أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

أُمَّهاتُكُمْ )(١) كانت هذه الجملة الشريفة وحدها دليلاً على حرمة الجدّة للأُمّ والخالة والأُخت ، كما يستفاد حرمة ثمرة الشجرة المغصوبة من حرمة نفس الشجرة وغصبها.

لا يقال : إنّكم لو أخرجتموه من باب الاتّساع والسراية لكان ملحقاً بباب ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة بالنجاسة ، لأنّ الشكّ في تحقّق الأُختية مثلاً مسبّب عن الشكّ في الأُمومة.

لأنّا نقول : إنّه وإن كان مسبّباً عنه تكويناً ، إلاّ أنه ليس بشرعي يوجب الحكومة ، بل إنّ كلاً من الشكّ في الأُختية والأُمومة يكون مجرى للأصل في حدّ نفسه ، سواء كان الأصل هو عدم النسب بينهما بالأُخوّة والأُمومة ، أو كان هو أصالة الحل ، من دون حكومة للأصل في أحد الطرفين على الأصل في الآخر ، حتّى فيما لو كانت الأُمومة رضاعية ، فإنّا لو قلنا بجريان أصالة عدم الرضاع بينه وبين الأُمّ ، لم يكن ذلك الأصل مزيلاً للشكّ في ناحية بنتها من حيث الأُخوّة ، بل لابدّ مع ذلك من الرجوع فيها [ إلى الأصل ] الجاري فيها بنفسها مثل أصالة عدم تحقّق الأُخوّة الرضاعية بينه وبينها ، أو أصالة الحل فيما لو كانت البنتية بالولادة لا بالرضاع ، ونحو ذلك.

على تأمّل في خصوص هذا الأخير ، أعني ما لو كانت الأُمومة للشخص بالرضاع ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الأُخوّة بينه وبين بنت المرضعة من الآثار الشرعية لرضاعه منها ، لقوله عليه‌السلام : « الرضاع لحمة كلحمة النسب » (٢) فإنّ الشارع

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٣.

(٢) [ لم يرد عنهم عليهم‌السلام حديث بهذا النصّ ، نعم روي : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » راجع وسائل الشيعة ٢٠ : ٣٧١ / أبواب ما يحرم بالرضاع ب ١ ].

٢١

جعل ذلك الرضاع من الأُمّ موضوعاً للأُخوّة بينه وبين بنتها.

ولكن يمكن أن يقال أيضاً : إنّ الشارع لم يجعل الأُخوّة ولا البنوّة ، فإنّ الرضاع محقّق وجداناً للأُمومة الرضاعية والأُخوّة الرضاعية ، والتصرّف إنّما هو في جعل تلك الأُمومة الرضاعية وهاتيك الأُخوّة الرضاعية بمنزلة الأُمومة النسبية والأُخوّة النسبية. والأظهر والأوجه هو الوجه الثاني.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المطلب لو تمّ وقلنا بتنجّز التكليف الآخر عند حصول شرطه ، فالظاهر أنّه يحتاج إلى التقييد المزبور ، أعني بقاء الطرفين بحالهما ، فلو كان حصول الشرط المذكور بعد تلف الطرف الآخر أو بعد سقوط التكليف الأوّل في ذي التكليفين بإراقة ما فيه أو بموت الأُمّ كما في المسألة المزبورة ، لم يكن ذلك العلم مؤثّراً.

وحينئذ فتكون مسألة سجود السهو خارجة عن هذا الضابط ، فإنّ السهو إن وقع فيما بعد الأُولى من الصلوات كان العلم الاجمالي حينئذ غير مؤثّر لكونه واقعاً بعد خروج أحد الأطراف عن الابتلاء وهي الصلاة الأُولى ، وإن كان السهو في الأُولى كان العلم أيضاً غير مؤثّر ، لكونه واقعاً بعد سقوط التكليف الأوّل من ذي التكليفين ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ موجب سجود السهو لمّا كان واقعاً في أثناء الأُولى كان التكليفان بحالهما ، وهما وجوب الاتمام ووجوب سجود السهو. ولو كان السهو في الأخيرة أمكن القول بجريان قاعدة الفراغ في الفريضة الواقعية من تلك الصلوات ، وفيه تأمّل.

لكن الاحتياج إلى التقييد المزبور محل تأمّل ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن أن يكون منشأ إشكال السيّد قدس‌سره في العروة (١) هو النظر

__________________

(١) تقدّم هو وتعليقة الميرزا النائيني رحمه‌الله عليه في الصفحة : ١٢.

٢٢

إلى هذا المطلب أو إلى الإشكال في كونه من صغرياته ، ويكون منشأ القوّة التي أفادها شيخنا قدس‌سره راجعاً إلى المنع من هذا المطلب من أصله ، أو المنع من كون غسل مسّ الميّت بالنسبة إلى أحكام الميّت ولزوم تجهيزه من صغريات هذا المطلب ، بدعوى أنّ الأصل الجاري في التجهيز يكون حاكماً على الأصل الجاري في غسل المسّ منه ، وفيه تأمّل ، فإنّ أصالة البراءة من وجوب تجهيز تلك القطعة المفروضة ليست برافعة للشكّ في وجوب غسل المسّ على من مسّها ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ العلم الاجمالي المقرّر في مسألة ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة بالنجاسة له تقريبان :

الأوّل : هو العلم الاجمالي المردّد بين ذي التكليفين وهما وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، وذي التكليف الواحد وهو وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر.

