أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

متنجّزاً بحدّه الذي هو عليه.

ولا يبعد أن يقال : إنّ تنجّز الطويل بحدّه لا يبتني على التنجّز في التدريجيات ، إذ ليس في البين إلاّتكليف واحد ، غايته أنّه على الأوّل يكون باقياً مستمرّاً ، فلا حاجة إلى الالتزام بكون التكليف المتأخّر في الأوّل يكون منجّزاً فعلاً بناءً على التنجّز في التدريجيات ، لأنّ ذلك إنّما هو فيما لو كانت تكليفات متعدّدة متعاقبة من الآن إلى ما بعد فإلى ما بعد ، وهكذا بحيث يكون لكلّ آن تكليف مستقل ، وحينئذ نقول : إنّا نحتاج إلى القول بأنّ التكليف المتأخّر الموجود في الآن المتأخّر يتنجّز الآن بالعلم المردّد بين الطويل والقصير ، أمّا مع فرض كونه تكليفاً واحداً مستمرّاً وباقياً في قبال التكليف الآخر الذي ينتهي أمده بالاضطرار ، فعلى الظاهر أنّ الحكم بتنجّزه من أوّل الأمر لا يحتاج إلى مسألة التنجّز في التدريجيات ، لأنّ المقابلة بين وجوب الاجتناب في هذا ووجوبه في الآخر ، غايته أنّه لو كان الوجوب في هذا لكان باقياً ، ولو كان في ذلك لكان محدوداً بالاضطرار.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم ذلك هو أنّه لو كان نقصان أحدهما من أوّل الأمر ، كما لو كان فعلاً مضطرّاً إلى لبس هذا الثوب في الصلاة وقد علم نجاسته أو نجاسة ذلك الاناء ، ولكنّه يعلم أنّ اضطراره يرتفع بعد ساعة مثلاً أو أكثر ، فإنّه بناءً على ذلك يكون عالماً بأنّه قد توجّه إليه أحد التكليفين أعني وجوب الاجتناب عن الاناء من الآن إلى آخره ، أو وجوب الاجتناب عن الثوب ممّا بعد الاضطرار إليه. لكن هذا متوقّف على القول بالتنجّز في التدريجيات ، كما لو علم بوجوب صوم هذا اليوم أو صوم اليوم الذي بعده.

نعم ، لو لم يكن عالماً بارتفاع اضطراره فيما بعد ، لم يكن علمه بنجاسة

١٤١

أحدهما علماً بتوجّه تكليف على كلّ حال ، فلا يكون علمه المذكور موجباً لاجتنابه فعلاً عن الاناء. نعم لو ارتفع اضطراره وكان الاناء باقياً لزمه اجتنابهما ، لصيرورته حينئذ عالماً بتوجّه تكليف فعلي على كلّ حال.

وهكذا الحال في مسألة الخروج عن الابتلاء عند العلم الاجمالي ، فيفصّل فيها بين ما يكون عالماً بعوده بعد ذلك فيلزمه الاجتناب فعلاً عن الطرف الآخر ، بخلاف ما لو لم يكن عالماً بذلك فإنّه لا يلزمه فعلاً الاجتناب عن ذلك الطرف ، إلاّ إذا اتّفق العود إلى الابتلاء مع بقاء الطرف الآخر ، فإنّه حينئذ يلزمه الاجتناب عنهما.

واعلم أنّ صاحب الكفاية (١) في المتن بنى على سقوط العلم الاجمالي في مورد الاضطرار إلى بعض أطرافه ، سواء كان إلى المعيّن أو كان إلى غير المعيّن ، وسواء كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو كان بعده ، وأساس ما أفاده في ذلك هو المنافاة بين الترخيص الفعلي في طرف معيّن أو غير معيّن مع العلم الاجمالي بوجود التكليف الفعلي بينهما ، وحينئذ لو كان الاضطرار إلى المعيّن سابقاً على العلم الاجمالي ، كان مقتضاه الترخيص الفعلي في ذلك الذي اضطرّ إليه ، وحينئذ لا يكون علمه الاجمالي علماً بتكليف فعلي على كلّ من طرفي العلم الاجمالي ، بل لا يكون إلاّمن قبيل احتمال وجود التكليف في الطرف غير المضطرّ إليه ، فيكون المرجع فيه هو الأصل ، ولا يكون العلم منجّزاً ، لأنّه ليس بعلم بتكليف فعلي على كلّ حال.

وهكذا الحال فيما لو كان الاضطرار إلى واحد غير معيّن ، فإنّه يوجب الترخيص الفعلي في ارتكاب أحدهما ، فأيّ منهما اختاره لسدّ ضرورته لا يكون

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٠.

