أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

توقّفها على الجزم بالنيّة أو على نيّة الوجه ، ينبغي أن يقال بسقوط الوجوب رأساً ، ولا معنى لبقائه بمقدار استحقاق العقاب على مخالفته ، فراجع ما حرّرته (١) عن شيخنا قدس‌سره فإنّه مشتمل على هذه الجهة من الإشكال.

قوله : وإن كان من الأُصول غير المحرزة كأصالة الحلّ والبراءة ، فالأصل الجاري في طرف التكليف لا يغني عن إجراء الأصل في طرف الشرطية ... الخ (٢).

فيه تأمّل ، فإنّ مثال المسألة هو مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، وقد عرفت في محلّه (٣) أنّ لازم تقديم النهي بناءً على الامتناع من الجهة الأُولى وإن كان هو التخصيص الواقعي ، وخروج مورد الاجتماع عن عموم مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) خروجاً واقعياً ، وهو عبارة أُخرى عن كون الحرمة في مورد الاجتماع من قبيل المانعية الواقعية ، إلاّ أن جريان مثل أصالة البراءة أو قاعدة الحل في ناحية الحرمة الواقعية هو الحكم الظاهري بالحلّية وعدم تحقّق المانع ، ومقتضاه جواز الاقدام على الصلاة ، غايته أنّه لو انكشف الخلاف كان مقتضى القاعدة هو الاعادة لولا مثل حديث « لا تعاد » ، بخلاف ما لو قلنا بالجواز من الجهة الأُولى والامتناع من الجهة الثانية وكون المانع هو الحرمة المنجّزة ، فإنّه يحكم بالصحّة واقعاً عند الاستناد إلى مثل البراءة الشرعية أو قاعدة الحل ، ولا أثر فيه لانكشاف الخلاف ، هذا كلّه بناءً على الامتناع من الجهة الأُولى ، الذي لا أثر له

__________________

(١) مخطوط لم يُطبع بعدُ.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٣.

(٣) راجع حواشيه قدس‌سره في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحات : ٨٠ و ١١١ و ١١٥ و ٣٠١.

٣٢١

إلاّ ما عرفت من مانعية الحرمة الواقعية.

هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ، ولكنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّه بعد البناء على كونه من قبيل التخصيص الواقعي ، يكون حاله حال ما لو قال : أكرم عالماً ، وقال : لا تكرم الفسّاق ، وقدّمنا الثاني على الأوّل ، فإنّه يوجب انحصار مورد الأوّل بغير الفاسق ، ولا تنفع فيه أصالة البراءة من حرمة إكرام المشكوك الفسق. بل ربما يقال إنّه لا ينفع فيه استصحاب الجواز لو كان له حالة سابقة ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه على القول بالامتناع يكون حاله حال النهي عن العبادة الخاصّة في كونه مخصّصاً لدليل الأمر ، ومع ذلك لو شكّ في تحريم عبادة للشبهة الموضوعية أو الحكمية ، تكون أصالة البراءة نافعة في الصحّة ، هذا كلّه على تقدير مانعية الغصب.

وأمّا لو قلنا في مثل ذلك بالشرطية ، وأنّ الشرط هو الاباحة الواقعية ، لأمكن القول بما أفاده قدس‌سره من عدم جواز الاقدام استناداً إلى البراءة أو قاعدة الحل ، بناءً على أنّ الشرط هو الاباحة الثابتة للشيء بعنوانه الأوّلي ، فلا تنفع فيه الاباحة الثابتة بعنوان الشكّ ، لكن لا يكون الأصل حينئذ في ناحية الشرطية هو البراءة ، بل يكون الأصل هو الاحتياط ، فإنّا بعد البناء على أنّه يشترط الاباحة الواقعية في مكان المصلّي ، وأنّ أصالة البراءة أو الحل في المكان لا تنفع في تحقّق الشرط المذكور ، تكون المسألة من قبيل الشكّ في تحقّق الشرط المفروغ عن كونه شرطاً ، فيكون المرجع حينئذ هو الاحتياط لا البراءة عن الشرطية ، إذ لا يكون المقام حينئذ من قبيل الشكّ في أصل الشرطية ، بل يكون من قبيل الشكّ في تحقّق الشرط بعد فرض إحراز كونه شرطاً.

تنبيه : وهو أنّه لو قلنا بأنّ المانعية فيما يحرم أكله مرتّبة على ما يحرم أكله ، لا أنّهما في عرض واحد ، كان استصحاب الحلّية حاكماً على البراءة من المانعية دون مثل أصالة البراءة من حرمة الأكل ، فإنّها لا يحرز بها الحلّية كي تكون

٣٢٢

حاكمة على البراءة من المانعية. أمّا قاعدة الحل فالظاهر حكومتها على البراءة من المانعية ، فإنّها وإن لم تكن من الأُصول الاحرازية ، إلاّ أنها من الأُصول التنزيلية التي يكون مرجع التنزيل فيها إلى الحكم بترتيب آثار الحل ، ومن جملتها جواز الصلاة فيه. نعم لو قلنا بعدم كونها من الأُصول التنزيلية ، بل إنّ مفادها هو جعل الحكم في مورد الشكّ كما أفاده العلاّمة الخراساني قدس‌سره في مبحث الاجزاء من الكفاية (١) لم يكن وجه للحكومة المذكورة ، فراجع ما حرّرناه في ذلك المبحث (٢).

