أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

عليه فيما بأيدينا ، نستكشف من ذلك أنّه ليس من الألف الموجودة فيما بأيدينا من الكتب التي انحصر التنجّز فيها ، فنجري فيه البراءة ، وليس ذلك لأجل أنّ المعلوم معلّم بعلامة خاصّة ، بل كلّ علم إجمالي يكون حاله هكذا لو أمكن الفحص فيه ، كما لو علمنا بوجود أربع أوانٍ محرّمة في جملة هذه الأواني الموجودة في الدار ، ثمّ علمنا بوجود أربع محرّمة في خصوص البيض ، وقد حدثت ظلمة وحصل بها الاشتباه ، فلو أخذنا واحدة إلى الضياء وعرفنا أنّها ليست بيضاء ، ينكشف لدينا أنّها ليست من تلك الأربع الموجودة في خصوص البيض ، وليس ذلك من قبيل ما لو كان المعلوم الاجمالي معلّماً بعلامة خاصّة ، بل هو من قبيل كون دائرة العلم الاجمالي ومحلّه معلّماً ، ولا ريب أنّ كلّ علم إجمالي لابدّ له من محلّ ومورد وأطراف خاصّة به.

قوله : والعلم التفصيلي بموطوئية عدّة من البيض يحتمل انحصار البيض فيه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ... الخ (١).

لا يخفى أنّ المرحوم الأُستاذ العراقي لم يتعرّض لما نقله المحرّرون عن شيخنا قدس‌سره من أنّ العلم الاجمالي المعلّم بعلامة خاصّة لا ينحلّ إلى الأقل والأكثر ، واقتصر في مقالته في المقامات الثلاثة التي تقدّم (٢) النقل عنها على مجرّد كون العلم التفصيلي المتأخّر لا يوجب انحلال العلم الاجمالي المتقدّم ، لكن محرّر درسه قد تعرّض في تحريره ص ٤٧٣ لما أفاده شيخنا قدس‌سره وأجاب عنه بما حاصله : التشبّث بكون القضية الحقيقية يزداد التكليف فيها مهما زادت أفرادها ، فراجع (٣)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٠.

(٢) في الصفحة : ٥١٥.

(٣) راجع نهاية الأفكار ٣ : ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

٥٢١

ولا يخفى أنّه ليس المقام مقام القضية الحقيقية ، لأنّ ذلك إنّما يكون فيما لو كان العنوان المردّد الأفراد بين الأقل والأكثر هو موضوع ذلك الحكم ، كما في حرمة إكرام الفاسق ، بل وكما فيما لو نهى المولى عن الشرب من إناء زيد ، وقد عرفت أنّ المعلوم الاجمالي المعلّم بعلامة خاصّة لابدّ فيه أن تكون تلك العلامة الخاصّة أجنبية عن موضوع الحكم ، بل لا يكون إلاّمن محض التعريف والاشارة إلى ما قد وجد من مصاديق موضوع ذلك الحكم ، مثل موطوء الانسان الموجود في هذه الغنم عند الاشارة إليه بأنّه البيض ، فإنّ محصّله هو أنّه قد وجد في هذا القطيع أفراد من المحرّم الذي هو موطوء الإنسان ، وهو القسم البيض منه ، وحينئذ لا تكون القضية إلاّقضية خارجية ، ولا يكون المحرّم المنجّز إلاّهو تمام تلك الأفراد الموجودة التي أُشير إليها بأنّها البيض ، وليس في هذه المرحلة أقلّ وأكثر ، بل هي مرحلة وجود وتحقّق وإشارة إلى ما هو موجود ومحقّق على ما عرفت الوجه فيه ، ألا ترى أنّه لو كانت تلك البيض منعزلة وقد علمنا بحرمتها جميعاً ، ففي هذه الحالة ـ أعني حالة الانعزال ـ لا أقل ولا أكثر ولا تردّد بينهما في التكليف المحقّق ، فلو اتّفق أن اختلطت تلك البيض بباقي الغنم التي يعلم أنّها حلال ، فقد اختلط ما هو بتمامه حرام بما هو بتمامه حلال ، فهل تجري هناك مسألة الأقل والأكثر؟ كلاّ ، وهكذا الحال لو لم تكن المنعزلة بيضاً ، إذ يكفي في كونها معلّمة هو الاشارة إليها بما كان منعزلاً عن باقي الغنم.

ثمّ إنّه ربما يورد على شيخنا قدس‌سره بأنّ العلم الاجمالي إنّما يؤثّر من جهة تعارض الأُصول على ما هو مبناه قدس‌سره ، ولا ريب أنّه بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال لا تكون الأُصول متعارضة في الباقي ، فلا مانع من جريانها.

والجواب : أنّ شيخنا قدس‌سره لا يدّعي بقاء العلم بعد العثور المذكور كي يتوجّه

٥٢٢

عليه أنّ هذا العلم الباقي لا تتعارض فيه الأُصول ، فلا مانع من جريان الأصل النافي في بعض أطرافه ، وإنّما يدّعي بقاء أثره وهو تنجّز الباقي لو كان ، فيكون حال ما نحن فيه حال ما لو طهّرنا بعض الأطراف أو أتلفناه ونحو ذلك ، فكما أنّه يجب الاجتناب عن الباقي وإن لم تتعارض فيه الأُصول ولم يبق العلم الاجمالي بحاله نعم بقي أثره ، فكذلك ما نحن فيه بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال.

