أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

الأُولى الخروج اليقيني عمّا اشتغلت به الذمّة ، سواء كان ذلك في ضمن الاحتياط المتوقّف على التكرار ، أو غير المتوقّف على التكرار ، أو كان في ضمن الاتيان بما علم تفصيلاً أنّه المأمور به. والثانية الخروج الاحتمالي ، وذلك منحصر في الموارد التي لا يمكن الاحتياط فيها بعد فرض تنجّز التكليف بالنسبة إليها. ولو سلّمنا تقدّم الخروج الظنّي على الخروج الاحتمالي لا تكون المراتب إلاّثلاثة ، فراجع ما حرّرناه في هذه المراتب عند الكلام على ما أُفيد فيها في مباحث القطع (١).

قوله : لأنّ حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه وتحرّكه عن تحريكه ، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك ... الخ (٢).

تقدّم البحث على ذلك في مباحث القطع (٣) وأنّه ليس لنا في باب العبادة إلاّ لزوم الاتيان بها بداعي أمرها ، وذلك عبارة أُخرى عن اعتبار كون الباعث والمحرّك للاتيان بها هو الأمر المتعلّق بها ، وقد حرّرنا هناك وقوعها بداعي الأمر فيما لو كان الأمر حين الاتيان بها محتملاً وقد صادف الواقع ، وإلاّ لم يكن الاحتياط ممكناً حتّى فيما لو لم يكن تحصيل العلم بالأمر ممكناً ، وليست الطاعة المعتبرة في العبادة هي الطاعة العقلية حتّى نقول فيها بجريان المرتبتين المذكورتين ، وأنّه لا يتنزّل عن الأُولى إلى الثانية إلاّبعد العجز عن الأُولى.

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٩٨ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٩.

(٣) في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، راجع الحاشية المفصّلة في الصفحة : ١٧٢ وما بعدها.

٤٨١

وأمّا الانقياد والعبودية وحكم العقل بحسنها فذلك أمر آخر ، لا دخل له في قصد التقرّب المعتبر في العبادة الذي هو عبارة عن الاتيان بها بداعي الأمر ، الذي قلنا إنّه معتبر فيها بأمر آخر يكون بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بنفس العمل من قبيل متمّم الجعل.

ولو سلّمنا أنّ ذلك المعتبر في العبادة بطريقة متمّم الجعل هو نفس الانقياد والعبودية ، فلا نسلّم حكم العقل بتقدّم الانقياد التفصيلي على الانقياد الاحتمالي. والحاصل : أنّ المكلّف الآتي بما يحتمل كونه مطلوباً منه بمجرّد الاحتمال من دون فحص مع تمكّنه منه ، لا نسلّم أنّ العقل يقبّح عمله هذا ولا يعدّه إطاعة وانقياداً.

ولكن تقدّم الإشكال في ذلك ، وأنّ الطاعة التي يحكم بها العقل ويلزم بها هي غير الطاعة التي يحسّنها ولا يلزم بها ، والأُولى في قبال العصيان ، والثانية بمعنى الانقياد والتعبّد ، والثانية مستحبّة في التوصّليات واجبة في العبادات ، والإشكال إنّما هو في الثانية.

قوله : فإنّ المدّعى كفاية قصد الأمر الواقعي بما له من الوصف إجمالاً وإن لم يعلم به تفصيلاً ... الخ (١).

وذلك لأنّ المفروض هو العلم بالطلب الواقعي المتعلّق بذلك الفعل ، وإنّما كان التردّد فيه بين كونه واجباً أو مستحبّاً ، فإذا قصد المكلّف ذلك الطلب الواقعي غير ناظر إلى جهة وجوبه ولا إلى جهة استحبابه ، بأن يكون الباعث والمحرّك له على الاتيان بالفعل هو نفس ذلك الطلب الواقعي ، وكان قد تحرّك عنه ، كفى في صدق الطاعة وإن لم يكن ناظراً إلى جهة الوجوب أو الاستحباب ، فضلاً عن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٧.

٤٨٢

اعتبار أخذ أحدهما صفة للفعل الذي يأتي به ، سواء قلنا إنّ المقصود بالوجه المدّعى اعتباره هو العلم بكون ما يأتي به واجباً ، أو قلنا بأنّ المقصود منه هو توصيف المأتي به بكونه واجباً ، فإنّ ذلك لا دخل له بالطاعة ، ومثال ذلك يوم الشكّ من آخر شعبان ، فإنّه وإن اشتمل على خصوصية هي جريان استصحاب شعبان ، القاضي بكونه مستحبّاً ، فيأتي به بعنوان الاستحباب ، وإن كان لو تبيّن الخلاف أجزأه من رمضان ، إلاّ أن هذه الخصوصية لا تتأتّى في غيره ممّا هو مورد الدوران بين الوجوب والاستحباب ، فإنّه لو قصد خصوص الاستحباب لأصل أو أمارة تقتضي ذلك ثمّ تبيّن الخلاف ، لم يجزه عن الواجب إلاّبنحو من الخطأ في التطبيق. وعلى أيّ حال ، أنّ هذا اليوم المردّد فيه الصوم بين الوجوب والاستحباب يمكن الاحتياط فيه ، بأن يأتي به بداعي احتمال وجوبه ، ويمكن أن يأتي به بذلك الطلب الواقعي المردّد بين الوجوب والاستحباب.

