أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

بين جميع الأجزاء ملازماً للوجوب الأوّل ، إلاّ أنه ليس بمسبّب عنه ، بل يكون كلّ منهما معلولاً للملاك الذي اقتضى تعلّق الوجوب الجزئي بالخامس ، وتعلّق الوجوب الشرطي الذي محصّله تقييد الأربعة بوجود الخامس ، وحينئذ نقول : إذا علمنا تفصيلاً بوجوب الأربعة ، يكون تقييد تلك الأربعة بوجود الخامس واشتراطها بوجوده مشكوكاً ، فيكون مورداً لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما يكون الوجوب النفسي لذلك الخامس أيضاً مشكوكاً ومورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ودعوى أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأربعة يوجب حكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني منها ، وإن كانت مسلّمة لا إشكال فيها ، إلاّ أن ذلك الحكم العقلي بلزوم اليقين بالفراغ منها إنّما يكون بمقدار ما قامت الحجّة باشتغال الذمّة به ، وليس هو إلاّنفس ذات الأربعة دون تقيّدها بالخامس ، إذ لم يكن المعلوم التفصيلي إلاّوجوب ذات الأربعة ، وأمّا تقيّدها بالخامس فلم يكن إلاّمشكوكاً.

وإن شئت قلت : إنّ ذلك العلم التفصيلي المتعلّق بوجوب ذات الأربعة لا يقتضي بحكم العقل أزيد من لزوم الاتيان بها والمنع من تركها بنفسها ، أمّا تركها بترك قيدها مع فرض الاتيان بها بنفسها فلم تقم الحجّة على المنع عنه ، فيكون العقاب على تركها بترك ذلك القيد مع فرض الاتيان بها بذاتها عقاباً بلا بيان. وإن شئت قلت : إنّ العقاب على ترك ذلك القيد يكون بلا بيان.

والحاصل : أنّ جهة تقيّد الأربعة بوجود ذلك الخامس لمّا كانت شرعية ناشئة عن جعل الشارع ، وكانت تلك الجهة مستتبعة للعقاب ، فمع فرض كونها مشكوكة يكون العقاب على مخالفتها عقاباً بلا بيان ، ولا يكفي في بيانها وقيام الحجّة عليها العلم التفصيلي بوجوب الأربعة ، فإنّ العلم التفصيلي وإن اقتضى

٢٨١

الفراغ اليقيني ، إلاّ أنه إنّما يقتضي الفراغ اليقيني عمّا هو داخل تحت العلم ، دون ما هو خارج عمّا هو تحت العلم المزبور ممّا هو في حدّ نفسه مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولعلّ هذا هو المراد من التوسّط في التنجّز في كلام الشيخ قدس‌سره (١) ، فإنّ ذلك المركّب لو كان في الواقع مركّباً من خمسة أجزاء ، بحيث كان كلّ واحد من تلك الأجزاء مقيّداً بوجود الجزء الخامس ، لكانت الأربعة مقيّدة في الواقع بوجود الجزء الخامس ، وكانت بنفسها متنجّزة ، للعلم التفصيلي بطروّ الوجوب عليها ، وكان مقتضى تنجّزها هو استحقاق العقاب على تركها ، إلاّ أن الأربعة التي في ضمن الخمسة يكون تركها على نحوين ، أحدهما تركها بنفسها ، والآخر تركها بترك الخامس المأخوذ قيداً فيها مع فرض الاتيان بها بنفسها ، والمقدار الذي أوجبه العلم هو الأوّل أعني تركها بنفسها ، فإنّا نعلم بكونه ممنوعاً عنه موجباً لاستحقاق العقاب ، وأمّا النحو الثاني فلم يحصل لنا العلم بالمنع عنه ولا باستحقاق العقاب عليه ، فلا يكون العقاب على ذلك النحو من الترك إلاّعقاباً بلا بيان ، ولا يكون مورداً لقاعدة الشغل ، فإنّ العقل إنّما يحكم بلزوم الفراغ اليقيني بمقدار الشغل الذي قامت به الحجّة ، والمفروض أنّ الحجّة لم تقم إلاّعلى اشتغال الذمّة بذات الأربعة ، دون تقيّدها بالخامس ، ولا يمكن للشارع أن يحتجّ على العبد بأنّك بعد أن علمت بوجوب الأربعة كان يلزمك الخروج عن عهدتها يقيناً ، وأن لا تعتمد في ذلك على احتمال الخروج ، لأنّ للعبد أن يقول إنّي لم أعتمد على الخروج الاحتمالي ، وإنّما اعتمدت في الخروج عمّا علمت على

__________________

(١) الظاهر أنّ هذا الاصطلاح متصيّد من كلمات الشيخ قدس‌سره عند استدلاله بالبراءة العقلية في مسألة الأقلّ والأكثر ، فراجع فرائد الأُصول ٢ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٢٨٢

الخروج اليقيني ، وأمّا احتمال كون الأربعة مقيّدة بالخامس ، فإنّي لم أعلم به.