وخلاصة ما تقدّم : هو أنّا نعلم إجمالاً بصدور أحكام كثيرة عن صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله مردّدة بين الأقل وهو ألف مثلاً والأكثر وهو ألف وخمسمائة مثلاً والقدر المتيقّن من ذلك هو الألف ، ونحن نعلم وجود هذا المقدار فيما بأيدينا من الكتب ، فانحلّ ذلك العلم الاجمالي الكبير إلى هذه الدائرة الضيّقة التي هي فيما بأيدينا من الكتب ، فكان المنجّز من التكاليف هي الألف الموجودة فيما بأيدينا وهي وإن كانت معلّمة بعلامة خاصّة وهي كونها موجودة ومذكورة فيما بأيدينا من الكتب ، إلاّ أنها ليست مردّدة بين الأقل والأكثر ، بل هي محصورة العدد مضبوطة المقدار ، فنحن قبل العثور على تمام ذلك المقدار لا يمكننا إجراء البراءة في حكم إلاّ بعد الفحص عنه فيما بأيدينا ، فإن لم نجده تبيّن أنّه ليس من تلك المنجّزة وأجرينا البراءة فيه ، أمّا بعد العثور على ذلك المقدار لو احتملنا وجوب شيء أو حرمة شيء ، يمكننا الرجوع فيه إلى البراءة من دون فحص.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عمّا أفاده شيخنا الأُستاذ العراقي فيما نقلناه عن درسه من أنّه لو بقي العلم الاجمالي الكبير ولم ينحلّ ، كان ذلك عبارة عن الانسداد ، ولا محلّ حينئذ للرجوع إلى البراءة ، وإن انحلّ العلم الاجمالي الكبير الذي هو عبارة عن الانفتاح لم يكن محل للفحص ، لأنّ الموجب له هو ذلك العلم الاجمالي ، فإنّك قد عرفت أنّ الموجب للفحص هو ذلك العلم الاجمالي

٥٢٣

الصغير ، وهو موجب للفحص وإن لم يتمّ الانسداد. والحاصل : أنّ العلم الاجمالي الصغير هو عبارة عن الانفتاح ، لكنّه ما لم ينحلّ بالعثور على ذلك المقدار المنجّز لا يمكننا إجراء البراءة بلا فحص.

قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس‌سره فيما حرّرته عنه (١) : تنبيه : لا يجوز الرجوع إلى الأُصول المخالفة للاحتياط إلاّبعد الفحص ، ويستدلّ على ذلك بأُمور أوّلها : العلم الاجمالي المقتضي للفحص. ولا يخفى أنّه لابدّ أن يكو ن هذا الكلام ـ أعني اشتراط الفحص في إجراء أصالة البراءة ـ بعد فرض الانفتاح ، وإلاّ فإنّ القائل بالانسداد لا يجوّز الرجوع إلى البراءة ، بل لابدّ عنده من تبعيض الاحتياط كما مرّ في بابه مفصّلاً ، ومن الواضح أنّه بعد فرض الانفتاح لابدّ من الالتزام بانحلال العلم الاجمالي كما مرّ في ردّ القائلين بالانسداد ، ومع فرض الانحلال فأيّ مانع من إجراء البراءة قبل الفحص ، وهل هذا إلاّتهافت.

والحاصل : أنّه إنّما يتحقّق كون العلم الاجمالي مانعاً بعد فرض عدم انحلاله أو مع انحلاله إلى العلم الاجمالي في دائرة الطرق كما هو مذهب الفصول ، ليكون العلم الاجمالي الكبير أو الصغير مانعاً من الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، أمّا مع فرض انحلال العلم الاجمالي مطلقاً ، كما هو مذهب القائلين بالانفتاح الذي هو مفروض القائلين بالرجوع إلى البراءة ، فلا يكون العلم الاجمالي باقياً كي يكون مانعاً من جريان البراءة قبل الفحص ، وحينئذ فلابدّ من تقييد ذلك المعلوم بالاجمال ـ أعني التكاليف الواقعية مطلقاً ، أو الموجودة في خصوص مؤدّيات الطرق ـ بأنّه لو تفحّص عنه لعثر عليه ، فيكون عندنا علمان ، أحدهما العلم بالتكاليف الواقعية ، والثاني العلم بأنّ تلك التكاليف الواقعية أو

__________________

(١) بتاريخ الأحد ٢٤ محرّم ١٣٤١ [ منه قدس‌سره ].

٥٢٤

الطرق المجعولة لو تفحّصنا عنها لعثرنا عليها ، وذلك عبارة أُخرى عن الانفتاح.

وحينئذ فإن شككنا في حرمة شرب التتن ، فقبل الفحص لا يجوز أن تجري البراءة ، لاحتمال كونه من جملة تلك التكاليف ، أو من جملة ما قامت عليه تلك الطرق ، وهذا الاحتمال موجب للاحتياط لكونه مقروناً بالعلم الاجمالي ، وحينئذ لابدّ من الفحص ، فإن تبيّن لنا أنّ التتن حرام ، أو أنّه قام الطريق المجعول على حرمته فهو ، وإلاّ فبعد استقراء المحرّمات والواجبات أو استقراء ما قامت الطرق على حرمته أو وجوبه ، نعلم أنّ التتن ليس من دائرة المعلوم بالإجمال ، فتجري فيه البراءة ، لكون الشكّ في حرمته حينئذ بدوياً.

أمّا لو لم يكن لنا إلاّ العلم الأوّل ، سواء كنّا نعلم بأنّه لو تفحّصنا لما عثرنا على شيء ، أو كنّا نشكّ في أنّه لو تفحّصنا وعثرنا على شيء هل يكون ذلك الشيء بمقدار المعلوم بالاجمال أو لا ، لكان باب العلم منسدّاً ، ومع انسداد باب العلم لا معنى للتكلّم في كيفية الرجوع إلى البراءة.

