أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

إلاّ بداعي أمره الواقعي ، ومن أوّل دخوله في الصلاة وإن نوى امتثال الأمر بالكل إلاّ أنّه كان قبل طروّ النسيان ، فكان مأموراً بالكل ، والتبدّل إلى التكليف بالبعض إنّما طرأ في الأثناء.

وفيه : تأمّل ، لأنّ المقام ليس من قبيل التبدّل ، بل هو من أوّل الأمر لمّا كان في علمه تعالى أنّه ينسى السورة يكون مكلّفاً بما عداها ، وهو يتخيّل أنّه مكلّف بالمركّب منها.

ثمّ لا يخفى أنّ الخطأ في التطبيق يحتاج إلى هذا الوجه ، فإنّ تنويع المكلّف إلى ذاكر السورة فيكون أمره متعلّقاً بالمركّب منها ، وناسي السورة فيكون أمره متعلّقاً بفاقدها ، لا يكون إلاّعبارة أُخرى عن أنّ وجوب السورة وجزئيتها مقيّدة بالذكر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في كون الجزئية مختصّة بالذاكر إشكالاً آخر ، فإنّه وإن لم يكن عبارة عن ذاكر الجزئية ، بل هو عبارة عن ذاكر الجزء ، إلاّ أن تصوّر ذكر الجزء ونسيانه إنّما هو بعد فرض تحقّق وجوبه وجزئيته ، فيكون ذكر الجزء في محلّه متأخّراً رتبة عن وجوبه وجزئيته ، فلا يعقل أن يكون أصل جزئيته ووجوبه مشروطاً بذكره ، وهو أشبه باشكال أخذ العلم بالحكم في موضوعه ، وهذا الإشكال لا يختصّ بالوجه الثالث ، بل هو جار في الأوّل والثاني ، فإنّ كون الناسي مكلّفاً بالفاقد عبارة أُخرى عن كون الذاكر مكلّفاً بالواجد ، والتعبير عن الناسي بالعنوان الملازم مثل بلغمي المزاج ليس إلاّلأجل إمكان خطابه ، وحينئذ يكون مرجع جميع الوجوه إلى كون الناسي مكلّفاً بالفاقد والذاكر مكلّفاً بالواجد ، ويتأتّى فيه الإشكال في أخذ العلم بالحكم موضوعاً له.

ولا يمكن الجواب عنه بأنّه ليس من هذا القبيل بل هو من قبيل أخذ العلم

٣٤١

بالموضوع موضوعاً للحكم ، ووجه عدم إمكان الجواب بذلك هو الفرق الواضح بين العلم بالموضوع ، فإنّه لا يكون متأخّراً عن وجود الحكم ، بخلاف ذكر مثل التشهّد في محلّه فإنّه عبارة أُخرى عن العلم بوجوب التشهّد في محلّه ، وأنّه متذكّر لذلك الفعل الواجب عليه ، وذلك لا يكون إلاّبعد فرض تعلّق الوجوب بالتشهّد فلاحظ.

ومع قطع النظر عن هذا الإشكال يكون كلّ من الوجوه الثلاثة راجعاً إلى الآخر ، وهي محتاجة إلى طريقة الخطأ في التطبيق ، ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس‌سره من استهجان الخطاب الذي لا يؤثّر في حقّ المكلّف ، فإنّ ذلك لو سلّمناه فإنّما هو فيما لو كانت طريقة أُخرى يمكننا سلوكها ، أمّا إذا لم يكن للشارع الحكيم طريقة في تحصيل المكلّف به من المكلّف إلاّبهذه الطريقة ، كان اللازم عليه سلوكها ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : الجهة الثانية : في قيام الدليل على كون الناسي مكلّفاً ببقية الأجزاء وسقوط التكليف عن خصوص الجزء المنسي ... الخ (١).

لا شبهة في كون جزئية الجزء من الوضعيات ، ولكن هل هي مجعولة شرعاً ويتبعها التكليف بالجزء كما يظهر ذلك من الشيخ المرتضى قدس‌سره (٢) ، أو أنّ المجعول

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢١٦.

(٢) [ لاحظ فرائد الأُصول ٢ : ٣٦٣ ، ولعلّه قدس‌سره استفاد ذلك ممّا ذكره الشيخ قدس‌سره ( في صفحة ٣٦٦ ) بقوله : وإن كان تكليفاً غيرياً فهو كاشف ـ إلى قوله : ـ إلاّ أن الجزئيّة لا تنتفي بذلك. فلاحظه ولاحظ سائر كلماته قدس‌سره في المسألة الأُولى من التنبيه الأوّل من تنبيهات الأقلّ والأكثر ، فإنّ الشيخ قدس‌سره قد صرّح ( في صفحة ٣٦٧ ) بأنّ جزئيّة السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعاً. ولاحظ أيضاً ما ذكره قدس‌سره في الأحكام الوضعيّة في باب الاستصحاب من فرائد الأُصول ٣ : ١٢٥ وما بعدها ].

٣٤٢

إنّما هو الأمر المتعلّق بذلك الجزء في ضمن تعلّقه بالكل ، فلا تكون الجزئية مجعولة شرعية ، بل لا تكون إلاّ أنتزاعية محضة كما هو مختار شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ، وبناءً عليه يكون المجعول حقيقة هو الأمر المتعلّق بالجزء ، سواء كان الدليل عليها هو الأمر المتعلّق بالكل مثل قوله صلّ ، أو الأمر المتعلّق بخصوص الجزء مثل قوله اركع واسجد ونحو ذلك ، أو كان الدليل عليها هو مثل قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبفاتحة الكتاب » (١) ، فإنّه حينئذ يكون من قبيل التعبير بلازم ذلك الأمر المتعلّق بالاتيان بالفاتحة في ضمن الصلاة على نحو الارتباطية.

