعة من الوسيلة ، لكنّه عند الوصول في الأُصول إلى هذه المباحث عدل عن ذلك ، وأصلح ما في الوسيلة باقحام لفظ « عند تضيّق الوقت » بين قوله : يصحّ ، وقوله : ولو مع بقاء التردّد ، وزاد على قوله : « بعد إتمامه » هذه العبارة : مع تبيّن المصادفة ، أمّا إذا كان الوقت واسعاً فلا يخلو جواز الاتمام مع التردّد المذكور عن الإشكال ، والأحوط الاستئناف ، بل لا يخلو وجوبه عن القوّة ، انتهى.

والأولى أن يقال : إنّ الكلام في هذه المقامات إنّما هو فيما لو طرأت مسألة لا يعرف حكمها ، على وجه لو علم الحكم فيها اجتهاداً أو تقليداً كان متمكّناً من الاطاعة التفصيلية ، ففي هذه الصورة تقع المزاحمة بين حرمة الابطال ووجوب

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٣٩.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٥٦ مسألة «١٤».

(٣) وسيلة النجاة : ١١٨ / مبحث النيّة.

٥١٠

الاطاعة التفصيلية ، أمّا لو كان ذلك المكلّف مجتهداً ، أو كان مقلّداً لمن يكون محتاطاً في تلك المسألة ، فلا يكون داخلاً فيما نحن فيه ، بل له حكم آخر وهو لزوم الاحتياط الذي أدّى إليه تقليده أو اجتهاده ، ولا يكون من وادي التزاحم بين الاطاعة التفصيلية وحرمة البطلان كما عرفت الاشارة فيما تقدّم.

وهكذا الحال في الشبهات الموضوعية ، كما لو حدث له الشكّ بين الثلاث والاثنتين ولكن لم يعلم أنّه كان بعد إكمال السجدتين كما هو المفروض في العروة في م ٦ (١) وهكذا الحال لو شكّ في عروض المبطل ، فإنّ جميع ذلك لا يكون من موارد التزاحم المذكور.

قوله : بل وجوب الفحص عن الأحكام الشرعية يكون من صغريات وجوب الفحص عن معجزة من يدّعي النبوّة ـ إلى قوله ـ وإلاّ لزم إفحام الأنبياء ... الخ (٢).

فإنّ الفحص عن معجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لم يكن واجباً بحكم العقل ، لكان سكوت المكلّفين وعدم فحصهم موجباً لافحامه وعدم توجّه الحجّة منه عليهم ، لأنّهم يقولون له عند دعواه النبوّة لا يجب علينا أن نفحص عن صحّة نبوّتك فيفوت الغرض حينئذ من إرساله. وهكذا الحال في الفحص عن الأحكام بعد فرض تصديقهم برسالته ، لأنّهم إذا سكتوا ولم يفحصوا عمّا أمرهم به النبي بحجّة أنا لا يجب علينا الفحص ، كان بعثه وأمره وتبليغه كلّه لغواً لا فائدة فيه ولا ثمرة تترتّب عليه ، وذلك هو عبارة عن كون ما نحن فيه من صغريات وجوب الفحص عن المعجزة ، يعني أنّ الملاك في كلّ من الوجوبين واحد ، لا أنّ وجوب الفحص

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٥٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٨.

٥١١

عن النبوّة كبرى كلّية ومن صغرياتها وجوب الفحص عن الأحكام.

قوله : وفي الثاني لا ينحلّ العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ... الخ (١).

قد أوضحنا في مبحث العموم (٢) السرّ في عدم الانحلال بذلك ، وإجماله أنّ التردّد بين الأقل والأكثر فيما لو علم بحرمة البيض من هذا القطيع وحصل التردّد بين كونها عشرين أو ثلاثين ، لم يكن واقعاً في مرتبة العلم ، وإنّما هو متأخّر عنه ، لأنّك تجد علمك متعلّقاً بحرمة البيض ، ثمّ تجد لك شكّاً واقعاً على أنّ تلك البيض هل هي عشرون أو ثلاثون ، فلا يكون في ناحية العلم بحرمة البيض وفي مرتبته شكّ في حرمة شيء منها ، وإنّما وقع الشكّ في شيء آخر متأخّر عنه رتبة ، وهو أنّ تلك البيض المعلومة الحرمة التي يجب بحكم العقل الاجتناب عنها جميعاً هل هي عشرون أو هي ثلاثون ، فالمعلوم بالاجمال وهو حرمة البيض لم يكن بعضه متيقّناً وبعضه مشكوكاً ، بل كانت البيض كلّها معلومة الحرمة ، وهي مردّدة بين كونها واقعة في هذا النصف مثلاً أو في النصف الآخر ، فيكون من قبيل الترديد بين المتباينين ، ولا يكون الاجمال فيه إلاّمن هذه الجهة ، أعني جهة تردّده بين المتباينين ، لا أنّ الاجمال فيه ناشئ عن ضمّ قضية متيقّنة وهي حرمة الأقل إلى قضية مشكوكة وهي حرمة الأكثر ، كي يكون راجعاً إلى مسألة الأقل والأكثر ، فراجع البحث هناك بتمامه ليتّضح لك ما أجملناه هنا إن شاء الله تعالى.

