أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره في حاشيته على الرسائل (١) وفي كتاب الطهارة عند الكلام على الشبهة غير المحصورة في أحكام المياه (٢) ، وفي صلاته عند الكلام في مسجد الجبهة (٣) ، وذلك وإن كان مجملاً ، إلاّ أنا نوضّحه ونبرهن عليه بترتيب أُمور :

الأوّل : أنّه لا ريب في أنّ الأُصول الجارية في الشكّ في حرمة الشيء مثلاً أو نجاسته تتوقّف على إحراز وجود ذلك الشيء ، إذ مع عدم العلم بوجوده وفرض الشكّ في تحقّقه لا يمكن الحكم عليه بمثل تلك الأحكام ، فلو احتملنا وجود حيوان مثلاً في هذه الدار ، وكانت حرمته على تقدير وجوده مشكوكة ، لا نجري فيه قاعدة الحل ، إذ لا أثر يترتّب على إجرائها فيه. وهكذا الحال في قاعدة الطهارة وغيرها من الأُصول العملية.

وبعبارة أُخرى : أنّ جريان الأصل يتوقّف على فعلية الشكّ في الحكم ، وفعليته متوقّفة على إحراز وجود الموضوع الذي يتعلّق به الحكم المشكوك ، فما لم يكن وجود الموضوع محرزاً لا يكون الأصل جارياً فيه. ولا ينتقض ذلك بالملاقي ـ بالكسر ـ بعد تلف الملاقى ـ بالفتح ـ ، أو في الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة بعد فرض تلف الماء ، لأنّ ذلك من قبيل التلف بعد إحراز الوجود ، مضافاً إلى أنّه يترتّب الأثر بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ والثوب ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ أصل الوجود غير محرز ، مع فرض أنّه لا يترتّب أثر عملي على ذلك الأصل إلاّعدم وجوب الاجتناب عن ذلك المفروض كونه

__________________

(١) حاشية فرائد الأُصول : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) ١ : ٢٥٦.

(٣) مصباح الفقيه ( الصلاة ) ١١ : ٢٠٦.

١٨١

مشكوك الوجود.

الأمر الثاني : أنّا لو علمنا بوجود إناء زيد في هذه الحجرة أو شاهدنا وجوده فيها ، وعلمنا بوقوع نجاسة ، لكن لو كان الموجود هو إناء زيد وحده لكانت النجاسة واقعة فيه قطعاً ، ولو كان معه إناء آخر لكنّا نعلم إجمالاً بوقوع تلك النجاسة في أحدهما ، ونحن فعلاً لا نعلم بوجود إناء ثانٍ غير إناء زيد ، فالظاهر أنّه لا أثر لهذا العلم ، ولا يجب علينا الاجتناب عن إناء زيد. أمّا على كون الموجب للاحتياط وسقوط الأصل في الأطراف هو تعارض الأُصول فواضح ، لأنّ قاعدة الطهارة لا تجري في ذلك الاناء الآخر الذي نحتمل وجوده مع إناء زيد ، لعدم إحراز وجوده ، فتبقى قاعدة الطهارة في إناء زيد سليمة عن المعارض. وأمّا على تقدير كون الموجب لسقوط الأصل في الأطراف هو نفس العلم الاجمالي ، فلأنّ العلم الاجمالي إنّما يوجب سقوط الأصل لكونه علماً بتكليف فعلي منجّز على كلّ من الطرفين ، والمفروض أنّ التكليف في الطرف الآخر غير قابل للتنجّز ، لعدم إحراز موضوعه.

وإن شئت فقل : إنّ عدم العلم بوجود الاناء الثاني يلحقه بالخارج عن الابتلاء في قبح النهي عنه ، إذ لا معنى للنهي عن ارتكاب شيء هو تارك له بواسطة عدم علمه به ، على ما شرحناه (١) في وجه قبح النهي عمّا هو خارج عن الابتلاء.

الأمر الثالث : أنّه لو كان عوض إناء زيد إناءين ، ووقعت نجاسة ، فإن لم يكن لهما ثالث كانت النجاسة واقعة في أحدهما ومردّدة بينهما ، وإن كان لهما ثالث كانت النجاسة المذكورة مردّدة بين الثلاثة. ومقتضى ما شرحناه في إناء زيد

__________________

(١) في الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب في الصفحة : ٥٣٩ وما بعدها.

١٨٢

أنّه لا يجب الاجتناب عن هذين الاناءين مع فرض عدم العلم بوجود الثالث ، فيكون الضابط هو أنّه لو كنّا نحتمل وجود طرف آخر للأطراف الموجودة لم يكن العلم الاجمالي منجّزاً في الأطراف الموجودة.

الأمر الرابع : أنّ المراد بالشبهات غير المحصورة هو هذا المعنى الذي ذكرناه في الاناءين ، إذ ليس المراد بعدم الحصر عدم العدّ ، بل المراد بعدم الحصر عدم العلم بالأطراف ، فأيّ آحاد من الأطراف جمعها المكلّف والتفت إليها لا يحصل له القطع بأنّه ليس غيرها موجوداً ، بل يحتمل وجود آحاد أُخر هي بمقدار المعلوم بالاجمال ، وحينئذ فيكون حال الآحاد التي ضبطها المكلّف والتفت [ إليها ] حال الاناءين ، وحال ما يحتمل وجوده من الآحاد حال الاناء الثالث ، وحينئذ فتدخل في الضابط المتقدّم ، وهو أنّه لو كنّا نحتمل وجود أطراف أُخر للأطراف الموجودة لم يكن العلم الاجمالي منجّزاً في الأطراف الموجودة ، ولازم ذلك هو جواز ارتكاب جميع الأطراف الموجودة ، لكن ليس ذلك من المخالفة القطعية ، كما أنّ جواز الارتكاب إنّما يكون اعتماداً على الأصل النافي ، لا لأجل أنّ الشكّ في أطراف الشبهة غير المحصورة بمنزلة العدم ، بحيث لا يكون ذلك العلم الاجمالي مولّداً للشكّ في هذه الأطراف.