ثمّ بعد البناء على ما أفاده قدس‌سره من أنّ المجعول إنّما هو الأمر الضمني المتعلّق بالجزء في ضمن تعلّقه بالكل ، وأنّ الجزئية لا تكون إلاّمنتزعة من ذلك الأمر المتعلّق بالكل الذي يكون متضمّناً لتعلّق الأمر بالجزء ، لابدّ أن تكون الجزئية تابعة لذلك الأمر ، فحيث يتوجّه الأمر الضمني المتعلّق بمثل التشهّد في ضمن تعلّق الأمر بالصلاة ، تنتزع الجزئية للتشهّد ، ويكون التشهّد جزءاً من الصلاة ، وحيث لا يكون الأمر المذكور متوجّهاً لبعض الطوارئ الموجبة لسقوطه وعدم توجّهه ، لا يكون التشهّد المذكور جزءاً من الصلاة ، وتكون الجزئية ساقطة بسقوطه.

ثمّ بعد ذلك نقول : لو طرأ على المكلّف نسيان التشهّد ، فهل يكون النسيان من قبيل التعذّر ، نظراً إلى أنّ الناسي للتشهّد الغافل عنه يكون غير قادر على الاتيان به ، أو أنّه من قبيل عدم العلم ، فيكون ملحقاً بعدم العلم في أنّه لا أثر له إلاّ مجرّد المعذورية مع بقاء التكليف الواقعي بحاله ، فإنّهم ألحقوا نسيان الحكم بالجهل به ، فينبغي أن يلحقوا ناسي الموضوع بالجاهل بالموضوع في عدم كونه

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥.

٣٤٣

موجباً لسقوط التكليف الواقعي. والظاهر الثاني ، لأنّ من نسي الصلاة بتمامها لا يكون نسيانه لها موجباً لسقوط الأمر بها واقعاً ، بل يكون الأمر بها محفوظاً في واقعه ، وإن كان المكلّف معذوراً في تركها ، بمعنى أنّه لا يستحقّ العقاب على ذلك الترك الناشئ عن النسيان ، فينبغي أن يكون نسيان جزء من أجزائها أيضاً كذلك ، يعني أنّ الأمر بذلك الجزء المنسي يكون باقياً بحاله ، وإن كان تركه غير موجب للعقاب.

وعلى كلّ حال ، فنحن إن قلنا بمقالة الأُستاذ قدس‌سره من كون المجعول هو الأمر الضمني ، وأنّ الجزئية انتزاعية ، فإمّا أن نقول بأنّ نسيان الجزء لا يوجب سقوط الأمر الضمني المتعلّق به ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يوجب المعذورية في ترك ذلك الجزء ، بمعنى عدم استحقاق العقاب على ذلك الترك الناشئ من النسيان ، وإمّا أن نقول بأنّه موجب لسقوط الأمر المذكور كالتعذّر.

فإن قلنا بالأوّل ، فإن كان ذلك الأمر الضمني مطلقاً شاملاً للذاكر والناسي كان مقتضاه الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وإن كان ذلك الأمر مقيّداً بحال الذكر كان مقتضاه عدم الاعادة فضلاً عن القضاء ، من دون فرق في ذلك بين كون النسيان مستوعباً للوقت أو غير مستوعب ، إذ لم يكن سقوط جزئية ذلك الجزء المنسي من جهة التعذّر كي يفصّل في ذلك بين الصورتين ، بل هو من جهة عدم الجزئية في حال النسيان واختصاصها بحال الذكر ، فيكون حال الناسي والذاكر من هذه الجهة حال المسافر والحاضر. وهكذا الحال فيما لو كان دليل الجزئية ـ أعني ذلك الأمر الضمني ـ مجملاً ، فإنّا بعد الرجوع في الجزئية حال النسيان إلى البراءة ، يلزمنا الحكم الظاهري بعدم الجزئية في حال النسيان ، ومقتضاه الحكم ظاهراً بسقوط الأمر المتعلّق بالصلاة. هذا حال البراءة.

٣٤٤

وأمّا حديث « لا تعاد » (١) ، فهو يكشف عن أنّ ما يعتبر في الصلاة كلّه مختصّ بالذاكر ، إلاّ الخمسة المستثنيات فإنّها تعمّ الناسي والذاكر ، هذا كلّه إذا قلنا بأنّ النسيان غير موجب لسقوط الأمر الضمني.

وأمّا لو قلنا بأنّه كالتعذّر كما يظهر من مطاوي كلمات شيخنا قدس‌سره ... (٢) موجب لسقوط ذلك الأمر الضمني الذي هو عين سقوط الجزئية ، وذلك عبارة أُخرى عن ... (٣) متعلّق بالمركّب من ذلك الجزء المنسي ، وحينئذ فالذي ينبغي أن يقال : إنّ النسيان إن كان مستوعباً للوقت ، فمقتضى القاعدة الأوّلية هو أنّه لا قضاء على الناسي ، إمّا لأجل أنّه لم يكن مكلّفاً في الوقت بشيء أصلاً ، وإمّا لأجل أنّ تكليفه قد تبدّل إلى ما عدا المنسي ، ويكون ذلك نظير ما لو تعذّر بعض الأجزاء في تمام الوقت. وحينئذ يكون الوجه في لزوم القضاء على من كان في تمام الوقت ناسياً لأحد الخمسة ، كما هو ظاهر حديث « لا تعاد » بالنسبة إلى جزئه الايجابي ، وشموله في ذلك لما كان النسيان لأحد الخمسة مستوعباً لتمام الوقت ، بمعنى أنّه لم يتذكّر بعد الفراغ إلى أن خرج الوقت ، هو كون عدم القضاء تابعاً للأداء (٤) ، بل إنّه يكون بمقتضى الأمر الأوّلي الأصلي ، بحيث إنّ من كان معذوراً في تمام الوقت يلزمه التأخير والاتيان بالمركّب خارج الوقت ، أو نقول : إنّ القضاء في هذه الخمسة على خلاف القاعدة ، ثبت بالدليل وهو إطلاق لا تعاد إلاّ من هذه الخمسة وشموله للقضاء وإن كان التعبير بلفظ الاعادة.

