أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

لذلك بالمعذورية وعدمها ، فلو عمل ما هو مخالف للواقع كان عليه الاعادة والقضاء ، سواء كان ذلك عن قصور أو كان عن تقصير ، وسواء كان طريق مخطئ أو لم يكن ، استند إليه أو لم يستند ، لكن صورة الاستناد خارجة عن محلّ البحث ، وإن لزم الاعادة والقضاء بحسب القاعدة لولا الإجماع الآتي ذكره.

قوله : ويترتّب على ما ذكرنا ـ إلى قوله ـ فإن وافق عمله رأي من يجب عليه تقليده فعلاً ، أو وافق اجتهاده الفعلي ، كان عمله مجزياً وتبرأ ذمّته ، ولو خالف رأي من كان يجب عليه تقليده حال العمل (١).

يحتاج إلى القيد السابق أعني تأتّي القربة منه ، وعدم الخدشة فيه من جهة الاطاعة التفصيلية بناءً على اعتبارها عند الامكان.

قوله : وإن انعكس الفرض ، وكان عمله مخالفاً لرأي من يجب تقليده فعلاً وموافقاً لرأي من كان يجب تقليده حال العمل ـ إلى قوله ـ ومن المعلوم أنّ الطريق إنّما هو يقتضي المعذورية إذا وقع العمل عن استناد واعتماد إليه ... الخ (٢).

لابدّ أن يكون المراد بالمعذورية المعذورية عن العقاب ، وهي خارجة عن محلّ الكلام الذي هو المعذورية من حيث الاعادة والقضاء ، فإنّه بالنسبة إلى هذه الجهة ليس بمعذور ، بل يلزمه الاعادة والقضاء حتّى لو كان عمله السابق عن استناد إلى الفتوى السابقة إذا كان العمل بحسب الفتوى اللاحقة فاسداً.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٦.

٥٤١

قوله : وأمّا لو خالف العمل لأحدهما ووافق الآخر ، ففي استحقاقه للعقوبة وجهان ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الواقع والأمارة القائمة عليه إن اتّفقا ووافقهما المكلّف ، فلا ريب في عدم العقاب ، وكذا لو خالفهما ، فإنّه لا ريب فيه في استحقاق العقاب. وإن اختلفا ، فإمّا بنحو التضادّ مثل أن يكون الحكم الواقعي هو التحريم ويكون مؤدّى الأمارة هو الايجاب ، وإمّا بنحو الايجاب والسلب ، بأن يكون الحكم الواقعي هو التحريم ، ويكون مؤدّى الأمارة هو الاباحة وعدم التحريم ، والبحث معقود لهذا الأخير ، أمّا الاختلاف بالتضادّ فيعلم حكمه منه بالمقايسة.

فنقول بعونه تعالى : إنّ الاختلاف بالايجاب والسلب تارةً : يكون الحكم الواقعي هو التحريم مثلاً ويكون مؤدّى الأمارة هو الاباحة. وأُخرى : يكون الأمر بالعكس ، والمكلّف في كلّ من هاتين الصورتين إن اتّفق أنّه قد عمل على طبق المثبت ، فلا ريب أيضاً في عدم استحقاقه للعقاب ، لأنّه حينئذ غير مطالب بشيء ، لا من ناحية الواقع ولا من ناحية الأمارة.

وإنّما الإشكال فيما لو اتّفق أنّ عمله كان على طبق النافي ، فهناك صورتان ، الأُولى : أن يكون الواقع هو حرمة شرب التتن مثلاً ، لكن كانت هناك رواية لو تفحّص لعثر عليها ، تدلّ على الاباحة وقد شربه المكلّف. الثانية : عكس هذه المسألة ، بأن يكون الواقع هو إباحة شرب التتن ، لكن هناك رواية لو تفحّص عنها المكلّف لعثر عليها تدلّ على حرمته.

وقد حكم شيخنا في الصورة الأُولى باستحقاق العقاب ، لمخالفته للواقع بلا مبرّر ولا مؤمّن ، والرواية الدالّة على الاباحة لم يستند إليها لتكون مصحّحة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٨.

٥٤٢

لعذره. وفي الصورة الثانية حكم بعدم استحقاق العقاب ، إذ لم يخالف الواقع ، والرواية الدالّة على التحريم لا أثر لها مع فرض كونها مخالفة للواقع ، وكون حجّيتها من باب الطريقية. نعم ، لو قلنا بالسببية الراجعة إلى التصويب ، لزم القول في هاتين المسألتين بالعكس ، يعني بعدم استحقاق العقاب في الصورة الأُولى واستحقاقه في الصورة الثانية.

قوله : فإن قلت : أليس قد فاتت منه المصلحة السلوكية ... الخ (١).

ظاهره الايراد على الصورة الثانية ، لكن لا يناسبه الجواب عنه بأنّه مع عدم العلم بالطريق والعمل به لا سلوك ولا مصلحة حتّى يلزم من ترك الفحص تفويتها الخ.

وكيف كان ، فهذا الإشكال إن كان مرجعه إلى الإشكال على الصورة الأُولى ، بأن يقال : لا وجه للحكم فيها باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع ، لأنّ مصلحته متداركة بالأمارة القائمة على نفي التكليف ، وحينئذ يجاب عنه بأنّ المصلحة السلوكية إنّما تكون بحيث يتدارك بها مصلحة الواقع لو كان المكلّف قد استند إليها في مخالفة ذلك الواقع ، لا مع فرض عدم علمه بها وعدم سلوكه من ناحيتها ، اللهمّ إلاّ أن نقول بالسببية ، بأن يكون نفس وجود تلك الأمارة مبدّلاً للحكم الواقعي ، لكنّه على الظاهر لا يتمّ هنا ، لأنّ قيام الأمارة فرع العلم بها ، والمفروض أنّه لا يعلم بها. والحاصل : أنّ هذا لا يتمّ على المصلحة السلوكية ولا على السببية ، بل ولا على التصويب الصرف ، لأنّ ذلك دائر مدار الظنّ الفعلي ، وهو يتوقّف على العلم بالأمارة.