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في الخروج عن عهدة ما علم اشتغال الذمّة به ، تارةً يكون ناشئاً عن الشكّ في كلفة زائدة على أصل ما علم اشتغال الذمّة به ، بحيث يكون الشكّ في الخروج عن العهدة ناشئاً عن الشكّ في تكليف شرعي آخر جعله الشارع على عاتق المكلّف فوق ما علم به من التكليف ، وأُخرى لا يكون ناشئاً عن ذلك ، بل يكون من باب مجرّد احتمال الخروج لأجل بعض العوارض والطوارئ ، كما في مثل الشكّ في المحصّل ، وكما في موارد الشكّ في الخروج في باب الشبهات الموضوعية ، والعقل إنّما يلزم بالفراغ اليقيني ويمنع من الاعتماد على الفراغ الاحتمالي فيما إذا كان من النحو الثاني ، أمّا النحو الأوّل فإنّا وإن سمّيناه شكّاً في الخروج عن العهدة ، وإنّما هو شكّ في تكليف زائد أوجب الشكّ في الخروج عن العهدة ، فهذا النحو من الاعتماد على الخروج الاحتمالي لا يمنعه العقل ، إذ ليس هو إلاّشكّاً في تكليف زائد ، فلا يكون العقاب عليه إلاّعقاباً بلا بيان ، هذا.

ولكن المطلب بعدُ محتاج إلى تأمّل ، فإنّ قاعدة قبح العقاب بدون بيان إنّما تجري في مقام الشكّ في الاشتغال ، لا في مقام الشكّ في الفراغ حتّى لو كان الشكّ في الفراغ ناشئاً عن الشكّ في الاشتغال ، إلاّ إذا كان هناك أصل ينفي الاشتغال ، والمفروض فيما نحن فيه أنّه قد انشغلت الذمّة بالأربعة ، ولابدّ من اليقين بالفراغ منها ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان وإن جرت في قيدية الخامس أو في وجوبه ، لكنّها لا تكون نافعة في حصول الفراغ بالاتيان بالأربعة ، لأنّ العقاب الذي يحكم العقل بقبحه إنّما هو على ترك الخامس أو ترك التقيّد به ، وهذا لا يكون منافياً لحكمه بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ ممّا اشتغلت به الذمّة وهو نفس

٢٨٣

الأربعة ، وهذا هو المستفاد من كلمات شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير من قوله : وبتقريب آخر ـ إلى قوله ـ فتحصّل من جميع ما ذكرنا الخ (١).

ولكن لا يخفى أنّ العقاب الذي حكم العقل بقبحه فيما نحن فيه ليس هو على ترك الخامس أو ترك التقيّد به فيما لو أتى بالأربعة مجرّدة عن الخامس ، فإنّ لازم ذلك هو كون وجود الأربعة مسقطاً للوجوب المتعلّق بها ، وبقاء الوجوب المتعلّق بالخامس أو المتعلّق بالتقيّد بالخامس ، وهذا خلاف الفرض من الارتباطية ، فلابدّ أن يكون العقاب الذي حكم العقل بقبحه عند ترك الخامس هو العقاب على ترك الأربعة المقيّدة بالخامس ، وحينئذ نقول عند الوصول إلى مرتبة الفراغ لو جاء المكلّف بالأربعة فقط لا يحكم عليه العقل بلزوم الخامس من جهة كون شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ ، لأنّه إنّما يستدعي الفراغ اليقيني تخلّصاً من العقاب المحتمل على ترك الأربعة المقيّدة ، وهذا قد طمأنه العقل بعدم العقاب عليه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يكون المورد حينئذ مورداً لقاعدة شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في بيان جريان البراءة الشرعية ما يزيد ذلك وضوحاً (٢).

قوله : لأنّ العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بالفراغ ... الخ (٣).

كأنّه يقال : دع عنك العلم الاجمالي ، بدعوى أنّه منحل ، أو بدعوى أنّ أحد طرفيه وهو كون الأربعة لا بشرط لا الزام فيه في قبال ما فيه الالزام وهو كونها بشرط شيء ، إلاّ أن هنا أمراً لا مدفع له وهو العلم ولو إجمالاً بانشغال ذمّته

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) راجع الحاشية الآتية في الصفحة : ٢٩٦ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٩.

٢٨٤

بالأربعة مردّداً بين الوجهين ، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وذلك لا يحصل إلاّبالاتيان بها منضمّة إلى الخامس ، وحينئذ يكون اللازم هو ضمّ الخامس إليها وإن كان تقيّد الأربعة بالخامس أو وجوب نفس الخامس في حدّ نفسه مجرى للبراءة العقلية ، أعني قبح العقاب بلا بيان.

قوله : فإنّ العلم التفصيلي بوجوبه يتوقّف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلاً بوجوب النصب ـ إلى قوله ـ وثانياً ... الخ (١).

لا يخفى أنّ ذلك بمجرّده لا يكون فارقاً بين هذه المسألة وما نحن فيه ، إذ كما أنّ العلم التفصيلي بوجوب النصب يتوقّف على وجوبه على كلّ تقدير ، من وجوبه بنفسه ووجوبه بوجوب ما يتوقّف عليه من الصعود على السطح ، فكذلك نقول : إنّ العلم بوجوب الأربعة يتوقّف على وجوبها على كلّ تقدير من وجوبه بنفسه ووجوبه بوجوب ما هو في ضمنه أعني الخمسة. وإنّما الفارق هو أنّ العلم المردّد بين وجوب نصب السلّم لنفسه وبين وجوبه لغيره لا يكون موجباً للعلم التفصيلي بوجوبه على كلّ حال ، بحيث إنّه يستحقّ العقاب على تركه ، لما حرّرته عنه قدس‌سره من أنّ العلم بوجوبه إمّا لنفسه أو لغيره لا يوجب انحلال العلم بالوجوب النفسي المردّد بين الكون على السطح أو نصب السلّم ، فإنّه وإن احتمل انطباق الوجوب المعلوم بالاجمال عليه ، إلاّ أن العلم بوجوب نصب السلّم المردّد بين النفسي والغيري لا يكون علماً من سنخ ذلك الوجوب النفسي المعلوم بالاجمال المردّد بينه وبين الكون على السطح.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٧ ١٥٨ [ يأتي التعليق على هذا المتن أيضاً في الصفحة : ٢٩٤ ].