وعلى أي حال ، الظاهر أنّ هذا الحكم فيما نحن فيه ـ أعني أنّ نسيان أحد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ١.

(٢ و ٣) [ في الأصل سقط في هذين الموردين ].

(٤) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ].

٣٤٥

هذه الخمسة في تمام الوقت يوجب القضاء ـ إجماعي ، فلا مانع من الالتزام به ولو كان على خلاف القاعدة. أمّا ما فرضه في التحرير (١) من التذكّر في أوّل الوقت والنسيان في باقيه ، فلم أتصوّر له مثالاً فيما نحن فيه ، فإنّ المدار في النسيان على أنّه حين العمل ناس لبعض الأجزاء ، وكونه متذكّراً له قبل العمل لا أثر له.

وإن لم يكن النسيان مستوعباً لتمام الوقت ، بل إنّه بعد الفراغ من العمل تذكّر أنّه قد نسي الجزء الفلاني في أثناء العمل ، كان تكليفه الواقعي بذلك المركّب من المنسي منحصراً بما بعد التذكّر من أفراده كما في سائر موارد التعذّر ، فيلزمه الاتيان به واجداً لذلك الجزء الذي كان قد نسيه ، وهو عبارة عن الاعادة فيما نحن فيه ـ أعني النسيان ـ كما هو مفاد حديث « لا تعاد » بالنسبة إلى جزئه الايجابي ، أعني الخمسة المستثنيات فيما لو كان النسيان لأحدها غير مستوعب للوقت ، وحينئذ يكون ما تضمّنه الحديث من الحكم بلزوم الاعادة في هذه الخمسة على القاعدة. والذي ينبغي أن يكون الحكم كذلك فيما عداها ، أعني لزوم الاعادة في نسيانه غير المستوعب ، لكن لو قام الدليل على أنّ الناسي له مكلّف في حال نسيانه بما عدا الجزء المنسي من ذلك ، كان الحكم حينئذ هو عدم الاعادة كما تضمّنه حديث « لا تعاد » بالنسبة إلى الجزء السلبي ، أعني بالنسبة إلى ما عدا الخمسة ، فإنّ ذلك الحديث كاشف عن أنّ تكليف الناسي فيما عدا الخمسة غير تكليف الذاكر ، وأنّ المشرّع في حقّ الناسي هو وجوب ما عدا المنسي ، سواء كان النسيان مستوعباً للوقت أو لم يكن مستوعباً له ، غايته أنّه بالنسبة إلى غير المستوعب يكون الحكم بعدم الاعادة على خلاف القاعدة ، لأجل الحديث المذكور الكاشف عن أنّ تكليف الناسي غير تكليف الذاكر.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٢١.

٣٤٦

وعلى أيّ حال ، لا يكون حينئذ محلّ لحديث الرفع ، لا بالنسبة إلى الأمر الضمني المتعلّق بالجزء المنسي ، للعلم بعدم وجوبه على الناسي كما هو الفرض ، ولا بالنسبة إلى الباقي لأنّه خلاف الامتنان ، حيث إنّه لا أثر لرفع وجوب الباقي في حال النسيان إلاّلزوم الاعادة بعد ارتفاع النسيان في أثناء الوقت.

نعم قد يقال : إنّه في حال النسيان يدور أمره بين التكليف بالحاضر الفاقد وبين التكليف بالواجد الآتي ، فتجري البراءة في الزائد الآتي ، لكن سيأتي أنّ البراءة لا تجري في حال النسيان وبعد ارتفاع ... يكون ... مورداً ... اشتغال ... (١) الحال بناءً على الوجه الأوّل ، أعني كون النسيان من مقولة الجهل ، أو أنّه يكون من قبيل العلم الاجمالي بين تكليف سقط أو تكليف لم يسقط.

لا يقال : إنّ النسيان الموجب لتعذّر الجزء المنسي لا يوجب إلاّسقوط ذلك الجزء ، دون غيره من باقي الأجزاء ، وحينئذ يكون الباقي باقياً على وجوبه ، ولمّا قد أتى به الناسي ولو بتخيّل أنّه واجد لما نسيه ، كان ذلك كافياً في الامتثال وموجباً لسقوط أمره المتوجّه إليه واقعاً ، فلا إعادة عليه ، ويكون ما تضمّنه حديث « لا تعاد » من عدم الاعادة في نسيان ما عدا الخمسة وارداً على القاعدة. نعم حكمه بوجوب الاعادة على من نسي أحد الخمسة يكون على خلاف القاعدة.

لأنّا نقول : إنّ سقوط الأمر الضمني المتعلّق بالجزء المنسي عبارة عن سقوط الأمر بالمركّب ، فإنّ تعذّر الجزء المنسي يكون تعذّراً للمجموع المركّب ، ويكون الساقط هو الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب ، ويحتاج وجوب الباقي إلى

__________________

(١) [ في الأصل سِقط في هذه المواضع ].

٣٤٧

دليل آخر كما حقّق في محلّه في مبحث تعذّر بعض الأجزاء (١) ، وحينئذ يكون الحكم بعدم الاعادة في نسيان ما عدا الخمسة على خلاف القاعدة ، بخلاف نسيان أحد الخمسة فإنّ الاعادة فيه على طبق القاعدة.

فقد تلخّص : أنّه بناءً على أنّ النسيان موجب لتعذّر الجزء المنسي ، وأنّ الجزئية منتزعة من الأمر النفسي الضمني المتعلّق بذلك الجزء ، يتعيّن القول بعدمها في حقّ الناسي ، بل يتعيّن الحكم أوّلاً بسقوط الأمر بالمجموع المركّب منه في حقّه.