ثمّ إنّ المستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره أنّه جعل القيد المذكور جواباً عن الإشكال على الفحص ، بأنّه إن كان العلم مانعاً فهو موجود بعد الفحص ، وإلاّ فلا مقتضي للفحص ، وكأنّه يريد أنّه مع الغض عن الإشكال المذكور فلا إشكال في مانعية العلم من إجراء البراءة ، وأنّ الفحص نافع ولو لم نعتبر القيد المذكور ، وقد عرفت أنّه مع عدم القيد المذكور لابدّ من الالتزام بالانسداد غير المجتمع مع إجراء البراءة ، انتهى.

ثمّ إنّه في درس ليلة الاثنين والثلاثاء ٢٦ محرّم سنة ١٣٤١ أفاد ما يلي : ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره بعد أن ذكر الجواب المذكور ، وهو أنّ المعلوم بالاجمال مقيّد بأنّه لو تفحّصنا عنه لظفرنا به ، أورد عليه بإيرادين ، وحاصل الإيراد الأوّل إنكار دعوى

٥٢٥

التقييد المذكور. وحاصل الثاني : أنّه لو ظفر بعد الفحص بالمقدار المعلوم بالاجمال ، فلا يكون الفحص حينئذ واجباً في الزائد على ذلك المقدار ولو كان مورداً واحداً ، ولا يلتزم به القائل بالبراءة ، فإنّهم يوجبون الفحص مطلقاً ، ثمّ إنّه قدس‌سره تأمّل بعد هذين الإيرادين.

ولا يخفى ما في كلا الإيرادين ، أمّا الأوّل فيرد عليه أنّه خلاف الوجدان والإنصاف ، فإنّ من حكّم وجدانه وأنصف يجد أنّه وإن علم إجمالاً بأنّا لسنا مثل البهائم ، وأنّ الشارع المقدّس جعل لنا تكاليف لا نعلمها تفصيلاً ، إلاّ أنه يعلم أيضاً أنّ الشارع جعل لنا طرقاً لو تفحّصنا عنها لعثرنا عليها ، انتهى.

قلت : لا يخفى ما فيه ، وخلاصته ما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) وما اختصره في الكفاية في الردّ على القول بالاختصاص بحجّية الظنّ بالطريق ، من أنّه لو سلّمنا أنّه جعل لنا طرقاً واصلة إلينا ، باقية بأيدينا ، ولم يكن في البين قدر متيقّن الخ (٢).

وثانياً : أنّك قد عرفت أنّ هذا البحث بعد فرض الانفتاح كما هو مذهبه قدس‌سره ، وحينئذ نقول : إنّ ذلك المعلوم بالاجمال من التكاليف الواقعية أو الطرق المجعولة لو لم تكن مقيّدة بأنّها لو تفحّصنا عنها لعثرنا عليها ، وأنّها ممّا يمكن الظفر بها ، لما كان للقول بالانفتاح مجال ، فإنّ تلك التكاليف الواقعية المعلومة بالاجمال أو الطرق المجعولة ، لو لم يكن الظفر بها ممكناً لكان باب العلم بها منسدّاً ، بل إنّ ذلك أعني عدم إمكان الظفر بها عين انسداد باب العلم ، انتهى.

قلت : قد عرفت أنّ الشيخ قدس‌سره إنّما ينكر الكلّية ، وهي أنّه جميع ما صدر من صاحب الشريعة يمكن العثور عليه بالفحص ، وإنكار هذه الكلّية لا يوجب

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٤٤٥.

(٢) كفاية الأُصول : ٣١٧ ( نقل بالمضمون ).

٥٢٦

الانسداد ، بل يتحقّق الانفتاح بكون القدر المتيقّن من التكاليف الواقعية لو تفحّصنا عنه لعثرنا عليه على ما عرفت تفصيل الكلام فيه.

ثمّ قال فيما حرّرته عنه : وأمّا الإيراد الثاني ففيه : أنّ ذلك المقدار الذي ظفر به لو علم أنّه هو المعلوم بالاجمال ، لم يكن إشكال فيما ذكره من انحلال العلم الاجمالي والرجوع في الزائد عليه إلى البراءة قبل الفحص ، وإن لم يكن كذلك بل كان يحتمل انطباقه عليه ، ويحتمل أنّه تكليف آخر خارج عن ذلك المعلوم بالاجمال فلا ينطبق المعلوم بالاجمال عليه ، وحينئذ فيكون ذلك من قبيل حدوث العلم التفصيلي بعد العلم الاجمالي ، وسيأتي الإشكال في كونه موجباً للانحلال إن شاء الله تعالى. انتهى.

وقال في الجزء الثاني من المقالة المطبوع بعد وفاته : يعتبر في جريان البراءة ، بل مطلق الأُصول النافية للتكليف في الشبهات الحكمية الفحص بالمقدار المتعارف ، المخرج للمورد عن معرضية وجود الدليل على الحكم الكلّي الإلهي. وعمدة الوجه فيه هو دعوى العلم الاجمالي بوجود الأحكام في مقدار من المسائل المشتبهة في مجموع ما بأيدينا منها ، مع العلم بأنّه على وجه لو تفحّص في المسائل المزبورة لظفرنا بها ، ومن المعلوم أنّ نتيجة مثل هذا العلم عدم الإقدام على البراءة قبل الفحص ، لاحتمال كون المسألة من أطراف المعلوم بالاجمال المانع من جريان الأُصول النافية فيها ، ولو من جهة مانعية العلم في البين عن جريان الأُصول ، كما أنّه لو تفحّصنا في المسألة وما ظفرنا فيها بدليل ، يستكشف خروجها عن دائرة المعلوم بالاجمال من أوّل الأمر.