والطريقة الأُولى فاقدة للجزم ولقصد الوجه ، والطريقة الثانية لم تفقد الجزم وإنّما فقدت الوجه. وينبغي أن تكون الطريقة الثانية مقدّمة على الطريقة الأُولى عند القائلين بأنّ الاطاعة الجزمية عند التمكّن منها مقدّمة على الاطاعة الاحتمالية ، فلو دار الأمر في تكبير الركوع مثلاً بين الوجوب والاستحباب ، يتعيّن الاتيان به بداعي الطلب لا بداعي احتمال الوجوب.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ القائلين باعتبار الوجه لا يحصرون فساد الاحتياط من أجل اعتباره بخصوص هذه الصورة ، وهي ما لو علم الطلب وتردّد بين كونه وجوبياً أو استحبابياً كما ربما يتراءى من هذا التحرير ، حيث إنّه حصر الكلام معهم في صورة العلم بالطلب مع تردّده بين الوجوب والاستحباب ، ونحن

٤٨٣

قد جرينا في الحاشية السابقة (١) على ذلك اعتماداً على هذا الذي يتراءى من ظاهر هذا التحرير ، وعلى ما وجدناه في مطويات تحريرنا عن شيخنا قدس‌سره ، ولكن الظاهر أنّ مسلكهم أوسع من ذلك ، فإنّهم يفسدون من أجل اعتبار نية الوجه كلّ احتياط حتّى في مورد العلم بالوجوب المردّد بين المتباينين ، وحتّى في مورد الشبهة البدوية باحتمال الوجوب في قبال عدمه ، فإنّ المكلّف عند إتيانه بأحد الفعلين من الجمعة أو الظهر لا يعلم بأنّه واجب ، فلم يكن قد حصل له قصد الوجه بذلك الفعل. وهكذا الحال في الشبهات البدوية ، فإنّه لو احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وأراد الاحتياط بالاتيان به لاحتمال وجوبه ، لا يكون حاصلاً على قصد الوجه ، لعدم علمه بوجوبه فكيف يمكنه قصد وجوبه ، ولأجل ذلك حكموا ببطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، وإلاّ فإنّ سقوط الاحتياط في خصوص الدوران بين الوجوب والاستحباب لا يوجب بطلان العبادة بقول مطلق.

ثمّ إنّ المكلّف في مورد احتمال الطلب الوجوبي في قبال احتمال استحبابه قد عرفت أنّه يمكنه الاحتياط بالاتيان بالفعل بداعي احتمال وجوبه ، كما يمكنه أن يأتي به بداعي ذلك الطلب الواقعي الذي لا يعلمه أنّه هو الوجوب أو الاستحباب ، لكن هذه الطريقة الثانية إنّما تتأتّى فيما لو لم يكن في البين إلاّطلب واحد ، وقد تردّد ذلك الطلب الواحد المعلوم بين كونه وجوبياً أو كونه استحبابياً كما عرفته في مثال صوم يوم الشكّ من شعبان ، أمّا لو احتمل الوجوب زائداً على الاستحباب المعلوم ، بحيث إنّه كان يحتمل أنّ هناك طلبين ، أحدهما وجوبي والآخر استحبابي ، كما لو احتمل أنّ في ذمّته قضاء صوم يوم واحد ، فهو عالم بأنّه

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٧٧.

٤٨٤

يستحبّ له صوم غد ، لكن يحتمل أنّه مشغول الذمّة بصوم يوم واحد ، فإن أراد الاحتياط في صوم غد يتعيّن عليه أن يأتي به بداعي احتمال الوجوب ، ولا يكفيه نيّة مطلق الطلب ، فإنّ ذلك لا يكفيه عن صوم اليوم الذي اشتغلت به ذمّته لو اتّفق أنّه كان مشغول الذمّة بقضاء صوم يوم واحد.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال فيما ربما يقع في كلماتهم في الرسائل العملية من الأمر بالاحتياط بالاتيان بالجزء المشكوك فيه بقصد القربة المطلقة فيما لو كان ذلك الجزء الذي حصل الشكّ في الاتيان به ذكراً أو دعاء أو قرآناً ، كما يظهر لك ذلك من مراجعة كلماتهم في مسألة الظنّ في الأفعال إذا حصل له الظنّ بعدم الاتيان بعد تجاوز المحل ، أو الظنّ بالاتيان وهو في المحل ، وكما فيما لو كان المأموم في الأُولى أو الثانية واحتمل كون الإمام في الثالثة مثلاً ، فإنّهم ربما قالوا إنّه يقرأ بقصد القربة المطلقة.

فإنّه إن كان المراد بذلك هو أن يقرأ بداعي احتمال كونه واجباً عليه كان حسناً ، إلاّ أنه لا يحسن التعبير عن ذلك بقصد القربة المطلقة. وإن كان المراد هو الاتيان بقصد أمره الواقعي ، فهو إنّما يحسن فيما لو كان على تقدير الوجوب لا يكون ذلك الجزء مستحبّاً ، كما أنّه لو كان مستحبّاً لا يكون واجباً ، فهو يقصد امتثال أمره الواقعي على ما هو عليه من الوجوب أو الاستحباب. أمّا (١) إذا فرضنا أنّه على تقدير كونه واجباً لا يكون تحقّق وجوبه واقعاً موجباً لانتفاء الأمر الاستحبابي ، على وجه أنّه مع تحقّق الوجوب يمكنه أن يأتي به أوّلاً بداعي الأمر الاستحبابي ثمّ يأتي به بعد ذلك بداعي أمره الوجوبي ، كما في من عليه قضاء صوم يوم واحد ، فإنّه يصحّ له أن يصوم غداً بداعي الأمر الاستحبابي ، ثمّ بعد

__________________

(١) [ لم يذكر قدس‌سره جواب « أمّا » ولعلّه لوضوحه ].