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه لا يختصّ بالقول بكون المجعول هو الحكم التكليفي وأنّ الجزئية منتزعة ، بل هو جارٍ على القول بكون المجعول ابتداءً هو الجزئية وأنّ التكليف تابع ، وإن كان جريانه على القول الأوّل أوضح ، ولكن شيخنا قدس‌سره أفاد كما في هذا التحرير : لا موجب لتوهّم اختصاص الأوامر الغيرية بالمتمكّن من الجزء أو الذاكر له بل تعمّ العاجز والناسي ، وتثبت الجزئية في حقّهما إذا كان لدليل الجزء إطلاق يشمل حال العجز الخ (٢).

وفي التحرير المطبوع في صيدا : إنّ الأمر وإن كان ظاهراً في إفادة الطلب المولوي ، إلاّ أن هناك صارفاً عنه في خصوص الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط ، فإنّ الظاهر منها كونها للارشاد ، وبيان دخل متعلّقاتها في الواجب جزءاً أو شرطاً الخ (٣).

ولا يخفى أنّ هذه الجمل لا تلائم مسلكه قدس‌سره بل قد عرفت أنّ الظاهر أنّ

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤١٤ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٥٣٠.

٣٤٨

ذلك لا يلائم القول بجعل الجزئية وأنّ التكليف تابع لها متفرّع عنها ، لا أنّه لا تكليف مولوي أصلاً. وعلى أي حال ، الظاهر أنّ هذه الجملة غير ملائمة لمسلكه قدس‌سره من أنّ المجعول هو الأمر الضمني وأنّ الجزئية منتزعة عنه ، فإنّه بناءً عليه تكون تلك الأوامر نفسية مولوية ، غايته أنّها ضمنية لا استقلالية ، ومن الواضح سقوط الأمر المولوي ولو كان ضمنياً بالتعذّر ، فبعد الالتزام بانتزاعية الجزئية ، وبكون الأمر المتعلّق بالجزء ضمنياً مولوياً ، وكون النسيان كالتعذّر ، لا محيص عن الالتزام بسقوط الجزئية عند التعذّر والنسيان ، بل قد عرفت أنّ سقوط ذلك الأمر الضمني عبارة عن سقوط الأمر بالمجموع المركّب ، وهذا هو الذي أشار إليه في التحريرات المذكورة من الجواب ثانياً بقوله : مع أنّا لو سلّمنا دلالة الأوامر الغيرية في خصوص باب العبادات على الطلب ، فلا يترتّب عليها ما توهّم من اختصاص التقييد المستفاد منها بحال القدرة ، وذلك فإنّ الطلب المتعلّق بالجزء أو الشرط حيث إنّه متّحد مع الطلب المتعلّق بأصل الواجب ، وليس طلباً آخر مغايراً معه ، وإلاّ استحال كون متعلّقه قيداً للواجب كما هو ظاهر ، فاشتراطه بالقدرة على متعلّقه بعينه هو اشتراط الأمر بالمركّب بها ، ونتيجة ذلك هو سقوط أصل الواجب مع عدم القدرة عليه ، لا سقوط التقييد وبقاء الأمر متعلّقاً بغيره الخ (١).

لا يقال : إنّ الطلب المتعلّق بالجزء إنّما يكون متّحداً مع الطلب المتعلّق بالكل إذا كان ذلك الطلب المتعلّق بالجزء متوجّهاً إلى المكلّف ، والمفروض أنّ التعذّر يمنع من توجّهه ، فلا يكون ذلك الجزء المتعذّر جزءاً ، لأنّ جزئيته فرع توجّه الطلب الضمني المتعلّق به ، وإذا سقط الطلب الضمني المتعلّق به سقطت

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٣٠ ـ ٥٣١.

٣٤٩

جزئيته ، وإذا سقطت جزئيته سقط تقيّد الكلّ به ، وإذا سقط تقيّد الكلّ به لم يكن تعذّره موجباً لتعذّر الكلّ كي يكون موجباً لسقوط الأمر بالكلّ.

والحاصل : أنّ سقوط الأمر بالكل فرع تعذّره ، وتعذّره فرع تقيّده بذلك الجزء ، وتقيّده بذلك الجزء فرع عن كونه جزءاً فيه ، وكونه جزءاً فيه فرع عن صحّة تعلّق الأمر الضمني به ، والمفروض أنّ نسيان ذلك الجزء وتعذّره موجب لسقوط ذلك الأمر الضمني ، الموجب لسقوط الجزئية ، الموجب لسقوط تقيّد الكل ، ومع سقوط تقيّد الكل لا يكون الكل متعذّراً ، فهذه الجملة لا تتمّ أيضاً إلاّ على القول بجعل الجزئية ليكون تعذّر الجزء غير موجب لسقوطها ، وإن أوجب سقوط الأمر المتعلّق بذلك الجزء ، وإذا كانت الجزئية باقية كان اللازم هو سقوط الكل.

لأنّا نقول : إنّ الجزئية وإن كانت منتزعة من الأمر المتعلّق بالكلّ المشتمل على ذلك الجزء ، أو أنّها منتزعة من نفس الأمر الضمني المتعلّق بذلك الجزء ، إلاّ أنّ ذلك المركّب لمّا كان ارتباطياً ، كان مرجعه إلى وجوب تقيّد الكل بذلك الجزء ، فذلك الأمر الضمني الذي هو وجوب تقييد الكل بذلك الجزء ، إن دلّ الدليل الشرعي على تقيّده بالقدرة على متعلّقه الذي هو الجزء ، كان محصّله أنّ إيجاب تقييد ذلك الكل بذلك الجزء مشروط بالقدرة على ذلك ، ولازم ذلك انحصار وجوب التقييد المزبور بما إذا كان قادراً على ذلك الجزء ، ومقتضاه أنّه عند عدم القدرة على ذلك الجزء لا يكون تقييد ذلك الكلّ به واجباً ، بل الأمر بذلك الكل يبقى على إطلاقه من اقتضائه الاتيان بمتعلّقه من دون ذلك القيد ، ومرجع ذلك إلى تنويع المكلّف إلى القادر على ذلك فيلزمه تقييد الكل به ، وغير القادر فلا يلزمه تقييده ، بل يلزمه الاتيان به عارياً عن ذلك القيد ، هذا كلّه إن قام

٣٥٠

الدليل على أخذ القدرة على الجزء قيداً شرعياً في وجوب تقييد المأمور به بذلك الجزء.