٢٨٥

قلت : والأولى أن يقال : إنّ العلم الاجمالي المردّد بين وجوب نصب السلّم ووجوب الكون على السطح يكون سابقاً في الرتبة على العلم الاجمالي المردّد بين وجوب نصب السلّم نفسياً أو وجوبه غيرياً ، فلا يكون العلم التفصيلي بلزوم نصب السلّم المتولّد من هذا العلم الاجمالي الثاني موجباً لانحلال العلم الاجمالي الأوّل لتأخّره عنه برتبتين ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل نفسياً إمّا وحده أو في ضمن الأكثر غير متأخّر في الرتبة عن العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر ، بل إنّه عينه.

قوله : فإنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدّمة لوجود الأكثر إنّما يتوقّف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به ، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً ... الخ (١).

لا يخفى أنّ هذا لو تمّ لكان مقتضاه الانحلال في مسألة نصب السلّم ، لكن قد عرفت عدم الانحلال فيها بما هو الفارق بينها وبين ما نحن فيه ، ولعلّ قوله : « فتأمّل » إشارة إلى ذلك.

وتوضيح ذلك : أنّ قول صاحب الكفاية قدس‌سره في مقام بيان محالية الانحلال : بداهة توقّف لزوم الأقل فعلاً إمّا لنفسه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر ، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلاّ إذا كان متعلّقاً بالأقل كان خلفاً ، مع أنّه يلزم من وجوده عدمه ، لاستلزامه عدم تنجّز التكليف على كلّ حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقاً المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال الخ (٢) ، إن كان المراد بقوله : لزوم الأقل ، في قوله : « بداهة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٦٤.

٢٨٦

توقّف لزوم الأقل إمّا لنفسه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقاً ، ولو كان متعلّقاً بالأكثر » هو مجرّد وجوب الأقل ، فمن الواضح أنّ وجوب الأقل لا يتوقّف على تنجّز وجوب الأكثر ، بل إنّما يتوقّف على وجوبه واقعاً. وهكذا الحال في وجوب نصب السلّم ، فإنّه لا يتوقّف على تنجّز وجوب الكون على السطح ، بل إنّما يتوقّف على الوجوب الواقعي للكون على السطح.

وإن كان المراد بلزوم الأقل هو تنجّز وجوبه ، فمن الواضح أن تنجّز وجوب الأقل لا يتوقّف على تنجّز وجوب الأكثر ، فإنّ تنجّز وجوب الأقل إنّما يتوقّف على العلم بوجوب الأقل وهو حاصل ، غايته أنّه لا يعلم أنّه مستقل بالوجوب أو أنّه في ضمن الأكثر ، وهذا المقدار من التردّد لا يضرّ بكون العلم به في الجملة علّة في تنجّزه ، وهو وإن أوجب عدم تنجّز الأكثر إلاّ أن انحلال العلم به لا يوجب المحال ، لما عرفت من أنّ تنجّز وجوب الأقل لم يكن ناشئاً عن تنجّز الأكثر ، كي يكون من قبيل كون المعلول رافعاً لعلّته ، بل إنّما كان تنجّز وجوب الأقل ناشئاً عن العلم به تفصيلاً.

نعم ، في مسألة نصب السلّم والكون على السطح ، لا يمكننا القول بأنّ العلم التفصيلي بوجوب النصب لنفسه أو لغيره يوجب انحلال العلم الاجمالي المردّد بين كون الواجب نفسياً هو النصب أو الكون على السطح ، لأنّ هذا العلم التفصيلي متأخّر رتبة عن ذلك العلم الاجمالي فلا يعقل انحلاله به ، بخلاف مسألة الأقل والأكثر ، فإنّ وجوب الأقل ضمناً لمّا كان بعين وجوب الأكثر ، لم يكن العلم به متأخّراً رتبة عن العلم بوجوب الأكثر ، بل كان العلم بوجوب الأكثر علماً بوجوب الأقل ، غايته أنّه في ضمنه لا مستقلاً ، فنحن في رتبة علمنا بالوجوب المردّد بين الأقل والأكثر نكون عالمين بوجوب الأقل ، غايته أنّه مردّد

٢٨٧

بين الاستقلالية والضمنية ، وهذا بخلاف نصب السلّم فإنّه على تقدير كون الكون على السطح واجباً ، لا يكون بنفس وجوب الكون ، بل يكون معلولاً له ومتأخّراً عنه رتبة.

لكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يكون من تأخّر المعلوم ثانياً عن المعلوم الاجمالي أوّلاً ، والمدار في التنجّز على تقدّم العلم وتأخّره ، وحينئذ لو علم أوّلاً تفصيلاً بكون النصب واجباً إمّا لنفسه وإمّا مقدّمة لواجب فعلي هو الكون على السطح ، وعن هذا العلم التفصيلي انتقل إلى العلم الاجمالي المردّد بين كون الواجب النفسي هو النصب أو هو الكون ، ينبغي أن نقول إنّه لا أثر لهذا العلم الاجمالي الحاصل ثانياً ، وتمام الكلام في محلّه من مقدّمة الواجب ، فقد التزم شيخنا قدس‌سره هناك بعدم الأثر للعلم الاجمالي الثاني في هذه الصورة ، فراجع تحريرات السيّد سلّمه الله عنه قدس‌سره في ذلك المبحث ، وهاك نصّ ما قاله هناك في الجزء الأوّل من الطبعة الأُولى : وأُخرى لا يعلم إلاّوجوب ما يدور أمره بين المقدّمية والنفسية ، ويحتمل أن يكون هناك واجب آخر فعلي يكون هذا مقدّمة له ، وحينئذ لا إشكال في وجوب الاتيان به على كلّ حال ، للعلم باستحقاق العقاب على تركه إمّا لنفسه أو لكونه مقدّمة لواجب فعلي ، وأمّا ترك الواجب النفسي المحتمل من غير ناحيته فهو جائز لأصالة البراءة. وبالجملة : تركه المستند إلى ترك معلوم الوجوب ممّا يوجب العقاب ، وأمّا تركه من غير ناحيته فالمكلّف لجهله في سعة منه ، وتشمله أدلّة البراءة.

وأمّا ما في الكفاية (١) من التمسّك بالبراءة في المقام ، فغير سديد بعد البناء

__________________

(١) ليس ذلك في الكفاية ، كما حرّرناه في محلّه وكما حرّره السيّد سلّمه الله في

٢٨٨

على التفكيك في التنجّز في مبحث الأقل والأكثر ، وما نحن فيه أيضاً من ذاك القبيل ، للعلم التفصيلي باستحقاق العقاب على ترك معلوم الوجوب إمّا لنفسه أو لتوقّف واجب فعلي عليه وكونه قيداً له ، وإن لم يكن ذاك الوجوب منجّزاً من جهات أُخر ، فإنّ عدم تنجّزه من جهة أُخرى لا ينافي تنجّزه من جهة ، وأصالة البراءة لا تنافي فعليته واقعاً وتنجّزه بمقدار العلم ، فتدبّر جيّداً (١).

لا يقال : يمكن أن يكون مراد صاحب الكفاية من الفعلية ما يكون معلوم الوجوب ، ففي الصورة الأُولى حيث كان ذو المقدّمة معلوم الوجوب ، بأن علم بوجوب الصلاة وعلم أيضاً بوجوب الغسل وتردّد في وجوبه بين النفسية والغيرية مقدّمة للصلاة المعلومة الوجوب ، كان الاتيان به واجباً على كلّ حال. وفي الصورة الثانية لم تكن الصلاة معلومة الوجوب ، بل كانت البراءة جارية في وجوبها ، فلم يبق إلاّ احتمال وجوب الغسل نفسياً المقرون باحتمال الغيرية مقدّمة للصلاة التي جرت البراءة في وجوبها ، وحينئذ تكون البراءة جارية أيضاً في الوجوب النفسي للغسل.

لأنّا نقول : لا يمكن حمل كلامه على هذه الصورة ، لأنّه يقول في مسألة

__________________

حاشيته ، لكن لم أجد ذلك منسوباً إلى الكفاية في تحريراتي ، وفي تحريرات المرحوم الشيخ محمّد علي [ فوائد الأُصول ١ ـ ٢ : ٢٢٣ ] بعنوان « فقد قيل » ، وحينئذ فالنسبة إلى الكفاية من مختصّات تحرير السيّد سلّمه الله فلاحظ. قال في الكفاية ] : ١١٠ ] هذا إذا كان هناك إطلاق ، وأمّا إذا لم يكن فلابدّ من الاتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعلياً للعلم بوجوبه فعلاً وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلاّ فلا ، لصيرورة الشكّ فيه بدوياً كما لا يخفى [ منه قدس‌سره ].

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشّاة ].

٢٨٩

الأقل والأكثر (١) إنّ الوجوب المردّد بين النفسية والغيرية لا يوجب انحلال العلم الاجمالي المردّد بين الوجوب النفسي للأقل والوجوب النفسي للأكثر ، ولازم حمل كلامه هنا على هذه الصورة أن تجري البراءة في كلّ من الوجوبين النفسيين ، ففي مثل الغسل المردّد بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري للصلاة المفروض أنّه يعلم حينئذ بالوجوب النفسي مردّداً بين الغسل والصلاة ، يكون الحاصل هو إجراء البراءة الشرعية في كلّ من وجوب الغسل نفسياً ووجوب الصلاة نفسياً ، مع أنّه عالم إجمالاً بأنّ أحدهما واجب نفسي ، فيكون اللازم من ذلك هو المخالفة القطعية لما علمه من الوجوب النفسي بينهما ، وهذا ممّا لا يظنّ الالتزام به من ذي مسكة ، فكيف يمكن نسبته إليه.

وممّن يظهر منه تفسير العبارة بذلك السيّد ( سلّمه الله تعالى ) في حقائقه (٢) ، فإنّه ذكر للمسألة ـ أعني ما لو علم بوجوب الشيء كنصب السلّم مع التردّد بين كون وجوبه نفسياً وكونه غيرياً مقدّمة للصعود ـ صوراً ثلاثاً : الأُولى ، أن يعلم بعدم وجوب الصعود. الثانية : أن يعلم بوجوب الصعود. الثالثة : أن يشكّ في وجوب الصعود.

