أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

المستندة إلى قاعدة الطهارة فيه ليست في طول طهارته المستندة إلى طهارة الاناء. ولو سلّمنا كونها في طولها نظراً إلى حكومة طهارة الاناء على طهارة الثوب ، لم يكن ذلك بمانع من الجري في هذه المسألة على ما جرى عليه شيخنا في تلك المسألة من سقوط كلّ من استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة دفعة واحدة في قبال قاعدة الطهارة في الطرف الآخر.

ولسنا نريد أن نقول : إنّ قاعدة الطهارة في الثوب تسقط بسقوط قاعدة الطهارة في الاناء كي يفرق بين ذلك وبين المثال بأنّ ما نحن فيه من قبيل الموضوعين ، والمدّعى هو السقوط في الموضوع الواحد كما أفاده شيخنا قدس‌سره ، بل نريد أن نقول إنّ طهارة الثوب المستندة إلى قاعدة الطهارة في الاناء ، وطهارته المستندة إلى قاعدة الطهارة في نفسه يسقطان معاً بمعارضة قاعدة الطهارة في الاناء الآخر ، وهما حكمان لموضوع واحد وهو الثوب ، لا أنّ أحدهما في موضوع والآخر في موضوع آخر.

لا يقال : يرد على هذا الجواب أنّ لازمه هو أنّه في صورة بقاء الاناء الملاقى يكون الحكم بطهارة الثوب مستنداً إلى قاعدة الطهارة في الاناء باعتبار أثرها الثاني وإن سقط أثرها الأوّل بالمعارضة.

لأنّا نقول أوّلاً : لا مانع من الالتزام بذلك. وثانياً : أنّ قاعدة الطهارة في الاناء ما دام موجوداً تجري فيه بحسب أثرها الأوّل ويتبع ذلك أثرها الثاني لكونه في طوله ، لإمكان جعل الأثر الأوّل ما دام الاناء موجوداً ، غايته أنّها تسقط بالمعارضة فيسقط أثرها الثاني ، فلا معنى للقول بأنّها بعد سقوط أثرها الأوّل بالمعارضة يبقى لها الأثر الثاني ، وهذا بخلاف صورة التلف ، فإنّ وجه جريانها ينحصر في الأثر الثاني وهو الحكم بطهارة ملاقيه ، فتجري وتسقط بالمعارضة ، وبسقوطها من

٦١

حيث هذا الأثر ـ أعني طهارة الثوب ـ يسقط أيضاً الحكم بطهارته من جهة كونه مشكوك الطهارة ، وسيأتي له مزيد إيضاح وتحقيق إن شاء الله تعالى. هذا كلّه في حالة خروج الأصل عن الابتلاء.

وأمّا لو عاد بعد ذلك ، فالظاهر أنّ الأمر كما أفاده في الكفاية (١) من عدم وجوب الاجتناب عنه ، ولا تجري فيه نظرية شيخنا قدس‌سره (٢) من كون المدار على تقدّم المعلوم ، فإنّ النجاسة في الأصل وإن كانت سابقة ، إلاّ أنها كما عرفت ليست هي المدار في التنجّز ، بل المدار إنّما هو على التكليف الناشئ عنها وهو وجوب الاجتناب ، ومن الواضح أنّ هذا التكليف إنّما يتوجّه أو إنّما يكون فعلياً ملقىً على عاتق المكلّف إذا كان داخلاً في محلّ الابتلاء المفروض أنّه بعد العلم الاجمالي السابق وبعد الوجوب المعلوم في ذلك العلم السابق ، وحينئذ لا يكون العلم الثاني المردّد بين إناء زيد وإناء عمرو مؤثّراً ، لكونّه هو ومعلومه متأخّرين عن العلم الأوّل ومعلومه ، وحينئذ يكون إناء زيد بعد رجوعه إلى محل الابتلاء مورداً لقاعدة الطهارة ، وهي ـ أعني قاعدة الطهارة الجارية فيه بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء ـ لا تكون حاكمة على قاعدة الطهارة في الثوب ، التي جرت فيه سابقاً وسقطت بالمعارضة مع قاعدة الطهارة في إناء عمرو.

وإن شئت فقل : إنّ قاعدة الطهارة وإن جرت في إناء زيد بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء ، إلاّ أنا لا يمكننا أن نرتّب عليها إلاّ أثرها الأوّل أعني كون إناء زيد بنفسه يجوز شربه مثلاً ، أمّا أثرها الثاني وهو كون ملاقيه طاهراً فلا ، وذلك لأنّه لا يمكننا الحكم بطهارته ولو من هذه الجهة ، لا لكون ذلك معارضاً بقاعدة الطهارة

__________________

(١) لاحظ كفاية الأُصول : ٣٦٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٨٦.

٦٢

في إناء عمرو ، لأنّ المفروض سقوط قاعدة الطهارة في إناء عمرو بمعارضتها مع قاعدة الطهارة في الثوب نفسه ، بل لأنّ ذلك العلم الاجمالي الذي كان موجوداً عندما كان إناء زيد خارجاً عن الابتلاء ، يكون مانعاً من أي مرخّص في ناحية الثوب ، ولو من ناحية جريان قاعدة الطهارة في إناء زيد بعد رجوعه إلى الابتلاء.