واعلم أنّ الشيخ قدس‌سره ذكر العلم الاجمالي من أدلّة وجوب الفحص ، وهو الدليل الخامس ، وأشكل عليه بما حاصله : أنّ العلم الاجمالي إن لم ينحل كان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٩.

(٢) في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٣٧ وما بعدها.

٥١٢

مانعاً من الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص ، وإن كان منحلاً بواسطة الاطّلاع على ما هو بمقدار المعلوم بالاجمال لم يكن الفحص واجباً.

وأجاب عنه بما حاصله : أنّ المعلوم الاجمالي هو وجود التكاليف الواقعية في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص ولم يجد خرجت الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالاً بوجود التكليف فيها ، ثمّ قال : ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، أمّا أوّلاً ، وحاصله منع التقييد. وأمّا ثانياً وحاصله ما أفاده بقوله : مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالاً فيها ، فتأمّل وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي (١).

وينبغي أن يعلم أنّ الحجر الأساسي هو كون المعلوم بالاجمال في جملة الوقائع معلّماً بعلامة خاصّة ، وهي كونه لو تفحّصنا لعثرنا عليه فيما بأيدينا من الكتب ، وذلك قابل للمنع كما أفاده قدس‌سره أوّلاً ، إذ ليس كلّ ما نعلمه إجمالاً من التكاليف الصادرة عن صاحب الشريعة واجدة لهذه الصفة ، إذ لعلّ بعضها لم يصل إلينا.

ثمّ بعد فرض كون المعلوم الاجمالي كذلك ، يندفع أحد الإشكالين ، وهو أنّه بعد الفحص وعدم العثور لا ينبغي الرجوع إلى البراءة لبقاء العلم الاجمالي ، ووجه الاندفاع واضح ، وهو أنّه بالفحص وعدم العثور ينكشف أنّ المورد خارج عن أطراف المعلوم بالاجمال.

ولكن يبقى الإشكال الآخر ، وهو أنّه بعد العثور على مقدار ما هو المعلوم بالاجمال ، ينحلّ العلم الاجمالي ، فلا يبقى موجب للفحص لما يبتلى به المكلّف

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٥.

٥١٣

أو المجتهد بعد فرض الانحلال ، مع أنّ بناءهم على الفحص حتّى بعد الانحلال. وهذا الإشكال هو الذي سجّله الشيخ قدس‌سره بقوله : مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحص الخ ، وهو الذي سجّله في الكفاية بقوله في هذا المقام : وأنّ الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز ، إمّا لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، أو لعدم الابتلاء إلاّبما لا يكون بينها علم الخ (١).

وهو الذي سجّله أيضاً في الكفاية في مقام الجواب عن الإشكال على الأخذ بظواهر الكتاب بالعلم الاجمالي بإرادة خلاف الظاهر بقوله : وأمّا الرابعة ، فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر إنّما يوجب الاجمال فيما إذا لم ينحلّ بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال الخ (٢).

والحاصل : أنّ الذي يظهر من الشيخ ومن صاحب الكفاية قدس‌سرهما هو الالتزام بانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي المتأخّر عنه ، فلأجل ذلك أشكلا على وجوب الفحص بعد الانحلال بأنّه لا وجه له.

أمّا شيخنا قدس‌سره فهو وإن كان قائلاً بانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي المتأخّر عنه ، إلاّ أنه مع ذلك التزم في المقام بعدم الانحلال ، لما أفاده من أنّ المعلوم الاجمالي إذا كان معلّماً بعلامة خاصّة لا ينحلّ ، على ما أوضحه وشرحناه.

أمّا الأُستاذ العراقي قدس‌سره فحيث إنّه لا يقول بأنّ العلم التفصيلي المتأخّر موجب لانحلال العلم الاجمالي المتقدّم ، فهو في فسحة من هذا الإشكال ، أعني إشكال وجوب الفحص بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال ، لبقاء العلم

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٧٥.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٨٣.