١٤٢

التكليف فيه فعلياً ، فلا يكون العلم المتأخّر علماً بتكليف فعلي على كلّ حال ، لاحتمال كون التكليف منطبقاً على ذلك الذي يختاره لسدّ ضرورته ، فلا يكون المقام إلاّمن قبيل احتمال وجود التكليف الفعلي في ذلك الطرف الآخر ، فيجري فيه الأصل النافي.

ولكن هذا منافٍ لمسلكه من أنّ احتمال وجود التكليف الفعلي ولو في الطرف الباقي يكون مانعاً من الترخيص فيه ولو بعنوان كونه مجهولاً ، لأنّه من قبيل احتمال اجتماع المتنافيين : فعلية التكليف وفعلية الترخيص.

إلاّ أن يدّعى أنّ الترخيص الاضطراري يكون مستلزماً لعدم الفعلية حتّى في الطرف الآخر ، كما صرّح (١) به قبيل هذا التنبيه فتأمّل. هذا حال ما لو كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي.

وأمّا لو كان بعده ، فهو بالنسبة إلى زمان ما قبل الاضطرار عالم بوجود تكليف فعلي ، فيلزمه الاجتناب ، ويكون العلم منجّزاً في ذلك المقدار من الزمان. وأمّا ما بعد الاضطرار فحيث إنّه موجب للترخيص فهو من الآن ليس بعالم بوجود تكليف فيما بعد الاضطرار ، من دون فرق في ذلك بين كون الاضطرار الطارئ اضطراراً إلى معيّن أو كونه اضطراراً إلى غير معيّن ، لاشتراكهما في استلزام عدم العلم بالتكليف بعد الاضطرار ، هذا ما في المتن.

ولكنّه قدس‌سره عدل في الحاشية في خصوص الاضطرار المتأخّر إلى المعيّن ، نظراً إلى أنّه من أوّل الأمر مردّد بين التكليف الطويل الذي هو في غير المضطرّ إليه والتكليف القصير المحدود بالاضطرار الذي هو في الطرف المضطرّ إليه ، وهذا العلم السابق منجّز لكل من طرفيه الطويل والقصير ، بحيث تكون تلك الزيادة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

١٤٣

التي اشتمل عليها الطويل داخلة في العلم ، لا أنّها زيادة مستقلّة لم تكن داخلة في العلم السابق ، وحينئذ فعند طروّ الاضطرار لا يعلم به (١) إلاّعدم فعلية التكليف لو كان منطبقاً على المضطرّ إليه لوجود الترخيص حينئذ ، أمّا الطرف الآخر فإنّه قد تنجّز بالعلم السابق. وبالجملة : بالعلم السابق صار كلّ من الطويل والقصير فعلياً منجّزاً ، هذا فيما لو كان الاضطرار الطارئ اضطراراً إلى معيّن.

أمّا لو كان الاضطرار المذكور اضطراراً إلى غير المعيّن فهو مسقط للعلم الاجمالي كما صرّح به في الحاشية بقوله : إنّ ذلك ( يعني إسقاط الاضطرار للعلم الاجمالي ) إنّما يتمّ فيما إذا كان الاضطرار لأحدهما لا بعينه ( إلى أن قال بعد الفراغ من بيان الوجه في عدم تأثير الاضطرار إلى المعيّن في إسقاط العلم الاجمالي ) وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، فإنّه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقاً ، فافهم وتأمّل (٢).

ولم يزد في بيان الفرق بينهما على ذلك ، ولا يخلو من تأمّل ، فإنّ الاضطرار إلى المعيّن أيضاً مانع عنده من فعلية التكليف ، وإنّما قلنا إنّه ليس بمانع من جهة دخول تلك القطعة الزائدة التي هي في الطويل في العلم الاجمالي السابق ، ولأجل ذلك قلنا إنّه قد علم من أوّل الأمر بالتكليف المردّد بين الطويل والقصير.

وحينئذ لنا أن نقول : كما أنّ الاضطرار إلى المعيّن يرفع الفعلية في ذلك المعيّن ، ويوجب التردّد بين الطويل والقصير ، فكذلك الاضطرار إلى غير المعيّن يوجب الترخيص فيما يختاره ، فيكون تكليفه من أوّل الأمر مردّداً بين الطويل وهو ما لا يختاره والقصير وهو ما يختاره.

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ].

(٢) كفاية الأُصول ( الهامش ) : ٣٦٠.