نعم ، بناءً على أنّ المنشأ في التنجّز هو تعارض الأُصول ، لا مانع من اقتضاء قاعدة الطهارة في إناء زيد بعد رجوعه إلى الابتلاء الحكم بطهارة ملاقيه ، وإن كانت قاعدة الطهارة في الثوب نفسه ساقطة بالتعارض ، وعليه فيكون الحكم في هذه الصورة هو جواز ارتكاب كلّ من الملاقي والملاقى ، وهو غريب ، إلاّ أن نقول كما تقدّم : إنّ الثوب في حال كون إناء زيد خارجاً عن الابتلاء قد سقط الحكم فيه بالطهارة بقول مطلق ، سواء كان منشأ ذلك هو قاعدة الطهارة فيه أو قاعدة الطهارة التي يراد إجراؤها في إناء زيد بعد رجوعه إلى الابتلاء ، وحينئذ يبقى أثر قاعدة الطهارة في إناء زيد منحصراً بجواز شربه ، ولا يتعدّى إلى طهارة ملاقيه على كلّ من القولين : القول بكون العلم علّة ، والقول بكون العلّة هي التعارض.

وهذا بخلاف ما لو لم يكن إناء زيد خارجاً عن محلّ الابتلاء ، فإنّ الحكم بطهارته بكلا أثريها اللذين هما جواز شربه وطهارة ملاقيه المؤثّرة في جواز الصلاة فيه وإن كانا طوليين ، يكون معارضاً بالحكم بطهارة إناء عمرو ، وحينئذ تسقط قاعدة الطهارة في إناء زيد بكلا أثريها وإن كانا طوليين ، ولكن سقوط الأثر الثاني في هذه المرحلة لا يوجب سقوط الحكم بطهارة الثوب بالطهارة الأصلية الناشئة عن كونه في حدّ نفسه مشكوك الطهارة ، لأنّ مدرك طهارة الثوب التبعية التي هي عبارة عن الأثر الثاني لقاعدة الطهارة في الماء إنّما هو قاعدة الطهارة في

٦٣

الماء ، ومدرك الحكم بطهارة الثوب الاستقلالية إنّما هو قاعدة الطهارة في الثوب لا في الماء ، فكان من قبيل اختلاف الموضوع في الحاكم والمحكوم ، بخلاف إجراء قاعدة الطهارة في إناء زيد بعد تلفه ، الممحّض للأثر الثاني وهو طهارة ملاقيه ، فإنّ سقوطه موجب لسقوط قاعدة الطهارة فيه.

والحاصل : أنّ الطهارة الظاهرية في الثوب الناشئة عن الطهارة الظاهرية في أصله في صورة وجود الأصل ، لا تكون إلاّتبعية ، وسقوطها لا يوجب سقوط الطهارة الظاهرية الاستقلالية ، بخلاف الطهارة الظاهرية في الثوب الناشئة عن الحكم بطهارة أصله في صورة انعدام الأصل وانحصار أثر طهارته بهذه الطهارة أعني طهارة الثوب ، فإنّها تكون بمنزلة أصل مستقل ممحّض للحكم بطهارة الثوب ، فعند سقوطه يسقط فيه كلّ أصل يوجب الحكم بطهارته الظاهرية.

ويمكن أن يقال : إنّ قاعدة الطهارة في إناء زيد حينما كان خارجاً عن محلّ الابتلاء ، لمّا سقطت ولو باعتبار أثرها الثاني الذي هو طهارة الثوب ، لا يمكن إجراؤها فيه ثانياً بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء ولو باعتبار أثرها الأوّل الذي هو جواز شربه ، والمسألة مبنية على إمكان التبعيض في الآثار في مقام التعارض بين الأُصول وعدم إمكانه ، بدعوى أنّ سقوط الأصل بالتعارض يوجب سقوط تمام آثاره ، بحيث إنّه لا يعود ثانياً باعتبار أثر بعد فرض أنّه بنفسه قد سقط قبل هذا باعتبار أثر آخر كان جريانه ممحّضاً له ، فتأمّل.

لكن لو تمّ هذا لأمكن الرجوع في جواز شربه حينئذ إلى أصالة البراءة ، إذ لا مانع منها لا من ناحية العلم الاجمالي الحادث بعد عوده إلى الابتلاء ، لسبقه بتنجّز طرفه الذي هو إناء عمرو ، ولا من ناحية التعارض ، لأنّ المفروض أنّ إناء عمرو قد سقط فيه كلّ أصل مسوّغ للارتكاب بالتعارض مع الثوب قبل رجوع إناء زيد

٦٤

إلى محلّ الابتلاء حتّى البراءة ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذه التشكيكات إنّما نشأت من جهة الطولية بين الآثار في الأصل الذي هو إناء زيد والفرع الذي هو الثوب الملاقي له ، وإلاّ فلو علم بوقوع نجاسة إمّا في إناء زيد وإناء خالد معاً ، وإمّا في إناء عمرو ، وكان إناء زيد إذ ذاك خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ثمّ بعد ذلك عاد إلى محلّ الابتلاء ، سواء كان رجوعه إلى محلّ الابتلاء بعد فقدان إناء خالد ، أو كان رجوعه مع بقاء إناء خالد ، فإنّه على الظاهر لا أثر لرجوعه ، ويكون المرجع فيه هو قاعدة الطهارة ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ صاحب المقالة ملتزم بأنّ رجوع الأصل إلى محلّ الابتلاء لا يوجب الاجتناب عنه ، لأنّ العلم الاجمالي الذي كان موجوداً بين فرعه وطرفه قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء قد نجّز الحكم في طرفه ، فلا يكون العلم الاجمالي الحادث بعد رجوعه بينه وبين طرفه منجّزاً ، فلا مانع عنده من الرجوع فيه حينئذ إلى قاعدة الطهارة على ما مرّ تفصيل الكلام فيه.