والظاهر أنّ المنظور إليه في تلك الأخبار والاجماعات هو [ هذا ] المعنى ، دون ما لو كانت هذه الأطراف الموجودة المعلومة لدينا المضبوطة عندنا ممّا يعلم إجمالاً بأنّ ما بينها محرّم ، فإنّ ذلك العلم الاجمالي يكون منجّزاً وإن بلغت الأطراف ما بلغت من الكثرة ، إلاّ أن يكون الاجتناب عن جميعها حرجياً ، فيجوز ارتكاب ما يرتفع الحرج بارتكابه ، أو كان بعضها خارجاً عن محلّ الابتلاء وكان بمقدار المعلوم بالاجمال ، كان ارتكاب الباقي جائزاً.

١٨٣

لكن يتوجّه على هذا الضابط ما عرفت الاشارة إليه ، من أنّه لابدّ في تلك الأطراف التي يحتمل وجودها أن تكون بمقدار المعلوم بالاجمال ، وإلاّ عاد المحذور في جواز ارتكابه للأطراف التي علم بوجودها ، مثلاً لو علم بوجود عشر شياه محرّمة في جملة غنم البلد المفروض أنّها غير محصورة ، لم يجز له ارتكاب بعض الأطراف التي ضبطها وعلم بوجودها ، إلاّ إذا كان يحتمل وجود أطراف أُخر هي بمقدار المعلوم بالاجمال ، بمعنى أنّه يحتمل أنّ الذي شذّ عنه ولم يحط علمه بوجوده كان بمقدار المعلوم بالاجمال الذي هو العشر ، أمّا إذا لم يحتمل ذلك بل أقصى ما عنده أنّه يحتمل أنّه قد شذّ عنه مقدار خمس شياه مثلاً ، لم يجز له ارتكاب شيء ممّا علم بوجوده ، للعلم بأنّ فيه خمساً محرّمة.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على كون ذلك هو الضابط في الشبهة غير المحصورة ، لا يمكن أن يتصوّر لنا صورة يشكّ في كونها من المحصور أو غير المحصور ، وذلك واضح لا يحتاج إلى بيان.

كما أنّ هذا الضابط لا يجري في الشبهات الوجوبية ، لأنّ العلم بوجوب وارد إمّا على أحد هذه الأشياء أو على شيء آخر لا أعلم بوجوده ، لا يكون من العلم غير المؤثّر ، بل يكون مؤثّراً ، غايته أنّ ذلك الذي لا نعلمه يسقط فيه الاحتياط بمقدار العسر والحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (١).

وفيه تأمّل ، فإنّه لو علم بوجوب إكرام العالم وتردّد بين أطراف كثيرة وكان يحتمل وجود أطراف أُخر لا يعلم بوجودها ، كان الملاك الذي ذكرناه في الشبهة التحريمية جارياً فيه.

لكن هذا الضابط لا يخلو من الخدشة والتأمّل ، فإنّ عدم العلم بوجود

__________________

(١) في الحاشية الثانية في الصفحة : ٢٤٣ وما بعدها.

١٨٤

أطراف أُخر وأنّها على تقدير وجودها يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليها ، ينافي العلم الاجمالي بوجود محرّم عليه ، فما ذكرناه في الأمر الأوّل والأمر [ الثاني ] لا يخلو عن مناقضة ، لأنّه مشتمل على العلم بوجود المحرّم مع دعوى احتمال انطباقه على ما يحتمل عدم وجوده ، فلاحظ وتأمّل.

مضافاً إلى إمكان دعوى كون أطراف العلم هو ما في الكرة الأرضية ، وهي محصورة بالمعنى المذكور وإن لم يعلم مقدار عددها. لكن هذه الإشكالات إنّما تتوجّه لو كان الملاك في التنجيز هو العلم دون ما لو قلنا بأنّه تعارض الأُصول.

قال المرحوم الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته : وأمّا في المحرّمات المقصود منها التروك فكثيراً ما يتصوّر كثرة الأطراف عارياً عن هذه المحاذير ( يعني الاضطرار أو العسر والحرج أو الخروج عن الابتلاء ونحوها من مسقطات العلم الاجمالي ) فلم يبق فيها إلاّمحذور كثرة الأطراف الملازم لضعف الاحتمال على ما أشرنا ، وحينئذ أمكن أن يقال : إنّ ضعف الاحتمال في كلّ واقعة ملازم مع وجود العلم المزبور للاطمئنان بكون المعلوم في غيره. وتوهّم اقتضاء ضعف كلّ طرف وجود الاطمئنان بالعدم فيه ، وهو مستلزم للاطمئنان بعدم التكليف في جميع الموارد ، وهو مع وجود العلم الاجمالي بوجوده في بعضها مستحيل ، مدفوع بأنّه كذلك لو كان ضعف الاحتمال في كلّ واحد ملازماً للاطمئنان بعدمه في هذا المورد تعييناً ، وأمّا لو كان ملازماً للاطمئنان بوجوده في غيره ، فلا يكون لازم الاحتمال المزبور إلاّ الاطمئنان بالعدم في كلّ طرف بنحو التبادل ، ولا بأس حينئذ بالجمع بين هذا النحو من الاطمئنان بالعدم بالنسبة إلى جميع الأطراف مع العلم المزبور ، وحينئذ إن بنينا على حجّية هذا الاطمئنان لدى العقلاء بشهادة بنائهم على إلغاء الاحتمال البالغ في الضعف بهذه المثابة وأخذهم بالاطمئنان القائم على