وإن لم يكن لنا مثل ذلك الدليل ، وبقينا نحن والأمر المتعلّق بالكل المشتمل على ذلك الجزء ، فإن اتّفق لنا العجز عن بعض أجزائه ، لم يكن ذلك إلاّ من مجرّد عدم القدرة على ذلك المركّب ، لأنّ عدم القدرة على الجزء عين عدم القدرة على الكل ، وحيث إنّ العقل حاكم بقبح تكليف العاجز ، فلا محيص حينئذ من القول بسقوط ذلك الأمر المتعلّق بالكل ، وهذا هو المراد من إطلاق الجزئية المنتزعة عن الأمر الضمني المتعلّق بالجزء في ضمن تعلّقه بالكل ، فإنّ ذلك عبارة عن إطلاق ذلك الأمر الضمني ، الذي هو عبارة عن إطلاق الأمر بالكل وعدم تقييده شرعاً بالقدرة وإن كان مقيّداً عقلاً بها ، فإنّ التقييد العقلي الذي مرجعه إلى حكم العقل بسقوط التكليف عن العاجز ، لا ينافي الاطلاق الشرعي ، بمعنى عدم أخذ القدرة قيداً شرعياً في الوجوب ، وبذلك يصحّ لنا القول بأنّ الأمر الضمني الذي هو منشأ انتزاع الجزئية مطلق ، يعني أنّه غير مقيّد شرعاً بالقدرة ، في قبال النحو الأوّل الذي عرفت أنّ لازمه التنويع ، وأنّ المكلّف إن كان قادراً على الجزء وجب عليه تقييد الكل به ، وإن لم يكن قادراً على ذلك الجزء لم يجب عليه تقييده به ، بل لا يلزمه إلاّ الاتيان به مجرّداً عن القيد المزبور ، وهذا بخلاف النحو الثاني ، فإنّ مجرّد حكم العقل بسقوط الخطاب لا يلزمه التنويع المذكور.

لا يقال : إنّ حكم العقل بسقوط الخطاب عند عدم القدرة يكون مقصوراً على المقدار غير المقدور ، وليس غير المقدور إلاّ الجزء ، فلا يكون العقل حاكماً إلاّ بسقوط الخطاب المتعلّق به الذي هو منشأ انتزاع جزئيته ، دون الخطاب المتعلّق بأصل الواجب الذي هو ما عداه من الأجزاء.

٣٥١

لأنّا نقول : هنا يأتي ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من أنّ القدرة العقلية الموجبة لسقوط الخطاب لم تكن معتبرة في كلّ واحد من الأجزاء كلّ على حدة ، إذ ليست هي مأخوذة فيه في لسان الدليل ، وإنّما هي ناشئة عن حكم العقل بقبح خطاب العاجز ، وحيث إنّ العجز عن الجزء عين العجز عن الكل ، كان العجز عن الجزء موجباً لسقوط الخطاب بالكل.

والأولى أن يقال : إنّ الاتيان بالباقي إنّما يلزم لو كان لدليل أصل الوجوب إطلاق يشمل حال العجز عن بعض الأجزاء ، وبعد تقييد ذلك الاطلاق بما دلّ على وجوب الجزء ضمنياً ، يسقط ذلك الاطلاق. نعم لو كان الدالّ على تقييد ذلك الاطلاق مقيّداً شرعاً بخصوص حالة القدرة على الجزء ، لكان إطلاق الأمر بالباقي بعد تعذّر ذلك الجزء باقياً بحاله ، وتكون النتيجة حينئذ هي التنويع السالف الذكر.

أمّا إذا لم يكن في البين إلاّ التقييد المطلق ، يعني غير المقيّد شرعاً بحالة القدرة على القيد ، كان ذلك الاطلاق الأصلي ساقطاً بالمرّة ، وكان الواجب هو المجموع المركّب ، فإذا تعذّر ولو لتعذّر بعض أجزائه ، كان العقل حاكماً بسقوط الخطاب به من رأسه ، لا أنّه يحكم بسقوط خصوص الخطاب الضمني مع بقاء الخطاب بالباقي بحاله ، فتأمّل. وسيأتي إن شاء الله تعالى في قاعدة الميسور تفصيل البحث عن مقتضى إطلاق أصل الأمر وإطلاق دليل الجزئية أو الشرطية (١).

والغرض هنا مجرّد بيان أنّه ليس المراد من إطلاق الجزئية هو إطلاق منشأ انتزاعها الذي هو الأمر الضمني المتعلّق بالجزء إطلاقاً خطابياً ، على وجه يكون

__________________

(١) راجع الحاشية الآتية في الصفحة ٤٥٥ ، وكذا الحاشية المفصّلة في الصفحة : ٤١١ وما بعدها.

٣٥٢

العاجز عن الركن الذي [ هو ] الركوع أو الطهور مثلاً مخاطباً بذلك الأمر الضمني بحيث يتوجّه إلى ذلك العاجز الخطاب بقوله تطهّر للصلاة أو صلّ مع الطهارة ، فإنّ ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به.