وقد أُجيب عنه بأنّ الأصل في التكليف الأوّل من ذي التكليفين لمّا كان حاكماً على الأصل في التكليف الثاني ، لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في التكليف الثاني ، لأنّه بعد سقوط الأصل في التكليف الأوّل الذي هو في الملاقى ـ بالفتح ـ لمعارضته بالأصل في الطرف الآخر ، تنتهي النوبة إلى الأصل في التكليف الثاني الذي هو في الملاقي ـ بالكسر ـ ، فيجري فيه الأصل النافي الذي هو أصل الطهارة ، لكونه حينئذ بلا معارض.

وهذا العلم الاجمالي بهذا التقريب يجري فيما ذكرتموه من الأمثلة ، فيكون منجّزاً للتكليف الثاني الجديد. ولا يمكن الجواب عنه بطريق الحكومة المذكورة ، لأنّه مختصّ بباب الملاقي ، لكون الأصل فيه الجاري في ناحية التكليف الأوّل حاكماً على الأصل الجاري في ناحية التكليف الثاني ، لكون

٢٣

أحدهما مسبّباً عن الآخر ، بخلاف الأمثلة المذكورة فإنّ باب الحكومة فيها منسدّ ، لما عرفت من كون كلّ من التكليفين فيها في عرض التكليف الآخر.

التقريب الثاني للعلم الاجمالي في باب الملاقي : هو كون الملاقي وحده في قبال الطرف الآخر.

وهذا قد أُجيب عنه هناك بأنّه لا أثر لهذا العلم الاجمالي بين نجاسة الملاقي وطرف أصله ، لأنّ طرف أصله قد تنجّز فيه التكليف من العلم الاجمالي الأوّل المردّد بين الأصل الذي هو الملاقى ـ بالفتح ـ وذلك الطرف ، فيكون ذلك من قبيل ما لو علم إجمالاً بوقوع نجاسة مردّدة بين الاناء الصغير والاناء الكبير ، ثمّ وقعت نجاسة أُخرى مردّدة بين الكبير وطرف ثالث ، فقد حقّق في محلّه (١) أنّه لا أثر للعلم الاجمالي الثاني ، فكذلك مسألة العلم الاجمالي المردّد بين الملاقي وطرف أصله لا أثر له بعد أن كان التكليف منجّزاً في طرف أصله بالعلم الاجمالي السابق المردّد بين الأصل وذلك الطرف. وسقوط هذا العلم الاجمالي بهذا التقريب جارٍ بعينه هنا ، فإنّ العلم الاجمالي المردّد بين التكليف الثاني من ذي التكليفين والتكليف الآخر الذي هو الطرف ، لا يكون منجّزاً ، لأنّه أعني ذلك التكليف الآخر الذي هو في طرف ذي التكليف الواحد ، كان منجّزاً بالعلم الاجمالي السابق المردّد بين التكليف الأوّل من ذي التكليفين وذلك التكليف الآخر الذي هو التكليف في ذي التكليف الواحد.

والحاصل : أنّ عمدة الإشكال إنّما هو في أنّ العلم الاجمالي السابق على حصول الشرط ، الذي كان مردّداً بين التكليف الأوّل من التكليفين والتكليف في الطرف المقابل ، كان متقدّماً زماناً على العلم الاجمالي الحاصل بعد حصول

__________________

(١) راجع ما تقدّم في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٧٠ ـ ٣٧١.

٢٤

الشرط ، المردّد بين مجموع التكليفين في هذا الطرف والتكليف الآخر في الطرف الآخر ، وحيث إنّ العلم الاجمالي السابق قد نجّز التكليف في الطرف الآخر ، فلا يكون العلم الثاني المتأخّر عنه زماناً المردّد بين مجموع التكليفين والطرف الآخر مؤثّراً ، لكون طرفه الذي هو التكليف في الطرف الآخر كان منجّزاً بالعلم الاجمالي السابق.

لأنّا نقول : إنّ هذا العلم الثاني لم يكن علماً جديداً كي يقال إنّ أحد طرفيه كان منجّزاً قبله ، بل إنّه عين العلم السابق ، ومعلومه عين المعلوم السابق ، غايته أنّه كان في مرتبة حدوثه متعلّقاً بالقدر الجامع بين التكليف في هذا الطرف والتكليف الآخر في الطرف الآخر ، وصار في مرتبة بقائه متعلّقاً بالقدر الجامع بين مجموع التكليفين في هذا الطرف والتكليف الآخر في الطرف الآخر ، وهذا المقدار من التفاوت لا يوجب أن يكون لنا هناك علمان يكون أحدهما سابقاً وموجباً لانحلال الآخر اللاحق وعدم تأثيره.

