أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

متّحداً معه في الخارج ، وإن كان منطبقاً على الطرف الآخر الذي هو الأربعة بشرط شيء أعني الخامس ، فلا شكّ في كونه متّحداً معه في الخارج أيضاً ، إلاّ أنه لمّا كان مشتملاً على كلفة على المكلّف زائدة على ما في الطرف الآخر ، كان مورداً لكلّ من البراءة العقلية والشرعية. نعم لو كان في كلّ من الطرفين كلفة غير الموجودة في الطرف [ الآخر ] لم يكن الانحلال ممكناً.

لا يقال : إنّكم وإن أجريتم البراءة العقلية والنقلية في تلك الجهة الزائدة ، إلاّ أنّ جريانها فيها لا يرفع الاهمال من ناحية وجوب الأربعة وتردّدها بين الاطلاق والتقييد بالخامس ، فمع عدم ثبوت الاطلاق كيف يمكنكم الاكتفاء بها عن الخامس.

لأنّا نقول : إنّ الاهمال المذكور مع فرض جريان البراءة العقلية والنقلية في الجهة الزائدة ـ أعني التقييد بالخامس ـ كافٍ في استراحة المكلّف وأمنه من العقاب على ترك ذلك القيد ، من دون حاجة إلى إثبات إطلاق الأربعة.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عمّا أفاده قدس‌سره في العبارة السابقة التي نقلناها عن رسالته في اللباس المشكوك وهي قوله : بل ليس إجمال العلم هاهنا إلاّعبارة أُخرى عمّا ذكر من الاهمال ، فلا يعقل أن يجعل نفس القضية المهملة موجبة للانحلال (١). وتوضيح المراد بهذه العبارة : هو أنّه لو كان الواجب هو الأكثر ـ أعني الخمسة ـ كان من قبيل الماهية بشرط شيء ، ولو كان الواجب هو الأربعة كان من قبيل الماهية لا بشرط القسمي ، والقدر المتيقّن إنّما هو القدر المشترك بين الأمرين ، أعني اللاّ بشرط المقسمي المعبّر عنه بالماهية المهملة التي هي مورد الاعتبارات الثلاثة ، أعني بشرط شيء وبشرط لا ولا بشرط ، ومن الواضح أنّ العلم

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٣٠٠ ـ ٣٠١. تقدّم نقلها في الصفحة : ٢٧٤.

٣٠١

بوجوب ذلك القدر المشترك ـ أعني الماهية لا بشرط المقسمي ـ لا يعقل أن يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي المردّد بين وجوب الأكثر الذي هو الماهية بشرط شيء ووجوب الأقل الذي هو الماهية لا بشرط القسمي ، فإنّ العلم بوجوب الماهية لا بشرط المقسمي عبارة أُخرى عن العلم الاجمالي المردّد بين القسمين ، فكونه موجباً لانحلاله عبارة أُخرى عن كون العلم الاجمالي موجباً لانحلال نفسه.

وبعبارة أُخرى : أنّ انحلال العلم الاجمالي الذي هو قضية منفصلة عبارة عن انحلاله إلى قضية حملية متيقّنة وأُخرى مشكوكة ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه لم يكن كذلك ، بل هو تخيّل انحلال ، وإلاّ فواقع الأمر أنّ القضية المتيقّنة المتخيّل كونها معلومة بالتفصيل وهي وجوب الأقل لا بشرط المقسمي ، هي عين تلك القضية المنفصلة القائلة إنّ الواجب إمّا الأقل بشرط شيء أو الأقل لا بشرط القسمي ، هذا غاية توضيح ما أفاده قدس‌سره.

وأنت بعد أن عرفت منه قدس‌سره أنّ المدار في الانحلال على الواقع لا على اختلاف اللحاظات ، وأنّ تباين هذه اللحاظات لا يوجب تباين الأقل لنفسه ملحوظاً لا بشرط المقسمي أو لا بشرط القسمي أو بشرط شيء ، فإذا علمنا بأنّ ذات الأقل التي هي الأربعة قد طرأ عليها الوجوب ، وتردّدنا في أنّها في مرتبة طروّه عليها كانت ملحوظة لا بشرط ، أو كانت مقيّدة بشيء وهو الخامس ، لم يكن ذلك التردّد موجباً لخلل في كون وجوب تلك الأربعة معلوماً لدينا بالتفصيل كيف ما كانت ملحوظة ، وحينئذ يلزمنا أن ننظر في تلك اللحاظات ، فإن كانت متباينة في مقام إلقاء الكلفة على المكلّف ، بحيث كان كلّ واحد منها متضمّناً لالقاء الكلفة عليه بغير الكلفة التي يلقيها اللحاظ الآخر ، كما لو كان أحد اللحاظين

٣٠٢

هو لحاظها بشرط لا والآخر لحاظها بشرط شيء ، أو كان أحد اللحاظين هو لحاظها بشرط شيء والآخر هو لحاظها بشرط شيء آخر ، لم يكن العلم الاجمالي منحلاً.