١٤٤

وإن قلت : إنّ الترخيص لا يرد على ما يختاره ، بل يرد على أحدهما ، فقهراً يكون الترخيص الواقعي متّجهاً إلى المباح منهما ، فلا يصادم التكليف الواقعي الموجود بينهما ، وحينئذ ينبغي القول بأنّ الاضطرار إلى المعيّن لا يسقط العلم الاجمالي مطلقاً حتّى لو كان قبل العلم أو مقارناً له كما أفاده شيخنا قدس‌سره ، غايته أنّ المكلّف لجهله ربما يقع في مخالفة التكليف ، لكن المسوّغ له ذلك حينئذ هو الجهل بما هو النجس واقعاً ، لا اضطراره إلى شرب النجس.

ثمّ إنّ لصاحب الكفاية قدس‌سره في مقدّمات الانسداد في كيفية تحكيم أدلّة العسر والحرج على مقتضى العلم الاجمالي من الاحتياط الحرجي كلاماً حاصله تحكيم تلك الأدلّة على نفس التكليف الواقعي وسقوط الاحتياط بالمرّة. ولم أتوفّق للوجه في العدول عنها في المقام وسلوك هذه الطريقة التي عرفت الإشكال فيها ، اللهمّ إلاّ أن تكون تلك الطريقة غير تامّة عنده كما أشار إليه هناك بقوله : نعم لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر كما قيل ، لكانت قاعدة نفيه محكّمة على قاعدة الاحتياط ، لأنّ العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة المنفية بنفيه الخ (١) ، فإنّ قوله : « كما قيل » يشعر بأنّه لا يرتضيه ، ولذلك نسبه إلى القيل.

وعلى أيّ حال ، فبناءً على هذه الطريقة يكون الاضطرار إلى غير المعيّن موجباً لسقوط الاحتياط بالمرّة حتّى لو كان حادثاً بعد العلم الاجمالي ، فإنّه يكون موجباً لسقوط العلم الاجمالي من حين الاضطرار ، وإن كان العلم قبل طروّه منجّزاً في الطرفين كما لا يخفى ، وقد تقدّم ما فيه مزيد توضيح لهذه الجهات ، أعني بيان كيفية المصادمة بين دليل العسر والحرج ودليل الحكم الواقعي المعلوم وجوده في البين.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٣ [ وفيها : فتكون منفية بنفيه ].

١٤٥

وليس غرضنا الآن إلاّ التأمّل فيما أفاده في حاشية الكفاية من الفرق بين كون الاضطرار الحاصل بعد العلم الاجمالي اضطراراً إلى واحد معيّن ، فلا يسقط العلم الاجمالي عن التأثير فيما لم يضطرّ إليه ، وبين كونه اضطراراً إلى غير المعيّن ، فيكون مسقطاً للعلم الاجمالي عن التأثير فيما لا يختاره لسدّ اضطراره.

فنقول : لنفرض الآن أنّ له آنيتين صغرى وكبرى ، وقد وقعت الآن نجاسة مردّدة بينهما ، ولنفرض أيضاً أنّه فعلاً عالم بأنّه بعد يوم يضطرّ إلى إحداهما غير المعيّن ، فهو إن وسّط الاختيار يقول أنا الآن عالم بأني يجب عليَّ الآن الاجتناب عن النجس الموجود في البين ، لكنّه إن كان في الذي أختاره بعد ذلك لسدّ ضرورتي فذلك الوجوب عمره محدود باليوم المذكور ، وإن كان في الذي لا أختاره فيما بعد فهو غير محدود ، فيرجع حاله إلى حال الاضطرار إلى المعيّن في كونه مردّداً بين الطويل والقصير ، الذي اعترف أنّه لا يسقط العلم الاجمالي عن التأثير في الطويل.

وإن لم يوسّط الاختيار يقول أنا فعلاً عالم بأنّي يجب عليَّ فعلاً الاجتناب عن النجس الموجود في البين ، فإن كان في الكبرى كان ذلك باقياً إلى ما بعد الاضطرار ، إذ لا يكون اضطراري مصادماً له ، بل يكون اضطراري الآتي متّجهاً في الواقع إلى غير ذلك النجس الذي هو الكبرى ، وكذلك الحال لو كان ذلك التكليف في الصغرى ، وحينئذ يكون الاضطرار إلى غير المعيّن غير مصادم مع التكليف الواقعي الموجود في البين ، ولازم ذلك أن لا يكون الاضطرار المذكور مزاحماً مع التكليف الفعلي الواقعي المعلوم في البين ، فلا يؤثّر في إسقاط العلم ، سواء كان سابقاً على العلم أو كان متأخّراً عنه ، ولا يكون لذلك الاضطرار أثر إلاّفتح باب احتمال ارتكاب النجس الواقعي لسدّ ضرورته عن جهل بنجاسته ، ويكون

١٤٦

المسوّغ لذلك الارتكاب هو الجهل الطارئ بعد العلم ، الموجب لعدم إسقاط العلم عن التأثير ، فتأمّل.