٤٨٥

ذلك يأتي بما هو الواجب عليه من القضاء في صوم يوم آخر.

نعم ، إنّ في مثل القراءة ونحوها ممّا يكون المطلوب هو صرف الطبيعة يمكن القول بأنّه مع كونها واجبة لا يبقى مجال للأمر الاستحبابي ، إذ لا يجتمع الطلبان مع وحدة المتعلّق الذي هو صرف الطبيعة ، بل لابدّ أن يندكّ الاستحباب بالوجوب ، ولا يكون في البين إلاّطلب واحد وجوبي ، فعند احتمال الوجوب تكون المسألة من قبيل العلم بالطلب الواحد المردّد بين الوجوب والاستحباب. وهكذا الحال في الوضوء الاستحبابي عند دخول وقت الصلاة القاضي بوجوبه.

أمّا في مثل ما عرفت من صوم القضاء المحتمل فلا تتأتّى فيه هذه الطريقة بل يتعيّن فيه الاتيان بصوم غد لاحتمال كونه واجباً عليه. أمّا لو قصد أنّه إن كان مشغول الذمّة بالقضاء فهذا اليوم يصومه امتثالاً للأمر بالقضاء ، وإن لم يكن مشغول الذمّة بذلك فهذا اليوم يصومه امتثالاً للأمر الندبي ، فذلك باطل لكونه من التعليق في الامتثال ، ونظيره ما ذكروه في صوم يوم الشكّ من شعبان أو رمضان.

وما ربما يقال من أنّه لا مانع من هذا التعليق عقلاً ، ففيه ما لا يخفى ، حيث إنّ الامتثال بمعنى الاندفاع والانبعاث الخارجي ، فهو إمّا أن يكون واقعاً وإمّا أن لا يكون واقعاً ، ولا معنى لكونه واقعاً على هذا التقدير دون ذلك التقدير ، إلاّ أن يرجع إلى الانبعاث عن الأمر الواقعي المتوجّه إليه ، سواء كان ندبياً أو كان وجوبياً وفيه تأمّل ، إذ فرق بين هذه الصورة وما هو محلّ الكلام من أنّه إن كان وجوباً فأنا أنبعث عن الوجوب ، وإن كان ندباً فأنا أنبعث عن الندب ، فإنّ انبعاثه في كلّ منهما على تقديره ، فهو لم يوجد الانبعاث وإنّما علّق الانبعاث على ذلك التقدير فلاحظ.

٤٨٦

وينبغي مراجعة المسألة الثانية عشرة من ختام الزكاة من العروة (١) ومراجعة ما علّقناه على هذه المسألة في ملحق حواشي ص ٢٨ من الجزء الأوّل (٢).

قال في العروة في مسألة الظنّ في الأقوال : إن كان المشكوك قراءة أو ذكراً أو دعاءً يتحقّق الاحتياط باتيانه بقصد القربة (٣) ( المطلقة ). وقال في أحكام الجماعة : وأمّا إذا لم يسمع حتّى الهمهمة جاز له القراءة ، بل الاستحباب قوي ، لكن الأحوط القراءة بقصد القربة المطلقة لا بنيّة الجزئية (٤). وقال : إذا حضر المأموم الجماعة ولم يدر أنّ الإمام في الأُوليين أو الأخيرتين ، قرأ الحمد والسورة بقصد القربة (٥).

ونحو ذلك لشيخنا قدس‌سره في حواشيه على مسائل قاعدة التجاوز ، فراجع الحاشية الثانية من ص ٤١٥ ، والحاشية الرابعة ص ٤١٦ (٦) ، وقد ذكر في العروة

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٤ : ١٧٨.

(٢) راجع الفائدة المذكورة في المجلّد السادس من هذا الكتاب في الصفحة : ٢٠٤ وما بعدها.

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ المسألة ١٦ / فصل : الشكوك التي لا اعتبار بها.

(٤) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ١٥٤ المسألة ١ / فصل : في أحكام الجماعة.

(٥) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ١٧٠ المسألة ٢٥ / فصل : في أحكام الجماعة.

(٦) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٣٥ / ضمن المسألة (١٠) تعليقة (١) ، ٣ : ٢٣٧ / مسألة (١٢).

٤٨٧

لصوم يوم الشكّ صوراً أربعاً ، رابعتها صومه بقصد القربة (١) ، ولم يذكر صومه بداعي احتمال وجوبه.

ولعلّ السرّ في عدم التعبير في هذه المسائل بالاحتياط بالاتيان بالمحتمل بداعي احتمال وجوبه ، هو تقدّم الاطاعة الجزمية على الاطاعة الاحتمالية ، فإن كان ذلك هو السرّ في ذلك التعبير ، فلِمَ لم يلاحظوه في مثل التكبير للركوع والإقامة ، ونحو ذلك ممّا ورد فيه الأمر بالخصوص وتردّد أمره المذكور بين الوجوب والاستحباب ، فإنّهم لم يعبّروا بأنّ الأحوط هو التكبير أو الاقامة بقصد القربة المطلقة ، بل قالوا : يستحبّ التكبير والأحوط عدم تركه. وهكذا في الاقامة ونحوها ممّا يدور الأمر فيه بين الاستحباب الشخصي النفسي وبين الوجوب (٢) ، بخلاف ما يدور الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب الكلّي المتعلّق بكلّي الذكر والقرآن والدعاء ، فإنّهم لا يعبّرون في أمثال هذه المقامات بمثل : والأحوط الاتيان به ، بل يعبّرون في أمثاله بالاتيان بقصد القربة المطلقة ، إلاّفيما لو خالف في الجهر والاخفات جهلاً أو نسياناً وتذكّر قبل الركوع ، فإنّه في العروة في مسألة ٢٢ من مباحث القراءة بعد أن أفتى بعدم وجوب الاعادة قال : لكن الأحوط الاعادة (٣)

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ المسألة ١٧ / فصل : في النيّة.