قال الأُستاذ المرحوم العراقي قدس‌سره فيما حرّرته عنه في الدرس ، بعد أن بيّن الوجه في جريان قاعدة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ على القول بكون العلم مقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، ما هذا لفظه (١) : وأمّا إذا قلنا بأنّه علّة تامّة ، وأنّه لا يجوز ارتكاب بعض الأطراف حتّى لو لم تكن الأُصول في الطرفين ساقطة بالتعارض ، فيشكل الأمر فيما نحن فيه ، فإنّ الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ وإن كان بعد تساقط الأصلين في الطرفين بلا معارض ، إلاّ أن الملاقي ـ بالكسر ـ لمّا كان طرفاً للعلم الاجمالي بينه وبين ذلك الطرف المقابل للملاقى ـ بالفتح ـ ، وكان العلم الاجمالي علّة تامّة في سقوط الأصل وإن كان بلا معارض ، فمقتضى ذلك

__________________

(١) فيما حرّرته عنه في درس ليلة ٢٦ ذي القعدة ١٣٤٠ [ منه قدس‌سره ].

٦٥

عدم جواز الارتكاب في الملاقي ـ بالكسر ـ ، وحينئذ فلابدّ من إعمال حيلة موجبة لسقوط العلم الاجمالي بالنجاسة بين الملاقي ـ بالكسر ـ وبين ذلك الطرف عن التنجّز ، فنقول : إنّ الصور في المقام ثلاث :

إحداها : هي الصورة الواضحة ، وهي ما إذا حصل العلم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ثمّ علم بملاقاة شيء لإناء زيد ، ففي هذه الصورة يحصل لنا علمان إجماليان : أحدهما العلم الاجمالي بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ، والآخر العلم الاجمالي إمّا بنجاسة إناء عمرو وإمّا بتنجّس ذلك الشيء الملاقي لإناء زيد ، والعلم الثاني يكون متأخّراً في الرتبة عن العلم الأوّل ، لكونه معلولاً له ، فكما أنّ علمك التفصيلي بنجاسة إناء زيد وعلمك بملاقاة ذلك الشيء له ، يكون علّة للعلم التفصيلي بتنجّس ذلك الشيء ، فكذلك علمك الاجمالي بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو وعلمك بملاقاة ذلك الشيء لإناء زيد ، يكون علّة للعلم الاجمالي بنجاسة إناء عمرو أو تنجّس ذلك الشيء.

وإذا ثبت أنّ العلم الاجمالي الثاني متأخّر في الرتبة عن العلم الاجمالي الأوّل ، فنقول : إنّ التكليف على تقدير كونه في إناء عمرو فهو منجّز في رتبة العلم الاجمالي الأوّل ، وحينئذ لا يكون العلم الاجمالي الثاني مؤثّراً في تنجّز التكليف في ذلك الشيء الملاقي لإناء زيد ، لما تقدّم من أنّه لابدّ في تنجيز العلم الاجمالي من أن يكون تنجّز التكليف في كلّ واحد من الطرفين مستنداً إلى ذلك العلم الاجمالي ، والمفروض أنّ التكليف في إناء عمرو لا يستند تنجّزه إلى العلم الثاني ، بل إنّما يستند إلى العلم الأوّل ، فلا يكون تنجّز متعلّق العلم الاجمالي الثاني مستنداً إليه على كلّ تقدير ، إلى أن قال :

الصورة الثانية : هي عكس الصورة الأُولى ، وهي ما لو علم إجمالاً إمّا

٦٦

بنجاسة إناء عمرو أو ذلك الشيء ، وعلم أنّ المستند في نجاسة ذلك الشيء على تقدير كونه هو النجس المعلوم ليس إلاّملاقاته لإناء زيد ، ففي هذه الصورة أيضاً يحصل لنا علمان إجماليان : أحدهما العلم الاجمالي إمّا بنجاسة ذلك الشيء أو نجاسة إناء عمرو ، والآخر العلم الاجمالي إمّا بنجاسة [ إناء ] عمرو أو بنجاسة إناء زيد ، والعلم الثاني متأخّر في الرتبة عن الأوّل ، لكونه معلولاً له ، فكما أنّك إذا علمت تفصيلاً بنجاسة ذلك الشيء وعلمت أنّه لا مستند لنجاسته إلاّملاقاته لإناء زيد ، يكون علمك المذكور علّة لعلمك بنجاسة إناء زيد ، فكذلك علمك الاجمالي إمّا بنجاسة ذلك الشيء أو نجاسة إناء عمرو ، وعلمك بأنّ ذلك الشيء على تقدير كونه هو النجس لا مستند له إلاّملاقاته لإناء زيد ، يكون علّة لعلمك الاجمالي إمّا بنجاسة إناء زيد أو نجاسة إناء عمرو ، وحينئذ لا يكون العلم الاجمالي الثاني مؤثّراً في تنجّز وجوب الاجتناب عن إناء زيد بالتقريب المتقدّم ، ففي هذه الصورة يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ.

الصورة الثالثة : أن يكون العلمان معلولين لعلّة ثالثة ، فيكونان في مرتبة واحدة. وفي الحقيقة يكون العلمان علماً واحداً مردّداً بين طرف واحد وطرفين كما لو أخبر الصادق بنجاسة إناء عمرو أو نجاسة إناء زيد وذلك الشيء ، وأنّ نجاسة ذلك الشيء على تقديرها لا مستند لها إلاّملاقاته لإناء زيد ، ففي هذه الصورة أيضاً يكون لنا في الصورة علمان إجماليان : أحدهما العلم الاجمالي إمّا بنجاسة إناء زيد أو نجاسة إناء عمرو ، والآخر العلم الاجمالي إمّا بنجاسة ذلك الشيء أو نجاسة إناء عمرو ، إلاّ أنه لمّا لم يكن أحد العلمين معلولاً للآخر ، بل كان كلاهما معلولين لعلّة ثالثة وهي إخبار ذلك الصادق ، لم يكن أحدهما متقدّماً في الرتبة على الآخر ، بل كان كلّ منهما في رتبة الآخر. وفي الحقيقة لا يكون لنا

٦٧

إلاّ علم واحد مردّد بين الواحد والاثنين ، فيكون التكليف في كلّ من الثلاثة منجّزاً بالعلم المذكور ، ففي هذه الصورة يجب الاجتناب عن كلا المتلاقيين.