قوله : كما إذا علم إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في تأثير العلم الاجمالي في وجوب صلاة الظهر بعد انقضاء ساعة من الزوال ... الخ (١).

لا يخفى أنّ تطبيق هذا المثال على ما نحن فيه مشكل ، لأنّه إن كان بالنظر إلى أوّل الزوال والمفروض أنّ التكليف بأحدهما موجود قطعاً في ذلك الحال ، لكن يكون في هذا الحال كحال قبل الاضطرار. ثمّ بعد مضي الزمان المعيّن لصلاة الجمعة ، فإن كان قد صلاّها لزمه الاتيان بالظهر بعدها ، لكن ليس ذلك إلاّمن جهة العلم الاجمالي في ظرف واحد ، لا من جهة الطول والقصر ، ولأجل ذلك يلزمه الاتيان بالظهر بعد الفراغ من الجمعة وإن كان وقت الجمعة بعدُ لم ينته. أمّا لو مضى الزمان المذكور ولم يكن قد صلّى الجمعة ، فلا إشكال في وجوب الظهر ، فإنّها حينئذ معلومة بالتفصيل ، لأنّها إن كانت هي الواجبة فواضح ، وإن كان الواجب هو الجمعة فقد فات وقتها ولا قضاء لها ، والواجب عليه حتّى لو كانت معلومة بالتفصيل هو الظهر كما صرّحوا به في الفقه في مبحث صلاة الجمعة ، وأنّه لو فاتته في وقتها لزمه الاتيان بالظهر ، فلا يحسن ما في ظاهر هذا التحرير وصريح تحرير السيّد سلّمه الله (٢).

وبالجملة : أنّ المثال المطابق لما نحن فيه إنّما هو لو علم إجمالاً أوّل الزوال وأقدم على الاتيان بالجمعة ، والظاهر لزوم الاتيان بالظهر ، لكن ليس ذلك إلاّمن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٩٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٥٧ ـ ٤٥٨.

١٤٧

جهة العلم الاجمالي في ظرف واحد ، لا من جهة الطول والقصر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما نحن فيه يكون المكلّف به وهو الاجتناب مستمرّاً من أوّل زمان العلم إلى آخره في كلّ من الطرفين ، غايته أنّه في أحدهما وهو ما اضطرّ إليه قصير الأمد ، وفي الآخر وهو ما لم يضطرّ إليه ليس بقصير الأمد ، وحينئذ يقال : إنّ تلك القطعة الزائدة في ذلك الآخر لم تكن متعلّقة للعلم ، فيتخيّل أنّها خارجة عن المقابلة بين الاناءين في القطعة السابقة ، وهذا بخلاف مثال الظهر والجمعة فإنّ المكلّف به فعل واحد هو إمّا الظهر أو الجمعة ، وهذا الفعل إذا فرضنا كونه هو الواجب يكون زمان تأديته فيه أوسع منه في الجملة ، فيكون المكلّف مخيّراً في الاتيان به في أيّ قطعة شاء من ذلك الزمان ، غايته أنّ مدّة التخيير في الظهر أوسع منها في الجمعة ، فليس في البين قطعة زائدة يكون التكليف بالنسبة إليها زائداً على ما هو مورد التقابل بين المعلومين ، كي يقال إنّها غير داخلة في العلم كالقطعة الزائدة في الطرف غير المضطرّ إليه على ما يساوي حدّ الاضطرار ممّا هو مورد التقابل في العلم الاجمالي بين الاناءين (١).

أمّا هذه الجملة التي ذكرها ، وهي الجملة المتعلّقة بكون الارتكاب الرافع للاضطرار هو المحقّق لوجوب الاجتناب ، بخلاف ما لو لم يكن رافعاً للاضطرار فإنّه لا يحقّق وجوب الاجتناب ، فالظاهر أنّ مراده بذلك هو حال ما قبل الارتكاب ، وأنّه لو كان الارتكاب دفعياً كان محقّقاً لوجوب الاجتناب ، لأنّ أحد الارتكابين يكون كافياً في رفع الاضطرار الموجب لتحقّق وجوب الاجتناب ،

__________________

(١) [ في الأصل هنا بياض بمقدار صفحة أو أكثر ، والظاهر أنّ العبارات التي تأتي بعد ذلك وهي قوله قدس‌سره : أمّا هذه الجملة ... الخ تعليق منه قدس‌سره على ما في مستمسك العروة الوثقى ٥ : ٢٠٢ وما بعدها ].