ولو ظفرنا بالفحص في المسائل العديدة ، وظفرنا بالدليل بمقدار المعلوم بالاجمال ، لا يجدي ذلك أيضاً في إسقاط العلم عن الاعتبار بملاك الانحلال ،

٥٢٧

لاحتمال كون العلوم الحادثة علوماً متأخّرة عن العلم الاجمالي الأوّلي ، ولو بواسطة احتمال حدوث بعضها في المسائل الخارجة عن طرف العلم في الدائرة المضيّقة ، ومثل ذلك غير كاف في الانحلال. نعم لو كان جميع المسائل طرف العلم المزبور ، كان لهذه الشبهة مجال ، إذ العلوم الحادثة حينئذ هو عين ما علم بالظفر بها من الأوّل مقارناً للعلم الاجمالي. كما أنّه لو بنينا على صلاحية العلم المتأخّر للانحلال بمحض احتمال انطباق المعلوم بالاجمال عليه ، كان للشبهة المزبورة أيضاً مجال. وبالجملة : ما تصوّرنا من خصوصية العلم الاجمالي المزبور كافٍ في وجوب الفحص ومانع من جريان أدلّة البراءة ولو نقليّها من دون لزوم محذور فيه أبداً (١).

قلت : لا يخفى أنّ هذا القيد ـ وهو كون المعلوم الاجمالي بحيث إنّه لو تفحّصنا عنه لعثرنا عليه ـ دخيل في دفع الشبهة القائلة بأنّه بعد الفحص وعدم العثور لا يجوز الرجوع إلى البراءة ، لأنّ المانع هو العلم الاجمالي وهو باقٍ بحاله ، فيقال في الجواب عنها : إنّه بعد الفحص وعدم العثور يستكشف أنّ المورد خارج عن ذلك المعلوم الاجمالي المقيّد بالقيد المزبور. ولا دخل للقيد المزبور في دفع الشبهة الأُخرى القائلة بأنّه لا يجب الفحص بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال لأجل انحلال العلم الاجمالي حينئذ بالعثور على ذلك المقدار ، إذ يكفي أُستاذنا العراقي قدس‌سره في دفع هذه الشبهة مجرّد ما بنى عليه من أنّ العلم التفصيلي المتأخّر لا يوجب انحلال العلم الاجمالي السابق.

نعم ، يحتاج إلى هذا القيد شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ، لأنّ مبناه هو انحلال العلم

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

٥٢٨

الاجمالي بالعلم التفصيلي ولو متأخّراً ، فيحتاج حينئذ في إنكار الانحلال هنا إلى دعوى التقييد المزبور ، ليتمّ له تلك الدعوى القائلة إنّ المعلوم الاجمالي إذا كان مقيّداً ومعلّماً بعلامة خاصّة لا ينحلّ.

وكيف كان ، فنحن الآن بصدد بيان ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره في هذا المقام ، فنقول : لا ريب على الظاهر أنّه لو علمنا بوجود خمس شياه محرّمة في هذا القطيع ، على وجه نعلم بأنّ الحرام الواقعي في هذا القطيع مقصور عليها لا يزيد ولا ينقص ، فلو تفحّصنا في هذا القطيع وعثرنا تفصيلاً على خمس معيّنة هي محرّمة ، لانحلّ العلم الاجمالي ، ولم نحتج بعد ذلك العثور إلى إجراء البراءة في الباقي فضلاً عن الفحص. أمّا لو كنّا نحتمل بأنّ هناك محرّمات أُخر زائدة على الخمس ، فهذا هو العلم الاجمالي المردّد بين الأقل وهو الخمس والأكثر وهو العشرون مثلاً ، وفي هذه الصورة لو اطّلعنا على خمس معيّنة أنّها محرّمة ، كان ذلك من العلم التفصيلي المتأخّر عن العلم الاجمالي ، ومن رأي الأُستاذ العراقي قدس‌سره أنّه لا يوجب الانحلال ، لاحتمال أن تكون هذه الخمس التي اطّلعنا تفصيلاً على حرمتها هي ممّا زاد على الخمس الاجمالية ممّا كنّا نحتمل حرمته مضافاً إلى حرمة الخمس ، إذ ليس في البين ما يوجب أن تكون هذه الخمس التي اطّلعنا عليها هي نفس الخمس الاجمالية ، التي علمنا إجمالاً بوجودها كي يكون اطّلاعنا المذكور موجباً لانحلال العلم الاجمالي السابق.

وتطبيق هذه النظرية فيما نحن فيه هو أن يقال : إنّا إذا لاحظنا جميع الوقائع المشتبهة من أوّل كتاب الطهارة إلى آخر الديات ، نرى بالوجدان أنّها تشتمل على كثير من الأحكام ، وتلك الأحكام وإن كانت مردّدة بين الأقل وهو ألف حكم مثلاً

٥٢٩

والأكثر وهو أُلوف ، إلاّ أن القدر المتيقّن وهو الألف يتردّد بين جميع المسائل الفقهية ، فكلّ مسألة من تلك المسائل هي من أطراف ذلك العلم الاجمالي ، فلو تفحّصنا وعثرنا على ألف حكم لم يكن ذلك موجباً للانحلال ، لاحتمال كون تلك الألف التي عثرنا عليها هي غير تلك الألف الاجمالية التي علمناها إجمالاً ، بمعنى أنّا نحتمل أنّ تلك الألف الاجمالية باقية في باقي المسائل لم نعثر عليها ، وهذه التي عثرنا عليها هي ممّا كنّا نحتمل زيادته عليها ، فلا ينحلّ العلم الاجمالي.