وإن كان مرجع هذا الإشكال إلى الإشكال على الصورة الثانية ، بأن يقال : إنّه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٨.

٥٤٣

لا وجه للحكم بعدم العقاب في الصورة الثانية ، بل يلزمه العقاب ، لأنّه قد فوّت المصلحة الطريقية ، وإن لم يكن قد فوّت مصلحة الواقع ، فحينئذ يجاب عنه بأنّ المصلحة السلوكية لا يجب تحصيلها ، وإنّما مرجعها إلى أنّ المكلّف لو عمل بالأمارة مع كونها مخالفة للواقع لم يكن جعل تلك الأمارة حجّة في حقّه منافياً للحكمة ، لجواز أن يكون في سلوكها مصلحة يتدارك بها ما فات منه بسبب تلك الأمارة من مصلحة الواقع ، وأين هذا من لزوم أن يتصدّى ويفحص عن الأمارة ليسلكها ويحصل على مصلحة سلوكها.

وثانياً وهو العمدة : إنّ المصلحة السلوكية إنّما تكون عند فوت مصلحة الواقع ، وهذا المكلّف لم يفته مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض أنّه قد كان عمله على طبق الواقع ، فتأمّل.

قوله : وأمّا لو ترك الفحص وخالف عمله الواقع ، ولم يكن عليه طريق منصوب يمكن العثور عليه بالفحص لا موافق ولا مخالف ، ففي استحقاقه للعقاب إشكال ـ إلى قوله ـ والأقوى استحقاقه للعقاب ، لأنّ العلم الاجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة يوجب تنجّز تلك الأحكام على ما هي عليها ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو قلنا باستحقاق العقاب في الصورة الأُولى المقرونة بوجود الأمارة النافية للتكليف ، فاستحقاقه في هذه الصورة غير المقرونة بذلك بطريق أولى ، لسلامتها من توهّم المعذورية الناشئة عن وجود الأمارة النافية ، فينبغي أن يكون مدرك الكلام في الصورتين واحداً ، فإنّ المنشأ في استحقاق العقاب فيهما هو العلم الاجمالي.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٩.

٥٤٤

ويمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّ العلم الاجمالي إنّما يؤثّر إذا كان المكلّف شاكّاً حين الإقدام ، محتملاً لوجود التكليف في تلك الواقعة التي ابتلي فيها ، لأنّ شكّه حينئذ يكون مقروناً بالعلم الاجمالي الموجب بحكم العقل لزوم الاحتياط ، أمّا إذا لم يكن شاكّاً ، بل كان غافلاً أو قاطعاً بالخلاف ، فلا يكون ذلك العلم الاجمالي مؤثّراً في حقّه ، بل ربما كان غافلاً عن ذلك العلم الاجمالي حين الاقدام المذكور.

وثانياً وهو العمدة : أنّ ذلك العلم الاجمالي قد عرفت انحلاله إلى ما لدينا من الأدلّة المشتملة على إثبات التكاليف في موردها بمقدار ذلك المعلوم بالاجمال أوّلاً ، وبناءً عليه لم يبق في حقّه ما يوجب تنجّز الواقع عليه ، أمّا بناءً على أنّ مدرك وجوب الفحص هو غير العلم الاجمالي ، فلأنّ الفحص إنّما ينجّز الأحكام التي يكون لها ما يثبتها من تلك الأدلّة ، دون ما لم يكن له دليل مثبت له من تلك الأدلّة. وكذلك بناءً على أنّ مدرك وجوب الفحص هو العلم الاجمالي المذكور ، فإنّه بعد انحلال العلم الاجمالي الأوّل إلى العلم الاجمالي الثاني المنحصر بالأحكام التي قامت عليها تلك الأدلّة ، لو أقدم المكلّف على شرب التتن مثلاً ثمّ تبيّن أنّه ليس في تلك الأدلّة ما يثبته ، ينكشف له أن ليس في البين ما يوجب تنجّز حرمة الشرب المذكور. وبعبارة أوضح : أنّه بعد فرض الانحلال المذكور ، لا يكون ذلك العلم منجّزاً إلاّلخصوص ما كان من الأحكام مدلولاً لأحد تلك الأدلّة ، أمّا ما لم يكن مدلولاً لها فلا يكون في البين ما ينجّزه.

وبالجملة : أنّه بعد انحلال العلم الاجمالي الأوّل إلى العلم الاجمالي الثاني ، يكون المدار على المعلوم الثاني ، وهو خصوص ما دلّت تلك الأدلّة على ثبوت التكليف فيه ، فيكون ذلك المقدار هو المنجّز دون غيره ، ويكون حاله حال من

٥٤٥

علم بحرمة البيض من هذا القطيع لكنّه يحتمل حرمة جملة من السود أيضاً ، إلاّ أنّه احتمال بدوي غير منجّز ، وقد اشتبه البيض بالسود لأجل الظلمة مثلاً ، وقد أقدم على واحدة من ذلك القطيع من دون فحص عن كونها من البيض أو السود ، ثمّ تبيّن له بعد الاقدام أنّها ليست من البيض ، فإنّه لا يكون مستحقّاً للعقاب ، وإن كان حين الاقدام يحتمل أنّها من البيض ، ولم يكن إقدامه المذكور مبرّراً ، لأنّه بلا مستند شرعي ولا عقلي ، لكنّه إنّما يستحقّ العقاب إذا صادف كونها من البيض ، أمّا إذا لم تكن هي من البيض لكن صادف كونها محرّمة في الواقع ، فلا موجب لاستحقاقه العقاب ، لأنّ حرمة ما عدا البيض لم تكن منجّزة عليه حين الاقدام المذكور.

اللهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في صحّة عقابه أنّ إقدامه لم يكن عن مستند شرعي ولا عقلي ، لعدم إمكان إجرائه في ذلك الحال البراءة الشرعية ولا العقلية ، وحينئذ فيصحّ للشارع عقابه على مخالفة تلك الحرمة التي صادف الواقع وجودها ، وإن لم تكن منجّزة في نفسها بذلك العلم الاجمالي ، وذلك للاكتفاء في صحّة ذلك العقاب عليها بأنّه لم يكن إقدامه على خصوص تلك الشاة بمسوّغ عقلي أو شرعي ، بل كان ممنوعاً عنه بحسب حكم العقل الناشئ عن علمه الاجمالي بوجود البيض في ذلك القطيع التي يعلم بحرمتها (١)

__________________

(١) فهو نظير من قطع بأنّ هذه الشاة موطوءة إنسان فأقدم على أكلها ، ثمّ تبيّن أنّها ليست بموطوءة لكن كانت مغصوبة ، أو تبيّن له أنّها لم تكن تلك الشاة الموطوءة بل كانت أرنباً مثلاً ، بل ما نحن فيه أولى ، لأنّ المثال من قبيل التبيّن من سنخ آخر مغاير لسنخ ما كان قد قطع به من الحرمة ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه من

٥٤٦

ومن هذا القبيل ما لو علم بخمرية أحد الاناءين وقد شربهما معاً ، ثمّ بعد ذلك تبيّن أنّ كلاً منهما كان خمراً ، فإنّه على الظاهر يلزمه العقابان ، وإن كان يظهر من شيخنا قدس‌سره أنّه لا يلزمه إلاّ العقاب على الأوّل ، فراجع ما حرّره عنه في

__________________

قبيل أنّ المتبيّن من سنخ الحرمة التي كانت مقطوعاً به ، أو كانت منجّزة بالعلم الاجمالي.

وأوضح مثال لما نحن فيه هو أن يعلم بأنّ إحدى هاتين المرأتين الصغرى والكبرى أُخته مثلاً ، ويحتمل أن تكون الكبرى عمّته ، ثمّ أقدم من دون فحص على تزوّج الصغرى مثلاً ، ثمّ تبيّن أنّ أُخته كانت هي الكبرى التي لم يتزوّجها لكن اتّفق أنّ تلك الصغرى التي تزوّجها هي عمّته. بل الذي يكون عين ما نحن فيه هو احتمال كون الأُخرى أُخته أيضاً ، فهو لو علم بأنّ الكبرى أُخته يحتمل احتمالاً بدوياً أنّ الصغرى أُخته أيضاً.

ثمّ إنّه قد يقال بعدم الانحلال قبل الفحص ، بدعوى أنّ المعلوم بالاجمال الأوّلي إنّما ينحلّ بعد الفحص والعثور على ما هو بمقداره ، فإنّ الانحلال ليس أمراً واقعياً بحيث يكون العلم الأوّل منحلاً في الواقع إلى مؤدّيات الطرق التي لم نصل إليها بعدُ ، بل الانحلال أمر وجداني تابع للعثور على ما هو بمقدار المعلوم بالاجمال من مؤدّيات الأمارات الموجودة فيما بأيدينا من الكتب.

قلت : لا يخفى أنّ توقّف الانحلال على تحقّق الفحص إنّما هو لو أُريد به الانحلال التفصيلي ، أمّا الانحلال الاجمالي بأن يكون المعلوم بالاجمال أوّلاً منحلاً إلى المعلوم بالاجمال ثانياً فلا يتوقّف على تحقّق الفحص ، بل يكفي فيه العلم الاجمالي بأنّ في جملة تلك الكتب من الأدلّة المثبتة للتكليف ما يكون بمقدار المعلوم بالاجمال أوّلاً ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لو علمنا حين الاقدام بأنّ محلّ الابتلاء لم يكن من جملة ما دلّت عليه تلك الأدلّة ، لكان ذلك كافياً في تسويغ الرجوع إلى البراءة في ذلك وجواز الإقدام عليه [ منه قدس‌سره ].

٥٤٧

التقريرات المطبوعة في صيدا في روايات الاستصحاب ص ٣٦٦ و ٣٦٧ (١).

والحاصل : أنّ عدم حكم العقل أو الشرع بتسويغ ارتكاب تلك الشاة من ذلك القطيع كافٍ في صحّة العقاب على مخالفة الحرمة الواقعية ، ولا يحتاج إلى قيام الحجّة العقلية أو الشرعية على تلك الحرمة المتعلّقة بها ، لكونها في الواقع سوداء محرّمة ، بل يكفي في صحّة احتجاج المولى عليه هو مجرّد عدم المبرّر في ذلك الارتكاب الخاصّ ، بل يمكن أن يكون المانع له من إجراء البراءة العقلية والشرعية ومن ارتكاب أكل تلك الشاة الخاصّة الناشئ عن احتمال كونها بيضاء احتمالاً مقروناً بالعلم الاجمالي بحرمة البيض ، كافياً في انقطاع حجّة ذلك المكلّف ، بحيث يكون ذلك مخرجاً له عن كون عقابه بلا بيان ، حتّى أنّه لو كان قاطعاً بعدم حرمة السود لكان احتمال كونها من البيض كافياً في صحّة العقاب ، إذ لم يكن المستند له في جواز الارتكاب هو قطعه المذكور ، إذ المفروض أنّه لم يكن حين الإقدام على أكل تلك الشاة عالماً بكونها من السود ، ليمكنه أن يحتجّ بأنّي كنت قاطعاً بعدم حرمتها.