وفي الأُولى يكون المرجع هو البراءة من وجوب نصب السلّم. وفي الثانية يجب النصب للعلم بوجوبه على كلّ حال. وفي الثالثة : أيضاً يجب النصب ، واستشكل في إجراء البراءة من وجوب الصعود. ثمّ جعل قول المصنّف : « وإلاّ » شاملاً للصورة الأُولى والصورة الثالثة ، ثمّ أشكل على المصنّف قدس‌سره بأنّ البراءة إنّما تجري في الصورة الأُولى فقط ، وأمّا الثالثة فلا تجري البراءة فيها من وجوب

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٤.

(٢) حقائق الأُصول ١ : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٢٩٠

النصب.

ولا يخفى أنّ الصورة الأُولى غير داخلة في المقام ، لأنّه مع العلم بأنّ الصعود غير واجب عليه كيف يحصل التردّد في وجوب نصب السلّم بين النفسية والغيرية ، إذ مع العلم بأنّ الصعود غير واجب يحصل القطع بأنّه ليس وجوب النصب من باب الغيرية والمقدّمية للصعود ، إلاّ أن يكون مراده من عدم وجوب الصعود أنّه ليس بواجب فعلاً ، لعدم حضور وقته أو لسقوطه بالاضطرار أو العجز عنه ، ونحو ذلك ممّا يوجب عدم الفعلية.

وأمّا الصورة الثالثة فقد عرفت أنّها ليست مرادة للمصنّف قدس‌سره ، وإنّما مراده ما لو علم بأنّ النصب واجب نفسي أو مقدّمة لواجب غير فعلي الوجوب لعدم مجيء وقته ، فلاحظ.

وقال بعض الشارحين وهو المرحوم الشيخ عبد الحسين الرشتي في كتابه عند التعرّض لهذه العبارة في مقام تعليل وجوب الاتيان بالطهارة في الصورة الأُولى ، ما هذا لفظه : إذ على تقدير كونها واجبة نفسياً فواضح ، وعلى تقدير كون وجوبها غيرياً لأجل واجب فعلي آخر لأجل أنّا نعلم بوجوب ذلك الغير أي الصلاة فعلاً ، فنستكشف أنّ مقدّمتها أيضاً واجبة بناءً على الملازمة ، وإلاّ لما قطع بوجوبه فعلاً ، وهذا خلف (١).

ثمّ إنّه علّل الحكم بعدم الوجوب في الصورة الثانية التي أشار إليها المصنّف قدس‌سره بقوله : وإلاّ الخ بما هذا لفظه : إذ على تقدير كون وجوبه غيرياً لا علم بوجوبه ، لعدم كون ما احتمل كونه شرطاً له فعلياً ، فيبقى احتمال الوجوب النفسي

__________________

(١) شرح كفاية الأُصول ١ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

٢٩١

فأصالة البراءة عن الوجوب حينئذ محكّمة الخ (١) ، فإنّ هذه العبارة تدلّ على أنّ المدار في وجوب الغسل على العلم بوجوب الصلاة التي احتمل كونه شرطاً لها. فالأُولى ناظرة إلى فرض العلم بوجوب الصلاة ، والثانية ناظرة إلى فرض عدم العلم بوجوبها.

وينبغي مراجعة ما حرّرناه في مباحث الأوامر في مسألة تردّد الواجب بين كونه نفسياً وكونه غيرياً (٢).

قول السيّد سلّمه الله فيما حرّره عن شيخنا قدس‌سره : وأمّا إذا كان المعلوم بالاجمال مغايراً مع المعلوم بالتفصيل فيستحيل الانحلال ، كما إذا علم نجاسة أحد الاناءين إجمالاً ، ثمّ علم حرمة أحدهما تفصيلاً إمّا لنجاسته أو غصبيته ... الخ (٣).

وقد حرّرت عنه قدس‌سره نحو ذلك. ولا يخفى أنّ الذي ينبغي هو فرض كون العلم التفصيلي سابقاً أو مقارناً للعلم الاجمالي ، وإلاّ لم يكن إشكال في أنّ العلم التفصيلي المتأخّر لا يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي السابق ، إلاّ إذا كان المعلوم التفصيلي سابقاً على المعلوم الاجمالي ، ليكون كاشفاً عن خطأ ذلك العلم الاجمالي ، على ما عرفت تفصيل الكلام في ذلك في مبحث الملاقي (٤).

وكيف كان ، فالذي ينبغي هو أن نفرض العلم التفصيلي بحرمة شرب ما في

__________________

(١) شرح كفاية الأُصول ١ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٩٠ وما بعدها ، وراجع أيضاً الحواشي السابقة عليها.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٩١.

(٤) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٩٧ وما بعدها.

٢٩٢

الاناء الصغير إمّا لكونه نجساً أو لكونه مغصوباً ، ثمّ يحصل العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة ما في الاناء الكبير ، لكن على تقدير نجاسة الصغير فهي تلك النجاسة المردّد بينها وبين الغصبية ، ولأجل التوضيح نقول : لو علم تفصيلاً مغصوبية ما في الصغير ، ثمّ طرأ العلم الاجمالي بوقوع نجاسة فيه أو في الكبير ، لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً بعد أن لم يكن له أثر إلاّحرمة الشرب ، التي كانت محقّقة بواسطة العلم التفصيلي بغصبيته.

ومنه يظهر لك أنّ الوجه في المثال هو القول بأنّ العلم الاجمالي بالنجاسة بين الصغير والكبير بعد فرض كون الصغير قد علم حرمة شربه إمّا لغصبيته أو لنجاسته ، لا يكون مؤثّراً ، فما أُفيد من عدم انحلال القضية المردّدة المنفصلة إلى قضية معلومة وأُخرى مشكوكة مسلّم ، لكن ذلك العلم الاجمالي وإن لم ينحل إلاّ أنّه لم يكن مؤثّراً.