١٤٨

بخلاف ما لو كان الارتكاب تدريجياً ، فإنّه قبل ارتكاب شيء منهما وإن كان عالماً بأنّه لو ارتكب أحدهما يتحقّق في حقّه وجوب الاجتناب عن النجس ، إلاّ أنه مع ذلك يقول : إنّي لو ارتكبت الأوّل فلا شبهة في كونه رافعاً للاضطرار ، وأنّه لو كان هو الطاهر لكان ارتكابه موجباً لتحقّق وجوب الاجتناب عن النجس ، لكن بعد ارتكابي للأوّل لا يكون ارتكابي للثاني رافعاً للاضطرار ليكون موجباً لتحقّق وجوب الاجتناب في الأوّل ، ليكون الحاصل فعلاً ـ أي قبل الارتكاب التدريجي ـ هو أنّي أعلم إجمالاً إمّا بالمنع عن الثاني بعد ارتكابي الأوّل ، وإمّا بالمنع من الأوّل بعد ارتكابي للثاني ، ليكون علمي الاجمالي المذكور مانعاً لي فعلاً من حصول العلم التفصيلي بحلّية الأوّل ، وذلك لما عرفت من سقوط هذا العلم الاجمالي ، لأنّ الارتكاب المحقّق لوجوب الاجتناب هو خصوص الرافع للاضطرار ، والمفروض أنّ ارتكابي للثاني بعد ارتكاب الأوّل لا يكون رافعاً للاضطرار ، فأنا الآن لا أحتمل أنّ ارتكابي للأوّل إذا عقّبته بارتكابي للثاني يكون ممنوعاً عنه. ولكن هذا كلّه لو لاحظهما مترتّبين ، لكن لو لاحظ أنّي أعلم بأنّ ارتكاب كلّ منهما محقّق للوجوب في الآخر ، لم يكن في ذلك العلم خدشة.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم أنّ ما هو محلّ كلام العروة من ضيق الوقت عن تمام الأربع ، خارج عن مسألة الخلاف في الاضطرار إلى غير المعيّن قبل العلم أو مقارناً له ، لأنّ ضيق الوقت من قبيل طروّ الاضطرار بعد العلم ، وهو ممّا لا خلاف في أنّه لا يرفع تنجّز العلم السابق.

ولا يخفى الجواب عن هذا التوهّم ، فإنّ عمدة الكلام إنّما هو في الوجه في تحكيم دليل الاضطرار في المقام ، مع أنّ التكليف الواقعي الشرعي ليس في حدّ نفسه ضررياً ولا حرجياً ، وحكم العقل بجميع الأطراف ليس بشرعي كي يرتفع

١٤٩

بالدليل الشرعي ، الذي هو نفي الضرر أو نفي الحرج أو رفع ما اضطرّوا إليه ، وحينئذ يكون اللازم هو ما ذكر من التقييد ورفع إطلاق التكليف الشرعي الموجود في البين.

نعم ، يتوجّه عليه أنّ المقام ـ أعني ضيق الوقت ـ من قبيل عدم القدرة عقلاً على الاتيان بجميع الأطراف ، وهذا ـ أعني عدم القدرة عقلاً على الاتيان بجميع الأطراف ـ لا يحتاج في تحكيمه إلى الالتزام بتقييد الحكم الشرعي الواقعي ، بل إنّ هذا الحكم العقلي يكون مقدّماً على حكم العقل بالاتيان بجميع [ الأطراف ] ، فإنّ الحاكم واحد وهو العقل ، وهو إنّما يحكم بالاتيان بجميع أطراف العلم الاجمالي إذا كان ذلك مقدوراً عقلاً ، أمّا إذا لم يكن ذلك مقدوراً فالعقل يحكم بسقوط المقدار الذي هو خارج عن القدرة ، وبلزوم الاتيان بما يقدر عليه من الأطراف.

قول الشيخ قدس‌سره : فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريماً (١).

لو كان أحد الطرفين المتدرّجين في حدّ نفسه مجرى لأصالة الحرمة ، انحلّ العلم الاجمالي ، وخرجت المسألة عن النزاع في كون العلم الاجمالي بين التدريجيات منجّزاً أو غير منجّز ، ولعلّ نظره في ذلك إلى أصالة عدم ترتّب الأثر في مثل المعاملة المحتمل كونها ربوية.

قوله قدس‌سره : فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الاباحة ... الخ (٢).

هذا فيما فرضه من المثال ، وهو ما لو علم بحيضها في ثلاثة أيّام مردّدة بين

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٤٩.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٢٤٩.

١٥٠

جميع أيّام الشهر ، إذ يجري استصحاب الطهر من أوّل الشهر إلى ما قبل آخره بثلاثة ، وحينئذ ينقطع استصحاب الطهر ، إمّا فيما سبق أو في هذه الثلاثة الأخيرة. أمّا لو فرض التردّد في الثلاثة المذكورة بين كونها هي أوائل الشهر أو هي أواخره ، فالظاهر جريان استصحاب [ الطهر ] من أوّله إلى أن تنقضي الثلاثة الأُولى ، ثمّ بعد القطع بطهرها في وسطه يستصحب طهرها إلى آخر الشهر ، فلا يحتاج في آخره إلى أصالة الاباحة.