وحاصل الإشكال في الأُصول غير الاحرازية وغير التنزيلية مثل حديث الرفع : هو أنّ اشتراط الحلّية أو مانعية الحرمة إن كانت مترتّبة على ما هو كذلك واقعاً فالبراءة لا تنفع ، وإن كان هو الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فأصالة البراءة [ نافعة ] ولكن مقتضاها الإجزاء وعدم الاعادة ، وهذا لا يمكن الالتزام به. وعلى أي حال فإنّ كون هذه المانعية منتزعة من التكليف النفسي الذي هو حرمة الأكل محلّ تأمّل وإشكال ، بل إنّ موضوع هذه المانعية هو ذلك التكليف النفسي لا أنّها منتزعة منه.

قوله : فظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره قبل تنبيهات الأقل والأكثر بأسطر من أنّ الأصل الجاري لنفي التكليف يغني عن جريانه في طرف الشرطية ، على إطلاقه ممنوع ... الخ (٣).

بل إنّ الشيخ قدس‌سره في عبارته المذكورة صرّح بحكومة أصالة البراءة على

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٨٦.

(٢) راجع الحواشي المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : ٣٧٥ وما بعدها ، وكذا ما ذكره قدس‌سره في الصفحة : ٤٠٢ وما بعدها من المجلّد المذكور.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٣.

٣٢٣

الأصل في الشرطية ، فقال : فيصير أصالة البراءة في ذلك الحكم التكليفي حاكماً على الأصل في الشرطية الخ (١) ، فراجع ، وراجع ما في هذا التحرير ص ٧٣ من عدم معقولية انتزاع الشرطية من التكليف النفسي ، وإنّما يكون ذلك في المانعية ، وأنّ المراد من الشرطية في كلام الشيخ هو التقييد بعدم المانع (٢).

وراجع ما في تحرير السيّد سلّمه الله ص ٢٩٨ (٣) فيما لو كانت الحرمة بوجودها الواقعي موجبة للتقييد بالعدم ، وتمثيله لذلك بمسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، ثمّ بعده بأسطر يفيد أنّ المانعية في هذه الصورة إن كانت في عرض الحرمة الواقعية ، لم يكن الأصل الجاري في الحرمة نافعاً في إزالة الشكّ في المانعية ، وإن كانت المانعية في طول الحرمة الواقعية ، كان الأصل الاحرازي نافعاً دون غيره.

والظاهر انطباق الأوّل على مسألة مانعية غير المأكول على نظرية شيخنا قدس‌سره من كونهما في عرض واحد ، وانطباق الثاني على ذلك على نظرية من يدّعي أنّ المانعية في طول الحرمة المذكورة ، أو على مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، فإن كان المراد هو مسألة الاجتماع فقد عرفت الحكم فيها ، وإن كان المراد هو مسألة غير المأكول بناءً على الطولية ، فقد عرفت إمكان حكومة قاعدة الحل بناءً على كونها من الأُصولية التنزيلية ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه (٤) في مسألة النهي عن العبادة.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٣٥٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٥٠٩ ـ ٥١٠.

(٤) راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٠١ وما بعدها.

٣٢٤

قوله : أو كان المتيقّن هو الأكثر ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الاجمال تارة يكون في متعلّق التكليف ، وأُخرى يكون في موضوعه ، والتكليف في كلّ منهما إمّا أن يكون إيجابياً وإمّا أن يكون تحريمياً ، والمرجع في الجميع هو البراءة ، لكن الذي يظهر منه هنا وفي أوّل مباحث الأقل والأكثر ، هو أنّ المتيقّن فيما عدا التكليف الايجابي وكون الشبهة في المتعلّق ، يكون هو الأكثر ، نظراً إلى كون المتيقّن هو الأكثر قيوداً ، لكن قد عرفت فيما تقدّم (٢) أنّه لا داعي إلى ذلك ، بل حيث إنّ المكلّف به ليس هو المفاهيم والعناوين ، بل إنّ المكلّف به إنّما هو المسمّيات والمعنونات ، يكون القدر المتيقّن ممّا تعلّق التكليف به هو الأقل وجوداً ، فإنّ الترديد بين كون المطلوب تركه هو مجرّد الاضافة أو الاضافة المقرونة بالتحية ، يوجب أن يكون مطلوبية ترك الاضافة المقيّدة بالتحيّة قدراً متيقّناً ، وطلب ترك الزائد وهو الاضافة المجرّدة عن التحيّة مشكوكاً.

وهكذا في مسألة وجوب إكرام كلّ عالم ، المردّد بين كونه مجرّد العالم بالفقه أو هو مع النحو ، فإنّ القدر المتيقّن هو مطلوبية إكرام العالم النحوي ، والزائد وهو العالم غير النحوي يكون مشكوكاً.

وهكذا الحال في لا تكرم الفاسق ، المردّد بين خصوص مرتكب الكبيرة أو مطلق المرتكب ولو صغيرة ، فإنّ القدر المتيقّن هو حرمة مرتكب الكبيرة ، ويكون تحريم إكرام مرتكب الصغيرة فقط مشكوكاً ، هذا كلّه في العموم الشمولي الانحلالي.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٤.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٤٨ وما بعدها.