ونظير ذلك ما لو علم بخمرية هذا الاناء الصغير وكان شاكّاً في خمرية الكبير أو قاطعاً بعدمها ، وقد تناول الاناء وشربه معتقداً أنّه الصغير وقد أخطأ في اعتقاده المذكور ، وانكشف أنّ الذي تناوله هو الكبير وأنّه كان خمراً ، وأنّ الصغير لم يكن خمراً. بل الأقرب لمثال القطيع هو أن يعلم إجمالاً بخمرية أحد الاناءين الصغيرين ، وكان الثالث الكبير مشكوك الخمرية ، وقد تناول إناء معتقداً أنّه أحد الاناءين ، لكن بعد أن شربه تبيّن له أنّه الكبير وأنّه كان خمراً.

__________________

(١) الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح : ٣٦٧ و ٣٦٨ من الطبعة القديمة. راجع أجود التقريرات ٤ : ٤٧ ـ ٤٩.

٥٤٨

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تلك الشاة التي ارتكبها من ذلك القطيع وإن حكم العقل بلزوم الاجتناب عنها ، إلاّ أنه إنّما يحكم بذلك من حيث احتمال كونها بيضاء ، دون احتمال كونها سوداء ، فلا تكون الحرمة من ناحية احتمال كونها سوداء منجّزة حين الارتكاب ، فإنّ احتماله العقاب حين الارتكاب إنّما هو من ناحية احتمال كونها في الواقع بيضاء ، أمّا ناحية احتمال كونها سوداء فهو يقطع بعدم العقاب عليه.

ولا يخفى أنّ ذلك ـ أعني اختلاف حيثية التنجّز ـ لو تمّ في مثال القطيع لكان تماميته فيما نحن فيه بطريق أولى ، لأنّ العلم الاجمالي إنّما ينجّز التكاليف من حيث نفس تلك الموجودة فيما بأيدينا ، وغيرها تكاليف أُخر يمكن أن لا تنجّز بواسطة منجّزية ما بأيدينا. لكنّه غير تامّ في كلا المقامين ، أمّا في مثال القطيع فلما عرفت من أنّ ذلك لا يخرجه عن كونه قد ارتكب الحرام بلا مبرّر ، ومجرّد قطعه بأنّها على تقدير كونها سوداء لا عقاب على حرمتها لو صادفت الحرمة لا يوجب القطع بعدم العقاب على ذلك الارتكاب الخاصّ ، لأنّ المفروض أنّه لم يحرز كونها سوداء ، ومنه يعرف الكلام فيما نحن فيه بأدنى تغيير في العبارة.

والحاصل : أنّه في ارتكابه المذكور لم يستند إلى ذلك الحكم العقلي أو إلى البراءة الشرعية ، لأنّها إنّما تكون على تقدير لم يحرزه ، وهو تقدير كونها سوداء ، ولابدّ في المؤمّن والمعذّر من كونه مستنداً حين الإقدام ، ولأجل ذلك نقول باستحقاق العقاب فيما لو كان بعد ارتكاب أحد أطراف العلم الاجمالي بالخمرية قد اطّلع على قيام أمارة على أنّه ليس بخمر ، لكن قد صادف أنّ ذلك الذي ارتكبه كان خمراً وأنّ تلك الأمارة مخطئة ، ولم يكن حين الارتكاب مستنداً إلى تلك الأمارة المخطئة ، لعدم اطّلاعه عليها إلاّبعد الارتكاب.

٥٤٩

ومن ذلك كلّه يعلم الحال فيما توهّمنا إيراده أوّلاً ، فإنّ المكلّف حين الارتكاب وإن كان قاطعاً بعدم التكليف ، إلاّ أنه لمّا لم يكن قطعه المذكور معذّراً له لكونه مقصّراً فيه ، لم يكن مصحّحاً للعذر عمّا صادفه من الحرام الواقعي.

والحاصل : أنّه قاطع بأنّ ما ابتلي به لم يكن عليه دليل مثبت للتكليف فيما بأيدينا ، إلاّ أنه لمّا لم يكن ذلك القطع معذوراً فيه ، كان موجباً لاستحقاق العقاب على ما صادفه من الحرام ، وإن لم يكن ذلك الحرام الذي قد صادفه ممّا قامت به إحدى الأدلّة الموجودة في الكتب التي بأيدينا فتأمّل ، هذا.

ولكن لا يبعد أن يقال : إنّ هذا الذي ذكرناه من كون الارتكاب بلا مبرّر ، لا يكون له أثر إلاّعقاب التجرّي دون العقاب على الواقع ، فمن أكل إحدى الشاتين مع علمه الاجمالي بكون إحداهما موطوءة الإنسان ثمّ بعد الأكل تبيّن له أنّ مأكولته لم تكن شاة موطوءة بل كانت أرنب ، وأنّ الموطوءة هي التي لم يأكلها فهو متجرّ بالنسبة إليها ، أمّا التي أكلها وهو الأرنب فلا عصيان فيها ولا تجرّي ، وهكذا الحال فيما نحن فيه فإنّه متجرّ بالنسبة إلى الشبهات التي عليها حجّة فيما بأيدينا ، أمّا نفس هذه الشبهة فلا عقاب ولا تجرّي.

قوله : ولا يخفى عليك ما في هذا الوجه من الضعف ، فإنّ الخصوصية الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل ، إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل سقوطه بالفاقد ... الخ (١).