(٢) ومن ذلك قوله في صيغة السلام عليك أيّها النبي : إنّه ليس واجباً بل هومستحب ، وإن كان الأحوط عدم تركه لوجود القائل بوجوبه [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٥٩٥ / فصل : في التسليم ]. وهكذا القنوت ، فإنّه قال : الأحوط عدم تركه في الجهرية [ المصدر المتقدّم : ٦٠٧ ] وهكذا في الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذكره ، فإنّه قال : بل الأحوط عدم تركها [ منه قدس‌سره ، راجع المصدر المتقدّم : ٦١٩ ].

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٥٠٩ ( وفيه : وإن كان الأحوطفي هذه الصورة الإعادة ).

٤٨٨

لكنّه في أحكام الخلل ذكر هذه المسألة وعلّق ـ على قوله : « وإن كان » (١) ـ شيخنا قدس‌سره بقوله : بقصد القربة المطلقة (٢) ، فهل يرون أنّ قصد الاستحباب المطلق من باب مطلق الذكر أو القرآن يغني عن الوجوب لو اتّفق أنّه في الواقع كان واجباً ، كما ذكره في مسائل وجوب ردّ السلام فقال في مسألة ٢٨ : لو شكّ المصلّي في أنّ المسلّم سلّم بأي صيغة ، فالأحوط أن يردّ بقوله : سلام عليكم ، بقصد القرآن أو الدعاء (٣). وكما ذكره أيضاً في مسألة ١٨ من الصفحة المذكورة وعليها حاشية شيخنا قدس‌سره تؤكّد كون الأحوط هو قصد القرآنية (٤) ، وظاهره بل ظاهر المتن أيضاً كون الاحتياط وجوبياً ، إلاّ أن هذا لا دخل له فيما نحن فيه ، لأنّه في صورة العلم بالسلام الصحيح يقول : إنّه يجوز الردّ بقصد القرآنية ، كما هو الظاهر من قوله في مسألة ١٧ : نعم لو قصد القرآنية في الجواب فلا بأس بعدم المماثلة. فهل تراهم يسوّغون للمصلّي قراءة الفاتحة في الركعة الأُولى أو الثانية لا بقصد الجزئية ، بل بقصد مطلق القرآنية ، بحيث إنّه يقرأها كما لو قرأها بين السجدتين مثلاً من باب استحباب مطلق القرآن ، ويكون ذلك كافياً في سقوط الأمر الوجوبي المتعلّق بها بما أنّها جزء من الصلاة ، إنّ ذلك بعيد.

لا يقال : لعلّ مرادهم بقصد القربة المطلقة هو ما يذكرونه فيما كان معلوم الوجوب من أنّه لا يجب فيه قصد الأمر ، بل يكفي قصد مطلق التقرّب.

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٢٦ المسألة ١٩.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٢٦ المسألة ١٩.

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٣ ـ ٢٤ / فصل : في مبطلات الصلاة.

(٤) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ١٨ / فصل : في مبطلات الصلاة.

٤٨٩

لأنّا نقول : إنّ ذلك ـ أعني قصد مطلق التقرّب ـ إنّما ينفع فيما أُحرز الوجوب لأنّه ينطبق عليه قهراً ، وكذلك فيما لو لم يكن إلاّ أمر واحد مردّد بين الوجوب والاستحباب ، فإنّ قصد مطلق القربة في ذلك يكفي لانطباقه على ذلك الطلب المعلوم ، أمّا لو كان في البين طلبان وجوبي واستحبابي ، وكان المأتي به صالحاً لكلّ منهما ، فلا ينفع فيه قصد مطلق القربة ، لأنّه لا يتعيّن أنّه للأوّل أو أنّه للثاني ، فلا يكون مسقطاً للوجوب ، كما لا يكون مسقطاً للاستحباب ، كما أنّه لا يسقطهما معاً.

ومن قبيل ما تقدّم ذكره من موارد التردّد بين الأمرين الوجوبي والاستحبابي الذي عرفت أنّه يصحّ فيه الاتيان بداعي مطلق الطلب ، ما لو تردّد الحكم في القراءة في الصلاة بين الجهر والاخفات ، فإنّه لو كان الواجب هو أحدهما كان الآخر مستحبّاً ، وحينئذ فلو اقتصر على أحدهما لم يحصل على الخروج اليقيني ، سواء جاء به بداعي مطلق الطلب ، أو جاء به بداعي احتمال وجوبه ، بل يتعيّن عليه التكرار ، ويأتي بكلّ واحدة منهما بداعي مطلق الطلب أو بداعي احتمال وجوبه. وفي التحرير عن شيخنا قدس‌سره المطبوع في صيدا عبارة في هذه المسألة لم أتوفّق لتحصيل المراد منها ، فاللازم ملاحظتها والتأمّل فيما هو المراد منها.