٣٢٥

وقد ظهر لك : أنّ القدر المتيقّن في ذلك هو الأقل أفراداً ، وأنّ التكليف بالزائد على تلك الأفراد يكون مشكوكاً. ومنه يظهر لك أيضاً خروجه عن الأقل والأكثر الارتباطيين وأنّه من قبيل التكاليف غير الارتباطية ، وذلك واضح لا ريب فيه. نعم لو أُخذ العموم في ذلك مجموعياً ، لكان التردّد المذكور من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين ، لكن القدر المتيقّن هو الأقل لا الأكثر.

وأمّا العموم البدلي مثل أكرم عالماً ، مع الشكّ في مفهوم العالم وتردّده بين الاطلاق والتقييد بمثل العدالة ، فلا شبهة في أنّ المتيقّن فيه يكون هو الأقل قيوداً ، فيكون حاله حال تردّد متعلّق التكليف ، ولعلّه يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى عند الكلام على الأقل والأكثر الانحلاليين (١) ، وأنّه هل هو من قبيل الأقل والأكثر ، أو هو من قبيل الدوران بين التخيير والتعيين ، فانتظر.

قوله : لا فرق في جريان البراءة الشرعية في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطي في باب الأجزاء والشرائط والموانع ، بين أن يكون منشأ الشكّ في وجوب الأكثر فقد النصّ أو إجماله ، فإنّ وجود النصّ المجمل في المسألة ... الخ (٢).

بل يمكن أن يقال : إنّ مسألة فقد النصّ في التردّد بين الأقل والأكثر لا يمكن تصوّرها إلاّبعد ثبوت التكليف بالمركّب في الجملة ، وهذا هو عبارة عن إجمال النصّ ، حتّى لو كان ذلك الدليل الدالّ على وجوب المركّب في الجملة لبّياً مثل الإجماع ونحوه ، فمسألة التردّد بين الأقل والأكثر دائماً متقوّمة باجمال في ناحية المركّب المأمور به ، حتّى لو ورد الأمر مثلاً بالاستعاذة قبل الفاتحة وتردّد

__________________

(١) [ لعلّ المراد هو : التحليليين ، ويأتي التعليق عليه في الصفحة : ٣٣٣ ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٣.

٣٢٦

الأمر بين كونه وجوبياً أو استحبابياً ، أو أنّه واجب مستقل أو هو جزء من الصلاة ، فإنّ إجمال هذا النصّ ما لم يكن في البين إجمال في ناحية المركّب وتردّد بين كون الاستعاذة جزءاً منه أو غير جزء ، لا يترتّب عليه أثر من ناحية مدخلية الاستعاذة في الصلاة وعدمها.

قوله : نعم ، هنا بحث آخر قد تعرّض له الشيخ قدس‌سره ... الخ (١).

الأولى في تفصيل هذا البحث هو أن يقال : ليس التعارض في الجزئية أو الشرطية مع وجود العام على طبق أحدهما ، هو أن يدلّ أحد الخبرين على جزئية الاستعاذة مثلاً من الصلاة والآخر على اعتبار عدمها ، فإنّ العام حينئذ لا يكون موافقاً لأحدهما ، بل المراد من صورة التعارض هو أن يدلّ أحد الخبرين على الجزئية ، والآخر يدلّ على مجرّد عدم الجزئية ، مع وجود مثل عموم أقيموا الصلاة الموافق للثاني ، وحينئذ فإن قلنا إنّ موافقة العام لأحد الدليلين مرجّح له على الآخر ، فلا ريب في سقوط دليل الجزئية ، ويكون العمل حينئذ على طبق العموم الموافق للدليل على عدم الجزئية. وإن لم نقل بأنّ العام مرجّح ، فإن قلنا بالسقوط في المتعارضين المتكافئين فلا ريب حينئذ في لزوم القول بسقوط كلا الخبرين ولزوم الرجوع إلى العام ، وإن لم نقل بالسقوط وقلنا بالتخيير كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : « إذن فتخيّر » (٢) فإن قلنا بأنّ التخيير يكون في المسألة الأُصولية ، واخترنا الخبر الدالّ على عدم الجزئية ، كان ذلك عبارة أُخرى عن إسقاط دليل الجزئية وعن الأخذ بالعام.

نعم ، يشكل الأمر على القول بكون التخيير تخييراً في المسألة الفرعية ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٩٧.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

٣٢٧

فإنّه لا يمكن تأتّيه فيما نحن فيه ، فإنّ الظاهر أنّ التخيير في المسألة الفرعية إنّما يمكن أن يتأتّى فيما لو كان كلّ من الخبرين متضمّناً لحكم إلزامي ، أمّا لو كان أحدهما دالاً على الوجوب مثلاً ، وكان الآخر دالاً على مجرّد عدم الوجوب أو على الاباحة ، فلا معنى للقول بالتخيير في العمل وإسقاط الخبرين ، لأنّ التخيير في العمل الفرعي عبارة أُخرى حينئذ عن الأخذ بالخبر الدالّ على عدم الوجوب أو الاباحة ، والمفروض أنّ التعارض فيما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الخبر الدالّ على عدم الجزئية يكون مفاده عين الحكم بالتخيير في المسألة الفرعية ، فلاحظ وتأمّل.