ولكن فيه تأمّل ، لإمكان أن يقال : إنّ جهة البقاء للعلم المذكور أيضاً نقول إنّها لا أثر لها ، لأنّ أحد الطرفين فيها كان منجّزاً بجهة الحدوث. ولو تمّت هذه الجهة من التأمّل لأوجبت عدم تنجيز التكليف الثاني الذي قد حصل شرطه بعد حصول العلم الاجمالي. أمّا لو كان حصول الشرط المذكور سابقاً على العلم الاجمالي ، بأن يكون قد مسّ القطعة المعيّنة من إحدى القطعتين مثلاً ، ثمّ بعد المسّ حصل له العلم الاجمالي بكون إحداهما من ميّت الإنسان ، فإنّه يلزمه غسل المس ، وبهذا المقدار يحصل الفرق بينه وبين ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة في النجاسة ، فإنّه لا يلزمه الاجتناب عن الملاقي حتّى لو كانت الملاقاة سابقة على العلم الاجمالي بالنجاسة بين الطرفين.

٢٥

فرع : لو كان لنا إناءان في كلّ منهما مائع يعلم أنّ أحد المائعين بول ، فيكون نفس الاناءين مورد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما بملاقاة البول ، فلو اتّفق أنّ شيئاً لاقى أحد المائعين ، يكون ذلك الشيء في عرض الاناءين ، ويحصل حينئذ العلم الاجمالي المردّد بين نجاسة ذلك الشيء مع نفس الاناء وبين نفس الاناء الآخر ، فينبغي التأمّل في هذا الفرع ، فإنّ مقتضاه وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد المائعين المعلوم بولية أحدهما.

إلاّ أن يقال : إنّ المنجّز هو تنجّس أحد الاناءين بالملاقاة ، وأمّا الشيء الآخر فلا يكون وجوب الاجتناب عنه إلاّتكليفاً جديداً يُنفى بقاعدة الطهارة ، خصوصاً فيما لو كانت الملاقاة متأخّرة عن العلم الاجمالي بين المظروفين ، أمّا لو كانت الملاقاة سابقة ففيه إشكال يأتي إن شاء الله تفصيل الكلام فيه (١).

والأولى أن يقال : إنّ مسألة ملاقي أحد طرفي العلم الاجمالي بغير هذه الصورة ، وذلك مثل أن يكون الطرفان جامدين وكان الملاقي لأحدهما رطباً مثلاً ، أو كان أحد الطرفين الذي هو الملاقى ـ بالفتح ـ جامداً والآخر مائعاً ، فيكون آنية المائع واليد الملاقية للجامد ملاقيين للطرفين ، فيحصل العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما.

قوله : غايته أنّ الأوّل يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، والثاني يوجب انحلاله ، لأنّ المدار على سبق المعلوم لا على سبق العلم ... الخ (٢).

يمكن أن يقال : إنّ الثاني وهو ما لو كانت الملاقاة سابقة على العلم

__________________

(١) في الحاشية الآتية.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٨٢.

٢٦

الاجمالي بنجاسة أحد الطرفين ، يكون أيضاً من باب عدم تأثير العلم الاجمالي لا من باب الانحلال ، وذلك فإنّ الانحلال إنّما يكون في مثل ما لو علم إجمالاً بوقوع نجاسة في أحد الاناءين الصغير والكبير ، ثمّ علم تفصيلاً أنّ الصغير كان متنجّساً بنجاسة سابقة على تلك النجاسة ، أو علم إجمالاً أنّه كان طرفاً لآخر في العلم الاجمالي بنجاسة سابقة ، فإنّ العلم الثاني يوجب انحلال الأوّل ، لأنّه يكون العلم المنحل سابقاً في الزمان على العلم الذي حلّه ، بخلاف ما لو كان العلم المنحل مقارناً للعلم الذي حلّه ، بأن يكون حصول العلم بنجاسة أحد الاناءين مقارناً للعلم بأنّ الصغير كان متنجّساً بنجاسة سابقة ، فإنّ ذلك لا يعدّ على الظاهر من قسم الانحلال ، بل يكون العلم بأنّ الصغير متنجّس بنجاسة سابقة موجباً لعدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما.

وما نحن [ فيه ] من هذا القبيل ، فإنّ الملاقاة لمّا حصلت أوّلاً ثمّ حصل العلم الاجمالي بالنجاسة ، يكون ذلك العلم الاجمالي عبارة عن علمين ، أحدهما مردّد بين الطرفين والآخر مردّد بين الملاقي وطرف أصله ، وهذان العلمان حصلا دفعة واحدة ، وحيث كان المعلوم بالأوّل منهما سابقاً في الزمان على المعلوم بالثاني ، كان الأوّل موجباً لعدم تأثير الثاني ، لا أنّه يوجب انحلاله بعد استقراره ، ولكن الأمر في ذلك سهل.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه يمكن منع تأثير العلم الثاني حتّى لو قطعنا النظر عن كون المعلوم به متأخّراً زماناً عن المعلوم بالأوّل ، فإنّه يكفي في عدم تأثيره تأخّره رتبة عن العلم الأوّل ، لكون المعلوم به متأخّراً رتبة ، بحيث إنّا لو قلنا بامكان كون الملاقاة مقارنة زماناً لوقوع النجاسة في أحد الطرفين ، لكان لنا أن نقول إنّه لا أثر للعلم الاجمالي المردّد بين الملاقي وطرف أصله ، لكونه متأخّراً رتبة عن العلم

٢٧

الاجمالي المردّد بين الأصل وطرفه ، وهذا التأخّر الرتبي كافٍ في عدم تأثير المتأخّر بحسب الرتبة ، وإن كان العلمان والمعلومان متقارنين زماناً.