فظهر لك أنّ المدار في وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ أو بالعكس أو عنهما ، على كون أحد العلمين متأخّراً عن الآخر ومعلولاً له ، أو كونهما في رتبة واحدة ومعلولين لعلّة ثالثة. وأمّا تقدّم العلم بالملاقاة على العلم بالنجاسة أو تأخّره عنه أو حدوثهما دفعة واحدة فلا أثر له فيما نحن بصدده ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

وقد ذكر عين هذا التفصيل في مقالته المطبوعة ، بقوله : ثالثها : في أنّ العلم الحاصل بمعلول شيء الخ (١) ، وأفاد فيها أنّ العلم يكون علّة للتنجّز ، فيكون التنجّز متأخّراً عنه وإن كان معلومه سابقاً على العلم ، إلى آخر ما أفاده فيها. ووجهه واضح ، من جهة أنّ العلم وإن كان طريقاً إلى متعلّقه ، إلاّ أنه بالنسبة إلى تنجّز متعلّقه يكون علّة وموضوعاً ، فيستحيل تقدّم التنجّز عليه ، فلو تعلّق العلم بنجاسة الثوب كان تنجّز أحكام نجاسته متأخّراً عن العلم بها ، وإن كانت تلك النجاسة معلولة لنجاسة الاناء الذي هو الملاقى ـ بالفتح ـ ، المفروض سبقها على العلم بنجاسة الثوب ، فلا يكون المدار في التنجّز على سبق المعلوم كما ربما يظهر من التحرير عن شيخنا قدس‌سره (٢) ، بل المدار في التنجّز على سبق العلم.

وقال شيخنا قدس‌سره فيما حرّرته عنه في مقدّمة الكلام على صور تلف الملاقى ـ بالفتح ـ وأنّ الملاقي ـ بالكسر ـ يقوم مقامه : وتنقيح الحكم في هذه الأقسام الثلاثة يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ العلم وإن كان طريقاً للأحكام

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٨٦ ـ ٨٧.

٦٨

الشرعية ، إلاّ أنه بالنسبة إلى الأحكام العقلية كالتنجّز وتعارض الأُصول وتساقطها يكون على نحو الموضوعية. وبذلك صرّح فيما نقله عنه قدس‌سره في هذا التحرير فيما يأتي في مبحث الاضطرار (١) ، فراجع.

وحينئذ يتفرّع على ذلك : أنّه لو حصل العلم الاجمالي أوّلاً بين نجاسة الثوب وإناء عمرو ، ثمّ حصل العلم الاجمالي ثانياً بين نجاسة إناء زيد وإناء عمرو ، وأنّ علّة نجاسة الثوب على تقديرها هو نجاسة إناء زيد الذي قد لاقاه الثوب ، لم يكن هذا العلم الاجمالي الثاني مؤثّراً ، لسبقه بتنجّز نجاسة إناء عمرو بواسطة العلم الاجمالي الأوّل ، وإن كان المعلوم فيهما على العكس من العلم ، لتأخّر المعلوم في الأوّل رتبة عن المعلوم في الثاني.

ومنه يظهر الحال فيما لو فرض كون العلمين معلولين لعلّة ثالثة ، وهي الصورة الثالثة ممّا حرّرناه عنه في الدرس ، وهي التي أشار إليها في المقالة بقوله : ومن هذا البيان ظهر حال عرضية العلمين كما فرضناه ، فإنّه حينئذ يجب الاجتناب عن المعلوم الملزوم واللازم كليهما الخ (٢) ، فراجعه إلى آخر المبحث ، هذا.

ولا يخفى أنّ ما نقلناه عنه في الدرس صريح في أنّ المدار على التقدّم الرتبي بين العلمين ، ولذا التزم (٣) في الصورة الثانية أعني ما لو تقدّم العلم بنجاسة الثوب أو إناء عمرو ثمّ حصل العلم بملاقاة الثوب لإناء زيد وأنّه لو كان الثوب هو النجس لكان المستند في نجاسته هو نجاسة ما لاقاه الثوب أعني إناء زيد ، فيكون العلم المردّد بين نجاسة الثوب أو إناء عمرو علّة للعلم بنجاسة إناء زيد أو إناء

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٩٥.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥٠.

(٣) [ لم يُذكر متعلّق « التزم » في العبارة ، لكن المقصود واضح ].

٦٩

عمرو ، ويكون الانتقال من العلم الأوّل إلى العلم الثاني من قبيل الانتقال الإنّي ، بخلافه في الصورة الأُولى فإنّ الانتقال من العلم بنجاسة أحد الاناءين إلى العلم بنجاسة الثوب أو إناء عمرو انتقال من العلّة إلى المعلول ، فيكون الانتقال فيه لمّياً. كما أنّ الذي يظهر من عبارة المقالة أنّ التقدّم رتبي أيضاً ، وأنّ المدار في الفرق بين الصورتين هو التقدّم الرتبي (١).

وعلى أي حال ، فيمكن الجواب عنه بما حاصله : أنّ المقام في الصورة الثانية من قبيل انكشاف الخطأ في العلم السابق على نحو الشكّ الساري ، فإنّه وإن حصل له العلم المردّد بين نجاسة الثوب أو إناء عمرو ، إلاّ أنه بعد الاطّلاع على أنّه لا مستند لنجاسة الثوب لو كان هو النجس إلاّملاقاته لإناء زيد ، ينكشف لديه أنّه ليس المقابل لاناء عمرو هو الثوب ، بل إنّ المقابل له هو إناء زيد ، وأنّ نجاسة الثوب ليست في قبال إناء عمرو ، بل إنّما هي متفرّعة على نجاسة إناء زيد لو كان هو النجس.