٥١٤

الاجمالي بحاله ، ويكون فائدة الفحص حينئذ هو أنّه بعد الفحص وعدم العثور يكون المورد خارجاً عن أطراف العلم الاجمالي ، كما حرّرناه في درسه.

لكن الذي يظهر منه في مقالته شيء آخر وراء هذا الذي نقلناه من عدم كون العلم الاجمالي منحلاً بالعلم التفصيلي المتأخّر ، فراجع ما أفاده في الجزء الأوّل في مبحث الفحص في باب العموم ص ١٥٤ (١) ، وما أفاده في الجزء الثاني في مبحث الفحص في حجّية الظواهر ص ٢٢ (٢) ، وفي مبحث الفحص في البراءة ص ١٠٧ (٣) ، وكذلك راجع ما نقله عنه مقرّر درسه المطبوع جديداً (٤) ص ٩٣ وص ٤٧٢ ، وقابل بين المقامين ، وقابل بين ما حرّره في هذين المقامين وما رقمه هو قدس‌سره بقلمه في الجزء الأوّل وفي المقامين في الجزء الثاني من مقالته وتدبّر.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّه بعد البناء على بقاء العلم الاجمالي بحاله ، وعدم انحلاله بالعثور على ذلك المقدار ، يتّضح لك سقوط الإشكال الأوّل على العلم الاجمالي الراجع إلى أنّه أخصّ من المدّعى ، حيث إنّ المدّعى هو وجوب الفحص حتّى بعد العثور على المقدار المتيقّن المعلوم بالإجمال.

وأمّا الإشكال الثاني الراجع إلى كونه أعمّ من المدّعى ، فمرجعه إلى أنّه لو تفحّصنا ولم نعثر على ثبوت الحكم في الواقعة المطلوبة ، لكان مقتضى العلم الاجمالي بوجود الأحكام هو عدم الرجوع بعد الفحص إلى البراءة ، مع أنّ المفروض هو الرجوع إليها بعد الفحص. وجوابه هو أنّ ذلك العلم الاجمالي

__________________

(١) مقالات الأُصول ١ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٦١ ـ ٦٢.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٤) نهاية الأفكار ٣ : ٩٣ ، ٤٧٢.

٥١٥

الكبير قد انحلّ إلى ما بأيدينا من الأدلّة المثبتة للأحكام ، فإذا تفحّصنا ولم نجد فيما بأيدينا ما يدلّ على ثبوت الحكم في تلك الواقعة ، استكشفنا من ذلك عدم كون تلك الواقعة من ذلك المعلوم بالاجمال ، فما نحن فيه نظير ما لو علمنا بحرمة مقدار في هذا القطيع ثمّ علمنا بحرمة البيض منها ، وكانت البيض بمقدار ذلك المعلوم بالاجمال ، فإنّه ينحلّ العلم الأوّل إلى الثاني ، وبعد ذلك لو وضعنا يدنا على خصوص شاة من تلك الشياه واحتملنا حرمتها ، فليس علينا إلاّ أن نفحص عنها ، فإن كانت بيضاء لزمنا الاجتناب عنها لثبوت حرمتها ، وإن ظهر أنّها ليست بيضاء لم يلزمنا الاجتناب عنها وأجرينا فيها البراءة ، لظهور أنّها ليست من البيض المعلومة الحرمة.

وإن أردت تطبيق ذلك المثال على ما نحن فيه ، فاجعل الوقائع المحتملة التكليف بمنزلة القطيع ، واجعل المعلوم الاجمالي الأوّل هو وجود أحكام واقعية في الشريعة ، واجعل المعلوم الثاني هو الأحكام التي تضمّنتها الأدلّة التي بأيدينا.

وبذلك يظهر لك أنّ أطراف المعلوم الأوّل هي بعينها أطراف المعلوم الثاني ، فلم يكن أطراف الثاني أقلّ من أطراف الأوّل. نعم كان المعلوم الأوّل غير معلّم بعلامة خاصّة ، بخلاف الثاني فإنّ المعلوم فيه معلّم بعلامة خاصّة ، وهي كونه موجوداً فيما بأيدينا من الأدلّة ، ومن هذه الجهة نقول : إنّ دائرة الأوّل أوسع من الثاني ، بمعنى أنّ الأوّل لا يختصّ بخصوص ما هو موجود فيما بأيدينا ، بخلاف الثاني ، وبهذه المناسبة قلنا إنّ دائرة الأوّل أوسع من دائرة الثاني ، وأمّا في الحقيقة فإنّ الأطراف في الأوّل هي عين الأطراف في الثاني ، وهي الوقائع المحتمل فيها التكليف.