١٨٥

طرفه ، فقهراً يصير لازم كثرة الأطراف وجود جعل بدل في البين ، إذ مرجعه حينئذ إلى العلم الاجمالي على تعيين المعلوم بالحجّية (١) في بقية الأطراف ، وهذا المعنى مستتبع لعدم وجوب الموافقة القطعية ، وأمّا بالنسبة إلى المخالفة القطعية فالعلم باقٍ على تأثيره الخ (٢).

والذي يظهر منه في هذه المقالة أنّه قدس‌سره قد بنى على هذه الطريقة التي هي مأخوذة من الوجه الخامس الذي ذكره الشيخ قدس‌سره لعدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة ، التي أشار إليها في أثناء الكلام على هذا الوجه الخامس بقوله قدس‌سره : ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات ـ إلى قوله : ـ وحاصل هذا الوجه : أنّ العقل إذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل الخ (٣) ، فراجع.

__________________

(١) [ في النسخة الحديثة أُبدلت « الحجّية » ب : الحجّة ].

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٢.

(٣) قال الشيخ قدس‌سره : الخامس : أصالة البراءة بناءً على أنّ المانع من إجرائها ليس إلاّ العلم الاجمالي بوجود الحرام ( فلا مسوّغ للارتكاب ) لكنّه إنّما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدّمة العلمية التي لا تجب إلاّلأجل وجوب دفع الضرر ، وهو العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا لا يجري في المحتملات الغير المحصورة ، ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات.

ثمّ أخذ في ذكر الأمثلة من السم في ألف إناء وسب أهل البلد والإخبار بموت أحد ، وفرّق بين ما لو كان بين محصورين أو كان بين غير محصورين.

ثمّ قال : وإن شئت قلت : إنّ ارتكاب المحتمل في الشبهة الغير المحصورة لا يكون عند العقلاء إلاّكارتكاب الشبهة الغير المقرونة بالعلم الاجمالي. ثمّ أفاد أنّ الرواية

١٨٦

لكن الذي كان قد بنى عليه في الدرس في الوقت الذي كنت أحضره هو عدم الاعتماد على هذه الطريقة ، لأجل هذه الجهة التي أشار إليها بقوله هنا : وتوهّم الخ ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه (١) في أثناء الكلام على الشبهة الغير المحصورة :

وقد يقال : إنّه بعد الفراغ عن كون احتمال الانطباق في كلّ واحد من الأطراف ضعيفاً عند العقلاء ، يكون بناء العقلاء على عدم الانطباق وعدم اعتنائهم باحتماله مستلزماً لحصول الظنّ بانطباق المعلوم بالاجمال على الطرف الآخر ، وحينئذ يكون ذلك الظنّ حجّة ، لبناء العقلاء عليه ، فيكون المقام نظير ما لو قامت

__________________

الشريفة ناظرة إلى ذلك. ثمّ قال : وحاصل هذا الوجه : أنّ العقل إذا لم يستقل بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب عن كلّ محتمل ، فيكون عقابه حينئذ عقاباً من دون برهان ، فعلم من ذلك أنّ الآمر اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالاً بين المحتملات بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم إتيانه ، فتأمّل.

ثمّ بعد أن تعرّض لجواز ارتكاب الجميع قال : وأمّا الوجه الخامس فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك من أوّل الأمر ، وأمّا معه فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام فيستحقّ العقاب. ثمّ قال في بيان الضابط : ويمكن أن يقال بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها [ فرائد الأُصول ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٧١ ].

قال شيخنا قدس‌سره : أمّا الوجه الخامس ... ففيه : أنّ قياس الأحكام الشرعية واحتمال الضرر الأُخروي على الأحكام العرفية واحتمال الضرر الدنيوي ليس في محلّه ، كما لا يخفى على المتأمّل [ منه قدس‌سره. فوائد الأُصول ٤ : ١٢١ ].

(١) في درس ليلة الاثنين ٦ ذي القعدة سنة ١٣٤٠ [ منه قدس‌سره ].

١٨٧

أمارة معتبرة كالبيّنة مثلاً على تعيين ما هو المعلوم بالاجمال ، الذي عرفت في الشبهة المحصورة أنّه من قبيل جعل البدل المستلزم لتحقّق الفراغ الجعلي ، الموجب لعدم وجوب الموافقة القطعية.

وفيه أوّلاً : أنّه مستلزم لكون كلّ واحد من الأطراف مظنون الانطباق وموهومه ، حيث إنّ كلّ واحد منها يكون موهوماً لضعف الاحتمال فيه ، وهو مستلزم لكون الآخر مظنوناً ، فيكون كلّ واحد منها مظنوناً وموهوماً.