لا يقال : إنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ وإن كانت متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى ، إلاّ أن العلم بنفس النجاسة لا أثر له ما لم يترتّب عليها حكم تكليفي كوجوب الاجتناب ، ومن الواضح أنّ وجوب الاجتناب في الملاقي ـ بالكسر ـ ليس بمتأخّر رتبة عن وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ إذ لا علّية بينها ولا معلولية ، وإنّما هي بين نجاستيهما.

لأنّا نقول : قد عرفت من الجواب عن الشبهة السابقة (١) أنّ نجاسة الثاني من الأحكام الوضعية اللاحقة لنجاسة الأوّل ، فتكون متأخّرة عنها تأخّر الحكم عن موضوعه أو المسبّب عن سببه ، وحينئذ تكون هي في عرض وجوب الاجتناب عن الأوّل ، لأنّ كلاً من نجاسة الثاني ووجوب الاجتناب عن الأوّل من آثار نجاسة الأوّل ، وحينئذ يكون وجوب الاجتناب عن الثاني متأخّراً في الرتبة عن وجوب الاجتناب عن الأوّل ، لأنّ ما هو متأخّر عمّا هو في عرض الشيء متأخّر عن نفس الشيء.

والحاصل : أنّ نجاسة الأوّل متقدّمة على نجاسة الثاني ، ونجاسة الثاني متقدّمة على وجوب الاجتناب عنه ، فيكون هو ـ أعني وجوب الاجتناب عن الثاني ـ واقعاً في الدرجة الثالثة من نجاسة الأوّل ، ويكون وجوب الاجتناب عن الأوّل واقعاً في الدرجة الثانية من نجاسة الأوّل ، فيكون متقدّماً عليه رتبة وإن لم يكن بين نفس الوجوبين علّية ولا معلولية ، فيكون العلم الاجمالي المنجّز

__________________

(١) [ هكذا فيما يتراءى من الأصل ، لكنّ الظاهر أنّ المقصود هو الشبهة الآتية التي يتعرّض لها في الحاشية القادمة في الصفحة : ٣٦ وما بعدها ].

٢٨

لوجوب الاجتناب عن الأوّل سابقاً في الرتبة على العلم الاجمالي الذي نريد أن نجعله منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الثاني ، وحينئذ يكون تنجّز وجوب الاجتناب في طرف الأوّل سابقاً في الرتبة على مقتضى العلم الثاني بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف الملاقى ـ بالفتح ـ فلا يكون العلم الثاني مؤثّراً ، لكون الوجوب في أحد طرفيه الذي هو طرف الأوّل متنجّزاً بالعلم الأوّل بين الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه.

وهذه المسألة أعني تأخّر ما هو متأخّر عمّا هو في رتبة الشيء عن نفس ذلك الشيء من المشكلات ، وقد تعرّضنا لها في أوائل مسألة الضدّ في الحاشية على ص ٢١٦ من التحريرات المطبوعة في صيدا (١) ، وفي أوائل حجّية القطع من هذا التحرير في مسألة أخذ العلم بالحكم موضوعاً ، فراجعه في حاشية ص ٦ من هذا التحرير (٢).

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الصورة ، أعني ما لو كانت الملاقاة والعلم بها سابقاً على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه ، هي عبارة عن الصورة الثالثة من الصور التي ذكرها في الكفاية (٣) ، وهي التي يكون المتلاقيان فيها طرفاً للعلم الاجمالي بالنجاسة في قبال الطرف الآخر الذي لم تدخله الملاقاة ، فالأولى إسقاطها فيما نحن فيه الآن ، وجعل ما نحن فيه الآن منحصراً بما لو كانت الملاقاة والعلم بها متأخّراً عن العلم الاجمالي بنجاسة أحد الطرفين ، ثمّ بعد الفراغ عن عدم تأثير العلم الاجمالي بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف الملاقى ـ بالفتح ـ لتأخّره

__________________

(١) وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٢٨.

(٢) وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٠.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٦٣.

٢٩

زماناً وتأخّر المعلوم فيه زماناً ورتبة ، نتعرّض للفرق الذي أفاده في الكفاية بين الصورة الأُولى والصورتين الأخيرتين.

قوله : وأمّا الثاني منهما وهو العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو كانت الملاقاة سابقة على العلم بنجاسة أحد الطرفين ، يتّجه الإشكال على ضمّ الملاقي إلى الملاقى في جعلهما معاً طرفاً للاناء الآخر من جهات ثلاث :

الأُولى : من الجهة المذكورة في الأصل ، وهي جهة حكومة الأصل في الملاقى على الأصل في الملاقي ، فلا يمكن أن يقف في عرضه لمقابلة الأصل في الطرف الآخر.

الجهة الثانية : هي أنّ ضمّه إليه من قبيل ضمّ الحجر في جنب الإنسان ، لأنّ نجاسته على تقديرها تكون متأخّرة زماناً عن نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، فتكون تلك ـ أعني نجاسة الملاقى ـ سابقة في التنجّز ، نظير ما تقدّم في جعل كلّ من المتلاقيين طرفاً على حدة للطرف الآخر. ومن هذه الجهة تعرف :

الجهة الثالثة : وهي جهة التأخّر الرتبي ، لكن سيأتي الإشكال في التأخّر الرتبي.