قال في بيان جواز الاحتياط بتكرار القراءة في موارد التردّد بين الجهر والاخفات ولو قبل الفحص ما هذا لفظه : وذلك لأنّه إذا جاز للمكلّف الاتيان بالقراءة التي ليست جزءاً للصلاة في ضمنها بقصد القرآنية ـ كما هو المفروض في المقام ـ فلا محالة يصحّ له الاتيان بالأمرين ، ويقصد كون ما هو المأمور به في ضمن الصلاة جزءاً لها ، وكون الآخر قرآناً في ضمنها ، غاية الأمر أنّه لا يميّز

٤٩٠

الجزء من غيره ، ولا بأس به بعد حصول القربة والعبادية الخ (١) ، وصرّح بنظير ذلك في الوسيلة في أوائل مسائل الاحتياط فقال : ناوياً بذلك جزئية ما هو الأفضل منهما وقرآنية الآخر الخ (٢).

وظاهره أنّ الأمر القرآني موجود ولو قبل الاتيان بالقراءة الواجبة ، ليتسنّى للمكلّف في الصورة المفروضة الاتيان بهما ، ويقصد أنّ أحدهما هو الواجب والآخر هو المستحبّ ولو صادف أنّ الواجب هو المتأخّر ، وقد عرفت فيما مضى اندكاك الاستحباب قبل الاتيان بالواجب ، وعلى هذا الاندكاك صحّحنا قولهم يأتي بالقراءة بقصد القربة المطلقة في الموارد المتقدّمة.

ثمّ إنّا لو سلّمنا اجتماع الأمرين الوجوبي والاستحبابي مع اشتباه المتعلّق وتردّده بين الجهرية والاخفاتية ، بحيث إنّه يعلم فعلاً أنّه مخاطب بكلّ من الوجوب والاستحباب ، وتردّد في متعلّق الوجوب هل هو الجهرية فيكون الاخفاتية مستحبّة أو بالعكس ، لابدّ في طريق الاحتياط ما عرفت من الاتيان بكلّ منهما بداعي احتمال وجوبه نظير الجمعة والظهر ، أو الاتيان بكلّ واحد منهما بداعي كونه مطلوباً بالأعمّ من الوجوبي والندبي ، أمّا الاتيان بمجموع الطرفين امتثالاً للأمرين ويوكل ذلك إلى الواقع ، فالوجوب يأخذ متعلّقه والندب يأخذ متعلّقه كما هو ظاهر العبارة ، فلا يخلو عن تأمّل بل منع ، وينبغي ملاحظة ما أُفيد في تحرير الشيخ رحمه‌الله في الجزء الأوّل ص ١٦٦ وملاحظة ما علّقناه هناك (٣)

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٤٥.

(٢) وسيلة النجاة : ( د ) [ لا يخفى أنّه قد رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].

(٣) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب في الصفحة : ٣٥٢ وما بعدها.

٤٩١

والحاصل : أنّ ما ذكرناه من أنّه يأتي بالجهرية مثلاً بداعي طلبها المتعلّق بها الذي لا يعلمه أنّه وجوبي أو استحبابي ، وهكذا الحال في الاتيان ثانياً بالاخفاتية إنّما يتمّ بناءً على الاندكاك ، فإنّه حينئذ لو كانت الجهرية واجبة لم تكن مستحبّة ، وكذلك الحال في الاخفاتية ، وحينئذ يعلم أنّ كلاً منهما مطلوب بطلب واحد مردّد بين الوجوب والاستحباب. أمّا بناءً على عدم الاندكاك فلا يتمّ ذلك ، لأنّ الجهرية لو كانت واجبة فهي أيضاً مستحبّة باعتبار مطلق القرآن ، على وجه لو علم بأنّ الجهرية واجبة يصحّ له أن يأتي بالجهرية بقصد القرآن ثمّ يأتي بها ثانياً بقصد الوجوب ، فهذا المكلّف الشاكّ المردّد بينهما عندما يأتي بالجهرية مثلاً ، لا يمكنه أن يقول أنا آتي بالجهرية بداعي طلبها الواقعي الذي لا أعرفه أنّه الوجوب أو الاستحباب ، لأنّ المفروض أنّها لو كانت واجبة لكان هناك طلب آخر متعلّق بها أعني الطلب الاستحبابي ، فيكون ذلك نظير ما مرّ من المثال ، أعني من كان يحتمل أنّه مشغول الذمّة بقضاء يوم واحد ، وبناءً على ذلك لا يمكنه الاحتياط إلاّ بأن يأتي بكلّ منهما بداعي احتمال وجوبه.

لا يقال : هذا في الاتيان الأوّل ، وأمّا الثاني فهو مطلوب بطلب واحد مردّد بين الوجوب والاستحباب ، لأنّ الواجب إن انطبق على الأوّل تعيّن كون الثاني مستحبّاً ، وإن لم ينطبق عليه تعيّن كون الثاني واجباً.

لأنّا نقول : إنّ الأوّل إذا لم ينطبق عليه الوجوب لا يتعيّن كون الثاني واجباً ، لأنّ الثاني وهو الاجهار مثلاً لو كان هو الواجب يكون معه استحباب مطلق القراءة بقصد القرآنية ، وهو ينطبق على الجهرية أيضاً ، فتكون الجهرية حينئذ صالحة للوجوب والاستحباب ويجتمع فيها الأمران.

٤٩٢

قوله : مع أنّه لا وجه لتخصيص ذلك بالعبادات ، بل ينبغي التعميم للتوصّليات أيضاً لابتناء جميع الأوامر على المصالح بناءً على أُصول العدلية (١).