أمّا لو كان أحد اللحاظين هو لحاظها لا بشرط شيء ، والآخر هو لحاظها بشرط شيء ، فحيث كان اللحاظ الأوّل غير متضمّن لالقاء الكلفة على المكلّف بغير الأربعة ، وكان اللحاظ الآخر يتضمّن إلقاء كلفة الخامس وتقييد تلك الأربعة به ، وكان اللحاظ الأوّل متّحداً خارجاً مع القدر المشترك بين اللحاظين الذي هو المعلوم بالتفصيل ، أعني لحاظها لا بشرط المقسمي ، صحّ لنا أن نقول إنّ هذا العلم الاجمالي المردّد بين اللحاظين ينحلّ في الخارج إلى العلم التفصيلي بوجوب ذات الأربعة ، والشكّ البدوي في الزائد عليها الذي هو وجوب الخامس وتقييد الأربعة ، إذ لا ندور في الانحلال مدار الاصطلاح ، بحيث يكون ذلك المعلوم بالاجمال الذي هو قضية مهملة منحلاً إلى قضية مفصّلة وأُخرى مشكوكة ، بل المدار في الانحلال على كون أحد الطرفين يتضمّن كلفة زائدة على ما يتضمّنه الآخر من الكلفة التي هي قدر مشترك بينهما.

ثمّ إنّ هذه الكلفة الزائدة إذا نفيت بالبراءة العقلية أو الشرعية ، يكون المكلّف عند إتيانه بالأقل الذي هو الأربعة مستريحاً من كلفة وجوبه الذي علمه تفصيلاً ، وبذلك يخرج عن حكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني والمنع عن الاعتماد على الفراغ الاحتمالي دفعاً للضرر المحتمل الذي هو العقاب ، لكون العقاب حينئذ على ترك الأربعة عند الاتيان بها وترك ربطها بالجزء الخامس من قبيل العقاب بلا بيان. مضافاً إلى أنّ حديث الرفع الذي يكون رافعاً ظاهراً لتلك القيدية ، يكون مؤمّناً من العقاب على مخالفتها الموجبة لمخالفة الأمر المتعلّق

٣٠٣

بالأربعة لو كان الواجب في الواقع هو الخمسة كما شرحناه فيما تقدّم.

وبتقرير أوضح : أنّ وجوب الأربعة لا بشرط القسمي عبارة أُخرى عن وجوبها الاستقلالي ، وأنّ وجوب الأربعة بشرط شيء الذي هو انضمام الخامس عبارة أُخرى عن وجوب الاربعة ضمنياً ، والقدر الجامع بينهما هو وجوب ذات الأربعة مردّدة بين الاستقلالية والضمنية ، وهو عبارة أُخرى عن وجوبها لا بشرط المقسمي ، وحيث كان الطرف الثاني ـ أعني وجوبها الضمني ـ مشتملاً على كلفة شرعية زائدة على وجوبها الاستقلالي ، وكانت تلك الكلفة الزائدة مورداً للبراءة العقلية والشرعية ، كان إجراء البراءة العقلية أو الشرعية كافياً في تسويغ الاكتفاء بالاتيان بالأربعة ، من دون حاجة إلى إثبات كون وجوبها استقلالياً ، الذي هو عبارة عن وجوبها لا بشرط القسمي ، فليس الانحلال فيما نحن فيه على نحو بقية موارد الانحلال ، التي ترجع إلى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشك البدوي في الزائد ، كي يقال إنّه لم يحصل لكم في هذا الانحلال العلم التفصيلي بوجوب الأربعة استقلالاً ، الذي هو عبارة عن وجوبها لا بشرط القسمي الذي هو عبارة عن الاطلاق ، بل هذا الانحلال الذي ندّعيه هنا عبارة عن الأخذ بذلك القدر المتيقّن المعلوم بالاجمال ، الذي هو عبارة عن وجوب الأربعة مردّدة بين الضمنية والاستقلالية ، والشكّ في تلك الكلفة الزائدة التي هي في أحد طرفي العلم الاجمالي وهو الضمنية ، وإجراء البراءة في تلك الكلفة الزائدة التي في ذلك الطرف وهي لزوم تقييد الأربعة بالانضمام إلى الخامس ، كافية في الحكم بعدم لزوم إلحاق الخامس بها. أمّا الشرعية فواضح ، وأمّا العقلية فلما ذكرنا من كونها مؤمّنة من العقاب على مخالفة القيدية الموجبة لعدم حصول المقيّد لو كان الوجوب الواقعي ضمنياً.

٣٠٤

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقاب على تلك الكلفة الزائدة وإن كان قبيحاً لكونه بلا بيان ، إلاّ أن الأربعة المهملة قد اشتغلت الذمّة بها ، فنحتاج إلى اليقين بالفراغ عنها ، فالعقاب المحتمل إنّما هو على عدم الاتيان اليقيني بما اشتغلت به الذمّة يقيناً ، وعدم العقاب على تلك الكلفة الزائدة لا يوجب اليقين بالفراغ ، فتأمّل جيّداً فإنّا قد أجبنا عن هذا الإشكال بما تقدّم (١) من أنّ الشكّ في الفراغ إذا كان ناشئاً عن الكلفة الزائدة لم يكن مورداً لقاعدة الشغل.

لا يقال : إنّ الوجوب المنبسط على الخمسة وجوب واحد بسيط لا تقطيع فيه ، وهو مباين للوجوب الوارد على الأربعة ، وحينئذ لا يمكنكم رفع الوجوب على الخامس ، بل ولا رفع الوجوب الوارد على تقيّد الأربعة بالخامس ، إذ الوجوب الواحد الوارد على المجموع لا يتقطّع.