وبذلك يتبيّن له أنّ النجاسة المتردّدة إنّما هي بين إناء زيد وإناء عمرو ، وأنّ الثوب ليس في الحقيقة أحد طرفي العلم ، وإنّما هو موضوع جديد من النجس مترتّب على تقدير كون النجس هو إناء زيد ، فإنّ الترديد بين الثوب وإناء عمرو ليس في عرض الترديد بين الاناءين ، بل إنّ الترديد بين الاناءين سابق في الرتبة على الترديد بين الثوب وإناء عمرو ، فلا يبقى أثر للترديد الثاني بين الثوب وإناء عمرو ، لأنّ أحد طرفيه وهو إناء عمرو كان أحد طرفي الترديد الأوّل ، وفي

__________________

(١) لكن الظاهر من الكفاية [ ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ] أنّ العبرة بالتقدّم الزماني وأنّه هو الفارق بين الصور الثلاث. وبناءً على ما أفاده صاحب المقالة أنّ الملاقي ـ بالكسر ـ لا يجب الاجتناب عنه في الصورة الثالثة التي ذكرها في الكفاية [ منه قدس‌سره ].

٧٠

الحقيقة أنّ الترديد الثاني صوري لا واقعية له ، والترديد الحقيقي إنّما هو بين الاناءين ، فلو وقع أوّلاً الترديد الثاني وحصل بعده الترديد الأوّل ، ينكشف أنّ ما كان قد حصل له من الترديد الأوّل بين الثوب وإناء عمرو صوري لا واقعية له ، فيكون ذلك أشبه شيء بانكشاف الخطأ على نحو الشكّ الساري ، فينعدم العلم الأوّل ويرتفع أثره من التنجّز بين الثوب وإناء عمرو ، فلا يكون العلم الأوّل باقياً مع حصول العلم الثاني ، كي يقال إنّه يجتمع العلّتان على تنجّز نجاسة إناء عمرو ، ويكون استناد تنجّزه إلى الأوّل ترجيحاً بلا مرجّح.

ولا يخفى أنّ كلمات شيخنا قدس‌سره في مقام ردّ ما أفاده صاحب الكفاية وإن كان ظاهر الكثير منها منصبّاً على أنّ المدار في التنجّز على سبق المعلوم وتأخّره ، وأنّ العلم طريق محض كما أشرنا إليه ، إلاّ أن الكثير منها صريح في أنّ العلم الثاني في الصورة الثانية يوجب انعدام الأوّل بنحو انكشاف الخلاف أو الشكّ الساري بالنحو الذي عرفته ، فلا يتوجّه ما أشرنا إليه وصرّح به في المقالة من كون العلم علّة في التنجّز ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الأُستاذ العراقي قدس‌سره فيما حكيناه عن درسه ، جعل ملاك الفرق بين الصور الثلاث هو التقدّم والتأخّر الرتبي بين العلمين ، بل إنّ كلامه في المقالة أيضاً ناظر إلى ذلك. نعم إنّ صاحب الكفاية جعل الملاك هو التقدّم الزماني بين العلمين.

وأمّا التقدّم الرتبي بين المعلومين كما يظهر من شيخنا قدس‌سره الاعتماد عليه في عدم تأثير أحد العلمين ، فقد أورد عليه في المستمسك (١) بما حاصله : أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ وإن كانت متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، إلاّ أن

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

٧١

العلم بنفس النجاسة لا أثر له ما لم يترتّب عليها حكم تكليفي كوجوب الاجتناب ، ومن الواضح أنّ وجوب الاجتناب في الملاقي ـ بالكسر ـ ليس بمتأخّر رتبة عن وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ ، إذ لا علّية بينهما ولا معلولية ، وإنّما هي بين نجاستيهما.

ويمكن الجواب عن هذا الايراد بما تقدّم في الجواب عن الشبهة السابقة (١) وحاصله : أنّ نجاسة الثاني أعني الملاقي ـ بالكسر ـ من الأحكام الوضعية لنجاسة الأوّل أعني الملاقى ـ بالفتح ـ ، فتكون متأخّرة عنها تأخّر الحكم عن موضوعه أو المسبّب عن سببه ، وحينئذ تكون هي في عرض وجوب الاجتناب عن الأوّل من آثار نجاسة الأوّل ، فيكون وجوب الاجتناب عن الثاني متأخّراً في الرتبة عن وجوب الاجتناب عن الأوّل ، لأنّ ما هو متأخّر عمّا هو في عرض الشيء متأخّر عن نفس الشيء.

والحاصل : أنّ نجاسة الأوّل متقدّمة على نجاسة الثاني ، ونجاسة الثاني متقدّمة على وجوب الاجتناب عنه ، فيكون هو ـ أعني وجوب الاجتناب عن الثاني ـ واقعاً في الدرجة الثانية من نجاسة الأوّل (٢) فيكون متقدّماً عليه رتبة وإن لم يكن بين نفس الوجوبين علّية ولا معلولية ، فيكون العلم الاجمالي المنجّز لوجوب الاجتناب عن الأوّل سابقاً في الرتبة على العلم الذي نريد أن نجعله منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الثاني ، وحينئذ يكون تنجّز وجوب الاجتناب في

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٦ وما بعدها.

(٢) [ تقدّمت هذه العبارة في الصفحة : ٢٨ وقد ورد فيها : فيكون هو ـ أعني وجوب الاجتناب عن الثاني ـ واقعاً في الدرجة الثالثة من نجاسة الأوّل ، ويكون وجوب الاجتناب عن الأوّل واقعاً في الدرجة الثانية من نجاسة الأوّل ... ].

٧٢

طرف الأوّل سابقاً في الرتبة على مقتضى العلم الثاني بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف الملاقى ـ بالفتح ـ ، فلا يكون العلم الثاني مؤثّراً ، لكون الوجوب في أحد طرفيه الذي هو طرف الأوّل متنجّزاً بالعلم الأوّل بين الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه.