فيه تأمّل ، لأنّ وجه التخصيص بالعبادات هو توقّف صحّتها على قصد القربة المتوقّف بحسب دعوى المدّعي على قصد الجهة ، وهذا بخلاف التوصّليات فإنّها وإن كانت عن مصالح فيها ، إلاّ أنها لمّا لم يعتبر فيها قصد القربة لم يكن في البين ما يوجب قصد الجهة فيها. وممّا يشهد بذلك عبارة المحقّق الطوسي في التجريد وعبارة العلاّمة قدس‌سره في شرحه ، فإنّهما جعلا ذلك ـ أعني القصد المذكور ـ شرطاً في استحقاق المدح والثواب ، وقد نقلنا عبارتهما في مبحث القطع عند الكلام على نيّة الوجه فراجع (٢) ، بل قلنا هناك : إنّ هذه العبائر لا دخل لها بالوجه الذي أخذه الفقهاء شرطاً في العبادة ، الذي هو عبارة عن لزوم معرفة وجه الطلب من وجوب أو ندب أو لزوم قصد ذلك الوجه ، كما هو الظاهر من تحرير السيّد سلّمه الله بقوله : والاتيان بالواجب بداعي الاحتمال يكون مخلاًّ بمعرفة الوجه ونيّته الخ (٣). وهو مشروح فيما حرّرته عنه قدس‌سره بأوضح من ذلك فراجعه (٤) ، بل جلّ النظر فيها إلى لزوم كون الأمر داعياً في ترتّب الثواب ، فلاحظ.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٢) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٥٤١.

(٤) [ مخطوط لم يطبع بعدُ ].

٤٩٣

قوله : وأمّا الثاني : فلأنّه لم نعثر فيما بأيدينا ... الخ (١).

اختصاص هذه الطريقة ـ أعني عدم الدليل دليل العدم ـ في نيّة الوجه دون أصل قصد القربة إنّما يتمّ على مسلكْ من يقول ـ كصاحب الكفاية قدس‌سره (٢) ـ بأصالة الاشتغال فيها ، حيث إنّه لا يجب على الحكيم بيان توقّف غرضه عليها ، لامكان إتّكاله في ذلك على التفات عامّة المكلّفين إليها فيحصل لهم الشكّ ، فتلزمهم عقولهم بالاحتياط بالاتيان بها ، وحينئذ لا يفوت غرض الشارع ، بخلاف مثل قصد الوجه حيث إنّه لا يلتفت إليه عامّة المكلّفين ، فلو كان غرضه متوقّفاً عليه لوجب عليه بيانه ، وإلاّ لكان قد ضاع غرضه.

أمّا على مسلك شيخنا قدس‌سره (٣) من الرجوع في أصل قصد القربة إلى البراءة فلا اختصاص له بقصد الوجه ، بل يجري في أصل قصد القربة ، لأنّ الشارع بعد علمه بأنّ المكلّفين لو حصل لهم الشكّ في اعتبار قصد القربة لرجعوا إلى البراءة ، يكون اللازم عليه لو كان غرضه متوقّفاً عليها بيان ذلك ، وحيث لم يبيّن ذلك في الأخبار ، كان ذلك دليلاً اجتهادياً على عدم دخلها فيه من دون حاجة إلى البراءة.

ولكن لا يخفى الفرق بين قصد القربة وبين نيّة [ الوجه ] ، فإنّ عدم الوجدان في الأوّل لا يدلّ على عدم الصدور ، لجواز الصدور مع أنّه لم يصل إلينا ، لعدم توفّر الدواعي إلى نقله ، بخلاف الثاني فإنّ الدواعي إلى نقله متوفّرة لو كان قد صدر من جانب الشارع.

وحاصل الأمر : أنّا ننتقل من عدم وجدان ما يدلّ على الاعتبار إلى عدم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٧٥ ـ ٧٦.

(٣) فوائد الأُصول ١ ـ ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٩.

٤٩٤

وجوده وعدم صدوره من جانب الشارع ، ومن عدم وجوده وعدم صدوره من جانب الشارع إلى عدم اعتباره عنده ، وكثرة الابتلاء لها الدخل في المقدّمة الأُولى ولا ربط لها بالمقدّمة الثانية ، والذي له دخل في المقدّمة الثانية على رأي شيخنا قدس‌سره هو أنّ هذه المسألة ليست ممّا يحكم بلزومها العقل ، وعلى رأي صاحب الكفاية قدس‌سره هو أنّ هذه المسألة ممّا يغفل عنها العامّة.

ومنه يظهر لك أنّ كثرة الابتلاء لابدّ من أخذها ، سواء على رأي شيخنا قدس‌سره أو على رأي صاحب الكفاية ، لأنّ عدم وجداننا الدليل على الاعتبار لا يدلّ على عدم صدوره من جانب الشارع ، لجواز أن يكون قد صدر منه ولم يصل إلينا ، فنحن نسدّ هذا الاحتمال بأنّ المسألة لمّا كانت كثيرة البلوى كانت الدواعي إلى نقل ذلك الصادر من جانب الشارع متوفّرة ، على وجه أنّه يحصل لنا العلم العادي بأنّه لو صدر لوصل إلينا لكثرة الدواعي على نقله ، وبهذه المقدّمة يخرج الشكّ في أصل القربة فيما لو أُمرنا بشيء ونشكّ في عباديته ، إذ ليس هو مثل أخذ نيّة الوجه في جميع العباديات في كثرة الابتلاء الموجبة لكثرة النقل والوصول إلينا. وأمّا مسألة الغفلة فكأنّها دخلت فيما أفاده شيخنا قدس‌سره بطريق التسليم ، وهو أنّا لو سلّمنا أنّ العقل حاكم بلزوم الاتيان ، لكان ممّا لا يصحّ للشارع الاعتماد عليه ، لكون المسألة ممّا يغفل عنها ، وتحرير الشيخ رحمه‌الله ظاهر في ذلك حيث قال : بل هي من المسائل المغفول عنها (١) ، فإنّه ظاهر في الترقّي.