قوله : وحيث إنّ الوجوب المقدّمي وجوب تبعي قهري لا يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب وعقاب ... الخ (١).

كأنّ محصّله : أنّه لا أثر للوجوب المقدّمي إلاّمحض الاسم ، فلا أثر للعلم التفصيلي بأنّ الفعل الفلاني واجب إمّا لنفسه أو لغيره ، لأنّه بمنزلة قولك : إنّه إمّا واجب حقيقة أو أنّه واجب اسماً فقط ، وحينئذ لا يكون هذا العلم موجباً لانحلال العلم الاجمالي المتعلّق بالوجوب النفسي بينه وبين غيره الذي هو ذو المقدّمة.

وفيه أوّلاً : أنّه على تقديره يكون عيباً آخر في هذا العلم التفصيلي لا ربط له بالعيب المسوق له الكلام ، وهو اعتبار الاتّحاد في السنخ بين المعلوم بالاجمال

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٩١.

٢٩٣

والمعلوم بالتفصيل. وثانياً : أنّه مخالف لما حرّره عن شيخنا قدس‌سره في مسألة مقدّمة الواجب من أنّه لو علم إجمالاً وجوب الفعل مردّداً بين النفسية والغيرية ، وجب الاتيان به ، ولا يمكن الرجوع فيه إلى البراءة من وجوبه النفسي ، كما نقله عن بعضهم ، فراجع ما حرّره سلّمه الله هناك (١). وكيف كان ، فإنّ هذا الذيل لم أعثر عليه فيما حرّرته عنه قدس‌سره.

قوله في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي : فإنّ العلم التفصيلي بوجوبه يتوقّف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلاً بوجوب النصب ، لاحتمال أن يكون وجوبه غيرياً متولّداً من وجوب الصعود ... الخ (٢).

فيه : أنّ الانحلال لا ينتج عدم وجوب الصعود ، وإنّما ينتج عدم تنجّزه ، وهو لا ينافي العلم التفصيلي بوجوب النصب لنفسه أو لغيره الذي هو العلّة في تنجّز وجوب النصب كما أفاده بقوله : فإنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدّمة لوجود الأكثر إنّما يتوقّف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به ، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز الخ (٣).

نعم ، هنا مطلب آخر لعلّه مستفاد من قوله : متولّداً من وجوب الطرف الآخر (٤) ، وقوله : وتردّد وجوب نصب السلّم بين كونه نفسياً أو غيرياً متولّداً من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، وقد تقدّم نقل ذلك في الصفحة : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٧ [ تقدّم التعليق على هذا المتن أيضاً في الصفحة : ٢٨٥ ].

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٨.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٦.

٢٩٤

وجوب الصعود على السطح من باب الملازمة الخ (١) ، وهو ما شرحناه من أنّ المعلوم بالتفصيل متولّد من المعلوم بالاجمال ، فيكون العلم به متأخّراً في الرتبة عن العلم الاجمالي ، فلا يكون موجباً للانحلال. نعم لازم ذلك أنّه لو تأخّر العلم الاجمالي عن ذلك العلم التفصيلي المذكور لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في تنجّز ذي المقدّمة كما أفاده فيما حرّره عنه السيّد ـ وغيره ـ في مقدّمة الواجب ص ١٤٤ (٢) فراجع.

قوله : فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الاجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلاً ... الخ (٣).

لو أُبدل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي لكان منطبقاً على الإشكال الذي نقلناه عن الأُستاذ قدس‌سره.

قوله : وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ... الخ (٤).

لا يخفى أنّ العقل وإن لم يكن من وظيفته رفع القيدية ، وأنّ وضعها ورفعها من وظيفة الشارع المقدّس ، إلاّ أن من وظيفة العقل الحكم بعدم استحقاق العقاب على مخالفة تلك القيدية المجهولة ، لكونه بلا بيان ، وذلك كاف في استراحة العبد ، وقد عرفت أنّ هذا الحكم العقلي لا يمنعه حكم العقل بلزوم الفراغ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٦١.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ١٦١.

٢٩٥

اليقيني.

قوله : لأنّ رفع القيدية إنّما هو من وظيفة الشارع كجعلها ، غايته أنّ وضعها ورفعها إنّما يكون بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، وهو التكليف بالأكثر وبسطه على الجزء المشكوك ... الخ (١).

لا يخفى أنّ ظاهر العبائر في هذا التحرير هو إجراء البراءة في نفس وجوب الأكثر ، خصوصاً قوله فيما بعد : ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل للعلم بوجوبه على كلّ تقدير الخ (٢). وفيه تأمّل ، لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الأكثر لا يحرز وجوب الأقل. نعم في تحريرات السيّد سلّمه الله (٣) يظهر منه إجراء البراءة في وجوب الزائد المشكوك ، ونحن جرينا في هذه التعليقة على هذا المبنى.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ لنا في الأجزاء الارتباطية جعلين شرعيين وتكليفين مولويين ، وهما التكليف بالجزء ونعبّر عنه بالوجوب الجزئي ، والآخر التكليف بالشرط ونعبّر عنه بالوجوب الشرطي ، والقيدية إنّما تنتزع من الوجوب الثاني ، وحينئذ فيسهل الأمر في الحكم بارتفاعها برفع الوجوب الشرطي ، من دون حاجة إلى رفع الوجوب الجزئي ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ رفع الوجوب النفسي المتعلّق بالجزء لا يزيل الشكّ في القيدية ، بخلاف رفع الوجوب الشرطي فإنّه يزيل الشكّ فيها قطعاً ، فإن قلنا إنّ الاطلاق عبارة عن عدم القيدية كان الأمر سهلاً جدّاً ، وإن قلنا إنّه عبارة عن أمر وجودي ، وأنّ تقابلهما تقابل الضدّين فكذلك أيضاً ، إذ لا يلزمنا إحراز الاطلاق الذي هو أمر وجودي وهو ضدّ التقييد ـ بل يكفينا رفع كلفة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٦٤.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٩٤.