لأنّا نقول : إنّ ذات وجوب الأربعة لا بشرط موجود بذاته في ضمن الوجوب الوارد على الخمسة ، كما أن ذات الأربعة لا بشرط موجودة في ضمن الخمسة ، فإنّ الشيء بشرط شيء مصداق للشيء لا بشرط ، وإن كانا بحسب اللحاظ متباينين. وقولكم إنّ الوجوب الوارد على المجموع لا يتقطّع مسلّم ، لكن للشارع رفعه ولو برفع منشئه وهو ورود الوجوب على المجموع ، ولا يعارضه رفع وجوب الأقل ، لأنّ المراد إن كان رفع وجوب الأقل بحدّه فهو كما ذكرتم معارض له ، إلاّ أنه لا محصّل لرفع وجوب الأقل بحدّه ، لأنّ تحديده عبارة عن الأقلّية ، وهي ليست مورداً لحديث الرفع المسوق لرفع الكلفة. وإن كان المراد رفع ذات وجوب الأقل الوارد على ذات الأربعة الملحوظ هو ومتعلّقه لا بشرط ، فهذا موجود قطعاً ، لما عرفت من تحقّق الشيء لا بشرط في ضمن تحقّق الشيء

__________________

(١) في الصفحة : ٢٨٠ وما بعدها.

٣٠٥

بشرط شيء ، فإنّ الشيء لا بشرط وإن كان مبايناً في اللحاظ لكلّ من الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا ، إلاّ أن الوجود الخارجي له منحصر بهما ، إذ لا وجود للشيء لا بشرط في الخارج ، وإنّما الموجود هو نفس الشيء مع شيء آخر أو نفس الشيء بلا وجود شيء آخر معه ، وكلّ منهما مصداق لمفهوم الشيء لا بشرط ، ولأجل ذلك نقول فيما نحن فيه إنّ وجوب الأربعة لا بشرط معلوم ، لأنّ وجوب الشيء لا بشرط إنّما يتعلّق بمصداق الشيء لا بشرط لا بمفهومه ، والمفروض أنّ مصداقه متحقّق في مصداق الشيء بشرط شيء ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحاجة إلى ما أُفيد في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي (١) من إجراء حديث الرفع في وجوب الأكثر ، وأنّه غير معارض بمثله في وجوب الأقل لا بشرط ، للعلم بوجوبه في ضمن وجوب الأكثر أو في نفسه.

ثمّ إنّ رفع وجوب الأكثر يكون رفعاً لوجوب تقيّد الأربعة بالخامس ، لأنّ وجوب هذا التقيّد حاصل بوجوب الأكثر ، فيكون رفع وجوب الأكثر رفعاً له ، ومع ارتفاع وجوب التقيّد يبقى وجوب الأربعة مطلقة غير واجبة التقيّد بالخامس ، وهو المطلوب.

لا يقال : إنّ الاستصحاب كافٍ في لزوم الاتيان بالخامس ، حيث إنّه عند فراغه من الأربعة يشكّ في بقاء وجوبها ، وحينئذ يستصحب بقاءه ، وليس المقصود هو استصحاب وجوب الأربعة المأخوذة لا بشرط القسمي كي يقال إنّه لم يكن معلوم الحدوث ، بل المراد هو استصحاب وجوب الأربعة المأخوذة لا بشرط المقسمي ، وهذا نظير استصحاب القدر المشترك بين وجوب الظهر والجمعة بعد الفراغ من الظهر ، لكن أجبنا عن ذاك بأنّه لا يترتّب عليه سوى لزوم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٦٤.

٣٠٦

الاتيان بالجمعة بعنوان الاحتياط ، وذلك كان متحقّقاً وجداناً بحكم قاعدة الشغل اليقيني ، أمّا هذا فلا يمكن الجواب عنه بالجواب المزبور بعد فرض الرجوع في تلك الكلفة الزائدة ـ أعني التقييد بالخامس ـ إلى البراءة العقلية والشرعية ، فلا يكون إجراء هذا الاستصحاب هنا من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

لأنّا نقول : إنّ البراءة الشرعية الرافعة لتلك القيدية التي هي منشأ الشكّ في بقاء وجوب الأربعة بعد الاتيان بها تكون حاكمة على الاستصحاب المذكور. أمّا البراءة العقلية فالظاهر أنّها لا يمكن أن تكون حاكمة عليه ، وحينئذ فيكون الأصل الوحيد الجاري في مسألة الشكّ في الأقل والأكثر هو البراءة الشرعية دون العقلية.

لكن قد حرّرت عن درس شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ما نصّه : أنّ البراءة الشرعية مبيّنة لما أُجمل من التكليف ، فيسقط الاستصحاب حينئذ ، لأنّ ملاكه هو إجمال ذلك التكليف وتردّده بين الأقل والأكثر ، هذا في مقابلة الاستصحاب للبراءة الشرعية. وأمّا مقابلته مع البراءة العقلية كما هو المختار للشيخ قدس‌سره فقد يتوهّم أنّه حاكم عليها ، لعدم تعرّضها لبيان ما أُجمل من التكليف المذكور ، إلاّ أنه توهّم فاسد ، لأنّ القائل بالبراءة العقلية لا يتمّ قوله إلاّبعد فرض انحلال ذلك العلم الاجمالي ، ومع انحلاله لا يبقى مورد للاستصحاب ، لما عرفت من أنّ ملاكه هو إجمال التكليف المعلوم وتردّده بين الأقل والأكثر ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الطريقة التي سلكناها في الانحلال لمّا كانت هي عبارة عن الأخذ بنفس وجوب الأربعة لا بشرط المقسمي ، لم يكن الوجه في حكومة البراءة الشرعية على الاستصحاب بناءً على هذه الطريقة هو كون البراءة رافعة للتردّد وموجبة للحكم بأنّ الواجب هو الأربعة لا بشرط القسمي ، بحيث تكون