نعم ، لو كان هذا العلم التفصيلي مقارناً للعلم الاجمالي ، لأوجب انحلاله ، بل قد عرفت فيما مضى أنّه لا يكون لنا علم إجمالي ، بل لا يكون حينئذ إلاّعلم تفصيلي بحرمة هذه الألف مع الشكّ في الزائد.

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر أن يكون كلّ باب من أبواب الفقه مورداً للعلم الاجمالي بوجود مقدار من تلك الألف فيه ، وحينئذ لو عثرنا على تمام ألف في باب معيّن ، أو أبواب معيّنة من أبواب الفقه كالعبادات ، تعيّن عندنا أنّ هذه الألف ليست هي بتمامها عين الألف الاجمالية ، بل لابدّ أن يكون مقدار من تلك الألف التفصيلية هو من الزائد الذي كنّا نحتمله ، لأنّ المفروض أنّ باقي الأبواب من المعاملات وغيرها ذات علم إجمالي خاصّ بنفسه ، وحينئذ فلا يتّجه دعوى احتمال انطباق الألف الاجمالية على تلك الألف التفصيلية ، إلاّ إذا كانت تلك الألف التفصيلية موزّعة على جميع الأبواب كلّ بحسبه.

وإن شئت فقل : إنّ كلّ باب من الأبواب الفقهية هو ذو علم إجمالي مردّد بين الأقل والأكثر ، وله انحلال خاصّ به باعتبار الاطّلاع التفصيلي فيه على المقدار المتيقّن ممّا هو فيه من الأحكام ، وبناءً على عدم الانحلال بالعلم التفصيلي

٥٣٠

المتأخّر ، يكون اللازم عدم الانحلال في تمام الأبواب إلاّ إذا كان باب قد اطّلعنا فيه على ما هو الأكثر المحتمل فيه ، وحينئذ يقطع بالعدم فيه فيما زاد من دون حاجة إلى براءة ولا إلى فحص.

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في تخصيص الإشكال والجواب عنه بما لو كان التفحّص والعثور على مقدار المعلوم بالاجمال في بعض المسائل والأبواب ، على وجه لو كان العثور في جميع الأبواب لكان محقّقاً للانحلال ، كما يظهر من قوله : ولو ظفرنا بالفحص في المسائل العديدة ـ إلى قوله ـ نعم لو كان جميع المسائل طرف العلم المزبور ، كان لهذه الشبهة مجال ، إذ العلوم الحادثة حينئذ هو عين ما علم بالظفر بها من الأوّل مقارناً للعلم الاجمالي (١). وكما يظهر هذا التفصيل أيضاً من الجزء الأوّل من المقالة في تقرير الإشكال بأنّ الفحص في مقدار من المسائل إذا أوجب الظنّ بالمعارض أو الحاكم بمقدار المعلوم بالاجمال ، فراجعه إلى قوله : إذ مثل هذا العلم الحاصل جديداً يكون المعلوم بالاجمال في غير هذه الشكوك الباقية التي كانت طرفاً من الأوّل الخ (٢).

وإن شئت فراجع قول المحرّر لدرسه : ويندفع ذلك أيضاً بأنّه يتّجه ذلك لو كان متعلّق العلم الاجمالي مطلقاً ، أو كان مقيّداً بالظفر به على تقدير الفحص ، ولكن كان تقريب العلم الاجمالي هو كونه بمقدار من الأحكام على وجه لو تفحّص ولو في مقدار من المسائل لظفر به ، وأمّا لو كان تقريبه بما ذكرناه من العلم بمقدار من الأحكام في مجموع المسائل المحرّرة ، على وجه لو تفحّص في كلّ

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) مقالات الأُصول ١ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

٥٣١

مسألة تكون مظانّ وجود محتمله لظفر به ، فلا يرد إشكال الخ (١).

والإنصاف : أنّي لم أفهم هذه العبائر وهذه التفصيلات كما هو حقّها ، وينبغي مراجعتها وتدقيق النظر فيها لكي يحصل القطع بما أراده قدس‌سره من هذه التفصيلات ، وإلاّ فلا يحسن الإيراد والاعتراض مع الاعتراف بعدم فهم المراد من ذلك.

قوله : الجهة الثانية : في استحقاق التارك للفحص العقاب ـ إلى قوله ـ وينبغي أوّلاً أن يعلم أنّ مناط وجوب التعلّم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها ، ولا يقاس أحدهما بالآخر ، وإن كان يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره في المقام الخلط بين البابين ، حيث قاس وجوب التعلّم على وجوب السير إلى الحجّ ... الخ (٢).

وقد حرّرت عنه قدس‌سره ما نصّه : إنّ الشيخ قدس‌سره قد أفاد في هذا المقام أُموراً تتحصّل من مطاوي كلامه ، كلّها مبنية على عدم الفرق بين باب تفويت القدرة ولزوم تحصيلها ، وباب لزوم تحصيل العلم بالأحكام المعبّر عنه بوجوب التعلّم ، منها أنّه قاس ما نحن فيه على خروج من توسّط أرضاً مغصوبة. ومنها أنّه جعل الغفلة والجهل الناشئ عن عدم الفحص موجباً لعدم القدرة على الامتثال ، كالجهل بالموضوع والغفلة عن الفعل أو نسيانه. وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين الغفلة عن الحكم والجهل به ، وبين الغفلة عن الفعل أو نسيانه ، فإنّ الأوّل لا يسلب القدرة على الفعل بخلاف الثاني ، وإلحاق الأوّل بالثاني خلاف ما بنى عليه قدس‌سره في فقهه وأُصوله من كون الجاهل بالحكم مكلّفاً. ومنها ما يستفاد من طي

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٧١ ـ ٤٧٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٥٣٢

كلماته من التفرقة بين الجهل بالحكم وبين نسيانه وإلحاق الأوّل بالثاني. وفيه : أنّ نسيان الحكم عبارة أُخرى عن الجهل به. إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتأمّل في تمام كلامه زيد في علو مقامه ، انتهى.