ولكن هذه المسألة ـ أعني تأخّر ما هو متأخّر عمّا هو في رتبة الشيء عن نفس ذلك الشيء ـ من المشكلات ، وقد تعرّضنا لها في أوائل مسألة الضدّ في الحاشية على ص ٢١٦ من التحريرات المطبوعة في صيدا (١) ، وفي أوائل حجّية القطع من هذا الكتاب في مسألة أخذ العلم بالحكم موضوعاً ، فراجعه في حاشية ص ٦ من هذا التحرير (٢).

وحاصله : أنّ الشيئين إمّا أن يكون أحدهما في طول الآخر كما إذا كان معلولاً له ، وإمّا أن يكون أحدهما في عرض الآخر كما إذا كانا معلولين لعلّة ثالثة ، وإمّا لا يكون أحدهما في طول الآخر ولا في عرضه ، كما إذا لم يكن بينهما ربط العلّية ولا ربط المعلولية كالكتاب والدار مثلاً.

إلاّ أن يقال : إنّ العرضية هي عبارة عن عدم الطولية. ولا يخفى ما فيه ، فنقول : إنّه لو كان ألف مثلاً علّة لكلّ من الباء والجيم ، وكان الجيم علّة لدال ، فهل يكون الدال في عرض الباء لعدم العلّية والمعلولية بينهما ، أو أنّهما لا يكونان إلاّ مثل الكتاب والدار في أنّه لا طولية بينهما ولا عرضية ، أو أنّ تأخّر الدال عن الجيم بحسب الرتبة يكون موجباً لتأخّره رتبة عن الباء ، لأنّ صقع الباء هو صقع الجيم ، والمفروض أنّ صقع الدال متأخّر عن صقع الجيم ، فيكون قهراً متأخّراً عن صقع الباء ، وبناءً على ذلك نقول إنّه لو كان للباء معلول يكون الدال واقعاً في مرتبة ذلك

__________________

(١) وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٢٨.

(٢) وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٠.

٧٣

المعلول ، لأنّ كلاً من المعلولين يكون متأخّراً عن علّته ، والعلّتان وهما الباء والجيم واقعان في عرض واحد لكونهما معاً معلولين لألف.

ثمّ لا يخفى أنّ وجوب الاجتناب في الملاقي ـ بالكسر ـ وإن لم يكن متأخّراً في الرتبة عن وجوب الاجتناب في الملاقى ـ بالفتح ـ ، إلاّ أنه لا أقل من التلازم بينهما ولو لم يكن بينهما طولية ، وحينئذ يتمّ ما أفاده في المقالة من تقدّم أحد العلمين على الآخر ، كما لو علم أوّلاً بوجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ فإنّه ينتقل عنه إلى ملازمه وهو وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ. ولو كان الذي علمه أوّلاً هو وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ ، كان الأمر بالعكس. نعم لو حصل العلم بهما دفعة لم يكن العلم بأحدهما متقدّماً رتبة على الآخر.

ويظهر أثر ذلك في الصورة الثالثة ممّا ذكره في الكفاية فيما لو كان العلمان يقترنان زماناً ، فإنّه بناءً على طولية المعلومين يكون في البين تقدّم رتبي للعلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو على العلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، كما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى شرحه ، بخلاف ما لو أنكرنا التقدّم الرتبي بين المعلومين وقلنا بأنّهما من قبيل المتلازمين فقط ، فإنّه حينئذ لا يكون لأحد العلمين في الصورة المزبورة تقدّم رتبي على الآخر.

هذا ما يتعلّق بالتقدّم الرتبي ، وأمّا ما يتعلّق بالتقدّم الزماني الذي هو مسلك الكفاية فقد نقله في المستمسك ونقل بعض الايرادات عليه وأجاب عنها. فالأولى نقل ذلك ، فنقول بعونه تعالى :

قال في المستمسك : وقد يشكل بأنّه إنّما يتمّ لو بني على أنّ العلم بحدوثه

__________________

(١) في الصفحة : ٨٤ وما بعدها.

٧٤

يوجب تنجّز المعلوم إلى الأبد ... الخ (١).

قال شيخنا قدس‌سره فيما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ، بعد أن ذكر التفصيل عن الكفاية ما هذا لفظه : ولا يخفى عليك أنّ هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الاجمالي بما أنّه علم وصفة قائمة في النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف ، وإن تبدّلت صورته وانقلبت عمّا حدثت عليه ، لأنّه يكون المدار حينئذ على حال حدوث العلم ، فراجعه إلى قوله : فنقول إنّه يعتبر في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجيز بقاؤه على صفة حدوثه ، إلى آخر المبحث (٢).

وهذه العبائر وإن كانت مقاربة لما عبّر به هذا المشكل في صدر الإشكال إلاّ أنّ مراد شيخنا قدس‌سره هو انقلاب العلم الأوّل في الصورة الثانية إلى العلم الثاني ، فلا يبقى أثر للعلم الأوّل. لكن مراد المشكل هو أنّ العلم الأوّل وإن كان سابقاً في الزمان ، إلاّ أنه بعد أن لحقه العلم الثاني يكون التنجّز مستنداً إليهما ، سواء كان السابق هو العلم بنجاسة الثوب أو إناء عمرو أو كان السابق هو العلم بين الاناءين إناء زيد الذي لاقاه الثوب وإناء عمرو.

لكن هذا المقدار من دعوى الاشتراك في التنجّز بين العلم السابق والعلم اللاحق ، لا يتناسب مع صدر الإشكال من أنّ حدوث العلم لا يوجب تنجّز المعلوم إلى الأبد ، إلاّ أن يكون المراد هو الاستقلال في التنجّز ، بمعنى أنّ العلم السابق وإن كان في حال حدوثه مستقلاً في التنجّز ، إلاّ أنه بعد حدوث العلم الثاني يخرج عن الاستقلالية ، ويكون التنجّز معلولاً لكلا العلمين ، فلو علم بالنجاسة

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٨٦ ـ ٨٧.