وحاصل الجهات الثلاث : أنّ المقابلة إنّما هي بين الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه ، والملاقي أجنبي لا يصحّ مقابلته بطرف أصله ، سواء أُريد جعله طرفاً مستقلاً أو هو بضميمة أصله.

ولو كانت الملاقاة بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحد الطرفين انضاف إلى

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٨٢.

٣٠

هذه الجهات جهة رابعة ، وهي جهة التقدّم الزماني للعلم أيضاً ، والمنشأ في تلك الجهات الثلاث هو تأخّر نجاسة الملاقي عن نجاسة أصله رتبة وزماناً.

قوله : ولا وجه لما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الطرفين ، وإن كانت نجاسة الملاقي للنجس من الآثار المترتّبة شرعاً على نفس النجس ، وذلك لأنّه بعد الاعتراف بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس من الأحكام المترتّبة على نفس النجس ، لا يبقى مجال للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الطرفين ... الخ (١).

الظاهر أنّ المشار إليه بذلك هو ما أفاده في الكفاية بقوله قدس‌سره : الرابع : أنّه إنّما يجب عقلاً رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف ممّا يتوقّف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم باتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها ، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً الخ (٢).

ولا يخلو نسبة ذلك إليه قدس‌سره بمجرّد هذه العبارة عن تأمّل ، لأنّ الظاهر أنّ مراده بذلك هو أنّ الملاقي للنجس وإن كان محكوماً بمثل حكم الملاقى ـ بالفتح ـ الذي هو النجاسة ، إلاّ أنه فرد آخر من النجس ، لا أنّه محكوم بعين حكم الملاقى ، بحيث يكون وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ عين وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ ليكون تنجّزه عين تنجّزه.

وأمّا قول صاحب الكفاية قدس‌سره في الفوائد : سواء كان دليل نجاسته هو دليل نجاسة الملاقى أو دليلاً آخر ـ إلى قوله : ـ وتبعية نجاسة الملاقي في الاستفادة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٦٢.

٣١

لنجاسة الملاقى لا تقتضي تبعيتها لها في الموافقة الخ (١) ونحوه عبارته في الحاشية (٢) فليس بناظر إلى ذلك ، بل هو ردّ على من قال إنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ لمّا كان مستفاداً من دليل وجوب الاجتناب عن النجس الذي هو الملاقى ـ بالفتح ـ كان تنجّزه موجباً لتنجّزه ، فردّ عليه بما حاصله أنّ التبعية في دلالة الدليل لا توجب ذلك ، كما أنّ التبعية في الخارج لا توجبه.

ثمّ لا يخفى أنّ النسخ من الكفاية (٣) إنّما هي بهذه الصورة ، وهي أنّه : وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكم واقعاً ، بتنكير قوله : بحكم ، وبناء عليه يكون مفادها أجنبياً بالمرّة عمّا أُشير في هذا التحرير ، فراجع وتأمّل.

ولا يخفى أنّ نظير هذه النسبة المذكورة في هذا التحرير هو ما في تحرير السيّد سلّمه الله ، فإنّه بعد أن أفاد أنّه بناء على كون التنجيس بالسراية يكون وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ متنجّزاً بتنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ أفاد بقوله : فما عن المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في تعليقته من أنّ تأخّر زمان الملاقاة عن العلم الاجمالي يوجب الشكّ في حدوث تكليف آخر مختصّ بأحد الطرفين ، فيتمسّك فيه بالبراءة ، مدفوع بأنّ تأخّر الوجود لا يمنع عن التنجّز بالعلم السابق إذا كان من آثار المعلوم إجمالاً ، كما عرفت توضيحه في

__________________

(١) الفوائد ( مطبوعة في ذيل حاشية كتاب فرائد الأُصول ) : ٣٢١.

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٣) كما في طبعة بغداد والنسخة المحشّاة بحاشية المحقّق القوچاني قدس‌سره ونسخة حقائق الأُصول والنسخة القديمة المحشّاة بحاشية المحقّق المشكيني قدس‌سره ، لكن في نسخة المحقّق المشكيني قدس‌سره المطبوعة حديثاً وسائر النسخ المحقّقة حديثاً ورد : « بحكمه ».

٣٢

المقدّمة (١).

فاعلم أنّه قال الشيخ قدس‌سره : ولو كان العلم الاجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففُقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولا يخفى وجهه (٢).

وقال المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في الحاشية على قول الشيخ « فالظاهر الخ » : وجهه سلامة أصالة الطهارة فيه وعدم معارضتها بأصالة الطهارة في صاحب الملاقى ، لبقائها على ما كانت عليه من السقوط بمعارضتها بما في الملاقى المفقود ، وإلاّ لجاز ارتكاب أحد المشتبهين بمجرّد فقد الآخر (٣).

ولا يخفى أنّ هذا الكلام منهما ليس بمبني على السراية ، بل إنّ جلّ كلامهما قدس‌سرهما في الملاقي ـ بالكسر ـ على خلاف السراية ، بل على أنّ الملاقي موضوع جديد من النجس ، وعلى تقدير كونه كذلك لا ينبغي الإشكال في كون الملاقي ـ بالكسر ـ محكوماً بالطهارة إذا كانت الملاقاة بعد العلم الاجمالي ، فراجع وتأمّل.