قلت : ربما يقال : إنّ وجوب التعلّم والتفقّه في الدين من الواجبات الأصلية والمطلوبات النفسية المحبوبة بالذات ، سواء كان على طريقة الاجتهاد ، أو كان على طريقة التقليد ، بحيث إنّه يستحقّ العقاب على مخالفته بنفسه ، ولو فرض محالاً عدم انتهائه إلى مخالفة الأحكام الشرعية.

أمّا إذا انتهى إلى ذلك ، فتارة يكون من قبيل الغفلة عن الحكم أو القطع بعدمه ، وأُخرى مع الشكّ ، فإن أدّى ترك التعلّم إلى الغفلة عن الحكم في ظرفه أو القطع بعدمه ، كان مستحقّاً لعقابين ، أحدهما لتركه التعلّم المفروض كونه واجباً نفسياً ، فيكون مستحقّاً للعقاب على تركه ، ويكون ذلك الاستحقاق حين ترك التعلّم في ظرف إمكانه ، والعقاب الآخر لمخالفته ذلك الحكم الذي كان في ظرفه غافلاً عنه أو كان قاطعاً بعدمه ، لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة الحكم لا يرتفع إلاّ مع فرض العذر في ذلك الجهل كالجاهل القاصر ، أمّا المقصّر فيتبعه العقاب لعدم كون جهله عذراً ، سواء قلنا إنّ الجاهل قادر أو لم نقل ، لا من جهة قيام الحجّة عليه التي هي وجوب التعلّم إيجاباً طريقياً ، بل من جهة ما ذكرنا من عدم معذورية هذا الجاهل المقصّر ، فيكون نظير استحقاق العقاب على الخروج من الأرض المغصوبة. أمّا على تقدير كون الجاهل غير قادر ، فلأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وأمّا على تقدير كونه قادراً ، فلأنّ إلقاء نفسه بالجهل الموجب لعدم تأتّي امتثال الحكم الشرعي لمّا كان بسوء اختياره ، لم يكن ذلك مصحّحاً

٥٣٣

لعذره وارتفاع العقاب عنه.

وبالجملة : أنّ الجهل بالحكم والغفلة عنه ، سواء كان عذراً بنفسه أو كان راجعاً إلى القدرة ، إنّما يكون لدى العقل عذراً إذا لم يكن بسوء اختيار المكلّف ، فيكون حاله من هذه الجهة حال القدرة ، هذا إذا كان ترك التعلّم منتهياً إلى الغفلة أو القطع بعدم الحكم.

وأمّا إذا كان ترك التعلّم في ظرفه منتهياً إلى الشكّ في الحكم في ظرفه ، فإن لم يمكنه فعلاً الفحص والتعلّم ، كان اللازم عليه هو الاحتياط إن أمكنه ذلك ، وإن لم يمكنه ذلك وجرى على أحد الطرفين ثمّ تبيّن أنّه خلاف الحكم الواقعي ، لم يكن معذوراً أيضاً. ولو أمكنه كلّ من الفحص والاحتياط تخيّر بينهما ، ومحصّله : أنّه لا يجوز له الركون إلى البراءة إلاّبعد الفحص ، وإن لم يتفحّص فعلاً لزمه الاحتياط.

ولا يخفى أنّ إيجاب الفحص هنا ليس بحكم شرعي ، كما أنّ إيجاب الاحتياط ليس بحكم شرعي أيضاً ، بل ليس كلّ منهما إلاّنتيجة حكم العقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، إمّا للعلم الاجمالي وإمّا لما تقدّم من الدليل العقلي ، وبعد أن حكم العقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، تعيّن عليه أحد الأمرين المذكورين ، أعني الالتزام بالاحتياط أو الفحص والتعلّم.

والحاصل : أنّ كلاً من الفحص والاحتياط إنّما هو نتيجة حكم العقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وليس شيء منهما حكماً شرعياً حتّى يتكلّم في كونه طريقياً أو نفسياً ، أو أنّه بنفسه موجب لاستحقاق العقاب على مخالفته ، بل لا يكون العقاب في ذلك إلاّعلى مخالفة الواقع لو صادفه.

٥٣٤

وفيه ما لا يخفى ، فلأنّ عمدة الكلام إنّما هو في وجوب التعلّم قبل وقت الواجب مثلاً ، وهذا لا يتأتّى فيه مسألة الامتناع بالاختيار ، فلابدّ من القول بأنّ إيجاب التعلّم طريقي مخافة الوقوع في مخالفة التكاليف في وقتها ، ومجرّد إيجابه النفسي قبل ذلك لا يكون مصحّحاً للعقاب على مخالفة التكاليف في وقتها من دون فرق في ذلك بين أدائه إلى الجهل والغفلة أو إلى الشكّ ، فلا يكون ذلك الوجوب إلاّطريقياً ، غايته أنّه من باب متمّم الجعل ، لأنّ التكاليف في حدّ نفسها لا يكون مجرّد جعلها وافياً بالحصول عليها في مقام الجهل ، وحينئذ فيكون حال إيجاب التعلّم حال إيجاب الاحتياط في مثل باب الدماء والفروج ، وسيأتي إن شاء الله تعالى (١) أنّه لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته بنفسه ، بل هو لا يكون إلاّطريقياً صرفاً منجّزاً للواقع إن أصابه ، ولا يكون العقاب إلاّعلى مخالفة ذلك الواقع لو أصابه ، وفي مورد عدم الاصابة لا يكون إلاّ التجرّي كما هو الشأن في جميع الأوامر الطريقية.