٧٥

بين إناء زيد وإناء عمرو ثمّ علم بالنجاسة بين الثوب الملاقي لإناء زيد وبين إناء عمرو ، كان العلم الأوّل مستقلاً حال حدوثه في تنجّز نجاسة إناء عمرو ، إلاّ أن العلم الثاني المردّد بين الثوب وإناء عمرو بعد حدوثه يوجب استناد تنجّز نجاسة إناء عمرو إلى كلا العلمين ، فلا يبقى العلم الأوّل مستقلاً في تنجّز إناء عمرو ، كي لا يكون للعلم الثاني أثر في تنجّز تلك النجاسة في إناء عمرو ، بل يكون تنجّزها فيه مستنداً إلى كلا العلمين.

وهكذا الحال فيما لو كان العلم السابق هو المردّد بين الثوب وإناء عمرو ثمّ حدث العلم المردّد بين الاناءين.

وأجاب في المستمسك عن الإشكال المذكور بما حاصله : هو أنّ تبعية التنجّز للعلم حدوثاً وبقاءً لا تقتضي إلاّ استناد التنجّز إلى العلم الثاني.

ولا يخفى أنّ مقتضى التبعية هو استناد التنجّز إلى كلا العلمين ، لا انفراد الثاني في العلّية ، فإنّ العلم الأوّل إذا فرضنا عدم زواله بحدوث العلم الثاني ، كانا من قبيل اجتماع العلّتين لا استقلال العلم الثاني. ولعلّ مراده من الاستناد إلى العلم الثاني هو أنّ علّية الأوّل غير مانعة من علّية الثاني ، فيجتمع العلّتان ، ولأجل ذلك يكون ما نحن فيه من قبيل ما لو علم بنجاسة إناءين أو إناء ثالث.

ثمّ إنّه فرّق بينهما بأنّ الانحلال ليس بعقلي بل هو عقلائي ، وفي تعبير الأُستاذ العراقي قدس‌سره (١) أنّه حكمي ، وقد جمع بينهما في المستمسك فقال : بل هو حكمي عقلائي (٢).

وحينئذ يمكن الفرق بين المثال وبين ما نحن فيه ، ففي المثال لا يكون

__________________

(١) لاحظ مقالات الأُصول ٢ : ١٨٨.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٨.

٧٦

انحلال ، لأنّ العقلاء يرون العلم المذكور منجّزاً في أطرافه الثلاثة ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ العقلاء لا يرون العلم المتأخّر منجّزاً بعد سبق العلم السابق في التنجّز. ومع قطع النظر عن هذه الجهة من الفرق لابدّ من الالتزام باشتراك اللاحق مع السابق في التنجّز ، ويكون تنجّز نجاسة إناء عمرو مستنداً إلى كلا العلمين ، ويكون ذلك من قبيل اجتماع العلّتين على معلول واحد ، ويكون حال السبق واللحوق كحال مقارنة أحد العلمين للآخر.

ولا يمكن الفرق بين صورة الاقتران وصورة السبق واللحوق ، بأنّ التنجّز في صورة الاقتران مستند إلى علم ثالث وهو القائم بين طرفين وطرف ثالث ، لأنّ هذا العلم الثالث عين العلمين ، لانحلاله إليهما ، فيكون حاله بالنسبة إليهما حال الكل بالنسبة إلى أجزائه كما يظهر بالتأمّل (١) ، فإنّ العلم بين المتلاقيين والطرف بمنزلة الكل ، والعلم بين الاناءين والعلم بين الثوب وإناء عمرو بمنزلة أجزاء ذلك الكل ، فيكون العلم الأوّل عين العلمين المذكورين.

لكن قد عرفت (٢) فيما نقلناه عن الأُستاذ العراقي في الصورة الثالثة أنّ العلمين فيها يكونان مستندين إلى علّة ثالثة ، فلا يكون أحدهما في طول الآخر ، بل يكون كلّ منهما في عرض الآخر. نعم هذه طريقة أُخرى في توجيه الفرق بين الصورة الثالثة والصورتين الأُوليين ، وهي غير هذه الدعوى المبنية على الفرق بينهما بكون التنجّز في الصورة الثالثة مستنداً إلى علم ثالث ، فتأمّل.

ثمّ إنّه في المستمسك (٣) اختار ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره من كون المدار على

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٦.

(٢) في الصفحة : ٦٧.

(٣) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٧.

٧٧

السبق الزماني ، فيجب في الصورة الأُولى الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ وطرفه دون الملاقي ـ بالكسر ـ ، وفي الثانية يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف الملاقى ـ بالفتح ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ ، وفي الثالثة يجب الاجتناب عن الجميع ، بدعوى بناء العقلاء على ذلك في الأُوليين. أمّا الثالثة فلأنّ استناد التنجّز إلى أحد العلمين دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيستند إليهما معاً ، ويكون الحال كما لو قسّم أحد الاناءين قسمين.

وأجاب عن دعوى الفرق بينهما بالتقدّم الرتبي فيما نحن فيه بخلاف التقسيم ، بما نقلناه عنه وتأمّلنا فيه ، فراجع.

ثمّ ذكر ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الصورة الثانية بطريق إن قلت. والظاهر أنّه حمل ما أفاده شيخنا قدس‌سره على كون المدار في التنجّز على الواقع المعلوم استناداً إلى كون العلم طريقياً. وأجاب عنه بما يرجع إلى ما تقدّمت الاشارة إليه من كون العلم بالنسبة إلى التنجّز علّة وموضوعاً. ثمّ ذكر المعنى الثاني لما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما ذكرناه سابقاً من انقلاب العلم على نحو انكشاف الخطأ بقوله : ودعوى كون العلم اللاحق الخ ، وأجاب عن هذه الدعوى بأنّها ليست أولى من دعوى العكس ، بل هي المتعيّنة ، لما قدّمه من الانحلال العقلائي وأنّ المدار فيها على السبق الزماني.