قوله : والتقييد بانحصار سبب نجاسة الملاقي بالملاقاة ، وإن لم يصرّح به في متن الكفاية ، إلاّ أنه صرّح بذلك في حاشية الكفاية ، ووجه الحاجة إلى القيد واضح (٤).

نصّ عبارة متن الكفاية في بيان الصورة الثانية هذا : وأُخرى يجب

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٢٤٤.

(٣) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ١٤٧.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٨٥.

٣٣

الاجتناب عمّا لاقاه دونه ، فيما لو علم إجمالاً نجاسته أو نجاسة شيء آخر ، ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذلك الشيء أيضاً ، فإنّ حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة الخ (١).

ولا يبعد ظهورها في القيد المزبور ، بمعنى أنّ مفادها هو أن يعلم أوّلاً بنجاسة الثوب أو إناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك يعلم بأنّ ثوبه كان قد لاقى إناء زيد ، والعلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، فظاهره أنّ العلم المردّد بين الاناءين مولّد من العلم بالملاقاة.

وأمّا ما أشار إليه ممّا في الحاشية ، فإنّ الموجود في طبعة بغداد (٢) وفي الطبعة التي عليها حاشية المرحوم القوچاني (٣) هو هذا اللفظ : وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه إلاّمن قبل ملاقاته.

وهذه العبارة ظاهرة في الاطلاق والتعميم لا في التخصيص والتقييد ، ولعلّ المحرّر المرحوم يرى أنّ لفظة « إن » زائدة بين الواو و « لم » ، ولكنّه بعيد ، بل المتعيّن وجودها ، وبيان مضمونها هو أنّ سير صاحب الكفاية قدس‌سره في هذه المسائل ونحوها ممّا يتخيّل فيه اجتماع العلمين الاجماليين مع تلاقيهما في طرف واحد ، مثل أن يعلم بنجاسة مردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ويعلم أيضاً بنجاسة مردّدة بين إناء خالد وإناء عمرو ، فكان إناء عمرو ملتقى خطّي العلم الاجمالي ، وكان طرفاً في كلّ من العلمين ، وحينئذ يكون المدار على السبق الزماني ، فلو كان السابق في الزمان هو العلم بين إناء زيد وإناء عمرو تنجّزا ، ولم يكن العلم الثاني

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٣.

(٢) كفاية الأُصول ٢ : ٦١ و ١٣٠.

(٣) كفاية الأُصول ( مع تعليقة المحقّق القوچاني قدس‌سره ) ٢ : ٦٦.

٣٤

المردّد بين إناء خالد وإناء عمرو مؤثّراً ، لأنّ أحد طرفيه وهو إناء عمرو مسبوق بالتنجّز ، ولو كان الأمر بالعكس كان الحكم هو العكس ، ولو حصل العلمان دفعة واحدة أثّرا معاً ، ووجب الاجتناب عن الجميع.

ولا يخفى أنّ جلّ همّ صاحب الكفاية في مسألة الملاقي والملاقى هو جعلهما من صغريات هذه الكبرى ، وأنّ المدار على سبق أحد العلمين على الآخر زماناً ، لا على تقدّم المعلوم زماناً على المعلوم الآخر ، بل ولا على تقدّم أحد العلمين رتبة على الآخر ، ولا على تقدّم أحد المعلومين رتبة على الآخر من جهة أنّ نجاسة الثوب مثلاً مولّدة ومسبّبة عن نجاسة إناء زيد الملاقى.

وغرضه أنّ نجاسة الثوب وإن كانت متولّدة من نجاسة إناء زيد ، وأنّ السبب في نجاسة الثوب هو نجاسة الملاقى الذي هو إناء زيد ، إلاّ أنه لو فرضنا أنّه لم يكن كذلك ، بل كان حاله حال إناء خالد ـ فيما ذكرناه من المثال ـ في كون المدار على التقدّم الزماني مع فرض كون نجاسته لم تكن بسبب نجاسة إناء زيد أو نجاسة إناء عمرو ، وحينئذ لابدّ من النظر إلى المتقدّم زماناً ، فإن كان هو العلم المردّد بين الاناءين ، كان هو المؤثّر ، وسقط العلم المتأخّر المردّد بين نجاسة الثوب وإناء عمرو. وإن كان الأمر بالعكس ، بأن كان العلم المتقدّم هو العلم المردّد بين الثوب وإناء عمرو ، كان هو المؤثّر وسقط العلم المتأخّر المردّد بين الاناءين ، وهذا لا يتوقّف على كون نجاسة الثوب مسبّبة عن نجاسة إناء زيد كما هو المفروض ، بل لو فرضنا أنّها لم تكن مسبّبة عنها ، لم يكن المؤثّر أيضاً إلاّما هو المقدّم من أحد العلمين ، ولا خصوصية لكون المعلوم في أحدهما مسبّباً عن المعلوم في الآخر.

٣٥

قوله : والذي قيل فيه أو يمكن أن يقال أحد وجهين ... الخ (١).