٣٠٧

مبيّنة لذلك المجمل الذي هو المعلوم بالاجمال ، بل يكون الوجه في حكومتها عليه هو أنّ رفع القيدية بالزائد يوجب رفع الشكّ في البقاء ، وإن لم يكن ذلك الرفع مثبتاً للاطلاق الذي هو اللاّ بشرط القسمي ، لأنّ الشكّ في البقاء مسبّب عن الشكّ في تلك القيدية ، فيكون رفعها كافياً في إزالة الشكّ في البقاء ، وإن لم يكن ذلك الرفع مثبتاً للاطلاق.

أمّا البراءة العقلية فنحن إنّما نقول بها لا من جهة الانحلال المصطلح المبني على دعوى العلم التفصيلي بكون الأربعة واجبة على نحو اللاّ بشرط القسمي ، بل إنّما نقول بها من جهة أنّ نفس القيدية كلفة زائدة في الواقع على أصل وجوب الأربعة لا بشرط المقسمي ، فلا يكون جريانها ملازماً لتفصيل ذلك العلم وتحقّق وجوب الأربعة لا بشرط القسمي كي يكون ذلك عبارة أُخرى عن عدم إمكان جريان الاستصحاب لعدم كون المقام حينئذ من قبيل الشكّ في البقاء ، وحينئذ فالذي ينبغي أن يقال بناءً على الطريقة التي سلكناها هو جريان الاستصحاب وعدم جريان البراءة العقلية في حدّ نفسها ، لكن لمّا كانت البراءة الشرعية جارية وكانت حاكمة على الاستصحاب المذكور ، كانت البراءة العقلية بعد ذلك بلا مانع ، إلاّ أن ذلك لا يكون من قبيل الانحلال العقلي.

وحاصل ذلك : أنّا لو خلّينا نحن والاستصحاب والبراءة العقلية ، يكون الاستصحاب مانعاً من جريانها ، اللهمّ إلاّ أن يمنع الاستصحاب بأنّه لا يترتّب عليه أثر ، لأنّ أثره منحصر بالحكم ببقاء الوجوب المتعلّق بالأربعة لا بشرط المقسمي أعني بذلك وجوبها النفسي المردّد بين الاستقلالية والضمنية ، وهذا المقدار من الوجوب لو حكمنا ببقائه بالاستصحاب لم يترتّب عليه إلاّلزوم الاتيان بنفس

٣٠٨

الأربعة ، إذ هو حينئذ لا يزيد على أصله ـ أعني العلم الوجداني بذلك الوجوب ـ في أنّه لا يقتضي إلاّ الاتيان بنفس الأربعة ، إلاّ أن يضمّ إلى الحكم ببقاء ذلك الوجوب المردّد بين الاستقلالية والضمنية أنّه بعد فرض الاتيان بنفس الأربعة يكون اللازم من الحكم ببقائه في الفرض المزبور هو لزوم الاتيان بالخامس ، لأنّ لازم الحكم ببقاء وجوب الأربعة المردّد بين الاستقلالية والضمنية في مورد الاتيان بالأربعة هو أنّ ذلك الوجوب ضمني ، إذ لو كان استقلالياً لم يكن باقياً بعد الاتيان بنفس الأربعة ، فلمّا حكم الشارع بأنّه باقٍ ولو بالاستصحاب كان لازم ذلك الحكم هو أنّ ذلك الوجوب ضمني ، وبعد الحكم بأنّه ضمني يلزمنا إلحاق تلك الأربعة بالخامس ، فيكون الاستصحاب المذكور من أردأ الأُصول المثبتة ، لتوقّفه على هذا القياس الاستثنائي القائل إنّه لو كان ذلك الوجوب المتعلّق بالأربعة استقلالياً لم يمكن الحكم ببقائه بعد الاتيان بنفس الأربعة ، لكنا قد حكمنا بمقتضى ذلك الاستصحاب ببقائه بعد الاتيان بها ، فلابدّ أن لا يكون ذلك الوجوب استقلالياً ، لأنّ رفع التالي لا ينتج إلاّرفع المقدّم ، ثمّ نأخذ نتيجة هذا القياس ونجعلها مقدّماً لتالٍ آخر ، فيتحصّل من ذلك قضية شرطية متّصلة نجعلها صغرى لشرطية أُخرى كبرى ، ونؤلّف من ذلك قياساً اقترانياً ونقول : إذا لم يكن الوجوب المذكور استقلالياً فلابدّ أن يكون ضمنياً لعدم الواسطة بينهما في الواقع ، وإذا كان ضمنياً فلا يسقط إلاّبالحاق الخامس ، وإذا لم يسقط إلاّبالحاق الخامس وجب علينا إلحاقه بها ، فهذا الأثر العملي وهو وجوب إلحاق الخامس لا يترتّب على الاستصحاب المذكور إلاّبعد طي هذه الملازمات المبنية على قياس استثنائي وقياسين اقترانيين ، ولأجل ذلك قلنا إنّه من أردأ الأُصول المثبتة.

٣٠٩

قوله : ومن الغريب ما زعمه من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلّة البراءة الشرعية ... الخ (١).