قوله قدس‌سره : وفي المثال الثاني إلى أصالة الاباحة والفساد ... الخ (١).

هذا هو محلّ النظر في الجمع بين الحكم بالحلّية والفساد ، وقد تعرّض له شيخنا قدس‌سره فراجع التحريرات (٢).

قوله قدس‌سره : ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر ... الخ (٣).

ثبوت الفساد في حقّ الجاهل القاصر محلّ إشكال ، وقد ذكره الفقهاء فراجع.

قوله قدس‌سره : وليس هنا مورد التمسّك بعموم ... الخ (٤).

هذا العموم موجود في المثال الأوّل ، وهو قوله تعالى : ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )(٥).

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٤٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١١٢ وما بعدها ، أجود التقريرات ٣ : ٤٦٨ وما بعدها.

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٢٤٩.

(٤) فرائد الأُصول ٢ : ٢٥٠.

(٥) البقرة ٢ : ٢٢٣.

١٥١

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره تعرّض في أصالة العموم لناحية العلم الاجمالي ، وهذه الناحية مشتركة بين الشبهة الحكمية والشبهة المصداقية المقرونة بالعلم الاجمالي ، وسكت عن ناحية كون الفرد الأوّل الذي هو محلّ الابتلاء فيما نحن فيه من قبيل الشبهة البدوية المصداقية ، التي لا إشكال عنده في عدم صحّة الرجوع فيها إلى العموم ، بخلاف الأصل العملي الجاري عنده وعند غيره في الشبهات البدوية المصداقية ، وهذه الجهات هي التي تعرّض لها شيخنا قدس‌سره في كلام الشيخ قدس‌سره ، مضافاً إلى الكلام على الجمع بين أصالة الحل وأصالة الفساد.

والتحقيق : هو ما أفاده شيخنا قدس‌سره أخيراً من أنّ مانعية العلم الاجمالي من التمسّك بالعموم ـ سواء كانت الشبهة حكمية أو كانت مصداقية ـ حالها حال مانعيته من التمسّك بالأُصول العملية في سقوط هذه المانعية فيما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن ابتلاء المكلّف ، من دون فرق في ذلك بين الأُصول اللفظية والأُصول العملية.

نعم ، في المقام مانع آخر تختصّ به الأُصول اللفظية ، وهو كون المورد الذي هو أحد الأطراف من قبيل الشبهة المصداقية غير المانعة من الرجوع إلى الأُصول العملية لو كان الطرف الآخر خارجاً عن محلّ [ الابتلاء ] ، بخلاف الأُصول اللفظية كالعموم فيما نحن فيه ، فإنّ كون الشبهة مصداقية يكون مانعاً من الرجوع في هذا الطرف إلى العموم اللفظي ، سواء كان الطرف الآخر داخلاً في محلّ الابتلاء أو كان خارجاً ، بل كان المورد الموجود من قبيل الشبهة البدوية ، فإنّ كون الشبهة مصداقية يمنع من الرجوع فيها إلى الأُصول اللفظية في البدوية وغيرها بنسبة واحدة. ولعلّ هذا هو المراد للشيخ قدس‌سره بقوله أخيراً : لكن الظاهر

١٥٢

الفرق بين الأُصول اللفظية والأُصول العملية ، فتأمّل (١) ، ويكون حينئذ إشارة إلى مانعية الشبهة المصداقية ، وهي فارقة بين الأُصول اللفظية والأُصول العملية كما عرفت.

لكن هذا الفرق لا يتوقّف على خروج الطرف الآخر عن الابتلاء ، بل هو موجود حتّى فيما لو كان الآخر داخلاً في محلّ الابتلاء ، بمعنى أنّا لو قلنا إنّ العلم الاجمالي بين الطرفين الداخلين في محلّ الابتلاء لا يكون مانعاً من إجراء الأُصول العملية واللفظية في الأطراف ، لكان بينهما فرق من هذه الناحية ، أعني ناحية كون الشبهة مصداقية ، فإنّها تمنع من الأُصول اللفظية وإن لم تمنع من الأُصول العملية ، ولعلّ قوله قدس‌سره : « فتأمّل » إشارة إلى هذه الجهة. والمطلب واضح بعد هذه المباني ، وكأنّه لأجل ذلك لوّح إليه الشيخ قدس‌سره تلويحاً ، وأوكل توضيحه بما عرفت إلى ما حقّقه في محلّه في باب العموم والخصوص ، فراجع.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير من المناقشة مع الشيخ في كلا المقامين ، أعني مقام كون العلم الاجمالي مانعاً عن التمسّك بالعموم في أطرافه ، ومقام إجراء أصالة الحل.