وخلاصة البحث : أنّه لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيداً ، وورد أيضاً دليل يقول : أكرم زيداً ، فقد تعارض الخاصان في زيد ، فالعام تارةً نقول إنّه مرجّح للثاني منهما ، وحينئذ يسقط قوله : لا تكرم زيداً. وأُخرى نقول إنّه مرجع ، بأن نقول إنّ أدلّة التخيير في باب التعارض لا تشمل صورة وجود العام ، وحينئذ يتساقط الخاصان ، ويكون المرجع هو العموم. وثالثة نقول إنّ العام ليس بمرجّح ولا مرجع ، بل يكون الحكم هو التخيير بين الخاصين ، سواء قلنا إنّه تخيير في المسألة الأُصولية أو تخيير في المسألة الفرعية. ورابعة نقول إنّ العام يكون مرجعاً لو كان التخيير الذي توجبه أخبار التعادل هو التخيير في المسألة الفرعية ، لأنّ ملاكه هو عدم الدليل ، والمفروض وجود الدليل في المسألة وهو العموم ، أمّا لو كان ذلك التخيير تخييراً في المسألة الأُصولية ، فلا مانع منه مع فرض وجود العموم ، وحينئذ فإن اختار المجتهد الخبر الموافق للعام وهو قوله أكرم زيداً ، فواضح ويكون العمل حينئذ بكلّ من العام وموافقه ، وإن اختار الخبر المخالف للعام وهو قوله لا تكرم زيداً ، كان ذلك عبارة أُخرى عن إسقاط العام في المورد

٣٢٨

بجعل قوله لا تكرم زيداً مخصّصاً للعام ، هذا.

ولكن تأتّي هذا التفصيل فيما نحن فيه مشكل ، لأنّ العموم إنّما هو مثل أقيموا الصلاة ، والخاصّ الموافق لذلك العموم أو الاطلاق إنّما هو ما يدلّ على عدم جزئية السورة ، لا ما يدلّ على التقييد بعدمها ، وحينئذ يكون الخبر المخالف لذلك الاطلاق هو ما يدلّ على جزئية السورة ، ويكون وزان مسألتنا وزان ما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال يجب إكرام زيد ، وقال أيضاً لا يجب إكرام زيد ، ومن الواضح أنّ التخيير في ذلك لا يتصوّر فيه كونه تخييراً في العمل ، لأنّ التخيير في العمل هو عين الأخذ بقوله لا يجب إكرام زيد ، وإنّما يتصوّر التخيير في العمل فيما لو كان كلّ من الخاصين متضمّناً لحكم إلزامي ، مثل الوجوب في أحدهما والتحريم في الآخر ، في قبال العام الموافق لأحدهما وهو وجوب إكرام العلماء مثلاً ، أمّا لو كان أحد الدليلين ملزماً بالخاصّ وكان الآخر غير ملزم به ، فلا يتصوّر فيه التخيير في العمل بين الخاصين ، سواء كان في قبالهما عموم إلزامي ، أو كان في قبالهما عموم غير الزامي بالنسبة إلى ذلك الخاصّ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فتأمّل.

قوله : منها : ما إذا تردّد لباس المصلّي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره ، فإنّ مانعية غير المأكول تختلف سعة وضيقاً على حسب ما لغير المأكول من الأفراد ... الخ (١).

لا يخفى أنّه قدس‌سره قد حقّق في محلّه في مسألة اللباس المشكوك (٢) أنّ المطلوب في باب النهي النفسي مثل لا تشرب الخمر بحسب التصوير العقلي يمكن أن يكون على ثلاثة أنحاء : الأوّل : أن يكون المطلوب فيه هو ترك كلّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٣.

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ٢٦٨ ـ ٢٧١.

٣٢٩

واحد على استقلاله ، ويعبّر عنه بالسلب الانحلالي. الثاني : أن يكون المطلوب هو السلب الواحد المنبسط على الجميع ، ويعبّر عنه بالسلب المجموعي. الثالث : أن يكون المطلوب هو اتّصاف المكلّف بترك شرب الخمر ، ويعبّر عنه بالمعدولة المحمول فإنّه حينئذ بمنزلة قوله : كن غير شارب للخمر.

ثمّ لو شكّ في خمرية مائع خاصّ ، فعلى الاحتمال الثالث يلزم الاحتياط بتركه ، لأنّ المطلوب حينئذ عنوان بسيط يشكّ في تحقّقه عند ارتكاب ذلك المشكوك ، فالشبهة في ذلك وإن كانت موضوعية ، إلاّ أنها من قبيل الشكّ في المحقّق ، ولأجل ذلك تكون مجرى للاحتياط ، بخلافه على الأوّل والثاني ، فإنّ المرجع في ذلك المشكوك هو البراءة ، لكونه من قبيل الأقل والأكثر ، غايته أنّه على الأوّل من قبيل الأقل والأكثر غير الارتباطيين ، وعلى الثاني من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين.