قال قدس‌سره في حاشيته على هامش الكفاية على قوله في المتن : وأمّا النقل ، ما هذا لفظه : لكنّه لا يخفى أنّه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي ، ضرورة أنّه ينافيه دفع الجزئية المجهولة ، وإنّما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك ، بل علم مجرّد ثبوته واقعاً. وبالجملة الشكّ في الجزئية والشرطية وإن كان جامعاً بين الموردين ، إلاّ أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية ، ومورد النقل هو مجرّد الخطاب بالايجاب ، فافهم (٢).

ولا يخفى أنّ قوله في ضابط مجرى حكم العقل بالاحتياط : وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي ، إشارة إلى ما ذكره في المقام الأوّل من مبحث دوران الأمر بين المتباينين ، وهو قوله : لا يخفى أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً ـ ولو كانا فعل أمر وترك آخر ـ إن كان فعلياً من جميع الجهات ، بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الاجمال والتردّد الخ (٣) ، وهذه الجهة أعني الفعلية من جميع الجهات ، هي التي أوجبت عنده التلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، وأنّه إذا لم يكن الحكم فعلياً كذلك لم تجب موافقته كما لم تحرم مخالفته ، فراجع ما أفاده هناك وفي الأمر السابع من مباحث القطع (٤) ، وعمدة المناقشة معه قدس‌سره إنّما هي في الفعلية بالمعنى الذي ذكره

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٦٥.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٦٦.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٥٨.

(٤) كفاية الأُصول : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٣١٠

لها ، وهو الذي حرّره السيّد سلّمه الله عن شيخنا قدس‌سره بقوله : وأنت خبير بأنّ الحكم الفعلي بالمعنى الذي ذكره الخ (١).

والذي حرّرته عنه قدس‌سره في الدورة الأخيرة موافق لذلك ، فإنّه قدس‌سره قال فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره بعد أن اختار ما اخترناه من جريان البراءة الشرعية ، أشكل في حاشية منه عليها بأنّ جريانها غير ممكن ، للعلم بتحقّق التكليف الفعلي ، سواء كان المكلّف به هو الأقل أو الأكثر ، ولا ريب أنّ جريان البراءة منافٍ للعلم بالتكليف الفعلي ، انتهى. وفيه : أنّه مبني على ما أفاده في معنى فعلية التكليف ، وقد عرفت غير مرّة بطلانه ، كذا أفاد ( دام ظلّه ) في هذه الدورة ١٣ ج ٢ سنة ١٣٥٠. هذا نصّ ما حرّرته عنه قدس‌سره بتاريخه المذكور. وعلى أي حال ، يظهر لك أنّ الإشكال إنّما هو في تفسير الفعلية.

وأمّا مسألة حكومة حكم العقل بدفع الضرر المحتمل على البراءة الشرعية ، فلم يكن هو واقعاً في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ، وإنّما جلّ غرضه هو أنّه لا مورد للبراءة الشرعية بعد فرض كون الحكم فعلياً من جميع الجهات ، لأنّ مفادها مناقض مع الحكم الفعلي الموجود في البين ، لا أنّها جارية في حدّ نفسها ولكن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل حاكم عليها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في الحاشية : اختلفت كلمات شيخنا ( مدّ ظلّه ) في ذلك ، ففي مبحث البراءة جعل المسبّبات التوليدية على قسمين ... الخ (٢).

لم أجد هذا التصريح من شيخنا قدس‌سره في مبحث البراءة. نعم في مبحث مقدّمة الواجب حسبما حرّرته عنه قدس‌سره في مسألة كون المقدّمة علّة صرّح بذلك ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٩٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٦٨.

٣١١

ولكن قد علّقت هناك ما محصّله انحصار الأسباب التوليدية فيما يكون من قبيل العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية ، فراجع ما حرّرته هناك (١).

قوله : ولا يصحّ إطلاق الأمر بالمعنون والسبب مع إرادة العنوان والمسبّب ، إلاّ إذا كان تعنون السبب بالعنوان وتولّد المسبّب منه من الأُمور العرفية المرتكزة في الأذهان ... الخ (٢).

صرّح شيخنا قدس‌سره حسبما حرّرته عنه بأنّ الغسل للطهارة من الخبث من قبيل الأوّل ، فإنّ إزالة القذارة من الأُمور العرفية المرتكزة في الأذهان ، أمّا الغسل للطهارة من الحدث فقد صرّح قدس‌سره بأنّها من قبيل الثاني ، وبناءً عليه فلا يصحّ إطلاق الأمر بتلك الأفعال على الأمر بنفس تلك الطهارة.

قوله في الحاشية : وجهه هو أنّه لو وصلت النوبة ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ هذا لا يتوجّه على مبنى الأُستاذ قدس‌سره ، لأنّه يرى الانحلال فيما لو علم الوجوب وشكّ في كونه نفسياً أو غيرياً ، كما صرّح به فيما أورده ثانياً على الكفاية فيما تقدّم من الانحلال (٤) ، وكما صرّح به في مبحث الأوامر في مسألة الواجب النفسي والغيري حسبما حرّرته عنه قدس‌سره في ذلك المبحث فراجع (٥). نعم يتّجه هذا الايراد بناءً على ما تقدّم في توجيه عدم الانحلال بذلك من جهة التأخّر

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٧٥.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٧٦.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٥) مخطوط لم يطبع بعد.