قوله في المستمسك : وقد عرفت أنّ انحلال اللاحق بالسابق ليس حقيقياً ـ إلى قوله ـ بل هو حكمي عقلائي ، بمعنى أنّه لا يكون حجّة عند العقلاء ، وإلاّ فالانحلال قد يكون بحجّة غير العلم من أمارة أو أصل ـ إلى قوله ـ وبالجملة : العلم إنّما يتعلّق بالصور الذهنية ولا يسري إلى الخارج ، فكيف يرفع أحد العلمين الآخر مع اختلاف الصورتين الخ (١)

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

٧٨

وقال المرحوم الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته المطبوعة في الردّ على القول بالانحلال الحقيقي : وفيه أوّلاً : بأنّ ذلك لا يتمّ في الطرق غير العلمية ـ إلى أن قال ـ ثمّ على فرض علمية الطريق لا يجدي وجوده في انقلاب المعلوم بالاجمال إلى التفصيلي ، إذ كلّ واحد من العلمين متعلّق بصورة غير الأُخرى ، إذ الصور الاجمالية مباينة مع التفصيلية ذهناً ، وإن كانا متّحدين أحياناً في الخارج ـ إلى أن قال ـ ولا يقاس المقام بباب الأقل والأكثر ، إذ الاجمال هناك في حدّي الأقل والأكثر ، وإلاّ ففي نفس الذات ما يتحقّق (١) من الأوّل إلاّعلم تفصيلي بالأقل والشكّ في الأكثر ، وأين هذا ومقامنا الذي كان الإجمال في نفس الذات باقياً على حاله وإن تحقّق علم تفصيلي بأحد الطرفين كما هو ظاهر ، وحينئذ فليس مقامنا بقول مطلق من باب الانحلال بنحو الحقيقة ، علمية كانت الطرق التفصيلية أم ظنّية ، وحينئذ فالتحقيق أن يقال : إنّه مع قيام المنجّز ـ أيّما كان ـ في أحد الطرفين ، يخرج العلم الاجمالي عن تمام المؤثّرية في هذا الطرف ، فقهراً يصير جزء مؤثّر ، ومن البديهي أنّ شأن الجزئية خروجه عن الاستقلال في التأثير ، ولازمه عدم استقلاله على تأثيره في الجامع الاجمالي ـ إلى أن قال ـ وعليه فليس المقام بالنسبة إلى جميع أنحاء الطرق بل والأُصول المثبتة إلاّبمنوال واحد ، من كون الانحلال في الجميع حكمياً لا حقيقياً (٢).

وحاصل ما أفاده في هذا التحقيق : هو أنّه إذا كان التكليف متنجّزاً في طرف معيّن من طرفي العلم الاجمالي بسبب هناك أوجب تنجّزه في ذلك الطرف ، لم

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ المذكور في الطبعة القديمة « ما يحقّق » وفي الحديثة صحّحت بـ « ما تحقّق » ].

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ١٨٧ ـ ١٨٨.

٧٩

يكن العلم الاجمالي بالنسبة إلى ذلك الطرف المعيّن تمام المؤثّر في التنجّز ، وأقصى ما في ذلك أن يكون التنجّز في ذلك الطرف المعيّن مستنداً إلى سببه الخاصّ به وإلى العلم الاجمالي المردّد بينه وبين الطرف الآخر ، فيكون العلم الاجمالي في ذلك الطرف المعيّن جزء المؤثّر ، وحينئذ لا يكون العلم الاجمالي في ذلك الطرف مستقلاً في التنجّز ، وإذا سقط عن الاستقلال في التنجّز في أحد الطرفين لم يعقل القول بكون العلم الاجمالي مستقلاً في التنجّز ، فإنّ لازم ذلك هو سراية الاستقلالية إلى كلّ واحد من الطرفين ، وقد عرفت عدم الاستقلالية في ذلك المعيّن ، فلابدّ أن نقول إنّ نفس العلم الاجمالي بما أنّه متعلّق بالقدر [ الجامع ] ليس له استقلالية التنجّز ، وإذا ثبت عدم استقلاله في التنجّز كان ذلك عبارة أُخرى عن كونه غير مؤثّر في الطرف الآخر ، وحينئذ يكون سقوطه عن التأثير عقلياً ، وحيث إنّه بعد باقٍ على ما هو عليه من الإجمال وعدم الانحلال الحقيقي ، نقول إنّه بحكم الانحلال الحقيقي في عدم تأثيره.

ولا يخفى أنّ من يقول بالانحلال في مسألة الأقل والأكثر ولو في غير الارتباطيين ، لا يقول بأنّ هناك علماً إجمالياً حقيقيّاً ، وأنّه انحلّ إلى العلم التفصيلي بالأقل والشكّ البدوي في الزائد ، بل يقول إنّه علم إجمالي صوري خيالي ، وأنّه لا واقعية إلاّللعلم التفصيلي بالأقل والشكّ البدوي في الزائد.

ومنه يعلم الحال في العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعيّن ، فإنّه أيضاً لا يكون العلم الاجمالي المردّد بينهما إلاّصورياً خيالياً ، وأنّه ليس في البين إلاّ العلم التفصيلي بنجاسة ذلك المعيّن والشكّ البدوي في نجاسة الطرف الآخر ، فلا يكون الانحلال إلاّحقيقياً ، بل لا يكون العلم الاجمالي إلاّصورياً كما عرفت ، وكيف يعقل بقاء صورة العلم

٨٠