وهذه الوجوه الثلاثة جارية بعينها في النواهي الغيرية التي هي منشأ انتزاع المانعية ، فعلى الثالث يلزم الاحتياط بترك اللباس المشكوك ، بخلافه على الأوّلين على حذو ما ذكرناه في النواهي النفسية إلاّفي مطلب واحد ، وهو كون المسألة في النواهي الغيرية من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين على كلّ من أخذ السلب مجموعياً أو أخذه انحلالياً ، فإنّه في النواهي النفسية وإن لم يكن ارتباطياً لو أُخذ السلب فيه انحلالياً ، إلاّ أنه في النواهي الغيرية يكون ارتباطياً على كلا التقديرين ، حيث إنّ المنع الغيري عن لبس الحرير مثلاً في الصلاة لو أُخذ انحلالياً وإن لم يكن ارتباطياً بالنسبة إلى كلّ واحد من أفراد الحرير ، إلاّ أنه بالنسبة إلى مجموع أجزاء الصلاة وشرائطها يكون ارتباطياً ، فترك هذا اللباس لو كان حريراً في الواقع وإن لم يكن ارتباطياً بالقياس إلى ترك لبس ذلك اللباس الآخر المفروض كونه

٣٣٠

حريراً ، إلاّ أنه بالقياس إلى مجموع الأفعال الصلاتية يكون ارتباطياً ، ضرورة ارتباط ترك كلّ مانع بالنسبة إلى ما جعل مانعاً فيه.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك : أنّ موارد الشكّ في المحقّق كلّها تكون مجرى للاحتياط ، سواء كان منشأ الشكّ فيها هو عدم النصّ أو إجماله أو اشتباه الأُمور الخارجية ، وأنّ موارد الشكّ في الأقل والأكثر كلّها مجرى للبراءة ، سواء كان منشأ الشكّ هو عدم النصّ أو إجماله أو اشتباه الأُمور الخارجية ، ولو كان منشأ الشكّ في المسألتين هو تعارض النصّين ، كان المرجع فيه هو التخيير بين النصّين على نحو ما عرفت.

قوله : نعم ، في الأجزاء لا يمكن أن تتحقّق الشبهة الموضوعية ، لأنّ التكليف بها ليس له تعلّق بالموضوع الخارجي ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الأجزاء وإن لم يكن لها تعلّق بالموضوع الخارجي ، إلاّ أنها يمكن تأتّي الشبهة الموضوعية فيها ، بأن يكون قد شكّ في أنّه ركع مثلاً أو لا ، كما يمكن ذلك في الشرائط ، بأن يكون قد شكّ في كون هذه الجهة قبلة ، أو شكّ في كون هذا اللباس طاهراً ، إلاّ أنهما ليسا من قبيل الشكّ في الجزئية أو الشرطية ، بل من قبيل الشكّ في تحقّق الجزء أو الشرط ، واللازم فيه هو الاحتياط ، لرجوع الشكّ في ذلك إلى احتمال امتثال الأمر المتعلّق بالجزء أو الشرط مع فرض الاشتغال به يقيناً ، بخلاف مسألة المانعية فإنّ الشكّ في كون هذا اللباس حريراً مثلاً يرجع بعد الانحلال المزبور إلى الشكّ في مانعية هذا اللباس الخاصّ ، فيكون من قبيل الشكّ في الاشتغال ، وبذلك يكون داخلاً في مسألة الأقل والأكثر ، بخلاف الجزئية والشرطية.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٣٣١

والسرّ في ذلك هو ما أفاده من عدم إمكان العموم الشمولي في باب الأجزاء والشرائط ، سواء كان انحلالياً أو كان مجموعياً ، بل لا يتصوّر فيهما إلاّ العموم البدلي ، فدائماً تكون الشبهة الموضوعية فيهما راجعة إلى الشكّ في تحقّق الجزء أو الشرط ، بخلاف المانعية فإنّها لمّا كانت شمولية كان كلّ واحد من أفراد المانع محقّق المانعية ، فيكون الشكّ في كون هذا اللباس حريراً مثلاً راجعاً إلى الشكّ في مانعيته ، وبذلك يكون من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين ، سواء كان العموم الشمولي في قوله لا تصلّ في الحرير انحلالياً أو كان مجموعياً على ما عرفت تفصيله فيما تقدّم.

ثمّ لا يخفى أنّ الشبهة الموضوعية في جزء الواجب الارتباطي وإن أمكن التمثيل لها بمثل غسل الجنابة ، بناءً على أنّ المطلوب هو نفس غسل البشرة الظاهرة ، وقد حصل الشكّ في ندبة في بدنه مثل ثقب الأُذن أو ندبة أُخرى غير عادية في أنّها من قبيل الظاهر أو الباطن على نحو الشبهة الموضوعية ، لكنّه داخل فيما له تعلّق بموضوع خارجي ، فإنّ الواجب هو غسل الظاهر وقد حصل الشكّ في تلك الندبة في أنّها من الظاهر على نحو الشبهة الموضوعية ، فهو نظير العموم المجموعي مثل أكرم العلماء على نحو العموم المجموعي وقد شكّ في عالمية زيد مثلاً. ومثل ذلك ما لو قلنا بأنّ الشرط في لباس المصلّي ومحموله هو الطهارة إذا كان ممّا تتمّ به الصلاة منفرداً ، وقد حصل [ الشكّ ] في أنّ هذا المحمول هل تتمّ به الصلاة منفرداً للشكّ في كونه في نفسه ساتراً للعورة ، فإنّ المرجع في ذلك إلى البراءة من شرطية طهارة ذلك المحمول ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ المثال الأوّل لا يخلو عن خدشة ، فإنّ الشبهة فيه ليست موضوعية صرفة ، بل هي حكمية لكونها من قبيل الشبهة المفهومية ، للشكّ في

٣٣٢

كون الظاهر شاملاً لتلك الندبة.