٣١٢

الرتبي حسبما مرّ ذكره ، فراجع (١) وتأمّل.

قوله : وتوضيح ذلك ، هو أنّه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه ، وأُريد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام ، بتقريب أن يقال : إنّ لحاظ جزئية السورة وتعلّق الجعل بها أمر حادث مسبوق بالعدم ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته : إنّه إن كان الوجوب المستصحب عدمه قبل الجعل والتشريع هو وجوب الزائد المشكوك ، كان الأصل مثبتاً من جهتين : الأُولى أنّ الأثر مترتّب على المجعول لا على الجعل. والثانية أنّ الأثر فيما نحن فيه مترتّب على كون الوجوب المتعلّق بذلك المركّب متّصفاً بعدم تعلّقه بالزائد ، فيكون استصحاب عدم جعل وجوب الزائد مثبتاً لكونه بمفاد ليس التامّة ، ومورد الأثر هو مفاد ليس الناقصة.

وبعبارة أُخرى : أنّ كون هذا الوجوب لم يتعلّق بالزائد ليس له حالة سابقة لأنّه من حين تعلّقه بهذا المركّب إمّا أن يكون متعلّقاً بالزائد أو لا يكون متعلّقاً به فما هو المطلوب وهو السلب الناقص لم يكن متحقّقاً قبل صدور هذا الوجوب وما هو متحقّق قبل ذلك هو السلب التامّ ، ولا يترتّب عليه ما هو المطلوب إلاّ بالملازمة والأصل المثبت ، انتهى ملخّصاً.

ثمّ أفاد قدس‌سره فيما حرّرته : أنّه قد يقرّب استصحاب العدم بما أفاده الشيخ قدس‌سره (٣) وحاصله : أنّ الآمر حين اختراعه لذلك المركّب وحين تصوّره له ، هل تصوّره

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٨٥ وكذا الحاشية اللاحقة لها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٨٢.

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣١٣

مقيّداً بذلك الزائد أم لا ، وبعبارة أوضح : هل إنّه حين تصوّره للمركّب تصوّر ذلك الزائد في جملته أم لا ، فبأصالة عدم جزئيته لذلك المركّب التي هي عبارة عن استصحاب عدم تصوّر الآمر ذلك الزائد حينما لاحظ المركّب ، نحكم بأنّه ليس بواجب.

وفيه أوّلاً : أنّا وإن ذكرنا أنّ الأقل داخل في المركّب ، إلاّ أن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى نفس الملحوظ ، وأمّا لحاظ الأقل فهو مباين للحاظ الأكثر ، فإنّ لحاظ كون الزائد داخلاً في المركّب يباين لحاظ عدم دخوله فيه ، فيكون أصالة عدم ملاحظة ذلك الزائد داخلاً في المركّب معارضاً بأصالة عدم ملاحظته خارجاً عنه.

وثانياً : أنّ الأثر إنّما يترتّب على أخذه في مقام الأمر ، لا على أخذه في مقام الاختراع والتصوّر ، فيكون أصالة عدم أخذه في مقام الاختراع لأجل ترتّب عدم أخذه في مقام الأمر مثبتاً.

وثالثاً : لو سلّمنا أنّ مقام الاختراع يترتّب عليه أثر مقام الأمر ، وأغضينا النظر عن المثبتية من هذه الجهة ، كان الأصل المذكور مثبتاً من جهة أُخرى ، فإنّ أقصى ما فيه أن يكون أصالة عدم دخول الزائد في اللحاظ في مقام الاختراع بمنزلة أصالة عدم جعل وجوب الزائد ، وقد عرفت أنّ أصالة عدم جعل الوجوب مثبت.

ورابعاً : أنّه بعد تسليم أنّ أصالة عدم الاختراع بمنزلة أصالة عدم الجعل ، وأصالة عدم الجعل بمنزلة أصالة عدم الوجوب ، وأغضينا النظر عن المثبتية من الجهتين ، ففيه أنّه إن كان المراد عدم اختراع الأكثر فهو معارض بعدم اختراع الأقل ، وإن كان المراد عدم إدخال الزائد في اختراع المركّب ، ففيه أنّ الأثر مرتّب على العدم الناقص ، أعني كون هذا المركّب المخترع لم يكن الزائد حين اختراعه

٣١٤

داخلاً فيه ، فلا ينفع فيه أصالة عدم الزائد الذي هو مفاد ليس التامّة ، انتهى ملخّصاً.

وقد تعرّضنا للاستدلال على البراءة باستصحاب عدم التكليف في التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب في حواشي ص ١٦٣ من الجزء الثاني عند الكلام على شبهة النراقي في مسألة من وجب عليه الجلوس إلى الزوال وشكّ فيما بعد ذلك ، من دعواه التعارض بين استصحاب الوجوب واستصحاب عدمه ، فراجع (١).

قوله : فتأمّل. وقوله في الحاشية : وجهه هو أنّه قد يختلج في البال ... الخ (٢).

ويؤيد ذلك ما تقدّم في ص ٥٣ : ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل للعلم بوجوبه على كلّ تقدير الخ (٣).