بل المراد من الاطلاق المذكور هو مجرّد عدم تقيّد الأمر بالطهارة للصلاة ، أو الأمر بالصلاة مع الطهارة بخصوص حالة التمكّن منها تقييداً شرعياً ، لتكون القدرة على الطهارة مأخوذة في وجوبها المذكور على نحو سائر الواجبات المشروطة شرعاً بشرط خاصّ ، ليكون ذلك الوجوب الضمني المقيّد بتلك القدرة من قبيل ما هو المشروط بالقدرة الشرعية ، ويكون تعذّر القيد المزبور موجباً لسقوط ذلك التكليف الضمني المتعلّق به خطاباً وملاكاً ، بل هو ما عرفت من مجرّد عدم أخذ القدرة المذكورة فيه شرطاً شرعياً ، وإن كانت مأخوذة عقلاً من باب قبح خطاب العاجز ، فيكون الساقط هو الخطاب فقط دون الملاك ، ونظراً إلى بقاء ملاك ذلك الأمر الضمني لك أن تقول باطلاقه لحال عدم القدرة على متعلّقه ، بمعنى إطلاق ذلك التكليف الضمني ملاكاً ، لشمول ملاكه لصورة العجز عن متعلّقه ، بحيث يكون ملاك تقيّد الصلاة بالطهور باقياً بحاله في حال العجز عنه وإن سقط بذلك التعذّر الخطاب به ، ويكون معنى إطلاق ذلك التكليف الضمني هو إطلاقه ملاكاً لا خطاباً ، ولأجل ذلك لا يكون الأمر بالباقي متحقّقاً في حال التعذّر المذكور.

بل يمكن أن يقال باطلاق نفس الجزئية والقيدية وإن لم يكن لمنشأ انتزاعها الذي هو التكليف الضمني إطلاق خطابي ، وذلك لأنّ الجزئية ليست من الانتزاعيات التي لا تحقّق لها في وعائها نظير الفوقية ، بل هي من الأحكام الشرعية الوضعية ، غايته أنّها ليست مجعولة بنفسها ابتداءً ، بل يكون جعلها بجعل منشأ

٣٥٣

انتزاعها الذي هو الأمر الضمني ، فلا مانع من بقائها بنفسها بعد سقوط إطلاقه خطاباً بواسطة عدم القدرة على متعلّقه ، وفيه تأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ لازم الاطلاق المذكور هو لزوم الاعادة والقضاء ، وعدم الاكتفاء بما أتى به المكلّف من فاقد الجزء المذكور ، سواء قلنا بأنّ المراد من الاطلاق هو إطلاق الأمر الضمني ، بمعنى أنّه لم تؤخذ القدرة فيه شرطاً شرعياً ، أو كان المراد به هو إطلاقه ملاكاً لا خطاباً ، أو كان المراد بذلك هو إطلاق نفس الجزئية وإن سقط الاطلاق الخطابي عن منشأ انتزاعها ، كما أنّ لازم النحو الآخر وهو تقييد ذلك الأمر الضمني تقييداً شرعياً بالقدرة على متعلّقه ، هو عدم تحقّق ذلك الأمر الضمني عند تعذّر متعلّقه ، وسقوطه بذلك خطاباً وملاكاً ، ومقتضاه إجزاء ما يأتي به المكلّف من فاقد الجزء في حال تعذّره ، أمّا إذا كان التعذّر مستوعباً للوقت فواضح ، وكذا لو كان في أوّله قادراً لكنّه لم يفعله ثمّ تعذّر إلى آخر الوقت وقد فعله فاقداً للجزء حين التعذّر المذكور.

نعم ، لو كان في أوّل الوقت غير قادر وقد فعله في ذلك الحال فاقداً للجزء ، ثمّ بعد ذلك صار قادراً وارتفع التعذّر ، ففي هذه الصورة يكون المتّبع هو الدليل الدالّ على أخذ القدرة المذكورة شرطاً في ذلك التكليف الضمني المتعلّق بذلك الجزء ، فإن دلّ ذلك الدليل على أنّ الشرط هو مطلق القدرة ولو في آخر الوقت ، لم يكن ذلك الذي أتى به مجزياً. وإن دلّ على أنّ الشرط هو القدرة عند الاتيان بالكل ، كان ذلك الفاقد الذي أتى به في حال تعذّر الجزء مجزياً وإن ارتفع التعذّر بعد الاتيان بذلك الفاقد ، بأن صار في آخر الوقت قادراً على الاتيان بذلك الجزء.

ولو تردّدنا بين الوجهين بعد إحراز كون القدرة شرطاً شرعياً في الجملة ، فالظاهر أنّ المرجع فيه هو المرجع فيما لو تردّدنا بين إطلاق ذلك الأمر الضمني وعدم

٣٥٤

تقييده بالقدرة على متعلّقه ، أو كونه مقيّداً بالقدرة على متعلّقه عند الاتيان بنفس الكل ، وهذه المسألة هي المعنونة بقوله : ومع عدم الاطلاق يرجع إلى الأُصول العملية الخ (١).

والحاصل : أنّا إذا لم نحرز إطلاق التكليف الضمني المتعلّق بالجزء في ضمن تعلّقه بالكل وشموله لمورد تعذّر ذلك الجزء ، بأيّ معنى فسّرنا الاطلاق المذكور من المعاني الثلاثة المتقدّمة ، كما أنّا لم نحرز كون ذلك التكليف مقيّداً بالقدرة على ذلك الجزء في حال الاتيان بنفس المأمور به المركّب ، كان المرجع في ذلك الشكّ هو الأُصول العملية.

فنقول بعونه تعالى : إنّ إعمال الأصل تارةً يكون في حال التعذّر ، وأُخرى يكون في حال ارتفاع العذر. أمّا بالنسبة إلى الأوّل فلا أثر له لو كان العذر هو النسيان ، لأنّ المكلّف لا يلتفت إلى كونه ناسياً كي يلتفت إلى كونه في هذا الحال متعذّراً عليه الاتيان بالجزء ، بل هو يقدم على الاتيان بالمركّب معتقداً أنّه أتى به بتمامه. ولو كان العذر هو التعذّر الوجداني ، فبالنسبة إلى لزوم الاتيان بالباقي في هذا الحال يكون داخلاً في بحث قاعدة الميسور ، وبالنسبة إلى جواز المسارعة بالاتيان به في أوّل الوقت يكون داخلاً في مسألة جواز البدار لذوي الأعذار.