الأولى أن يقال : إنّه لو كان الرجل قد أخفت في صلاة العشاء فتلك المصلحة الزائدة على مصلحة أصل الصلاة ، أعني مصلحة الاجهار للرجال في صلاة العشاء ، لابدّ أن تكون لازمة الاستيفاء ، وإلاّ لم يصحّ العقاب على تفويتها ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

٥٥٠

وحينئذ فإن كان اعتبار الاجهار من قبيل الواجب في واجب ، بحيث إنّ مصلحة الاجهار أوجبت أن يكون الاجهار واجباً في قراءة الصلاة المذكورة من دون أن تقيّد الصلاة بالاجهار ، بحيث كانت هناك مصلحة تقتضي إيجاب طبيعة الصلاة وكانت هناك مصلحة أُخرى تقتضي وجوب الاجهار فيها ، من دون أن يكون في البين ما يوجب تقييد الصلاة بالاجهار ، لعدم توقّف المصلحة في نفس الصلاة على الاجهار بها ، كان لازم ذلك هو عدم الفرق بين الجهل بوجوب الاجهار والعلم به في أنّه لو تركه لم يمكنه الاعادة ، لحصول الامتثال بالنسبة إلى طبيعة الصلاة الذي هو ظرف امتثال الأمر بالاجهار ، ولا ينفع فيه ما أفاده في الكفاية (١) ممّا حاصله أنّ طبيعة الصلاة المعرّاة من الجهر إنّما تكون وافية بمصلحتها إذا كان وجوب الجهر غير معلوم ، لأنّ ذلك لو تمّ لكان مرجعه إلى ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره (٢) من أنّ الجهر واجب نفسي ، وعند العلم بذلك الوجوب النفسي يكون الجهر قيداً في الصلاة ، إذ لا محصّل لكون الصلاة المعرّاة عن الجهر غير وافية بمصلحتها في حال العلم بوجوب الجهر ، إلاّكون الصلاة مقيّدة بالجهر في حال العلم ، لأنّ ذلك هو مقتضى عدم وفائها بمصلحتها في ذلك الحال ، بحيث يكون وفاؤها بالمصلحة المذكورة متوقّفاً في ذلك الحال على تقيّدها بالجهر.

والحاصل : أنّه بناءً على كون المسألة من قبيل الواجب في ضمن واجب ، لا محيص من الالتزام بعدم التفرقة بين العلم والجهل ، إلاّبأن يرجع التفصيل إلى التفصيل الذي أفاده الأُستاذ قدس‌سره من أنّ الواجب أوّلاً وبالذات هو طبيعة الصلاة ، وهذه يجب فيها الجهر وجوباً نفسياً ، وهذا الوجوب النفسي إن علم المكلّف به

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٥.

٥٥١

يجب الجهر وجوباً شرطياً ، وإن لم نقل بهذا التفصيل فلا محيص من الالتزام بعدم لزوم الاعادة في مورد العلم ، إلاّ أن نلتزم بما أفاده الحاج آغا رضا قدس‌سره في صلاته ، من أنّه من الجائز تقييد مطلوبية صرف الطبيعة بخلوصها عن شائبة التجرّي كي ينافيها التعمّد أو التردّد كما لا يخفى (١).

ومراده بشائبة التجرّي هو التجرّي بترك الواجب النفسي الذي هو الجهر الذي هو أجنبي عن أجزاء الصلاة وشرائطها ، بحيث يكون اقتران الصلاة بالعمد إلى عصيانه موجباً لبطلان الصلاة ، وإن لم يكن العصيان بتركه في صورة الجهل التقصيري موجباً لذلك ، وليس المراد اقتران الصلاة بحرمة الاخفات من جهة الأمر بضدّه ، لأنّه لا يقول بذلك كما صرّح به قبيل هذه الجملة ، فراجع صلاته ص ٣١٧ (٢) وراجع حاشيته على الرسائل على قول الشيخ قدس‌سره : ويردّه أنّا لا نعقل الترتّب في المقامين ، فإنّ كلام الحاج آغا رضا قدس‌سره في حاشيته عين ما أفاده في صلاته معنى ، بل وعبارة (٣). وبالجملة : أنّه قدس‌سره قائل بأنّ المسألة من قبيل تعدّد المطلوب حتّى في حال العلم ، لكنّه يقول بالفساد في حال العلم من ناحية هذا التجرّي.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا التوجيه لا يخلو من تكلّف وتعسّف ، بحيث يكاد يحصل لنا القطع بأنّه خلاف الواقع. وعلى كلّ من المسلكين ـ أعني مسلك الأُستاذ ومسلك المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سرهما ـ تكون الصلاة الفاقدة للجهر في حال الجهل به واجبة ، وصاحب الكفاية قدس‌سره لا يقول بذلك ، بل يقول إنّها في ذلك

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) ١٢ : ٣٥٨.

(٢) المصدر المتقدّم : ٢٥٧.

(٣) راجع حاشية فرائد الأُصول : ٢٩٧.

٥٥٢

الحال غير مأمور بها كما صرّح بذلك في تقريب الإشكال بقوله : لأنّ ما أتى بها وإن صحّت وتمّت ، إلاّ أنها ليست بمأمور بها. وقولِه : إن قلت : كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها. وقولِه في أثناء الجواب : وإنّما لم يؤمر بها لأجل أنّه أُمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتمّ الخ (١). هذا كلّه على تقدير كون اعتبار الاجهار من قبيل الواجب في ضمن واجب.