٢٩٦

التقييد ـ كي نقول إنّ حديث الرفع مثبت للاطلاق الظاهري بناءً على أنّهما من تقابل العدم والملكة ، ونحتاج في إثباته له ولو ظاهراً بناءً على أنّهما من الضدّين إلى التمسّك بأذيال عدم تحقّق الواسطة في النظر العرفي قياساً على باب الاستصحاب ، فإنّ ذلك كلّه لا حاجة إليه ، لأنّا في باب التكاليف لا نحتاج إلى إثبات الاطلاق ، بل يكفينا نفي الكلفة الزائدة كيف ما كان التكليف في الواقع من حيث الاطلاق وعدمه.

ولا يخفى أنّا لو احتجنا إلى إثبات إطلاق التكليف ، وقلنا بأنّهما من قبيل العدم والملكة ، لم يكن حديث رفع الزائد نافعاً في إثبات الاطلاق ، لما حرّر في محلّه من أنّ رفع الملكة لا يوجب الحكم بعدمها ، كما أنّ نفي البصر بالأصل لا يوجب إثبات العمى ، لأنّهما من هذه الجهة بمنزلة الضدّين.

أمّا قياس ما نحن فيه على الاستصحاب في أنّ المدار في ذلك على النظر العرفي ، فهو ممّا لم أتوفّق لفهمه ، لأنّ المدار في باب الاستصحاب على كون المورد بحسب النظر العرفي داخلاً في النقض المنهي عنه ، وأين ذلك ممّا نحن فيه ممّا لم يكن فيه إلاّ الرفع الشرعي.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ العرف يفهمون من رفع التكليف بالجزء الزائد أنّ ذلك التكليف مطلق من حيث التقييد بذلك الجزء ، وهذه جهة أُخرى لو سلّمناها فهي غير الجهة المذكورة في باب الاستصحاب.

والحاصل : أنّ الذي يظهر من الأُستاذ قدس‌سره أنّه يريد أن لا يجري حديث الرفع في القيدية ، بل يقول إنّه إنّما يجري في رفع وجوب الجزء الخامس ، وبرفعه بحديث الرفع ترتفع القيدية ، لأنّها منتزعة منه ، وبارتفاع القيدية ظاهراً يثبت الاطلاق الظاهري الذي هو الموجب للانحلال ، فكأنّ رفع القيدية عنده لا يوجب

٢٩٧

الانحلال إلاّبتوسّط ثبوت الاطلاق ، ولأجل ذلك وجّه على نفسه الإشكال بالمثبتية ، واحتاج إلى دفعه بأنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة (١)

__________________

(١) هذا ، ولكن ينبغي مراجعة تمام ما حرّرته عنه قدس‌سره في ليلة الثلاثاء ٢٩ ع ١ والأربعاء ٣٠ ع ١ سنة ١٣٤٣ ، وما حرّرناه في هامش ذلك نقلاً عنه قدس‌سره فيما أفاده في الدورة الأخيرة ١٣ ج ٢ سنة ١٣٥٠ ، ومراجعة ما صرّح به هو قدس‌سره في رسالته في اللباس المشكوك من أنّ البراءة الشرعية تثبت الاطلاق الظاهري ، فراجعه فإنّه قدس‌سره قال هناك بعد بيان جريان دليل البراءة الشرعية ما هذا لفظه : فلا جرم يرتفع قيدية المشكوك في الظاهر ، ويؤول الأمر إلى إطلاق ظاهري في المعلوم التفصيلي لا محالة ، ويجري الارتباطي مجرى غيره في الظاهر الخ [ رسالة الصلاة في المشكوك : ٣٠١ ـ ٣٠٢ ].

فإنّ مراجعة جميع ذلك تبيّن لك أنّه قدس‌سره لا يريد بذلك ضمّ أصالة البراءة إلى دليل الأمر المردّد بين الأقل والأكثر ، ويكون الناتج هو تحقّق الاطلاق في دليل الأمر ، ليكون حال أصالة البراءة بالنسبة إلى ذلك الأمر حال أصالة عدم التقييد ، أو استصحاب عدم إلحاق قيد ونحو ذلك من الأُصول الاحرازية التي يكون مفادها إحراز عدم القيد ، ليكون الناتج من ضمّها إلى ذلك الدليل إطلاقاً لفظياً ودليلاً اجتهادياً ، كسائر الاطلاقات اللفظية الواقعية والأدلّة الاجتهادية ، فإنّ ذلك بالنسبة إلى حديث الرفع ممّا لا يمكن التفوّه به لأقل الطلبة فكيف ينسب إليه قدس‌سره.