لكن الذي يهوّن الخطب هو أنّ أصالة عدم وجوب الأكثر غير جارية في حدّ نفسها ، لأنّ المستصحب عدمه إن كان هو عدم الجعل ، فذلك لا أثر له ، وإن كان عدم المجعول بمفاد ليس التامّة فهو غير نافع في إزالة الشكّ في هذا الوجوب وإن كان بمفاد ليس الناقصة ، بمعنى أنّ هذا الوجوب لم يكن وارداً على الأكثر فهو ليس له حالة سابقة ، ومثله ما لو أُريد استصحاب عدم وجوب الزائد ، فإنّه لا يزيل الشكّ في أنّ هذا الوجوب هل تعلّق بالزائد.

__________________

(١) ليس له قدس‌سره حاشية على هذه الصفحة ، نعم له قدس‌سره حواشٍ على الصفحة : ١٦٤ ، فراجع الحاشية الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب في الصفحة : ٤٤٧ وما بعدها ، وكذا راجع الحاشية اللاحقة لها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٨٤.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٦٤.

٣١٥

قوله : وهو أنّ منشأ انتزاع الشرطية ... الخ (١).

ينبغي إسقاط لفظ « الشرطية » المتكرّرة في جميع ما حوته هذه الصفحة (٢) وإبدالها بلفظ المانعية ، لأنّ هذه الوجوه المذكورة إنّما يكون موردها المانعية لا الشرطية ، ولعلّ المراد من الشرطية في المقام هو عبارة عن شرطية العدم ، فتكون عين المانعية ، لأنّ هذا الكلام ينتهي في آخره إلى المناقشة مع الشيخ ، وهو قدس‌سره يجعل عدم المانع شرطاً ، فإنّه بعد أن حكم بأنّ الشكّ في الشرطية حكمه حكم الشكّ في الجزئية قال ما هذا لفظه : ثمّ إنّ مرجع الشكّ في المانعية إلى الشكّ في شرطية عدمه ، ثمّ قال : ثمّ إنّ الشكّ في الشرطية قد ينشأ عن الشكّ في حكم تكليفي نفسي ، فيصير أصالة البراءة في ذلك الحكم التكليفي حاكماً على الأصل في الشرطية ، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبراءة ، فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم من وجوب ذلك المشكوك في شرطيته أو عدم وجوبه (٣). وعلى أيّ حال ، فإنّ كون الشرطية منتزعة عن التكليف النفسي ممّا يأباه شيخنا قدس‌سره ، وأنّ ذلك إنّما يكون في المانعية ، فراجع ما في ص ٧٣ من هذا التحرير (٤).

قوله : بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي ... الخ (٥).

الأولى إبداله بقوله : بناءً على جواز الاجتماع من الجهة الأُولى والامتناع من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٠.

(٢) يشير بها إلى ص ٥٩ من الطبعة القديمة لفوائد الأُصول ، وهي الصفحة ١٩٠ ـ ١٩٣ ( السطر الثالث ) من الجزء الرابع من الطبعة الحديثة.

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٣٥٩.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٥) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٠.

٣١٦

الجهة الثانية ، فإنّ كون المقام من باب التزاحم إنّما يكون بناءً على هذا الوجه ، لا على الامتناع من الجهة الأُولى.

والأولى الاقتصار على قوله : وأُخرى يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي ، وإسقاط قوله : وهذا إنّما يكون ـ إلى قوله ـ في محلّه.

ثمّ إنّ قوله : وإن كان منشأ انتزاعها هو التكليف النفسي ، فتارةً ـ إلى قوله ـ وأُخرى يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي بوجوده الواقعي الخ (١) ، الأوّل إشارة إلى مسلكه قدس‌سره في مبحث الاجتماع ، والثاني إشارة إلى مسلك غيره في ذلك المبحث ، وهو لزوم التخصيص الواقعي ، وسيأتي الكلام عليه في الحاشية الآتية (٢).

قوله : فلو فرض أنّه مورد شكّ في حرمة لبس الحرير وشرطية عدمه في الصلاة ... الخ (٣).

المثال الواضح هو الشكّ في كون هذا اللباس حريراً ، لكنّه شبهة موضوعية والكلام الآن في الشبهة الحكمية ، أمّا الكلام على التردّد بين الأقل والأكثر في الشبهات الموضوعية ، فسيأتي فيما عقده له من الفصل السادس (٤).

ومنه تعرف أنّ الكلام في تقسيم المانعية إلى هذه الأقسام لغير أوانه ، لأنّ أغلب موارده هو الشبهات الموضوعية. ثمّ إنّ نظير ما أفاده من المانعية الناشئة عن التزاحم ـ أعني مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى والامتناع من الجهة الثانية ـ ما لو قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، وأنّه يوجب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) في الصفحة : ٣٢١.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٩١.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٠.

٣١٧

فساده لو كان عبادة ، فإنّ هذه المانعية ترتفع وجداناً بالأصل الجاري في ذلك الأمر ، كما لو شككنا في وجوب إزالة النجاسة عن فرش المسجد أو حصيره ، فإنّ أصالة البراءة عن الوجوب توجب ارتفاع النهي عن الصلاة ، فتكون صحيحة واقعاً فتأمّل.

قوله : بل لا يجب على المكلّف عقلاً الاتيان بما يعلم دخله في الملاك من دون أن يدخل تحت دائرة الطلب ... الخ (١).