وإن لم يكن كذلك ، بل كانت المصلحة توجب تقيّد الصلاة المذكورة به ، فهو وإن أوجب بطلان الصلاة بدونه مطلقاً ، ومقتضاه لزوم الاعادة سواء كان تركه عن جهل أو علم ، لكن يمكن أن يقال في توجيه عدم الاعادة في خصوص صورة الجهل : بأنّ الفاقد لذلك القيد وإن لم يكن مأموراً به ، لكنّه كان وجوده موجباً لفوات المصلحة ، على وجه لا يمكن استيفاؤها بالاتيان ثانياً بالواجد لذلك القيد ، بخلاف ما لو أتى بالفاقد لذلك القيد في حال العلم ، لامكان الخصوصية للجهل الموجبة لسقوط المصلحة وارتفاعها بالفاقد ، بحيث لا يكون الاتيان بذلك الفاقد في حال العلم كذلك ، وبناءً على ذلك لا داعي للالتزام بكون الفاقد في حال الجهل مشتملاً على شيء من المصلحة ، بل يمكن الالتزام بأنّه لا مصلحة فيه ويكون موجباً لفوات أصل المصلحة ، بمعنى عدم التمكّن من استيفائها ، فيكون من قبيل إعدام الموضوع ، نظير ما لو أُمر بتجهيز الميّت فأحاله غازاً أو نحوه ممّا لا يمكن معه التجهيز. وكأنّه قدس‌سره إنّما التزم بكون الفاقد في ذلك الحال واجداً لمقدار من المصلحة ، لكنّه معه لا يمكن استيفاء المصلحة الكاملة بالاتيان بالواجد لينطبق عليه قوله عليه‌السلام : « تمّت صلاته ولا يعيد » (٢) بدعوى أنّ اشتماله على مقدار من

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٥٢١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٣ ح ١ ، وراجع أيضاً الباب ١٧ ، وراجع أيضاً وسائل الشيعة ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١.

٥٥٣

المصلحة كافٍ في صدق قوله عليه‌السلام : « تمّت صلاته » وإن لم يكن مأموراً به.

وفيه أوّلاً : أنّه خلاف الظاهر من قوله : « تمّت » ، فإنّ ظاهره أنّها وقعت على طبق الأمر في ذلك الحال.

وثانياً : أنّ مقتضى كون الفاقد في ذلك الحال وافياً بذلك المقدار من مصلحته ، هو أن لا يكون وفاؤه بمصلحته متوقّفاً على انضمام القيد إليه ، وذلك لا يكون إلاّلأنّه في ذلك الحال غير مقيّد بذلك القيد ، بخلاف حال العلم ، فلابدّ أن يكون راجعاً إلى أنّه في ذلك الحال من قبيل الواجب في ضمن واجب بخلاف حال العلم.

والحاصل : أنّ الفاقد في حال الجهل إن كان وافياً بمصلحته القليلة ، كان مرجعه إلى أنّه في ذلك الحال من قبيل الواجب في ضمن واجب ، وإن لم يكن وافياً بمصلحته ، كان أجنبياً عن المأمور به ، وكان من قبيل الاتيان بعمل آخر مُذهب للمصلحة بالمأمور به ، والأوّل راجع إلى توجيه الأُستاذ قدس‌سره ، والثاني خلاف ظاهر النصوص والفتاوى ، ولو التزمنا به ولو كان مخالفاً لظاهر النصوص والفتاوى ، كان علينا أن نقول بالصحّة فيما لو أتى المسافر الجاهل بلزوم القصر بالصلاة قصراً وتأتّت منه نيّة القربة ، مع أنّهم لا يلتزمون بالصحّة في مثل ذلك ، بل يلتزمون بالبطلان.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الوجه في الحكم بالبطلان في هذه الصورة لأنّه لمّا كان معتقداً لوجوب التمام من جهة جهله بالحكم ، لم يكن إتيانه بالقصر إلاّمن باب التشريع ، فيكون عمله باطلاً من جهة اقترانه باعتقاد أنّه مشرّع في ذلك العمل.

وأنت بعد أن عرفت التفصيل في تقريب مطلب الكفاية وبيان الايراد عليه ، تعرف أنّ ما أُفيد في هذا التقرير وكذا ما أُفيد في التقرير المطبوع في صيدا لا يخلو

٥٥٤

عن تأمّل ، والأمر سهل ، مثلاً قوله في هذا التقرير : فلا يعقل سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية الخ (١) لا يخلو من تأمّل ، فإنّ المفروض هو ذلك ، أعني سقوطه لكن لا بالامتثال بل بالعصيان وتفويت الموضوع. وكذلك قوله : إلاّ إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطاً بعدم سبق الصلاة التامّة من المكلّف ، وهذا خلف (٢) ، فإنّ المفروض هو ذلك ، أعني كون المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطة بعدم سبق التامّة عليها ، بمعنى أنّ بقاء التمكّن من استيفاء مصلحة القصر مشروط بعدم تقدّم التمام ، لأنّ التمام موجبة لذهاب موضوعها وارتفاع التمكّن من مصلحة المقصورة ، وليس هذا بخلف ، ولا بموجب لعدم استحقاق العقوبة على ترك المقصورة ، لأنّ المفروض هو كون المقصورة ذات المصلحة التامّة ، لكن بقاء إمكان استيفائها مقيّد بأن لا تسبقها التامّة ، وذلك ليس براجع إلى خلوّ المقصورة عن المصلحة في حال الجهل ، بل هو عبارة عن كونها ذات مصلحة أكيدة موجبة لوجوبها على فرض تمكّنه منها ، لكن فعل التامّة قبلها أوجب تفويتها على المكلّف وعدم تمكّنه من استيفائها ، فإذا كان مقصّراً في ذلك التفويت لتقصيره في التعلّم ، كان مستحقّاً للعقاب عليها.