ثمّ لا يخفى أنّ الدليل العقلي على لزوم الفحص وعدم جواز إجراء البراءة

٥١٦

قبله إن كان هو العلم الاجمالي ، لم يكن إشكال في سقوط كلّ من البراءة العقلية والشرعية ، لما حقّق في محلّه من سقوط كلّ منهما في أطراف العلم الاجمالي. وإن كان الدليل هو الأوّل ـ أعني حكم العقل بلزوم الفحص ، من باب الفحص عن المعجزة أو من باب أنّ العقل لا يرى العامل بالبراءة قبل الفحص معذوراً ـ فلا ريب أيضاً في سقوط البراءة العقلية. وأمّا الشرعية ففي سقوطها تأمّل ، إذ ليس المدار فيها على المعذورية العقلية بل المدار فيها على عدم العلم ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما لا يعلمون » (١) منصرف عن الجهل الناشئ عن عدم الفحص مع فرض التمكّن منه ، وهو غير بعيد.

قوله وأمّا في الوجه الثاني ، فلأنّه وإن علم إجمالاً بوجود أحكام في الشريعة أعمّ ممّا بأيدينا من الكتب ، إلاّ أنه يعلم إجمالاً أيضاً بأنّ فيما بأيدينا من الكتب أدلّة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحلّ العلم الاجمالي العام بالعلم الاجمالي الخاصّ (٢).

لا يخفى أنّ كون المعلوم أوّلاً بالاجمال معلّماً بعلامة خاصة ينافي الانحلال إلى ما بأيدينا من الكتب ، لأنّ العلم الاجمالي بوجود تكاليف فيما بأيدينا من الكتب غير معلّم بعلامة خاصّة ، وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان كون المعلوم بالاجمال فيما نحن فيه معلّماً بعلامة خاصّة ، وليس ذلك هو ما يتراءى من قوله : وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، لأنّ المعلوم بالاجمال في المقام هي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٠.

٥١٧

الأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب الخ (١) ، فإنّ العلم بالأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب ليس من قبيل ذي العلامة الخاصّة ، إذ ليس هو إلاّكالعلم بوجود محرّمات في هذا القطيع ، بل هو شيء آخر.

وتوضيحه : هو أنّ لنا وقائع كثيرة هي في حدّ نفسها مجرى للأُصول النافية ، وهذه الأُصول الجارية في تلك الوقائع نعلم إجمالاً أنّ الكثير منها مخالف للواقع ، وأنّها موارد لتكاليف هي موجودة فيما بأيدينا من الكتب ، بحيث إنّا لو تفحّصنا عنه فيها لعثرنا عليه ، ففي الحقيقة أنّ هذا هو العلم الاجمالي الكبير ، غير أنّا قيّدنا المعلوم فيه بما يكون بيانه موجوداً فيما لدينا من الكتب ، على وجه لو تفحّصنا عنه فيها لعثرنا عليه ، وبذلك صار المعلوم الاجمالي معلّماً بهذه العلامة الخاصّة ، وذلك هو الذي أوجب عدم انحلاله إلى الأقل والأكثر ، وبه يندفع الإشكال الأوّل وهو أنّه لو انحلّ ذلك العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بالعثور في تلك الكتب فاللازم هو سقوط الفحص بعد الانحلال المذكور ، فكان الجواب عن الإشكال الأوّل هو منع الانحلال المذكور ، وبقاء العلم الاجمالي المعلّم بالعلامة المذكورة بحاله.

وبه أيضاً يتّضح الجواب عن الإشكال الثاني ، وهو أنّه لو تفحّص ولم يجد كان العلم الاجمالي الباقي بحاله مانعاً عن إجراء البراءة ، فكان الجواب عن هذا الإشكال الثاني هو أنّه لمّا كان المعلوم الاجمالي معلّماً بتلك العلامة الخاصّة ، فبعد الفحص وعدم العثور نستكشف أنّ المورد ليس من ذلك المعلوم الاجمالي ، فلا يبقى مانع من الرجوع إلى البراءة فيه.

وأمّا ما أُفيد من الجواب عنه بالانحلال المذكور فيمكن التأمّل فيه أوّلاً :

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٠.