لا يخفى أنّ فرض العلم بكون الشيء له مدخلية في الملاك مع عدم دخوله تحت دائرة الطلب لا يمكن تعقّله مع النظر إلى قاعدة الملازمة ، سواء كان عدم دخوله تحت الطلب مشكوكاً أو كان معلوماً ، لأنّ فرض العلم بمدخليته في الملاك حينئذ يوجب العلم بدخوله تحت الطلب. نعم يصحّ ذلك الفرض لو أُغضي النظر عن قاعدة الملازمة ، لكنّه لا يكون إلاّمن مجرّد الفرض الذي لا واقعية له ، لأنّا قائلون بقاعدة الملازمة ، بل إنّه لم يتحقّق لنا في الفقه إثبات حكم بقاعدة الملازمة صرفاً. إلاّ أن ذلك لا يخلّ بأصل المطلب ، وهو أنّه لا يجب على المكلّف الخروج عن عهدة الملاكات ، وأنّه لا يلزمه بحكم العقل إلاّ الخروج عن عهدة التكاليف الشرعية.

قوله : وتوهّم عدم جريان البراءة العقلية ... الخ (٢).

تقدّم الكلام في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية (٣) وفي حديث

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٧٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٨٠.

(٣) في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، فراجع الصفحة : ٣٠٦ وما بعدها ، وكذا الحاشية المفصّلة المذكورة في الصفحة : ٣١٢ وما بعدها من المجلّد المذكور.

٣١٨

الرفع (١) وفي أوائل مباحث القطع (٢) أنّ العقاب لا يترتّب إلاّعلى مخالفته ، وأنّ للحكم الواقعي إطلاقاً ذاتياً يشمل حال الجهل به وإن لم يكن له إطلاق لحاظي ، وأنّ البراءة العقلية والشرعية لا يجريان إلاّفي الحكم الواقعي ، وأنّ معنى رفعه التشريعي رفع أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، وأنّ البراءة لا يعقل أن تكون جارية في رفع نفس إيجاب الاحتياط ، وأنّ إيجاب الاحتياط يكون حكماً ظاهرياً في مقام الشكّ كالبراءة الشرعية ، وإن كان هو وارداً عليها ، إلاّ أنه من المحقّق أنّ البراءة الشرعية لا ترفع وجوب الاحتياط ابتداءً ، فراجع تلك المباحث.

استدراك : لا يخفى أنّ ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره (٣) في تفسير ما أراده الشيخ قدس‌سره بلفظ « الغرض » المعطوف في كلامه على « العنوان » ، بعيد في الغاية عن صريح عبارة الشيخ ، فالأولى في تفسيرها ما أفاده الآشتياني قدس‌سره (٤) فراجعه.

وبالجملة : أنّ عبارة الشيخ قدس‌سره في هذا المقام صريحة في أنّ الأسباب التوليدية ، تارةً يكون الأمر متعلّقاً بالسبب بما أنّه معنون بالعنوان المنتزع من المسبّب ، مثل أفعال الوضوء بما أنّه منطبق عليها عنوان الطهارة ، كما مثّل به في المسألة الرابعة التي أشار إليها في هذا المقام ، وأُخرى يكون الأمر متعلّقاً بنفس السبب ، ولكن يكون الغرض من ذلك السبب هو العنوان المتولّد منه ، وعلى أيّ

__________________

(١) في المجلّد السابع من هذا الكتاب فراجع الحاشية المفصّلة في الصفحة : ١٢٢ وما بعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب في الصفحة : ٢٢ وما بعدها. وكذا راجع ما ذكره قدس‌سره في مبحث التجرّي في الحاشية المذكورة في الصفحة : ١٣٤ وما بعدها والحاشية اللاحقة لها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٧١ وما بعدها.

(٤) بحر الفوائد ٢ : ١٥٤.

٣١٩

حال يكون اللازم هو الاحتياط ، وهو عين ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه لا فرق في وجوب الاحتياط بين كون الأمر متعلّقاً بالعنوان الأوّلي أو متعلّقاً بالعنوان الثانوي ، فلا فرق بين أن يقول توضّأ أو يقول تطهّر من الحدث ، غايته أنّ شيخنا سمّى الثاني بكون الأمر متعلّقاً بالعنوان الثانوي ، والأوّل بكون الأمر متعلّقاً بالعنوان الأوّلي ، والشيخ قدس‌سره يعبّر عن الثاني بكونه من قبيل العنوان للمأمور به ، وعن الأوّل بكونه من قبيل الغرض من المأمور به ، فراجع ما أفاده الشيخ قدس‌سره في هذا المقام وفي المسألة الرابعة (١).

وأصل عبارة الشيخ قدس‌سره هو هذا ، أعني قوله قدس‌سره : نعم قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنّه الغرض من المأمور به ، فإنّ تحصيل العلم باتيان المأمور به لازم كما سيجيء في المسألة الرابعة الخ (٢). وهي صريحة في أنّ الغرض معلوم ، لكن يحصل الشكّ في الحصول عليه عند الاتيان بالمركّب فاقداً للجزء المشكوك ، وحينئذ كيف يمكن حمل الغرض على نفس التعبّد ، ومن الواضح أنّه إذا علم أنّ الغرض هو نفس التعبّد فقد علم أنّه عبادي ، فأين هذا من الشكّ في كونه تعبّدياً أو توصّلياً كما هو مقتضى ما أفاده شيخنا قدس‌سره في تفسير الغرض.

نعم ، يرد على ما أفاده الشيخ في جواب « إن قلت » ما أفاده شيخنا قدس‌سره. وهناك زيادة ، وهي أنّه بعد فرض تعذّر الحصول على المصلحة المفروض

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٣٥٢.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٣١٩.

٣٢٠