قلت : ويمكن الجواب عنه : بأنّ كون هذا الطرف موهوماً لأجل كثرة الأطراف إنّما يوجب الظنّ بالوجود في باقي الأطراف على الإجمال ، لا الظنّ في كلّ واحد منها كي تكون النتيجة هي أنّ كلّ واحد من الأطراف موهوم ومظنون ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ الظنّ في باقي الأطراف على الجملة لا يوجب الظنّ في كلّ واحد منها بخصوصه ، بل يجتمع الظنّ فيها على الجملة مع الوهم في كلّ واحد منها بخصوصه ، كما أنّ العلم في الأطراف على الجملة لا يوجب العلم في كلّ واحد منها بخصوصه ، فيجتمع العلم فيها على الجملة مع احتمال العدم في كلّ واحد منها بخصوصه ، وكما لا يسري العلم على الجملة إلى الخصوصيات فكذلك لا يسري الظنّ على الجملة إلى كلّ واحد من الخصوصيات ، فلا تكون النتيجة هي أنّ كلّ واحد بخصوصه يكون موهوماً ومظنوناً ، كما لا تكون النتيجة في سائر موارد العلم الاجمالي هي أنّ كلّ واحد من الأطراف بخصوصه محتمل العدم ومعلوم الوجود. نعم العمدة هو الإشكال الثاني ، وهو ما حرّرناه عنه قدس‌سره بقولنا :

وثانياً : أنّه مناقض للعلم الاجمالي ، فإنّ الظنّ بعدم الانطباق في كلّ واحد

١٨٨

من الأطراف يناقض العلم بوجود المحرّم بينها ، فإنّ العلم بالموجبة الجزئية لا يجتمع مع الظنّ بالسالبة الكلّية. نعم يتصوّر ذلك إذا لاحظنا كلّ واحد من الأطراف مع الذهول عن الآخر كما في التدريجيات ، أمّا في الدفعيات والالتفات إلى جميع الأطراف فلا يمكن القول بأنّ كلّ واحد منها يكون مظنون العدم مع العلم بالوجود إجمالاً ، فإنّ ذلك ينتهي إلى اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظنّ بالسالبة الكلّية ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

وهذا الإشكال موجود في درر المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس‌سره فإنّه بعد أن وجّه سقوط الاحتياط بضعف الاحتمال بحيث لا يعتني به العقلاء ويجعلونه كالشكّ البدوي ، فيكون في كلّ طرف يقدم عليه الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه. وبعد أن أفاد أنّ هذا التوجيه أحسن ممّا أفاده الشيخ قدس‌سره من كون الضرر موهوماً ، لأنّ العقوبة ولو كانت موهومة لا يكون العقل حاكماً بجواز الإقدام عليها ما لم يحصل القطع بعدمها ، قال : لكن فيما ذكرنا أيضاً تأمّل ، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها ، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظنّ بالسلب الكلّي (١) ، انتهى كلامه قدس‌سره.

__________________

(١) قال المرحوم في درره : فنقول : غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم وجوب الاحتياط : هو أنّ كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلاً في طرف خاصّ ، بحيث لا يعتني به العقلاء ويجعلونه كالشكّ البدوي ، فيكون في كلّ طرف يقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه. وهذا التقريب أحسن ممّا أفاده شيخنا المرتضى قدس‌سره من أنّ وجه عدم وجوب الاحتياط كون الضرر موهوماً ، فإنّ جواز الإقدام على الضرر الأُخروي الموهوم لو سلّم لا يوجب القطع

١٨٩

ولعلّ الأصل في هذا الإشكال من المرحوم السيّد محمّد الأصفهاني قدس‌سره ، فإنّ المعروف أنّ الدرر تقريرات عن درسه. وعلى كلّ حال ، أنّ مراده بقوله : ولكن فيما ذكرنا تأمّل الخ ، هو ما ذكره بقوله : فيكون في كلّ طرف يقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه الخ بناءً على أنّ المراد من الطريق العقلائي هو ضعف الاحتمال الذي هو عبارة عن الظنّ بالعدم ، وحينئذ يتوجّه عليه التأمّل المذكور.

وحينئذ يكون كلّ ممّا أفاده هو وما أفاد الشيخ قدس‌سره مبنياً على أنّ المسوّغ للارتكاب هو الظنّ بالعدم وأنّ احتمال الحرمة والعقاب فيما يرتكبه موهوم ، وإنّما كان ما ذكره هو أحسن ممّا أفاده الشيخ قدس‌سره مع اشتراكهما في ورود التأمّل المذكور ، هو أنّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره كان مقصوراً على مجرّد الظنّ بالعدم ، وأنّ احتمال الحرمة والعقاب موهوم ، فيرد عليه حينئذ أنّ العقاب الموهوم يلزم التحرّز عنه ، بخلاف ما أفاده هو فإنّه مستند إلى دعوى بناء العقلاء على العدم في ذلك ، فيكون الاستناد في الارتكاب إلى حجّة عقلائية ، وهي مصحّحة للعذر ، فلا يبقى حينئذ إلاّهذا الإشكال وهو إشكال التناقض.

ولا يخفى أنّ إشكال المناقضة المذكورة جارٍ حتّى في الشبهة المحصورة ،

__________________

بكونه غير معاقب كما لا يخفى ، هذا.

ولكن فيما ذكرنا أيضاً تأمّل ، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها ، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظنّ بالسلب الكلّي ، فحينئذ فإنّ تمّ الإجماع في المسألة ، وإلاّ فالقول بعدم وجوب الاحتياط مشكل ، لعين ما ذكر في الشبهة المحصورة من دون تفاوت [ منه قدس‌سره. راجع درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٤٧١ ـ ٤٧٢ ].