وبالجملة : أنّ ذلك ليس من قبيل اشتراط مصلحة القصر بعدم فعل التمام ، إذ ليس ذلك شرطاً في أصل ثبوت المصلحة ، بل ولا هو شرط في بقائها ، بل هو شرط في بقاء إمكان استيفائها ، وفرق واضح بين كونه شرطاً في أصل حدوث المصلحة أو شرطاً في بقائها ، وبين كونه شرطاً في بقاء التمكّن من استيفائها.

ومنه يظهر لك الحال فيما في التقرير المطبوع في صيدا ، فإنّ قوله : وفيه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٢.

(٢) المصدر المتقدّم.

٥٥٥

أوّلاً : أنّ المصلحة الزائدة الكائنة في الجهر ـ إلى قوله ـ إمّا أن تكون مصلحة ملزمة ـ إلى قوله ـ وإمّا أن لا تكون كذلك ـ إلى قوله ـ فعلى الأوّل ينحصر الأمر بكونه حينئذ واجباً في واجب ، المفروض في المقام خلافه الخ (١) ، إنّما كان ينحصر ذلك بكونه من قبيل الواجب في واجب ، لأنّه فرض كون مصلحة الجهر مصلحة زائدة على أصل مصلحة الصلاة ، ولولا ذلك الفرض لأمكن أن يكون من قبيل التقييد ، إمّا من جهة أن لا مصلحة أصلاً في الصلاة الاخفاتية ، أو لأنّ مصلحتها متوقّفة على إيقاعها جهرية.

ومن ذلك يظهر لك أنّ كون الجهر ذا مصلحة ملزمة لا يلازم كونه من قبيل الواجب في ضمن واجب.

ثمّ إنّا لو فرضنا أنّ المقام من قبيل الواجب في واجب لم يكن في ذلك مخالفة للمقام ، وما أُفيد من الايراد عليه بقوله : إذ المفروض قيدية الجهر للواجب ملاكاً وخطاباً ، وإلاّ فلابدّ من القول بتعدّد العقاب على تقدير ترك الصلاة رأساً الخ ، ليس من قبيل اللازم الباطل ، بل هذه الجهة لو كانت باطلة لكانت متوجّهة عليه قدس‌سره ، لأنّه يلتزم بكون الجهر في حال الجهل واجباً نفسياً ، غايته أنّه إن علم بوجوبه يكون قيداً في الواجب ، وحينئذ فيتوجّه عليه ما أُفيد هنا من كونه خلاف المفروض أعني كون الجهر قيداً ، ولزوم تعدّد العقاب لو ترك الصلاة في حال الجهل ، فلابدّ حينئذ من الالتزام بكلّ من هذين المطلبين أعني عدم كون الجهر في حال الجهل قيداً وإن كان واجباً نفسياً ، وتعدّد العقاب لو ترك الصلاة رأساً إلى أن خرج الوقت ، وإن كان الواجب عليه أن يقضيها بعد العلم جهراً.

وكذا قوله : وثانياً أنّ ما أفاده في وجه استحقاق العقاب مع التمكّن من

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٧٠.

٥٥٦

الاعادة ـ إلى قوله ـ فإنّه إنّما يتمّ بناءً على كون الجهر واجباً في واجب الخ ، قد عرفت أنّ تمامية ذلك ـ أعني استحقاق العقاب لعدم القدرة على استيفاء الملاك ـ لا تتوقّف على كون المقام من قبيل الواجب في واجب ، بل يمكن ذلك مع كونه من قبيل التقييد ، لكون ما أتى به موجباً لعدم تمكّنه من استيفاء مصلحة الواجب على ما عرفت تفصيله.

وأعجب من ذلك قوله : مع أنّه ينافيه قوله عليه‌السلام : « تمّت صلاته » الخ ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « تمّت صلاته » إنّما ينافي الوجه الثاني وهو كونه من قبيل التقييد ، أمّا الوجه [ الأوّل ] وهو كونه من قبيل الواجب في واجب فلا يكون منافياً له ، وإلاّ لكان ذلك ـ أعني دعوى المنافاة للنصّ (١) ـ وارداً عليه قدس‌سره ، لما عرفت من أنّه قدس‌سره يقول بكونه في حال الجهل من قبيل الواجب في واجب.

ويمكن أن يوجّه ما في الكفاية بكون المسألة من قبيل الضدّين الأهمّ والمهم ، حيث إنّه بعد فرض كون الصلاة الاخفاتية في حال الجهل بوجوب الجهرية مشتملة في خصوص حال الجهل على مقدار من المصلحة ، وأنّه مع استيفاء ذلك المقدار الناقص لا يمكن استيفاء ذلك المقدار ، فكانت الاخفاتية

__________________

(١) متن رواية الاتمام في موضع القصر قوله عليه‌السلام : « إن كان قرئت عليه آية التقصيروفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه » ، [ وسائل الشيعة ٨ : ٥٠٦ / أبواب صلاة المسافر ب ١٧ ح ٤ ].

متن رواية المخالفة في الجهر والاخفات قوله عليه‌السلام في جواب السؤال عن رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه ، فقال عليه‌السلام : أي ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه ، وقد تمّت صلاته » [ منه قدس‌سره. وسائل الشيعة ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١ ].

٥٥٧

بواسطة أنّها توجب ولو في حال الجهل عدم التمكّن من الصلاة الجهرية ، فكانا في ذلك الحال من الضدّين اللذين مع الاتيان بأحدهما لا يمكن الاتيان بالآخر ، ونحن وإن لم نقل بأنّ الأمر بأحد الضدّين الذي هو الأهمّ ـ أعني الصلاة الجهرية ـ موجب للنهي عن الضدّ الآخر الذي هو الصلاة الاخفاتية ، إلاّ أنه يوجب عدم الأمر بذلك الضدّ الآخر وإن كان له ملاك في حدّ نفسه ، وهذا الملاك كافٍ في الحكم بصحّة هذا الضدّ المأتي به ، وإن لم نقل بكون هذا الضدّ المأتي به مأموراً به بالأمر الترتّبي ، وحينئذ يتمّ لصاحب الكفاية قدس‌سره ما توخّاه من الجمع بين صحّة الصلاة الاخفاتية كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : « تمّت صلاته » وعدم الأمر بها ، والعقاب على تفويت الصلاة الجهرية كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : « ولا يعيد ».