ويمكن أن يقال : إنّ كثرة الابتلاء بالشيء مع كونه مغفولاً عنه بالنسبة إلى عامّة المكلّفين يولّدان توفّر الدواعي إلى كثرة النقل لو كان قد صدر من جانب الشارع ، على وجه تكون غفلة العامّة عن ذلك الشيء مع فرض أنّ الشارع قد أمر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٨.

٤٩٥

به من الدواعي على كثرة نقله ، وهذا المعنى هو الظاهر من عبارة السيّد سلّمه الله تعالى حيث قال : إذ مع كثرة الابتلاء بهما وغفلة الناس عنهما الخ (١) هذا ما يعود إلى المقدّمة الأُولى.

وأمّا المقدّمة الثانية ، وهي أنّ الشارع بعد أن ثبت أنّه لم يصدر منه بيان مدخلية قصد الوجه في الغرض يكشف عن عدم اعتباره عنده ، إذ لو كان معتبراً في غرضه لكان هو قد فوّت ذلك الغرض بعدم الاعلام به ، إذ ليس في البين ما يمكن اعتماد الشارع عليه في تحصيل ذلك الغرض.

نعم ، لو سلّمنا حكومة العقل بلزوم قصد الوجه فيما هو من قبيل العبادات وأنّ العقل حاكم بذلك حكماً واضحاً جلياً ارتكازياً على وجه يمكن الاعتماد عليه ، ليكون من قبيل القرينة المتّصلة ، لكان سكوت الشارع غير دالّ على عدم الاعتبار عنده ، أمّا بعد فرض كون حكم العقل ليس بذلك الوضوح ، بل ربما قلنا بأنّه حاكم بعدم لزومه ، فلا يكون في البين ما يمكن الاعتماد عليه ، فلا يكون السكوت حينئذ مع فرض كونه معتبراً عنده إلاّمن قبيل تضييع الغرض المنافي للحكمة بل للطريقة العقلائية وإن لم يكن حكيماً ، وحينئذ لا تكون هذه المقدّمة الثانية محتاجة إلى كونه غير مغفول ، لأنّ حكومة العقل بلزومه بتلك الدرجة من الوضوح يلزمها أنّه غير مغفول عنه.

نعم ، لو لم يكن حكم العقل بلزوم قصد الوجه بعد فرض كون الفعل عبادياً بتلك الدرجة من الوضوح ، ووصلت النوبة إلى الشكّ وإلى دعوى كون العقل حاكماً في ذلك بالاحتياط ، وأمكن اعتماد الشارع على حكم العقل بلزوم الاحتياط ، كان للتفصيل بين كونه ممّا يغفل عنه وممّا لا يغفل وقع ، لكنّك قد

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٤٢.

٤٩٦

عرفت المنع من حكم العقل بلزوم الاحتياط في ذلك ، وحينئذ يكون سكوت المولى تضييعاً لغرضه ، ولا أقل من التوقّف عن حكم العقل بالاحتياط وعدم وضوحه ، فإنّه أيضاً يكون تعريضاً للتضييع ، وحينئذ لا يبقى موقع للتفصيل بين ما يغفل عنه وما لا يغفل.

قوله : فالمرجع هي قاعدة الاشتغال لا البراءة ، لأنّ الأمر يدور بين التعيين والتخيير ـ إلى قوله : ـ فإنّه لا جامع بين الامتثال التفصيلي والامتثال الاحتمالي ... الخ (١).

هذا لو قلنا بأنّ الطاعة المعتبرة في العبادة هي عبارة عن لزوم الاتيان بها بداعي الأمر المتعلّق بها واضح ، لما شرحناه في مبحث القطع (٢) من أنّ كون الأمر داعياً بوجوده العلمي يباين كونه داعياً بوجوده الاحتمالي ، فيكون المقام من الترديد بين التعيين والتخيير.

وأمّا لو قلنا بأنّها عبارة عن الانقياد والعبودية ، فقد عرفت أيضاً تحقّق الانقياد والعبودية في مقام الاحتمال أيضاً ، فيكون تقيّد ذلك الانقياد بكونه ناشئاً عن الأمر المعلوم تفصيلاً قيداً زائداً منفياً بالبراءة ، إلاّ أن نقول بأنّ الطاعة أمر بسيط ، وهذه الجهات محصّلة له ، فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في المحصّل ، ويتّجه الإشكال حينئذ بمسألة قصد الوجه والتمييز ونحوهما ممّا أُفيد بأنّ المرجع عند الشكّ في اعتباره هو البراءة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٠.

(٢) رجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، في الصفحة : ١٧٢ وما بعدها.

٤٩٧

قوله : تذييل ، الاحتياط إمّا أن يكون في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي وإمّا أن يكون في الشبهات البدوية ... الخ (١).

ملخّص هذا التذييل هو ضبط الموارد التي يصحّ فيها الاحتياط والاطاعة الاحتمالية عن الموارد التي لا يصحّ فيها إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، والضابط في ذلك هو تنجّز التكليف الالزامي وعدمه ، فالموارد التي تكون مقرونة بالعلم الاجمالي بالتكليف الالزامي ، سواء كانت الشبهة حكمية أو كانت موضوعية ، لا يصحّ فيها الاحتياط إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، ويلحق بها الشبهة الحكمية الوجوبية التي تكون قبل الفحص. أمّا الشبهة بعد الفحص فهي خارجة عن محلّ الكلام لفرض تعذّر الاطاعة التفصيلية فيها.