١٩٠

لأنّ المكلّف يحتمل العدم في هذا الطرف ، ويحتمله أيضاً في ذلك الطرف ، فيكون الحاصل أنّه يحتمل السالبة الكلّية مع علمه بالموجبة الجزئية ، وما الجواب عنه إلاّبأنّ احتمال العدم في هذا الطرف مقرون بالقطع بالوجود في الطرف الآخر ، بمعنى أنّه لو كان احتمال العدم في هذا الطرف مطابقاً للواقع لكان الموجود في الطرف الآخر مقطوعاً به ، وهكذا العكس. وإن شئت فقل : إنّ احتمال السلب في كلّ واحد على حدة مع قطع النظر عن غيره ليس هو عبارة عن احتمال السالبة الكلّية ، فإنّ السلب في كلّ واحد على حدة عبارة عن الوجود في الطرف الآخر.

وهذا بعينه آت في ظنّ العدم في هذا الطرف ، فإنّه مقرون بالقطع بالوجود في الطرف الآخر ، إذ ليس الظنّ إلاّ الاحتمال غايته أنّه راجح ، وحينئذ فلا مانع من أن يكون كلّ واحد مظنوناً فيه العدم بهذا النحو من الظنّ المقرون بالعلم بالوجود في بقية الأطراف على الاجمال ، ولا يكون نتيجته الظنّ بالسالبة الكلّية ، بل يكون نتيجته ظنّ العدم في كلّ واحد بخصوصه مقروناً بالقطع بالوجود في غيره على تقدير مطابقة ظنّه للواقع ، ولازمه القطع بخطأ بعض ظنونه التفصيلية المذكورة ، وهذا لا ينقض الظنّ التفصيلي الوجداني في كلّ واحد بخصوصه مع قطع النظر عن الأطراف الأُخر. ومع قطع النظر عن هذا فنقول : إنّه لو سلّم الاجتماع فهو ليس بأعظم من قطع الإنسان من أوّل بلوغه بأنّ بعض قطعياته المستمرّة إلى حين موته خطأ ، مع أنّه عند حصول كلّ قطع له لا يحتمل فيه الخطأ.

وأمّا ما أفاده في المقالة (١) من الجواب عن هذا التوهّم ، فالظاهر أنّه غير دافع له ، فإنّ دعوى صرف الظنّ إلى الوجود في الغير مجرّد تغيير عبارة ، لأنّ الظنّ

__________________

(١) المتقدّم نقله في الصفحة : ١٨٥.

١٩١

بالوجود في الغير ملازم للظنّ بعدم الوجود في هذا الطرف بل هو عينه ، إلاّ أن مراده شيء آخر وهو ما سيأتي شرحه في آخر البحث.

ولكن الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا الوادي أعني الظنّ بعدم الوجود في هذا الطرف أو الظنّ بالوجود في غيره من الأطراف ، بل إنّ أساسها أمر عقلائي آخر غير حجّية الظنّ ، وذلك الأمر العقلائي ما أشار إليه الشيخ قدس‌سره بقوله : ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات (١) وحاصله هو ضعف هذا الاحتمال في هذا الطرف بواسطة كثرة الاحتمالات الراجعة إلى احتمالات وجوده في غيره على وجه لا يعتني به العقلاء في عادياتهم ، والمراد من ضعفه في قبال تلك الاحتمالات هو ضعفه في نظر العقلاء ، لا أنّه يكون موهوماً وهي تكون مظنونة ، كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى.

وحينئذ فلم يبق في البين إلاّما أشار إليه الشيخ قدس‌سره بالتأمّل ، وحاصله ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : إنّ قياس الأحكام الشرعية واحتمال الضرر الأُخروي على الأحكام العرفية واحتمال الضرر الدنيوي ليس في محلّه الخ (٢) ، ولكن الأمر كذلك لو خلّينا نحن وهذه الطريقة العقلائية الجارية في أُمورهم العرفية ، أمّا بعد أن أمضاها الشارع بدليل الإجماع أو ببركة الروايات الآتية (٣) التي مفادها هو تجويز الارتكاب استناداً إلى هذه الطريقة العقلائية ، فلا يبقى في البين إشكال أصلاً ، فإنّ

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٦٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٢١.

(٣) في الصفحة : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، وقد تقدّم ذكرها والمناقشة فيها ، راجع الصفحة : ١٧٦ وما بعدها.

١٩٢

هذا البناء العقلائي يكون حينئذ من قبيل الأمارة الشرعية على عدم ثبوت التكليف في هذا الطرف ، ولازمها ثبوته في الجملة في باقي الأطراف ، وحينئذ يجوز ارتكاب هذا الطرف بل وغيره من الأطراف إلى أن يخرج الاحتمال عن هذا الضعف بواسطة كثرة ما ارتكبه وقلّة ما بقي ، فلو اتّفق ذلك على بُعده بل يمكن القطع بعدم اتّفاقه ، نقول حينئذ إنّه عند وصول النوبة إلى ذلك يكون التردّد بين كونه في الباقي أو فيما تقدّم ارتكابه ، فلا يعود العلم مؤثّراً ، والنتيجة حينئذ هي جواز المخالفة القطعية لو اتّفقت.

وعلى أيّ حال ، فليست المسألة من وادي الظنّ بالعدم في هذا الطرف ، ولا من الظنّ بالوجود في الطرف الآخر ، بل إنّ أساسها هو ضعف احتمال الخطر لو كان مقروناً باحتمالات كثيرة خالية من الخطر ، مثلاً لو كان النجس واحداً في ضمن مائة إناء ، فلو وضعت يدك على هذا الإناء الصغير مثلاً كان هناك مائة احتمال لوجود النجاسة ، أحدها وجودها في هذا الاناء الصغير في قبال احتمال وجودها في الأكبر منه وغيره وغيره إلى تسعة وتسعين احتمالاً ، فكان احتمال وجود النجاسة في هذا الاناء الصغير احتمالاً واحداً من أصل مائة احتمال ، وتلك الاحتمالات كلّها ناشئة عن العلم القطعي بوجود النجاسة في واحد من تلك المائة إناء ، وليس لبعضها قوّة على البعض الآخر ، لأنّ كلّ واحد منها مساوٍ للآخر في كونه معلولاً لذلك العلم الاجمالي ، من دون أن تكون خصوصية في البين توجب قوّة أحد تلك الاحتمالات على الآخر.