قوله : وينبغي أوّلاً أن يعلم أنّ مناط وجوب التعلّم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الذي يمكن أن يقاس بالمقدّمات المفوّتة إنّما هو التعلّم ، لأنّ تركه في ظرفه يكون موجباً لعدم القدرة على امتثال الحكم في ظرفه ، فيكون نظير ترك الخروج مع الرفقة في كونه موجباً لعدم القدرة على أفعال الحجّ في ظرفه ، أمّا الاحتياط فلا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّه من هذا القبيل.

__________________

(١) في الصفحة : ٥٣٧ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨١.

٥٣٥

قوله : ويستحقّ التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدّمة ، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة ، ويمتنع عليه بالاختيار ، ويصدق أنّه فات منه الواجب وإن كان بعد لم يتحقّق زمانه لكونه مشروطاً بزمان متأخّر ... الخ (١).

فيه تأمّل ، إذ لم يتّضح الوجه في استحقاق العقاب على مخالفة الواجب بترك مقدّمته مع فرض كونه مشروطاً بشرط لم يحصل بعد. نعم بعد مجيء زمانه يستحقّ العقاب ، فإنّه وإن لم يكن مقدوراً في ذلك الزمان ، إلاّ أنه لمّا كان ذلك بسوء اختياره ، لم يكن ذلك موجباً لمعذوريته.

وقد حرّرت عنه قدس‌سره ما نصّه : أنّه لا شبهة في أنّه لو ترك المقدّمات المفوّتة كالمسير بالنسبة إلى أفعال الحجّ ، يكون مجرّد ترك المقدّمات في وقتها موجباً لسلب القدرة على الواجب في وقته وتحقّق العصيان بالنسبة [ إليه ] وإن لم يحصل وقته بعد ، ولذلك لو أقدم هذا التارك للمسير على فعل بعض المستحبّات في وقت موقف عرفة ، لا يكون صحّة تلك المستحبّات وعدم صحّتها متفرّعاً على كون الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه ، بل يحكمون بصحّتها حتّى على القول بالاقتضاء ، وذلك كاشف عن سقوط الأمر بمجرّد ترك المسير ، لحصول العصيان بتركه ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ ذلك لا يكشف عن كون السقوط بالعصيان حاصلاً من حين ترك المسير ، بل لعلّ السقوط والعصيان لم يكونا حاصلين إلاّعند تحقّق ظرف ذلك الواجب الذي هو أفعال الحجّ ، ومسألة الضدّ إنّما تتأتّى فيما لم يكن ذلك الواجب ساقطاً في ظرفه بالعصيان المفروض فيه عدم التمكّن من الاطاعة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٢.

٥٣٦

في ذلك الظرف.

والحاصل : أنّ ظرف السقوط والعصيان واستحقاق العقاب إنّما هو في ظرف الواجب وفي زمانه ، ولكن العصيان إن كان بفعل الضدّ بحيث إنّ المكلّف صرف قدرته في ذلك الضدّ ، كان داخلاً في مسألة الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، أمّا إذا لم يكن العصيان بفعل ولا (١) بصرف المكلّف قدرته في ذلك الضدّ ، بل كان بفعل سابق أوجب فعلاً سلب قدرته على الامتثال ، فلا يكون داخلاً في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، ويكون ذلك نظير ما لو كان حين الواجب عاجزاً عنه ، غايته أنّ فعل الضدّ في صورة العجز غير الاختياري لا يكون مقروناً بعصيان الواجب ، وفيما نحن فيه من العجز الاختياري يكون فعل الضدّ مقروناً بعصيان الواجب ، إلاّ أنه لو قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه لم يكن الضدّ هنا منهياً عنه ، لعدم كون فعله هو المحقّق للعصيان. وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالشيء لمّا كان هنا ساقطاً بالعصيان الفعلي الناشئ عن التعجيز السابق ، لم يكن موجباً للنهي عن الضدّ ، لعدم اقتضائه شاغلية المكلّف بذلك الواجب.

قوله : وهذا بخلاف التعلّم والاحتياط فإنّه لا يتوقّف فعل الواجبات وترك المحرّمات عليهما ، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدّمات المفوّتة ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه بعد البناء على أنّ وجوب التعلّم وجوب طريقي من قبيل متمّم الجعل للتكاليف الأوّلية ، يكون حاله حال وجوب الاحتياط في موارد الدماء والفروج مثلاً في أنّه لا يمكن القول بأنّ مخالفته موجبة للعقاب مطلقاً أخطأ أو

__________________

(١) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والمعنى واضح ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٣.

٥٣٧

أصاب ، وإنّما يكون العقاب عند الاصابة ، لكن هل العقاب على مخالفة الواقع ، أو على مخالفة الأمر الاحتياطي في خصوص حال إصابته ، وقد اختار الثاني شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ، نظراً إلى [ أنّ ] التكليف الواقعي في حدّ نفسه لا يمكن ترتّب العقاب على مخالفته لبقائه مجهولاً ، ومجرّد الأمر الاحتياطي حيث إنّه لا يكون محرزاً له لا يصحّح العقاب على مخالفته ، فلابدّ أن نقول إنّ العقاب مترتّب على مخالفة الأمر الاحتياطي عند إصابته ، أمّا عند خطائه فلا يكون الأمر الاحتياطي إلاّ صورياً ، لأنّ الغرض منه هو حفظ التكليف الواقعي ، فلا يكون أمراً حقيقة إلاّعند الاصابة لاتّحاد ذلك الأمر الطريقي بالحكم الواقعي ، لكونه باعتبار كونه طريقاً إليه يكون متّحداً بالواقع ، ويكون مرجع الطريقية إلى الهوهوية ، وقد مرّ في باب جعل الطرق (١) الإشكال في ذلك :