والأولى التمثيل لذلك بالحدود في باب الوضوء ، مثل حدّ اليد إلى المرفق ، فإنّهم يقولون يجب الغسل فيه من باب المقدّمة العلمية ، وذلك ـ أعني كونه من باب المقدّمة العلمية ـ لا يكون إلاّمن جهة الشكّ في كونه جزءاً على نحو الشبهة الموضوعية ، فإنّ المفهوم وهو اليد وحدّها لا شبهة فيه ولا ترديد ، وإنّما وقع الشكّ في هذه النقطة هل هي داخلة في المحدود أو خارجة عنه على نحو الشبهة الموضوعية ، فراجع ما يذكرونه في باب الوضوء وأنّ غسل تلك النقطة هل هو من باب المقدّمة الوجودية ، أو من باب المقدّمة العلمية.

قوله : الفصل السابع : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المركّبات التحليلية ، والمراد من المركّب التحليلي هو ما إذا لم يتوقّف اعتبار الخصوصية ... الخ (١).

هنا مسائل ربما يختلط بعضها ببعض ، الأُولى : دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي. الثانية : الدوران بين التعيين والتخيير العقلي. الثالثة : الدوران في متعلّق التكليف بين الأقل والأكثر الخارجيين ، سواء كان ذلك من قبيل الجزئية أو الشرطية أو المانعية. الرابعة : دوران متعلّق التكليف بين الأقل والأكثر التحليليين ، مثل أن يعلم بأنّه وجب عليه إخراج هذه الجارية عن ملكه ، ولكنّه تردّد بين كونه بطريق خاصّ كالبيع أو العتق مثلاً ، أو أنّ المطلوب هو مطلق الاخراج عن الملك بأيّ نحو كان. الخامسة : دوران موضوع التكليف بين الأقل والأكثر الخارجيين ، مثل ما لو تردّد في الرقبة التي يجب عتقها بين مطلق الرقبة أو خصوص المقيّدة بالإيمان ، أو تردّد العالم الذي يجب إكرامه بين خصوص العالم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٥.

٣٣٣

بالنحو مع الفقه أو هو مطلق العالم بالفقه وإن لم يكن نحوياً. السادسة : دوران موضوع التكليف بين الأقل والأكثر التحليليين ، مثل ما لو تردّد الهدي الذي يجب بين كونه مطلق الحيوان الذي هو مأكول اللحم ، أو هو خصوص البدنة التي هي من الإبل خاصّة.

أمّا المسألة الأُولى ، فهي مباينة للثانية بما تقدّم (١) تحريره في الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ، بأنّ الأوّل يكون فيه جامع عرفي قريب يكون هو متعلّق الأمر ، بخلاف الثاني.

وأمّا الثانية ، فهي منطبقة على كلّ واحدة من المسائل التي هي بعدها.

وأمّا الثالثة ، فهي مسألة الأقل والأكثر الخارجيين ، التي تقدّم الكلام عليها مفصّلاً في الفصول السابقة.

وأمّا الرابعة وكذلك السادسة ، فهي المقصود بمسألة الأقل والأكثر التحليليين ، وهي المعنونة في هذا الفصل المبيّن فيه بما لا مزيد عليه عدم جريان البراءة الشرعية فيها.

وأمّا المسألة الخامسة ، فيمكن إلحاقها بالرابعة في عدم جريان البراءة فيها ، ولزوم الاحتياط لأصالة الاشتغال ، وذلك لأنّ مدار البراءة هو أن تكون الجهة المشكوكة على تقدير اعتبارها واقعاً داخلة تحت الطلب ، بحيث يكون منبسطاً عليها ، على وجه لو قطّعناه قطعاً لكانت قطعة منه واردة على تلك الجهة ، كما في جزء نفس المأمور به أو شرطه أو مانعه. أمّا ما يدخل فيما تعلّق به الفعل المأمور به من جزء أو شرط أو مانع ، فلا يكون التكليف منبسطاً عليه ، فإنّ

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : ٢٥٥ وما بعدها.

٣٣٤

الوجوب المتعلّق بعتق الرقبة مثلاً على تقدير كونها في الواقع مقيّدة بالإيمان ، لا يكون منبسطاً على تقييدها بالإيمان على وجه لو قطّع ذلك الوجوب لكانت قطعة منه واردة على تقيّد الرقبة بالإيمان ، كي تكون تلك القطعة منه مورداً للبراءة.

ولكن التحقيق جريان البراءة في ذلك ، فإنّ العتق وإن كان في نفسه بسيطاً ، إلاّ أنّه باعتبار كونه عتق مؤمنة يكون مقيّداً ، نظير الصلاة المقيّدة بكونها مع الطهارة ، فيكون التكليف منبسطاً على ذلك التقييد ، أعني تقييد العتق بكونه عتقاً للمؤمنة ، فإنّ التقييد اللاحق لموضوع التكليف وإن كان بحسب الصورة قيداً لمتعلّق الفعل المأمور به ، إلاّ أنه في الحقيقة يكون قيداً لنفس الفعل المأمور به.

قوله : نعم بناءً على مختار الشيخ قدس‌سره من جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر ـ إلى قوله ـ لأنّ النوع في التحليل العقلي مركّب من الجنس والفصل ، فينحلّ العلم الاجمالي في نظر العقل ، لأنّ نظره هو المتّبع في الانحلال (١).