وهذه الاحتمالات المتساوية كلّها قد اجتمعت لدى المكلّف ، وليس كلّ واحد منها إلاّمن قبيل الشكّ المتساوي الطرفين ، من دون فرق في ذلك بين كثرة الاحتمالات وقلّتها ، حتّى لو كانت الأواني أربعاً كان كلّ واحد منها احتمالاً

١٩٣

متساوي الطرفين ، غير أنّه احتمال واحد في قبال ثلاثة احتمالات ، ويكون احتمال الخطر هنا عند الإقدام على واحد منها من قبيل ما يصطلح عليه المتجدّدون أنّه خمسة وعشرون في المائة في قبال احتمال عدمه وهو خمسة وسبعون بالمائة ، ومن الواضح أنّه ليس الواحد مظنون العدم في قبال ثلاثة ، فلا تكون الكثرة موجبة لخروج الواحد منها من تساوي الطرفين إلى الظنّ بالعدم ، غايته من قبيل القلّة والكثرة ، وهذه القلّة قد تصل إلى حدّ لا يعتني بها العقلاء ، وقد أخذ المتجدّدون المقياس في الكثرة هو المائة.

وليس هذا من قبيل تقسيم الدائرة مهما كانت سعتها إلى ٣٦٠ درجة ، ولا من قبيل السانتيم في قولهم سانتي غرام سانتي متر ليكون باعتبار ما يضاف إليه ، بل هو أمر واقعي شبيه بدرجة الحرارة ، فإنّها ـ أعني درجة الحرارة ـ واحدة لا تختلف باعتبار ما تضاف إليه ، فالاحتمال الواحد لا يخرج عن كونه احتمالاً واحداً ، سواء كان في مقابله احتمال واحد أو كان احتمالان أو كان ثلاثة ، ويعبّر عن الأوّل بكونه خمسين بالمائة ، وعن الثاني بكونه ثلث المائة ، وعن الثالث بكونه خمسة وسبعين بالمائة (١) وهكذا إلى الواحد بالمائة ، فكان هذا ـ أعني الواحد بالمائة ـ آخر ميزان الاحتمال عندهم ، على وجه لو كان احتمال الخطر واحداً في ألف أو في مليون لم يكن احتمالاً عندهم.

ولعلّ هذا الميزان مقصور عندهم في دوران الأمر بين المحذورين ، كما في العمليات الجراحية التي يكون المريض أو وليّه مردّداً بين الإقدام عليها وفيها خطر الموت ، أو تركها وفيه أيضاً خطر الموت ، بل لعلّ ذلك من قبيل احتمال التخلّص من الموت ، نظراً إلى أنّه لو ترك العملية يكون واقعاً في الموت لا

__________________

(١) [ الأنسب بسياق العبارة أن يقال : خمسة وعشرين بالمائة ، والأمر سهل ].

١٩٤

محالة ، وحينئذ يكون الإقدام على العملية راجحاً في نظرهم ـ بل لعلّه واجب شرعاً ـ حتّى لو كان من قبيل الواحد بالمائة.

وعلى كلّ حال ، لابدّ للطبيب القائل بأنّ احتمال النجاح بالمائة تسعون مثلاً مستنداً إلى استقراء ، بأن يكون هناك إحصاء طبّي استقرائي قد وقع على مثل هذه العملية في مائة شخص ، فكان الناجح فيهم تسعين بالمائة والهالك عشرة ، لكن هذا لا أصل له على الظاهر ، ولو كان له أصل فهو لا يقبل النزاع ، فإنّك ترى أنّ أحدهم يقول في قضية واحدة إنّ النجاح بالمائة تسعون ، وآخر يقول إنّه بالمائة ستّون وهكذا ، بل الظاهر أنّ هذه التعبيرات تسامحية حتّى كان الطبيب يرى وجوه الاحتمالات في القضية مائة ، ويرى أنّ تسعين منها نجاح تنزيلاً لقوّة الاحتمال وضعفه منزلة عدد وجوه الاحتمالات.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الميزان ـ أعني المائة ـ إنّما هو في العمليات ونحوها ممّا يدور الأمر فيها بين المحذورين ، وحينئذ يختار الشخص ما هو أكثر احتمالاً للنجاح ، وهكذا الحال في مسائل مجرّد النفع من دون مقابلة للضرر ، بل من باب الإقدام على النفع المحتمل في قبال عدم النفع ، أمّا في قبال الضرر المحتمل في قبال عدم الضرر كما في الإقدام على ما يحتمل فيه السمّ ، بأنّ علم وجوده إجمالاً في أوانٍ كثيرة ، أو الإقدام على ما يحتمل فيه العقوبة الأُخروية ، فالمسألة تحتاج إلى مقياس أعلى حتّى عند العقلاء.