هنا شبهة تقتضي كون نجاسة الفرع الذي هو الملاقي ـ بالكسر ـ من أحكام الأصل الذي هو نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ بتقريب حاصله هو حكومة الأصل في الأصل على الأصل في الفرع ، فلو جرت قاعدة الطهارة في الأصل كانت حاكمة على قاعدة الطهارة في الفرع ، ولو كان الأصل مورداً لاستصحاب النجاسة كان استصحاب النجاسة في الأصل حاكماً أيضاً على قاعدة الطهارة في الفرع ، وكان مقتضى الاستصحاب المذكور هو الحكم بنجاسة الفرع الذي هو الملاقي ـ بالكسر ـ ، ولا منشأ لهذه الحكومة إلاّكون نجاسة الفرع من الآثار الشرعية اللاحقة لنجاسة الأصل ، وحيث كان الحكم في الفرع من الآثار الشرعية ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون الحكم في الفرع من الآثار الشرعية اللاحقة لأصله ، فيكون الحكم في الفرع متنجّزاً بتنجّز أحكام الأصل ، ولأجل ذلك لو كانت الشبهة في نجاسة الأصل شبهة حكمية بدوية ، وكانت متنجّزة لكونها قبل الفحص ، لم تكن قاعدة الطهارة جارية في فرعه الذي هو ملاقيه ، بل كان احتمال النجاسة فيه متنجّزاً كاحتمالها في أصله الذي هو الملاقى ـ بالفتح ـ.

وهذه الشبهة لو تمّت لكان مقتضاها التنجّز في جميع ما هو من فروع الأصل حتّى في مثل غسل المسّ ونحوه من حرمة بنت إحدى طرفي الشبهة بالزنا وغير ذلك ، ولا اختصاص لها بمسألة الملاقي لأحد طرفي الشبهة في النجاسة ، لتحقّق منشأ الشبهة فيها وهي حكومة الأصل الجاري في الأصل على الأصل الجاري في الفرع ، إذ لا ريب في أنّ الممسوس لو جرى فيه أصل يقتضي الحياة مثلاً ، بأن شككنا في بقاء حياة هذا الإنسان المطروح وأجرينا فيه استصحاب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦.

٣٦

الحياة ، لكان مقتضاها الحكومة على الشكّ في وجوب الغسل بمسّه. وهكذا لو كان مقتضى الأصل فيه هو وجوب الغسل بمسّه ، بأن تحقّقنا موته وشككنا في عروض التغسيل عليه. وهكذا الحال لو جرى الأصل في أُمّ البنت مثل أصالة عدم طروّ الزنا عليها ، أو شككنا عند عروض الوطء عليها في وقوع عقد النكاح عليها ، ونحو ذلك من الأُصول النافية أو الأُصول المثبتة الحاكمة على الأصل في الشكّ في حرمة بنتها.

والجواب عن هذه الشبهة هو أن يقال : لا يكفي (١) تنجّز الحكم في الأصل في تنجّز الحكم في الفرع الذي هو الملاقي ـ بالكسر ـ مثلاً ، مجرّد كون الأصل في الأصل حاكماً على الأصل في الفرع الذي كان منشؤه كون الحكم في الفرع من آثار الحكم في الأصل ، بل لابدّ في التنجّز من كون الحكم في الفرع عين الحكم في الأصل ، على وجه يكون من قبيل الاتّساع في الموضوع ، نظير النماء المتّصل أعني مثل كبر الشجرة المغصوبة وثمرتها ، وفي مثل عمود النسب وحواشيه في الأُمّ الرضاعية أو الأُمّ النسبية لابدّ من الالتزام بأنّه من قبيل الاتّساع في الموضوع ، بأن يكون المحرّم عند الرضاع من الأُمّ هو الأُمّ بمجموع عموديها وحواشي نسبها ، وفي ذلك لا معنى للحكومة ولا لتعدّد الأصل ، إذ لا يكون لنا إلاّحكم واحد جارٍ في الأصل يختلف سعة وضيقاً باعتبار سعة موضوعه وضيقه ، فإن تنجّز ذلك الحكم تنجّز في الجميع وإلاّ فلا.

أمّا الحكومة فيما نحن [ فيه ] من مسألة ملاقي النجس ، فليس منشؤها إلاّ كون نجاسة الأصل موضوعاً لنجاسة الفرع ، فإنّ نجاسة الفرع وإن كانت بنفسها موضوعاً لوجوب الاجتناب عنه ، إلاّ أنها حكم وضعي موضوعه هو نجاسة

__________________

(١) [ لا يخفى ما في تركيب العبارة ، لكن المقصود واضح ].

٣٧

الأصل ، فإذا جرى الأصل في نجاسة الأصل كان ذلك الأصل الجاري في الأصل ـ أعني قاعدة الطهارة في الأصل أو استصحاب نجاسته ـ أصلاً موضوعياً بالنسبة إلى ذلك الحكم الوضعي في الفرع أعني نجاسته ، فيكون حاكماً على الأصل الجاري في الفرع حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي ، وحيث قد سقط الأصل الحاكم بالتعارض ، يكون المرجع في الفرع هو الأصل المحكوم ، أعني قاعدة الطهارة فيه ، إذ بعد سقوط الأصل في الأصل يبقى ذلك الحكم الوضعي في فرعه مشكوكاً ، لعدم إحراز موضوعه الذي هو نجاسة الأصل أو طهارته ، فيكون المرجع في ذلك الحكم الوضعي في الفرع هو الأصل الجاري فيه وهو قاعدة الطهارة.