٥١٨

لماعرفت من أنّ المبنى هو عدم انحلال العلم الاجمالي المعلّم إلى العلم التفصيلي ، فكيف ينحلّ إلى العلم الاجمالي. وثانياً : أنّا لو سلّمنا الانحلال المذكور ـ كما هو مسلّم ـ سقط العلم المعلّم بالعلامة الخاصّة ، وبقينا نحن والعلم الاجمالي الثاني المنحلّ إليه ، وهو المعبّر عنه بالعلم الصغير ، والمعلوم في هذا العلم الصغير لم يكن معلّماً بعلامة.

ثمّ لا يخفى أنّك قد عرفت أنّ كون المعلوم بالعلم الأوّل معلّماً بعلامة خاصّة أعني كون تلك الأُصول النافية لها مخالفات موجودة في الكتب ، عبارة أُخرى عن أنّ جميع ما قد صدر من صاحب الشريعة المطهّرة صلى‌الله‌عليه‌وآله موجود في الكتب التي بأيدينا ، وهو لا يخلو عن مجازفة ، وهذا هو الإشكال الأوّل الذي أفاده في الردّ على دعوى تقييد العلم المذكور بالقيد المزبور ، أعني كونه لو تفحّص لعثر عليه ، فقال : فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة (١).

والظاهر أنّه لا مدفع لهذا الإشكال الذي أفاده الشيخ قدس‌سره ، وليس المراد من الإشكال المزبور هو أنّا نعلم بوجود أحكام غير ما تضمّنته الكتب التي بأيدينا كما ربما توهّمه محرّر درس الأُستاذ العراقي بقوله : كما أنّ توهّم زيادة المعلوم بالاجمال الخ (٢) ، كي يقال في جوابه إنّا لا نعلم بذلك ، بل المراد هو أنّ تلك التكاليف الواقعية التي نعلم إجمالاً أنّها صدرت من صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا طريق لنا إلى العلم بأنّها جميعاً موجودة فيما بأيدينا من الكتب ، على وجه لو تفحّصنا عنها في الكتب لوجدناها ، كي يترتّب عليه أنّا لو تفحّصنا عن حكم في

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٤١٥.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٤٧١.

٥١٩

تلك الكتب ولم نعثر عليه ، لكان عدم عثورنا عليه كاشفاً عن خروجه عمّا هو معلوم بذلك العلم الاجمالي ، بل كان لازمه هو القطع بعدم صدوره من صاحب الشريعة ، فلا حاجة حينئذ إلى البراءة ، لأنّ المفروض أنّ كلّ ما صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو موجود في هذه الكتب.

لا يقال : ليس المدّعى هو أنّ كلّ ما صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله موجود في هذه الكتب ، بل المدّعى إنّما هو أنّا وإن علمنا بصدور أحكام منه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أن تلك الأحكام الصادرة منه مردّدة بين الأقل وهو ألف مثلاً والأكثر وهو ألف وخمسمائة ، فمقدار ما هو متيقّن الصدور وهو ألف حكم نعلم بوجود مقداره فيما بأيدينا من الكتب.

لأنّا نقول : إنّ الحاصل حينئذ هو أنّ القدر المتيقّن ممّا صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ألف ، وقد وجد هذا المقدار من العدد فيما بأيدينا ، ولا نعلم أنّه قد صدر منه أزيد من هذا المقدار ، وهذا المقدار ينطبق على ما هو موجود فيما بأيدينا من الكتب ، فينحلّ العلم الاجمالي إلى ما بأيدينا من الكتب ، لاحتمال انطباق ذلك المعلوم بالاجمال عليه ، وهذان العلمان متقارنان لا تأخّر لأحدهما عن الآخر حتّى تتأتّى شبهة أنّ المتأخّر لا يوجب انحلال المتقدّم ، ولكن ليس الواقع المعلوم معلّماً بعلامة خاصّة ، نظير ما لو علمنا بحرمة مقدار من هذا القطيع وكان ذلك المقدار المحرّم هو البيض ، بل إنّ المقدار المتيقّن الذي تنجّز بذلك العلم كان يحتمل انطباقه على ما هو المعلّم.

ولو سلّمنا أنّ المعلوم منه معلّم بعلامة خاصّة ، فمن الواضح أنّ ذلك المعلّم مضبوط العدد ، وليس هو في حدّ نفسه مردّداً بين الأقل والأكثر ، وحينئذ فبعد العثور على مقدار الألف لا يبقى ما يوجب الفحص فيما زاد.

نعم ، قبل العثور على المقدار المذكور لو تفحّصنا عن حكم واقعة ولم نعثر

٥٢٠