ومن ذلك يظهر لك أنّا لو سلّمنا قيام الدليل الشرعي على إمضاء تلك الطريقة العقلائية مثل الإجماع أو الروايات ، لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا يجري عليه العقلاء في محتملات الضرر بالنسبة إلى قلّة الاحتمالات وكثرتها.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المطلب ـ أعني بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخطر في

١٩٥

مورد ضعف الاحتمال الواحد في ضمن الاحتمالات الكثيرة ـ لو تمّ إمضاء الشارع له يكون من قبيل الأمارة العقلائية على عدم التكليف في مورد ذلك الاحتمال الضعيف الممضاة من جانب الشارع ، ومعها لا يحتاج إلى أصالة البراءة ونحوها من الأُصول النافية ، بل كان كسائر الأمارات حاكماً على الأصل في موردها حتّى لو كان ممّا لا يجري فيه الأصل النافي ، كما في الشبهة في المضاف في الأطراف غير المحصورة ، بل حتّى لو كان المورد من قبيل الدماء والفروج ممّا تكون الشبهة فيها في حدّ نفسها مورداً للأصل الموجب للاحتياط ، مثل اشتباه المحرّم نكاحها في أطراف غير محصورة ، بل حتّى لو كان المورد ممّا يجري [ فيه ] الأصل الموضوعي المنقّح للتحريم ، مثل الشبهة الموضوعية في التذكية التي هي مجرى أصالة عدم التذكية كما تضمّنته بعض روايات (١) المسألة.

بل إنّ هذا الحكم ـ وهو جواز الإقدام على أحد الأطراف استناداً إلى ضعف الاحتمال ـ يكون مقدّماً على جميع هذه الأُصول الجارية في مورد حتّى لو لم نقل بأنّه من سنخ الأمارات ، بل قلنا إنّه من سنخ الأُصول العملية ، وذلك لما يستفاد من أدلّته من التقديم المذكور ، إمّا لأجل التنصيص في بعضها كما عرفت من موارد أصالة عدم التذكية ، وإمّا لأجل أنّ لسان أدلّته لسان عدم الاعتناء بالاحتمال الموجب للتوقّف في المسألة. وعلى أي حال ، لا يكون هذا الحكم إلاّحكماً ظاهرياً يترتّب الأثر على خلافه لو انكشف الخطأ فيه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الخطأ فيما علّقناه في الدورة السابقة على قوله : وأمّا الوجه الثاني الخ من الحاشية المفصّلة (٢) ، وينبغي الضرب عليها ، لكنّي أبقيتها

__________________

(١) يأتي ذكرها في الصفحة : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٦٥ وما بعدها.

١٩٦

للمراجعة تشريحاً للذهن في مراجعتها ، سيّما ما حرّرناه (١) في توجيه ما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره وجوابه ، فراجعه فإنّه لا يخلو من فائدة.

قال المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني قدس‌سره في الحاشية على قول المصنّف قدس‌سره في الرسائل : هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ الخ ما هذا لفظه : هذا على تقدير تفسير الشبهة الغير المحصورة بما كثرت أفراد الشبهة بحيث يعسر عدّها ، أو يكون احتمال مصادفة كلّ واحد من أطراف الشبهة للحرام المعلوم بالاجمال موهوماً في الغاية ، أو غير ذلك ممّا ستسمعه ، فيكون تسمية الشبهة غير محصورة على جميع تلك التفاسير مبنية على المسامحة ، وإقامة الدليل على جواز ارتكابها على جميع تلك التفاسير لا يخلو عن إشكال.

والحقّ أن يقال في تفسيرها : الشبهة الغير المحصورة هي ما لم تكن أطرافها محدودة مضبوطة غير قابلة للزيادة والنقصان ، والمحصورة ما كانت كذلك ، فلو علم مثلاً بحرمة شاة من قطيع غنم محدودة معيّنة ، بحيث لو سئل عن الحرام لجعله مردّداً بين آحاد تلك القطيع ، فيقول : هذا أو هذا أو ذاك إلى آخرها ، لكانت الشبهة محصورة ، سواء قلّت أطراف الشبهة أم كثرت ، ولكن الغالب مع كثرة أطرافها أن يكون بعضها خارجاً عن مورد ابتلائه ، فلا يجب الاجتناب فيها لذلك ، لا لكونها غير محصورة.

وهذا بخلاف ما لو علم بأنّ ما يرعاه هذا الراعي بعضها موطوءة ولكن لم يكن له إحاطة بجميع ما يرعاه ( هذا الراعي ) ممّا هو من أطراف الشبهة ، فليس له حينئذ جعل الحرام مردّداً بين آحاد معيّنة ، بل لو سئل عن حال كلّ فرد لأجاب بأنّ هذا إمّا حرام أو الحرام غيره ممّا يرعاه هذا الراعي على سبيل الإجمال ، من غير أن

__________________

(١) في الصفحة : ١٨٠ وما بعدها.

١٩٧

يكون له إحاطة بأطراف الشبهة ، فحينئذ لا يجب عليه الاجتناب عن كلّ ما يحيط به من الأطراف ، حيث إنّه يحتمل أن يكون الحرام فرداً آخر غير ما أحاط به ، إذ الأصل فيما أحاط به في مثل الفرض سليم عن المعارض ، فإنّه لا يعارضه أصالة عدم حرمة غيره ، إذ لا أثر لهذا الأصل ما لم يحرز أنّ ذلك الذي يمكن أن يكون طرفاً للشبهة ممّا يعلمه ويبتلى به ، فعمدة المستند لجواز ارتكاب الشبهة الغير المحصورة بناءً على هذا التفسير الذي هو في الحقيقة إبقاء للفظ على حقيقته ، إنّما هي سلامة الأصل فيما أحاط به من الأطراف عن المعارض ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين قلّة الأطراف وكثرتها ، فلو دخل في قرية مثلاً وعلم إجمالاً بأنّ واحداً ممّن يبيع الطعام في هذه القرية أمواله محرّمة ، وأطراف مثل هذه الشبهة عادة لا تتجاوز عن العشرة ، فإن أحاط بجميع من يبيع الطعام فيها كانت الشبهة محصورة ، وإن أحاط بعدّة منهم ولم يعلم بانحصارهم فيه ، كانت الشبهة غير محصورة. وفي العبارة المتقدّمة عن صاحب الحدائق في صدر المبحث إشارة إلى ما اخترناه من التفسير ، فلاحظ وتدبّر (١).