أمّا المقام الأوّل ، فهو قوله : والحقّ أنّه يمنع ، للفرق بين الأُصول العملية والأُصول اللفظية ـ إلى قوله ـ والعلم الاجمالي بالمخصّص يمنع عن كونها كاشفة كما لا يخفى ، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ قدس‌سره أخيراً من إبداء الفرق بين الأُصول العملية والأُصول اللفظية الخ (٢) ، فإنّ ظاهره هو أنّ العلم الاجمالي بالمخصّص يمنع من التمسّك بالعموم في بعض أطرافه وإن كان الطرف الآخر

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٥٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١١٤.

١٥٣

خارجاً عن محلّ الابتلاء. والظاهر خلافه ، ولأجل ذلك أجابوا عن العلم الاجمالي بوجود المخصّص للعمومات الكتابية بأنّ ذلك لعلّه في عمومات القصص لا في عمومات الأحكام ، كما ذكره في تحرير السيّد سلّمه الله بقوله : ويمكن الخدشة في هذا الوجه الخ (١) ، فراجع.

وأمّا الفرق الذي أشار إليه الشيخ قدس‌سره ، فلعلّه كما عرفت من أنّه إشارة إلى مانعية الشبهة المصداقية ، وأنّ قوله قدس‌سره : « فتأمّل » إشارة إلى أنّ هذه المانعية غير منوطة بالعلم الاجمالي ولا بكونه منجّزاً.

وأمّا المقام الثاني ، فهو ما أفاده أخيراً من تصحيح كلام الشيخ قدس‌سره في عدم الملازمة بين الحلّية والصحّة بقوله : ولكن يمكن أن يقال : إنّ فساد المعاملة الربوية ليس لأجل حرمتها التكليفية الخ (٢) ، فإنّ الفساد تارةً : يكون لأجل مانعية الحرمة المنجّزة مثل الصلاة في الدار المغصوبة ، وأصالة الحل في مثل ذلك تكون موجبة للقطع بالصحّة. وأُخرى : يكون هو والحرمة معلولين لعلّة ثالثة ، كما في حرمة أكل لحم الحيوان وبطلان الصلاة في وبره ، وفي مثل ذلك لا يمكن الحكم بصحّة الصلاة اعتماداً على أصالة الحل في أكل لحمه ، فإنّها لا تثبت الصحّة الظاهرية فضلاً عن الواقعية. وثالثة : يكون الفساد ناشئاً عن حرمة المعاملة بمعنى المسبّب ، وهذا يكون معلولاً عن الحرمة ، وتكون أصالة الحل المثبتة للحلّية الظاهرية مثبتة للصحّة الظاهرية ، فإذا انكشف الخلاف يكون من قبيل انكشاف خطأ الحكم الظاهري في كلّ من الحلّية والصحّة. وعلى كلّ حال ، لا يكون الحكم بالفساد في موارد الجهل بعد انكشاف الخلاف دليلاً على كون المقام من النحو

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١١٦.

١٥٤

الثاني ، بل هو ملائم مع كونه من النحو الثالث ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن ذلك لا يخلو عن إشكال ، فإنّه ربما يدّعى أنّ باب الربا مشتمل على كلا الجهتين في عرض واحد ، أعني أنّه في بيع المتجانسين مع الزيادة يجتمع الحرمة التكليفية مع المانعية ، أو مع عدم تحقّق الشرط الذي هو التساوي. والمسألة فقهية من هذه الجهة ، فراجع ما في ربا ملحق العروة للسيّد قدس‌سره (١) من ص ١٧ إلى ص ٢٠.

أمّا ما حرّره السيّد ( سلّمه الله تعالى ) عن شيخنا قدس‌سره بقوله : ويرد على ما أفاده أوّلاً : أنّ تفكيكه بين الحكم التكليفي وهو الاباحة والوضعي وهو الصحّة غير مستقيم على مذهبه قدس‌سره من كون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ، فإنّ حرمة المعاملة بالمعنى الاسم المصدري أعني به المبادلة بين المالين ـ إلى قوله ـ نعم على المختار من كون الفساد في المعاملات الفاسدة غير مترتّب على حرمتها ، وأنّه ليس في طولها ـ إلى قوله ـ إلاّ أن أصالة الاباحة لا تثبت بها الآثار المترتّبة على الحلّية الواقعية (٢) ، فهو لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ القول بكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية عبارة عن أنّ الجزئية مثلاً منتزعة من الأمر بالجزء في ضمن الأمر بالكل ، أو أنّ الملكية منتزعة من جواز التصرّف في العين لمن هو مالكها ، أو من حرمة تصرّف غيره فيها إلاّبرضاه ، وعلى تقدير كون الشيخ قدس‌سره قائلاً بذلك فهو لا دخل له بما أفاده الشيخ قدس‌سره هنا من أنّ ثبوت حلّية نفس البيع تكليفاً بأصالة الحل لا تثبت صحّته وتحقّق النقل والانتقال.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : فإنّ حرمة المعاملة بالمعنى الاسم

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٣٤ وما بعدها / المسألة ١٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠.