لا يخفى أنّ أساس القول بانحلال العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ليس هو التحليل العقلي ، بل هو تعدّد الأمر الشرعي وزيادته في الأكثر ، وأنّ عمدة ما يتوجّه على هذا الانحلال هو ما أفاده قدس‌سره فيما تقدّم من كون الأكثر على تقدير وجوبه واقعاً ، يكون حصول امتثال الأمر المتعلّق بالأقل مقيّداً بالاتيان بذلك الزائد ، فمع الشكّ في وجوبه يحصل الشكّ في الخروج عن عهدة الأقل بالاتيان به مجرّداً عن ذلك الزائد المشكوك الوجوب ، وقد دفعنا ذلك بما تقدّم من إرجاع الجزئية الارتباطية إلى تقييد الأقل بالزائد ، وكونها حينئذ مأموراً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٨.

٣٣٥

بها بالأمر الغيري الشرطي ، وجعلنا مركز البراءة الشرعية والعقلية هو ذلك الوجوب الغيري الشرطي ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي على ما تقدّم تفصيله (١).

وهذه الجهة التي أوجبت الانحلال وهي كون ذلك المقدار من الوجوب مشكوكاً ، ليست متحقّقة في مسألة الدوران بين الجنس والنوع ، لما أُفيد من عدم التقطيع فيها في ناحية الأمر الشرعي ، وإن كان النوع بحسب التحليل العقلي مركّباً من الجنس والفصل ، لأنّ هذا التحليل العقلي لا عبرة به في الأمر المتعلّق بالنوع ، لأنّه لا يكون إلاّ أمراً واحداً بسيطاً لا كثرة فيه ولا تعدّد.

ثمّ إنّ الضابط لهذه المسألة ، بحيث يكون فارقاً مميّزاً بين كون المورد من قبيل الأقل والأكثر الخارجيين وكونه من قبيل الأقل والأكثر التحليليين ، هو عين الضابط الذي أفاده قدس‌سره (٢) في باب البيع من الفرق بين موارد تخلّف الشرط الموجب للخيار وموارد تخلّف المبيع الموجب لبطلان البيع ، وحاصل ذلك الضابط هو أنّ الخصوصية إن كانت حافظة للصورة النوعية كان المورد من قبيل تخلّف المبيع ، وإن لم تكن حافظة للصورة النوعية ، بل كانت جهة زائدة على الصورة النوعية ، كانت من قبيل تخلّف الشرط.

وحينئذ ففيما نحن فيه إن كانت الخصوصية المحتملة هي الصورة النوعية كانت المسألة من الأقل والأكثر التحليليين ، وإن لم تكن تلك الخصوصية المحتملة على تقدير اعتبارها كذلك ، بل كانت على تقدير اعتبارها جهة زائدة على الصورة النوعية ، كانت المسألة من الأقل والأكثر الخارجيين.

__________________

(١) في الصفحة : ٢٨٠ وما بعدها ، وكذا الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٩٦ وما بعدها.

(٢) منية الطالب ٣ : ٢٦٧ وما بعدها.

٣٣٦

والسرّ في ذلك : هو أنّ الخصوصية النوعية يكون بها قوام شيئية الشيء ، فلا يمكن التقطيع في الأمر المتعلّق بذلك الشيء ليكون مقدار من ذلك الأمر معلوماً ومقدار منه مشكوكاً ، بخلاف الخصوصية الزائدة على الحقيقة النوعية ، فإنّ الأمر بواجدها يكون منحلاً إلى الأمر بنفس الذات وإلى أمر بالزائد على تلك الذات وهو تلك الخصوصية ، ويكون الأمر بتلك الذات معلوماً والأمر بما هو زائد عليها مشكوكاً.

ثمّ إنّه قد يقال بالرجوع إلى البراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر التحليليين ، فإنّ نفس الخصوصية وإن لم يمكن إجراء البراءة فيها من باب العلم بوجوب العام والشكّ في وجوب الخصوصية ، لما عرفت من عدم التقطيع في ناحية الأمر ، إلاّ أنه بعد العلم الاجمالي المردّد بين وجوب العام ووجوب الخاص تكون البراءة في وجوب الخاص جارية بلا معارض لها في ناحية وجوب العام ، لعدم إمكان البراءة فيه ، لكونها فيه موجبة للمخالفة القطعية.

وفيه : أنّا إن قلنا بالتباين بين الوجوبين ، لا يكون جريان البراءة في وجوب العام موجبة للمخالفة القطعية ، فإنّها إنّما توجب ذلك إذا كان جريانها فيه موجباً للحكم بعدم وجوب العام لا بنفسه ولا في ضمن الخاصّ ، وهذا ـ أعني انتفاء وجوب العام في ضمن الخاصّ ـ عين التركيب في ناحية الخاص الذي كان الكلام مبنياً على عدمه.

وبالجملة : بعد البناء على بساطة الخاصّ وبساطة الأمر المتعلّق به ، لا تكون البراءة في ناحية وجوب العام إلاّنافية لوجوبه في حدّ نفسه ، دون وجوبه في ضمن الخاصّ كي تكون موجبة للمخالفة القطعية ، فتأمّل.

٣٣٧

[ تنبيهات الأقل والأكثر ]

قوله : قد اختلفت كلمات الأصحاب في معنى الجزء الركني ، وما هو المائز بينه وبين غيره ، فقيل : إنّ الجزء الركني هو ما أوجب الإخلال به سهواً ... الخ (١).