وقال المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني قدس‌سره أيضاً في كتاب الصلاة عند الكلام على مسجد الجبهة : وقد بيّنا في محلّه أنّ الأشبه بالقواعد تحديد المحصور بما إذا كان أطراف الشبهة أُموراً معيّنة مضبوطة ، بأن يكون الحرام المشتبه مردّداً بين أن يكون هذا أو هذا أو هذا وهكذا ، بحيث يكون إجراء أصالة الحل والطهارة في كلّ منها معارضاً بجريانها فيما عداه. وغير المحصور ما لا إحاطة بأطراف الشبهة على وجه يجعل الحرام مردّداً بين هذا وهذا وهذا ، كما لو علم إجمالاً بحرمة أموال بعض التجّار الذي في بلده ، ولم يعلم بانحصارهم في

__________________

(١) حاشية فرائد الأُصول : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

١٩٨

من يعلمهم ويبتلى بمعاملتهم ، فيكون حكم الشبهة الغير المحصورة ـ وهو جواز الارتكاب في أطرافها التي أحاط بها وأراد تناولها ـ بناءً على هذا التفسير على وفق الأصل السليم عن المعارض (١). ثمّ ذكر بعض الضوابط ، ومنها ما كان كثرة المحتملات إلى حدّ يوهن احتمال مصادفة كلّ منها لذلك الحرام المعلوم بالاجمال بحيث لا يعتنى به لدى العقلاء ، ثمّ قال : ولا يخفى عليك أنّ إثبات الرخصة في ارتكاب الشبهة على أغلب هذه التفاسير لا يخلو عن إشكال.

ولا يخفى أنّ الذي يظهر منه قدس‌سره في كتاب الطهارة هو الاعتماد على هذا الضابط ، أعني كون الكثرة موجبة لضعف الاحتمال. نعم في آخر المبحث قال : ويمكن أن يفرّق بين الشبهة المحصورة وغيرها ببيان آخر ربما يلوح من كلام صاحب الحدائق في عبارته المتقدّمة ، وهو أنّه إذا كان الحرام المحتمل مردّداً بين أُمور معيّنة الخ (٢) ، وهذا هو عين ما أفاده في كتاب الصلاة وفي حاشيته على الرسائل ، هذا.

ولكنّه في أحكام الخلوة ذكر ما لو تردّدت القبلة بين الجهات مطلقاً بحيث أيّ جهة تفرض احتمل كونها قبلة ، فالظاهر كونها من الشبهة الغير المحصورة التي قام النصّ والإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها ، كما تقدّمت الاشارة إليه في مبحث الاناءين ، وقد أشرنا في ذلك المبحث إلى ما يظهر منه كون مثل الفرض من الشبهة الغير المحصورة ، فراجع (٣).

ولا يخفى أنّ كلاً من الضابطين اللذين ذكرهما في ذلك المبحث لا ينطبق

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) ١١ : ٢٠٦.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) ١ : ٢٥٦.

(٣) مصباح الفقيه ( الطهارة ) ٢ : ٥٨.

١٩٩

على مسألة جهات القبلة ، المفروض أنّها منحصرة في الدائرة المحيطة ببدن الشخص ، التي لا يكون محيطها زائداً على مقدار ما يساوي سبعة من مساحة عرض بدنه أو أقل من ذلك ، اللهمّ إلاّ أن يريد بذلك الوجه الثاني ممّا فرّق به بينها وبين المحصورة وهو خروج بعض أطرافها عن الابتلاء ، بدعوى أنّ بعض الجهات هنا بالنسبة إلى الخلوة خارجة عن الابتلاء ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى الوجه الذي أفاده في الحاشية وفي كتاب الصلاة أنّ الأصل في الأطراف لو كان غير ترخيصي كما في شبهة المضاف وكما في شبهة عدم التذكية ، لكان مقتضى القاعدة هو التوقّف ، وصريح الرواية في السمن بل في اللحم في قوله عليه‌السلام « فأشتري اللحم » (١) خلاف ذلك ، واليد غير محكّمة ، لأنّ

__________________

(١) كتاب المآكل من محاسن البرقي في باب الجبن ص ٤٩٥ / ح ٥٩٧ عنه عن أبيه عن محمّد بن سنان عن أبي الجارود قال « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن وقلت له : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة؟ فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان » الخبر في الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٩ [ مع اختلاف يسير. راجع وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٥ ].

الضمير في « عنه » راجع إلى أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه محمّد بن خالد البرقي.

موثّقة حنّان بن سدير عن الصادق عليه‌السلام « في جدي رضع من خنزيرة حتّى شبّ واشتدّ عظمه استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ما تقول بنسله؟ فقال عليه‌السلام : أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه ، وأمّا ما لم تعرفه فإنّه بمنزلة الجبن » في الحدائق الناضرة ٥ : ٢٨٤ في المسألة الرابعة من البحث الأوّل من المقصد الثاني من الباب

٢٠٠