وعلى أيّ حال ، لا مورد في ذلك لأصالة البراءة من الجزئية في ذلك الحال ، لأنّ أثرها المترتّب على إجرائها في ذلك الحال إن كان هو إسقاط الأمر بالجزء ، فهو ساقط بنفسه بواسطة التعذّر ، وإن كان هو إسقاط الجزئية ليترتّب على ذلك لزوم الاتيان بالباقي كان ذلك خلاف الامتنان ، هذا كلّه بالنسبة إلى حال التعذّر.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٢٠.

٣٥٥

وأمّا بالنسبة إلى حال ما بعد التعذّر بعد فرض الاتيان بالفاقد في حال التعذّر ففرضه فيما لو كان العذر هو النسيان واضح ، أمّا لو كان هو العذر الوجداني ـ أعني عدم القدرة على الجزء ـ ففيه غموض ، فإنّه مع شكّه في كون الجزئية مطلقة الذي مقتضاه هو عدم الاقدام على الاتيان بالباقي ، أو كونها مقيّدة الذي مقتضاه هو لزوم الاتيان به ، كيف يقدم على الاتيان به ، ولو فرضنا قيام الدليل على أنّه مأمور في ذلك الحال بالاتيان بالفاقد ـ حتّى قاعدة الميسور ـ كان ذلك الدليل كاشفاً عن تقييد الجزئية بالقدرة على ذلك الجزء ، لكن لنفرض أنّه قد أتى به في حال العذر إمّا لكونه من قبيل النسيان ، أو لأنّه أقدم [ على ] ذلك من باب الاحتياط ، أو أنّه إقدام مجرّد وقد تأتّت منه نيّة القربة.

فنقول : إنّ ذلك إمّا أن يكون بعد خروج الوقت بأن كان العذر مستوعباً للوقت ، وإمّا أن يكون قبل خروجه. وبعبارة أُخرى الكلام تارةً من حيث القضاء ، وأُخرى من حيث الاعادة.

أمّا الكلام من حيث القضاء ، فإن قلنا بأنّه بأمر جديد ، فلا محصّل للرجوع إلى البراءة في جزئية ذلك الجزء في حال تعذّره ، بل يكون المرجع هو أصالة البراءة من القضاء ، وإن قلنا إنّه بالأمر السابق ، كان الكلام فيه عين الكلام في الاعادة.

وملخّص الكلام في الاعادة : هو أنّه بعد ارتفاع العذر يكون المكلّف مردّداً بين كونه قد أتى بما كلّف به ، وهو الفاقد إن كانت الجزئية مختصّة بحال القدرة على وجه يكون العذر مسقطاً لها ، أو أنّه قبل هذا لم يكلّف بشيء ، والآن قد توجّه إليه التكليف بالتامّ إن كانت الجزئية مطلقة ، وبناءً على ذلك لا حاجة إلى البراءة عن الجزئية في حال العذر ، بل يجري في حقّه أصالة البراءة من توجّه

٣٥٦

التكليف إليه بالتامّ بعد ارتفاع العذر.

نعم ، على تقدير إطلاق الجزئية لو اكتفينا بالملاك الثابت في حال العذر في وجوب التامّ عليه بعد ارتفاع العذر ، أو قلنا في خصوص النسيان بأنّه ملحق بالجهل في عدم كونه مسقطاً للتكليف الواقعي ، نحتاج إلى أصالة البراءة عن الجزئية في حال العذر.

لكن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره أفاد أنّه لا يمكن الرجوع إلى البراءة ، لأنّ الجزئية لو كانت مطلقة يكون تكليفه منحصراً في التامّ المفروض كونه متمكّناً منه ولو في آخر الوقت ، لأنّ تعذّر الفرد في أوّل الوقت يوجب صرف التكليف وانحصار المكلّف به في باقي الأفراد التامّة المتمكّن منها في آخر الوقت ، فعند دوران الأمر في الجزئية بين الاطلاق والتقييد ، تكون المسألة من قبيل الشكّ في إسقاط التكليف بذلك الفاقد الذي قد أتى به في حال العذر.

وحاصله : أنّه لو كانت الجزئية مقيّدة يكون المكلّف به هو القدر الجامع بين الفاقد في حال العذر والواجد بعد ارتفاع العذر ، وعلى تقدير كونها مطلقة يكون المكلّف به منحصراً في الواجد بعد ارتفاع العذر ، فهو يعلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته بالمكلّف به ، ولكنّه يشكّ في أنّه هل كان تكليفه على النحو الأوّل ، فيكون ذلك الفاقد التي أتى به مسقطاً لما قد اشتغلت به ذمّته ، أو أنّه كان على النحو الثاني فلا يكون ذلك الفاقد مسقطاً له ، ويكون القدر المتيقّن ممّا هو مبرئ لذمّته منحصراً بالتامّ المتمكّن منه بعد ارتفاع العذر.

وفيه تأمّل ، لأنّ هذه المسألة لا تزيد على مسألة الأقل والأكثر ، غايته أنّ في أصل مسألة الأقل والأكثر على تقدير كون المكلّف به هو الأقل ، يكون كلّ من الواجد والفاقد فردين للمكلّف به عرضيين ، وفي هذه المسألة يكونان فردين

٣٥٧

طوليين ، فكما أنّه في تلك المسألة نقول إنّ أصالة البراءة عن اعتبار ذلك الجزء الزائد تثبت التخيير بين الفاقد له والواجد ، ويكون بمقتضى أصالة البراءة كلّ منهما مبرئاً لذمّته ، فكذلك نقول هنا : إنّ أصالة البراءة من الجزئية في حال العذر تثبت التخيير بين الفاقد لذلك الجزء في حال التعذّر والواجد له بعد ارتفاع العذر ، ويكون الاتيان بكلّ منهما في محلّه مبرئاً للذمّة.