ومن ذلك يظهر أنّه بناءً على صحّة الترتّب يمكن الالتزام به في هذه المسألة كما أفاده كاشف الغطاء قدس‌سره (١).

لكن يرد على هذا التوجيه : أنّ هذا التضادّ منحصر في حال الجهل ، ويكون هذا التضادّ من التضادّ الدائمي ، وذلك مخرج له عن باب التزاحم والترتّب ، ويدخله في باب التعارض ، ومع تقدّم الأمر بالصلاة الجهرية كما هو المفروض ، تكون الصلاة الاخفاتية في ذلك الحال خارجة عن الأمر ملاكاً وخطاباً ، كما هو الشأن في باب التعارض ، وبذلك تخرج عن التزاحم والترتّب ، فلاحظ وتأمّل.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الترتّب دلّ عليه الدليل الشرعي ، وليس هو من قبيل الترتّب المعروف كما ستأتي الاشارة إلى توضيحه إن شاء الله تعالى (٢).

وبذلك يجاب عن الإشكال على التصحيح بالملاك ، بأن يقال : إنّ مقتضى

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ١٧١ / البحث الثامن عشر.

(٢) راجع الحاشية الآتية في الصفحة : ٥٧٣ وما بعدها.

٥٥٨

التعارض وتقديم الأمر بالجهرية وإن كان هو خروج الاخفاتية عن حيّز الأمر خطاباً وملاكاً ، إلاّ أنه لمّا دلّ الدليل على الصحّة في المقام ، وعلى استحقاق العقاب ، نزّلنا دليل الصحّة على واجدية الملاك ، ودليل العقاب على كون الواجب هو الجهرية.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد شرح الترتّب بما ذكرناه يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) من الاعتراض عليه أوّلاً : من أنّه لابدّ فيه من كون المهم واجداً للملاك والمفروض عدمه في المقام. وثانياً : بأنّه لا يمكن توجّه الخطاب بالمهمّ في المقام لتوقّفه على الخطاب بمثل أيّها الجاهل بوجوب الجهرية ، وهو ممتنع في حقّ الجاهل ، لأنّ هذا الخطاب يقلبه إلى العلم بذلك.

ووجه التأمّل في الأوّل هو ما عرفت من واجدية المهم هنا للملاك. وأمّا الثاني فلعدم الحاجة إلى الخطاب بعنوان الجاهل ، لكفاية وجود الخطاب بالمهمّ الذي هو الاخفات ، غايته أنّ المكلّف يعتقد إطلاقه ، وهو في الواقع مقيّد بترك الجهرية الناشئ عن الجهل بوجوبها ، وهذا المقدار لا يضرّ بصحّة امتثاله للأمر المذكور. هذا لو كان معتقداً وجوب الاخفات.

ومنه يظهر الحال فيما لو لم يكن معتقداً لوجوب أحدهما ، بل كان لا يعلم إلاّ أصل وجوب الصلاة من دون تقيّد بكونها جهرية أو إخفاتية ، وقد أخفت في موضع الجهر ، فإنّه يتأتّى فيه ما ذكرناه من الملاك والترتّب وعدم توقّف الخطاب الترتّبي على علمه بوجوب الجهرية ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، يرد على هذا الترتّب ما أفاده قدس‌سره في تحرير السيّد سلّمه الله ص ٣٣٧ من قوله في آخر المسألة : على أنّا ذكرنا في محلّه أنّ الخطاب الترتّبي وإن كان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٣.

٥٥٩

ممكناً ، إلاّ أنه نحتاج في إثبات وقوعه إلى دليل يدلّ عليه ، إلاّفي خصوص موارد التزاحم الناشئ عن عدم القدرة على إيجاد متعلّقي الأمرين ، فإنّ إطلاقي الدليل هناك كافٍ في وقوع الترتّب كما أوضحناه في محلّه ، ففي مثل المقام لو فرض كون الترتّب ممكناً إلاّ أنه لا دليل عليه في مقام الاثبات ، والأدلّة الدالّة على صحّة الصلاة لا تدلّ على أنّ الصحّة لأجل الترتّب وأخذ عنوان عصيان أحد الخطابين موضوعاً للخطاب الآخر (١).

وممّا يكشف أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره أراد ما ذكرناه من إرجاع المسألة إلى التضادّ والتزاحم أُمور :

الأوّل : قوله : قلت إنّما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في حدّ نفسها مهمّة في ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنّما لم يؤمر بها لأجل أنّه أُمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل (٢). وإلاّ فأيّ داع له للالتزام بكون الاخفاتية واجدة لمقدار من المصلحة ، لكي يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٣) من أنّ هذه المصلحة لو كانت متوقّفة على الباقي كان مقتضاه فساد الاخفاتية ، وإن لم تكن متوقّفة عليه كان مقتضاه التخيير ، غايته أنّ الجهرية أفضل الفردين. أمّا توجيه ذلك بما ذكرناه من أنّه يتوخّى به انطباق قولهم : صحّت صلاته أو تمّت ، فقد عرفت (٤) ما فيه أوّلاً وثانياً.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٧٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٧٨.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٤) في الصفحة : ٥٥٤.

٥٦٠