أوّلاً : أنّ الغرض من الأمر الاحتياطي إذا فرض كونه صورياً عند المخالفة لا يكون موجباً عقلاً على المكلّف امتثاله ، لعدم إحراز إصابته ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ احتمال إصابته لمّا كان ملازماً لاحتمال العقاب على مخالفته ، كان ذلك كافياً في لزوم الجري على طبقه عقلاً ، خوفاً من احتمال إصابته الملازم لاحتمال استحقاق العقاب على مخالفته ، وفيه تأمّل.

وثانياً : أنّه بعد فرض كون الغرض من الأمر الاحتياطي هو حفظ المكلّف عن الوقوع في مخالفة التكليف الواقعي ، لا يكون الأمر المذكور إلاّ أمراً حقيقياً مطلقاً وإن اتّفق مخالفته للواقع ، ويكون حاله حال الأمر بغسل الجمعة لرفع الأرياح ، بل هو أولى بذلك ، لأنّ الغرض في الغسل يوم الجمعة قد ينفكّ عن هذه الجهة ، أعني جهة رفع الأرياح ، بخلاف الأمر الاحتياطي الذي كان الغرض منه هو

__________________

(١) في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، في الصفحة : ٣٢٧.

٥٣٨

التحرّز عن مخالفة الواقع عند الشكّ فيه.

وبعبارة أُخرى : الغرض منه هو حفظ المكلّف عن الوقوع في خلاف الواقع ، وهذا المعنى متحقّق في جميع موارد الاحتياط. مثلاً لو كان الغرض من الاحتياط في الدماء هو التحرّز من وقوع المكلّف في قتل المؤمن ، فهذا المعنى ـ أعني التحرّز المذكور ـ متحقّق في جميع موارد الشكّ كما شرحناه مفصّلاً في ذلك الباب فراجع ، وحينئذ فلو قلنا إنّ الأمر الاحتياطي يستحقّ مخالفه العقاب عند كونه أمراً حقيقياً ، لزمنا أن نقول باستحقاق العقاب في جميع موارده ، حتّى في مورد خطئه ما دام الخطأ غير منكشف.

فالأولى أن نقول : إنّ الأمر الاحتياطي لا أثر له إلاّتنجّز الواقع ، فلا يكون العقاب مترتّباً إلاّعلى مخالفة الواقع دون نفس الأمر الاحتياطي ، إذ ليس هو إلاّ طريقيّاً صرفاً ، ولا منشأ له إلاّجعل احتمال التكليف حجّة في جهة التنجّز ليس إلاّ.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ تنجّز الواقع واستحقاق العقاب على مخالفته بالأمر الطريقي لا يتوقّف على كون ذلك الأمر الطريقي متكفّلاً لإحراز الواقع ، بل يكفي فيه مجرّد الأمر بالاحتياط الموجب لسدّ باب عذر المكلّف ، سيّما إذا قلنا بأنّ المنشأ في ذلك الأمر الاحتياطي هو جعل الاحتمال حجّة في خصوص تنجّز الواقع ، كما شرحناه في باب جعل الطرق (١).

وأمّا وجوب التعلّم فهو أيضاً منجّز للواقع ، بمعنى كونه موجباً لاستحقاق [ العقاب ] على مخالفته. أمّا بالنسبة إلى صورة القطع بعدم الواقع أو الغفلة عنه الناشئة عن عدم التعلّم ، فلأنّه بعد أن أُوجب عليه التعلّم من حيث كونه طريقاً

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٣٣.

٥٣٩

موصلاً له إلى الواقع ، بمعنى كون الغرض من الأمر به هو حفظ الواقع ، لا يكون معذوراً في ذلك الجهل ، لا من جهة كونه ملحقاً بقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لأنّ ذلك وحده غير موجب لحكم العقل بلزوم التعلّم قبل وقت الوجوب ، بل من جهة أنّ إيجاب التعلّم طريقياً يوجب تنجّز ذلك الواقع عليه وانقطاع عذره بجهله. نعم ، بعد توجّه وجوب التعلّم عليه يكون الجهل الناشئ عن ترك التعلّم موجباً لإدراجه في القاعدة المزبورة. وهكذا الحال في صورة الشكّ. مضافاً إلى أنّه في صورة الشكّ يمنعه العقل من الركون إلى البراءة ، وهو كافٍ في تنجّز الواقع عليه سيّما إذا قلنا بأنّ المانع من إجراء البراءة هو العلم الاجمالي.

قوله : وعلى هذا لو وافق عمل الجاهل التارك للفحص للواقع كان مجزياً (١).

إن لم يكن فيه خدشة من ناحية أُخرى كتأتّي قصد القربة ، أو تأتّي الاطاعة التفصيلية مع فرض تمكّنه منها ، كما إذا احتمل وجوب العبادة وفعلها من دون فحص وصادف الواقع وجوبها ، وهذا القيد لابدّ منه فيما لو صادف أنّ هناك حجّة مخطئة على صحّة عمله.

قوله : غايته أنّه لو أوقع العمل عن استناد إلى الطريق كان معذوراً ما دام الطريق قائماً عنده ، ولا يكفي في المعذورية مجرّد الموافقة للطريق بلا استناد إليه إذا كان الجهل عن تقصير ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو في صحّة عمل الجاهل بلا فحص ، ولا دخل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٥٤٠