لكنّه قدس‌سره قد نظر إلى أنّ الجزئية هنا قد ثبتت في الجملة ، وصار المكلّف مكلّفاً بالواجد في الجملة ، لكن نشكّ في كيفية ثبوتها ، وأنّها هل ثبتت على نحو يكون الفاقد في حال العذر مسقطاً لذلك التكليف ، أو أنّها ثبتت على نحو يكون ذلك الفاقد في ذلك الحال غير مسقط له ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه لو كان في أوّل الوقت قادراً بمقدار أداء الصلاة ، ثمّ طرأ العذر وأتى بالفاقد ، ثمّ ارتفع العذر وقد بقي من الوقت مقدار أداء الصلاة التامّة ، يكون جريان الاستصحاب فيه مبنياً على ما ذكرناه من الملاك ، أو دعوى إلحاق النسيان بالجهل ، وإلاّ فبناءً على الوجه الأوّل وهو دعوى كون النسيان بمنزلة التعذّر ، وعدم الاكتفاء بالملاك ، بحيث يكون العاجز عن الجزء غير مكلّف به حال تعذّره ولو كانت الجزئية مطلقة ، يشكل إجراء الاستصحاب المذكور ، لعدم اتّصال زمان الشكّ وهو الزمان المتأخّر بزمان اليقين وهو الزمان الأوّل ، لانفصاله عنه بالزمان المتوسّط الذي هو زمان العذر ، فتأمّل.

قوله : فلا محيص من رفع اليد عمّا يقتضيه الظاهر الأوّلي بتأويل المصدر بمعنى المفعول ، وجعل النسيان بمعنى المنسي ، فيكون المرفوع نفس الفعل الصادر عن المكلّف نسياناً بأن يفرض ... الخ (١).

لا يخفى أنّه بعد أن امتنع حمل النسيان المشتمل عليه حديث الرفع على ما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٣٥٨

هو ظاهره من المعنى المصدري للنسيان ، يمكن أن يحمل على أحد وجهين : الأوّل هو حمله على إرادة المنسي ، والآخر حمله على إرادة الصادر نسياناً. وظاهر صدر العبارة هو الأوّل ، ولكن ذيلها وهو قوله : فيكون ، لا يتفرّع عليه ، بل إنّما يصحّ تفريعه على إرادة المعنى الثاني.

ثمّ إنّ تقريب الاستدلال على سقوط الجزئية في حال النسيان بحديث رفع النسيان إن كان مبنياً على الوجه الأوّل ، ليكون المراد أنّ المرفوع هو الجزء المنسي ورفعه برفع جزئيته ، لم يتوجّه عليه إلاّ أن الجزء المتروك نسياناً لا يعقل تسلّط الرفع عليه ليكون رفعه برفع آثاره ، بل لابدّ في جريان الرفع من كون المرفوع أمراً محقّقاً في نفسه ، ليكون رفعه مع فرض كونه محقّقاً في نفسه كناية عن رفع آثاره.

أمّا ما أُفيد من الايراد ثانياً وثالثاً فعلى الظاهر أنّه غير متوجّه على هذا التقدير ، لأنّا إذا صحّحنا رفع الجزء المنسي وجعلنا رفعه كناية عن رفع أثره الذي هو الوجوب الضمني المعبّر عنه بالجزئية ، كان محصّله أنّ جزئية السورة مثلاً مرفوعة في حال نسيانها ، فيكون ذلك عبارة أُخرى عن أنّ جزئيتها التي هي عبارة عن وجوبها الضمني مختصّة بحال الذكر ، فيكون حاله حال ما دلّ على تقييد الجزئية بحال الذكر ، بل هو هو بعينه ، ولا فرق في سقوط الجزئية بذلك بين النسيان المستوعب وغير المستوعب ، والارتباطية لا تنافي الحكم بسقوط جزئية بعض الأجزاء لبعض الطوارئ والعوارض.

وإن كان الاستدلال المزبور مبنياً على الوجه الثاني الذي هو عبارة عن كون المراد بالنسيان هو الصادر من المكلّف نسياناً ، سواء كان هو الفعل أو الترك ، فقد تقدّم في مباحث حديث الرفع أنّه يمكن تصحيح نسبة الرفع إلى الترك الصادر نسياناً ، برفع أثره الذي هو الحرمة فيما نحن فيه ، المفروض كونها ملازمة

٣٥٩

لوجوب الجزء أو أنّها عينه ، فينتهي الأمر بالأخرة إلى رفع جزئية الجزء المنسي ، فلا يتوجّه عليه إلاّما أُفيد ثانياً من عدم تأتّيه في النسيان غير المستوعب.

نعم ، أفاد شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في ذلك المبحث أنّ حديث الرفع لا يجري في نفس الترك إذا كان ممّا يترتّب عليه الأثر ، فراجع ذلك المبحث وتأمّل فيه وفيما علّقناه عليه (١).

وتوضيح هذا المبحث : هو أنّ الشيخ قدس‌سره أورد على نفسه بطريق « إن قلت » ما محصّله : أنّه يمكن الاستناد في الحكم بالاجزاء إلى حديث رفع النسيان ، بدعوى أنّ جزئية السورة المنسية مرتفعة حال النسيان. وأجاب عنه : بأنّ جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعاً ، بل هي ككلّية الكل ، وإنّما المجعول الشرعي وجوب الكل ، والوجوب مرتفع حال النسيان بحكم الرواية ، ووجوب الاعادة بعد التذكّر مترتّب على الأمر الأوّل ، لا على ترك السورة (٢).

وشيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٣) أجاب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة مرتّبة ، والمرتبة الثالثة من تلك الأجوبة هي هذا الذي أجاب به الشيخ قدس‌سره ، وملخّص ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس‌سره من المراتب هو أوّلاً : أنّه بعد تعذّر حمل النسيان في الحديث الشريف على معناه المصدري ، لو أردنا تطبيقه فيما نحن فيه على نفس المنسي الذي هو السورة مثلاً ، ليكون المحصّل هو رفع السورة المنسية ورفعها برفع حكمها ، لم يكن ذلك ممكناً ، لعدم إمكان تسليط الرفع على الشيء المعدوم ، لأنّه إنّما يصحّ

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٤٨ وما بعدها.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٢٢٥ ـ ٢٢٧.

٣٦٠