وإنّما مراده هو ما يظهر من جميع ما حرّرته عنه وما صرّح به في مسألة اللباس المشكوك ، وهو أنّ الناتج من ضمّ البراءة إلى الدليل المذكور هو الاطلاق الظاهري ، بمعنى أنّ ذلك المكلّف الذي جرى في حقّه حديث الرفع يكون الأمر بالقياس إليه محكوماً ظاهراً بالاطلاق ويكون المأمور به في حقّه بحكم المطلق ، أو إن شئت فقل : يكون المأمور به في حقّه مطلقاً ظاهراً.

وليس المراد أيضاً إثبات الاطلاق الثبوتي في حقّه ظاهراً ، لأنّ هذا هو عين الاطلاق

٢٩٨

لكنّك قد عرفت أنّ حديث الرفع كما يجري في رفع وجوب الجزء الخامس ، فكذلك يجري في رفع وجوبه الشرطي ، وليست القيدية منتزعة من الوجوب النفسي للجزء الخامس ، بل هي منتزعة من وجوبه الشرطي ، فتكون القيدية مرتفعة بارتفاع ذلك الوجوب الشرطي ، ويكون رفع تلك القيدية كافياً في الانحلال ، وبه يتحقّق استراحة المكلّف ، من دون حاجة إلى الالتزام باطلاق الأقل إذ لا يترتّب على إطلاقه أثر مهم بعد حكم الشارع ولو ظاهراً بأنّ القيدية مرفوعة ، فلا حاجة إلى تلك التكلفات في دفع مثبتية الأصل المذكور ، إذ لا نريد إلاّرفع اعتبار الجزء الخامس ونفي كلّ من وجوبه النفسي والشرطي ، وحديث الرفع متكفّل بذلك المراد.

بل قد عرفت أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان كافٍ في استراحة المكلّف من احتمال قيدية الجزء الخامس ، ومن احتمال وجوبه النفسي الضمني ، ومن وجوبه الشرطي ، فإنّه بعد علمه التفصيلي بوجوب الأقل وإن شكّ في فراغ ذمّته بالاتيان بالأجزاء الأربعة ، إلاّ أنه إنّما يحكم بذلك فراراً من العقاب المحتمل ، والمفروض أنّه مأمون من ناحيته ، إذ العقاب لا يكون ناشئاً إلاّعن

__________________

في مقام الاثبات ، فلا معنى لتسميته إطلاقاً ظاهرياً ، لكونه حينئذ إطلاقاً إثباتياً واقعياً.

بل المراد أنّه بعد جريان البراءة في رفع التقييد ، يكون حكم ذلك المكلّف في الظاهر كحكم من قام عنده الدليل المطلق ، أي يكون حكمه في الظاهر هو إطلاق المأمور به.

وبالجملة : أنّه لا يعقل القول بأنّ رفع التقييد في مقام الشكّ بمفاد حديث الرفع يكون مثبتاً لكون المأمور به مطلقاً في الواقع ، أو يكون موجباً لتحقّق الاطلاق اللفظي بالنسبة إلى دليل الأمر ، لأنّ ذلك لا يقوله أقل الطلبة ، فلابدّ أن يكون مراده قدس‌سره كما يظهر ممّا حرّرته عنه وممّا صرّح في اللباس المشكوك هو كون دليل المأمور به في الظاهر بالنسبة إلى ذلك المكلّف بحكم المطلق ، فراجع وتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٢٩٩

احتمال القيدية المفروض أنّه حاكم بقبح العقاب من جهتها ، لكونه عقاباً بلا بيان ، وبذلك تدخل المسألة في توارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع قاعدة دفع الضرر المحتمل ، الذي هو العقاب على ترك الأقل بترك القيد الذي هو الارتباطية المفروض أنّها مشكوكة ولم يقم بيان عليها ، وقد عرفت في أوائل البراءة (١) أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

والحاصل : أنّ العلم بوجوب الأربعة ولو على نحو الاهمال واللاّ بشرط المقسمي والشكّ في القيدية المزبورة ، كافٍ في الانحلال مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان على مخالفة القيدية ، فضلاً عن حكم الشارع المقدّس برفعها ، ولا حاجة إلى أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من أيّ أقسام التقابل ، إذ لا يتوقّف الانحلال على إحراز اطلاق التكليف ، لأنّ المباينة بين أخذ الأربعة باللاّ بشرط المقسمي الذي هو القدر المشترك بين طرفي العلم الاجمالي ، وبين أخذها باللاّ بشرط القسمي الذي هو أحد طرفي العلم الاجمالي ، وأخذها بشرط شيء الذي هو الطرف الآخر ، إنّما هي في مقام اللحاظ لا في الخارج ، بل تكون الأربعة الخارجية متّصفة بالوجوب على كلّ من هذه الأطوار اللحاظية ، فيكون وجوبها معلوماً تفصيلاً ، ويكون تقيّدها بوجود الخامس الذي هو الجهة الزائدة في الطرف الآخر مشكوكاً ، فيكون مورداً لكلّ من البراءة العقلية والشرعية ، ويكون الانحلال عقلياً فضلاً عن كونه شرعياً.

وإن شئت قلت : إنّ العلم بوجوب الأربعة على نحو الاهمال الذي هو اللاّ بشرط المقسمي كافٍ في الانحلال ، لأنّ ذلك المهمل المردّد بين الطرفين إن كان هو منطبقاً على الاطلاق الذي هو اللاّ بشرط القسمي ، فلا شكّ في كونه

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٣٦٦ وما بعدها.

٣٠٠