ولا معنى لتنجّز النجاسة في الأصل ولا في الفرع كي يقال إنّ تنجّزها في الأصل موجب لتنجّزها في الفرع ، لما عرفت غير مرّة من أنّه لا معنى لنسبة التنجّز إلى نفس الحكم الوضعي ، وإنّما القابل للتنجّز هو الآثار التكليفية اللاحقة لذلك الحكم الوضعي ، ومن الواضح أنّ تنجّز الأحكام التكليفية في نجاسة الأصل ـ أعني وجوب الاجتناب عنه ـ لا دخل له بتنجّز الحكم التكليفي اللاحق للفرع أعني وجوب الاجتناب عنه ، بل إنّ تنجّز هذا الحكم التكليفي في الفرع تابع لاحراز موضوعه الذي [ هو ] نجاسته ، المتوقّفة على إحراز موضوعها الذي هو نجاسة الأصل.

وأمّا ما ذكر من الشبهة في ملاقي مشتبه النجاسة بالشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص ، فهي وإن كانت موضوعية بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ إلاّ أنه لمّا كان المنشأ في هذه الشبهة الموضوعية هو الشبهة الحكمية في نجاسة الأصل ، لم يمكن الرجوع فيها إلى الأصل ـ وهو قاعدة الطهارة ـ قبل الفحص عن أصلها الذي

٣٨

هو نجاسة الأصل ، الذي هو حسب الفرض من الشبهات الحكمية قبل الفحص ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : الأوّل : أن تكون نجاسته لمحض التعبّد الشرعي ، من دون أن تكون نجاسته ووجوب الاجتناب عنه من الآثار والأحكام المترتّبة على نفس نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ووجوب الاجتناب عنه ، بل الملاقي للنجس فرد آخر من النجس حكم الشارع بوجوب الاجتناب عنه في عرض وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ (١). فإنّه قد ظهر لك أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ في طول نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، فإنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ من الأحكام الوضعية اللاحقة له بسبب ملاقاته للنجس ، فكانت نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ لها الدخل في نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على وجه يكون الأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ حاكماً على الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ ، فيكون وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ متأخّراً رتبة عن نجاسته المتأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، ويكون هذا الوجوب متأخّراً رتبة عن وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ ، لكون موضوعه الذي هو نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ واقعاً في مرتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ ، لأنّ كلاً من نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ووجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ متأخّران عن نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، وما هو متأخّر عمّا هو في رتبة الشيء متأخّر رتبة عن نفس ذلك الشيء.

وإنّما تتمّ العرضية فيما لو كان نجاسة أحد الأمرين ملازمة لنجاسة الآخر اتّفاقاً من دون أن يكون تفرّع ولا ترتّب ولا طولية ، فيما لو علم بنجاسة أحد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦ ـ ٧٧.

٣٩

الاناءين مثلاً ولكن كانت نجاسة إناء زيد مثلاً من باب الاتّفاق ملازمة لنجاسة إناء ثالث ، بأن علم بوقوع النجاسة في أحد الاناءين إناء زيد وإناء عمرو ، ولكن كانت على تقدير وقوعها في إناء زيد قد وقعت هي أيضاً أو مثلها في إناء خالد ، فإنّه حينئذ يكون بين نجاسة إناء زيد ونجاسة إناء خالد ملازمة اتّفاقية ، من دون طولية بينهما توجب كون الأصل الجاري في إناء زيد حاكماً على الأصل الجاري في إناء خالد.

وقد تضمّن تحرير السيّد سلّمه الله عن شيخنا قدس‌سره نظير هذه العبارة في هذا التحرير فقال : إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ نجاسة الملاقي للنجاسة إمّا أن تكون حكماً شرعياً تعبّدياً ثابتاً لموضوعه في عرض الحكم بنجاسة ما لاقاه ، أو تكون من شؤون نجاسته ومن جهة سراية النجاسة من الملاقى إلى الملاقي (١). فراجعه إلى آخر المبحث.

ولم أعثر على هذه الجملة ـ أعني كون نجاسة الملاقي ( بالكسر ) في عرض نجاسة الملاقى ( بالفتح ) ـ فيما حرّرته عنه قدس‌سره ، بل الذي وجدته فيه هو أنّه قدس‌سره قسّم المعلوم بالاجمال إلى قسمين ، الأوّل أن يكون تمام الموضوع ، والثاني أن يكون جزء الموضوع ، ثمّ قال : إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ ما نحن فيه أعني نجاسة الملاقي لأحد الطرفين وعدم نجاسته ، يتفرّع على هذه المقدّمة ، فهل نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه حكم مترتّب على النجس الملاقى ـ بالفتح ـ ، وأنّ الملاقى يكون تمام موضوعه ، أو أنّه مترتّب على ملاقي النجس ، فيكون النجس الملاقى جزء الموضوع.

ثمّ قال بعد ذلك : وغرضنا من السريان سعة دائرة النجس بواسطة الملاقاة ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٤١.

٤٠