وأمّا الموارد التي يكون الحكم فيها غير إلزامي ، سواء كانت مقرونة بالعلم أو كانت من قبيل الشبهة البدوية قبل الفحص ، وسواء كانت حكمية أو كانت موضوعية ، وكذلك الشبهات الموضوعية في الحكم الوجوبي غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، فإنّ جميع هذه الموارد لا يكون حسن الاحتياط فيها مشروطاً بتعذّر الاطاعة التفصيلية ، فيكون المدار في جواز ذلك وعدمه على كون الحكم إلزامياً وكون الشبهة فيه منجّزة ، فلا يجوز فيه الاحتياط إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، فإن لم يكن الحكم إلزامياً كما في الشبهات الاستحبابية بأسرها ، أو كان الحكم إلزامياً ولكن لم تكن الشبهة منجّزة كما في الشبهات الموضوعية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، يكون الاحتياط فيها مستحسناً وإن كان المكلّف متمكّناً من الاطاعة التفصيلية.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧١.

٤٩٨

ولكن قد حرّرنا في مباحث القطع (١) أنّ ذلك قابل للتأمّل ، فإنّه بعد فرض كون الاطاعة التفصيلية التي هي عبارة عن الانبعاث عن الأمر المعلوم مأخوذة في حقيقة العبادة إلاّبعد تعذّر ذلك ، يكون هذا المعنى موجباً لسقوط الاحتياط في جميع هذه الموارد إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية. وكون الحكم غير إلزامي أو كون الشبهة لا يجب فيها الفحص ، لا يكون موجباً لصحّة الاحتياط فيها عند التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، أمّا الأوّل فلأنّ كون الحكم غير الزامي إنّما ينفع في عدم لزوم الاحتياط لا في صحّته مع فرض التمكّن من الاطاعة التفصيلية. ومنه يظهر الحال في الثاني ، لأنّ عدم وجوب الفحص في الشبهة الوجوبية الموضوعية إنّما هو عبارة أُخرى عن أنّه عند عدم الفحص يكون الرجوع إلى البراءة جائزاً ، ولا يجب الاحتياط قبله ، في قبال الشبهة الوجوبية الحكمية قبل الفحص لأنّه يجب الاحتياط فيها ، ولا يجوز الرجوع إلى البراءة إلاّبعد الفحص ، وهذا لا دخل له بجواز الاحتياط مع التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، هذا.

ولكن الموجود في تحرير السيّد سلّمه الله خلاف [ ذلك ] وأنّ الأقوى هو سقوط الاحتياط الموجب للتكرار في مورد الشبهة غير الالزامية ، وإن جوّزه فيما لا يتوقّف على التكرار ، فراجعه ص ٣٢١ (٢) وراجع ما حرّرته عنه قدس‌سره (٣) في هذا المقام فإنّه مخالف لهذا التحرير ، ولعلّه لأجل أنّه من الدورة السابقة على ما حرّرناه.

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٨٦ وما بعدها ، وكذا الصفحة : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٤٦ ـ ٥٤٧.

(٣) [ مخطوط لم يطبع بعدُ ].

٤٩٩

قوله : ولا ينتقض ذلك بالتمكّن من الامتثال التفصيلي بالصلاة عارياً ، لأنّ التمكّن من الامتثال التفصيلي يتوقّف على سقوط الشرط ... الخ (١).

العبارة لا تخلو من غموض ، والمراد أنّ لنا شرطين ، أحدهما الساتر الطاهر ، والآخر الامتثال التفصيلي ، وكلّ منهما مقيّد بالتمكّن ، فعند دوران الأمر بينهما كما لو لم يكن له إلاّثوبان يعلم إجمالاً بطهارة أحدهما ونجاسة الآخر ، إن صلّى بكل منهما فقد حصل على الصلاة مع اللباس الطاهر ، لكنّه فاته الامتثال التفصيلي ، وإن صلّى عرياناً فقد حصل على الامتثال التفصيلي ، لكنّه فاته الشرط وهو الساتر الطاهر ، فيكون كلّ واحد من هذين الشرطين سالباً لقدرة المكلّف عن الآخر ، فما وجه تقديم الساتر على الامتثال التفصيلي.

والجواب : أنّ الامتثال التفصيلي وإن قلنا بكونه شرطاً في العبادة ، إلاّ أنه متأخّر في الرتبة عن باقي ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط ، لأنّه عبارة عن لزوم الاتيان بالمأمور به بما له من الأجزاء والشرائط بداعي أمره المعلوم ، فيكون نسبته إلى باقي الأجزاء والشرائط كنسبة الحكم إلى موضوعه في التأخّر الرتبي ، فلا يمكن أن يكون مزاحماً لتلك الأجزاء والشرائط لكونه موجباً للدور ، حيث إنّ التمكّن من الامتثال التفصيلي متوقّف هنا على سقوط شرطية الساتر ، وسقوط شرطية الساتر موقوفة على عدم التمكّن منه ، وعدم التمكّن منه موقوف على لزوم الاطاعة التفصيلية ، ولزوم الاطاعة التفصيلية موقوف على التمكّن منها ، فيكون التمكّن من الاطاعة التفصيلية موقوفاً على التمكّن منها ، بخلاف ناحية شرطية الساتر ، فإنّ لزومه وإن توقّف على التمكّن منه ، لكن تمكّنه منه لا يتوقّف على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٧٣.

٥٠٠