لم يقع الركن في لسان الأدلّة كي يستحسن الخلاف في معناه ، وإنّما هو اصطلاح لا يحسن فيه الخلاف ، لأنّ كلّ جزء بحسب القواعد الأوّلية والأدلّة الخاصّة يمكن أن يكون كلّ من نقيصته السهوية وزيادته السهوية مخلاًّ ، كما أنّه يمكن أن لا يكون شيء منهما مخلاًّ ، أو يكون المخلّ هو النقص السهوي دون الزيادة السهوية ، فلابدّ حينئذ من الرجوع إلى القواعد والأدلّة المزبورة.

نعم ، أفاد شيخنا قدس‌سره على ما حرّرته عنه هو أنّ الاستقراء في خصوص باب الصلاة يشهد بالملازمة بين كون البطلان بالنقص السهوي والبطلان بالزيادة السهوية.

قوله : وهذا بعد الاتّفاق منهم على أنّ الإخلال بالجزء عمداً يوجب البطلان ... الخ (٢).

ربما يستند في عدم البطلان بالاخلال العمدي فيما عدا الأركان في مورد الجهل بالحكم أو في مورد العلم به إذا تأتّى منه قصد القربة إلى حديث « لا تعاد » ، لكن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٩.

٣٣٨

لو تمّ الاستدلال المزبور لكان مقتضاه كون تلك الأجزاء التي أخلّ بها هي من قبيل الواجب في واجب ، فلا يترتّب على تركها عمداً إلاّ الإثم ، وبذلك تخرج عن مفروض الكلام من كون المتروك عمداً هو الجزء ، وحينئذ فيتمّ ما أُفيد من أنّ بطلان العمل بالإخلال العمدي من لوازم الجزئية.

قوله : لا إشكال في سقوط التكليف بالجزء المنسي في حال النسيان لعدم القدرة عليه في ذلك الحال ... الخ (١).

لابدّ أن يكون المراد من السقوط مجرّد المعذورية ، لا ارتفاع الأمر بالمرّة الموجب لارتفاع الجزئية ، سيّما بناءً على أنّها منتزعة من الأمر ، وإلاّ لم يكن وقع للبحث من أصله ، لأنّ ذلك عبارة أُخرى عن اختصاص الجزئية بحال الذكر. والحاصل : أنّ عدم القدرة الحاصل من النسيان لا يوجب ارتفاع أصل التكليف ، بل حال النسيان من هذه الجهة حال الجهل في أنّه لا يوجب إلاّمجرّد عدم العقاب دون ارتفاع التكليف الواقعي ، إذ لو تمّ ذلك من أنّه موجب لارتفاع التكليف واقعاً لم يكن لنا في المركّبات ركن أصلاً.

ويمكن أن يكون المراد هو أنّ سقوط التكليف بالجزء المنسي هل يكون مقصوراً عليه ، وحينئذ تكون باقي الأجزاء باقية على وجوبها في حقّ الناسي ، ونحتاج إلى خطاب يخصّ الناسي بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة ، ويتعلّق ذلك الخطاب بباقي الأجزاء ، أو أنّ سقوط التكليف بالجزء المنسي يوجب سقوط التكليف بالباقي ، فلا يكون الناسي مختصّاً بخصوص خطاب ، وهذا هو محصّل الركنية ، كما أنّ الوجه الأوّل هو عبارة عن عدم الركنية.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢١٠.

٣٣٩

قوله : وثانياً : أنّ العنوان الملازم للنسيان إنّما أُخذ معرّفاً ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لا دليل على أنّه لابدّ من قصد العنوان الواقعي المعرَّف ، ولعلّ قوله : فتأمّل ، إشارة إلى ذلك.

قوله : الوجه الثالث : هو ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره ... الخ (٢).

قال في الكفاية : كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً ، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر (٣).

ومراده بما شكّ في دخله مطلقاً هو باقي الأجزاء ما عدا الأركان ، وحاصله أنّ الخطاب العام للذاكر والناسي يكون مقصوراً على الأركان خالية من باقي الأجزاء ، ثمّ يقوم دليل آخر يدلّ على جزئية باقي الأجزاء في حقّ خصوص الذاكر.

ولا يخفى أنّ ظاهر العبارة المرسومة هنا غير متّجه ، لأنّ النسيان ليس واقعاً دائماً على جزء خاصّ ، بل كلّ جزء قابل للنسيان ، فلا يصحّ الخطاب العام بما عدا الجزء المنسي ، لكن الأمر سهل ، لأنّ المراد هو ما في الكفاية ، غايته أنّ العبارة قاصرة عن تأدية مطلب الكفاية.

ثمّ إنّه قد يقال : إنّ هذا الوجه يحتاج إلى الخطأ في التطبيق ، لأنّ المكلّف يتخيّل أنّه يأتي بجميع الأجزاء امتثالاً للأمر المتعلّق بها ، لكن فيه تأمّل ، لأنّ نيّة جميع الأجزاء إنّما تكون في أوّل الشروع على نحو الإجمال ، ثمّ بعد ذلك بطروّ النسيان ينقلب تكليفه إلى سقوط المنسي عنه ، فكلّ واحد من الأجزاء لا يأتي به

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢١٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٦٨.

٣٤٠