١٥٥

المصدري الخ ، فإنّ ذلك على تقديره لا دخل له بكون الحكم الوضعي منتزعاً من الحكم التكليفي ، بل إنّ ذلك ناشٍ ممّا أفاده من كون النهي المذكور موجباً لسلب السلطنة تشريعاً على تلك المعاملة ، الذي عرفت أنّه من اللوازم الذاتية للنهي المذكور.

وقوله : وعلى ذلك يبتني الاستدلال على صحّة المعاملة بقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) الخ (٢) أيضاً لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ الاستدلال المذكور لا يبتني على القول بكون الوضع منتزعاً من التكليف ، ولا على كون النهي موجباً لسلب السلطنة.

وبالجملة : أنّه يومئ في ذلك إلى ما أفاده الشيخ قدس‌سره في أوائل المعاطاة من الاستدلال على كون المعاطاة مفيدة للملك لكونها بيعاً عرفاً ، فإنّه قال في ذلك المبحث ما هذا لفظه : ويدلّ عليه أيضاً عموم قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) حيث إنّه يدلّ على حلّية جميع التصرّفات المترتّبة على البيع ، بل قد يقال : بأنّ الآية دالّة عرفاً بالمطابقة على صحّة البيع لا مجرّد الحكم التكليفي ، لكنّه محل تأمّل ، وأمّا منع صدق البيع عليه عرفاً فمكابرة (٣). فالشيخ قدس‌سره هناك أخذ الحلّية بمعنى الجواز التكليفي ، لكنّه لم يجعله مسلّطاً على نفس المعاملة ، لأنّ جوازها تكليفاً لا يدلّ على صحّتها ، لما ذكره هنا من عدم الملازمة بين الحلّية التكليفية والصحّة ، بل صرف تلك الحلّية التكليفية إلى التصرّفات المترتّبة على البيع في المبيع والثمن ، فتكون كاشفة عن تحقّق الملكية ، وتأمّل في الوجه الآخر وهو كون الحلّية وضعية

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٦٩.

(٣) كتاب المكاسب ٣ : ٤٠.

١٥٦

بمعنى الانفاذ والامضاء.

وهذا التقريب وإن ورد عليه أنّ جواز نفس المعاملة تكليفاً بمقتضى الآية الشريفة ملازم لصحّتها وعدم فسادها ، وإن لم تكن الصحّة من الآثار الشرعية للجواز التكليفي ، إلاّ أنه لا أقل من التلازم بينهما بناءً على كونهما معلولين لعلّة ثالثة كما أفاده شيخنا قدس‌سره من كون حرمة المعاملة مع فسادها معلولين لعلّة ثالثة ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بالاستدلال فيما لو ثبت الجواز التكليفي بالدليل الاجتهادي كالآية الشريفة. نعم يضرّ بالاستدلال لو كان الجواز ثابتاً بالأصل العملي ، أعني أصالة الحل كما فيما نحن فيه.

وأمّا قوله : نعم على المختار من كون الفساد في المعاملات الفاسدة غير مترتّب على حرمتها ، وأنّه ليس في طولها الخ (١) ، فهو أيضاً لا يخلو من تأمّل ، إذ ليس كلّ معاملة فاسدة يكون فسادها من جهة النهي عنها ، بل إنّ للفساد فيها أسباباً ، ومن تلك الأسباب هو كونها منهياً عنها. ثمّ إنّ ما كان السبب فيه هو النهي عنها ليس بمنحصر بما يكون الفساد والحرمة عرضيين ، بل بعض ذلك يكون الفساد فيه في طول النهي ، كما في النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر وبيع المصحف منه ونحو ذلك ، وإنّما هو مختصّ بما نحن فيه ممّا يكون الفساد فيه والحرمة ناشئين عن علّة ثالثة ، بناءً على ما ذكرناه من كون المعاملة الربوية بنفسها محرّمة بقوله : ( وَحَرَّمَ الرِّبا )(٢) فإنّه مسوق للحرمة التكليفية التي هي من أعظم المحرّمات التي هدّد فيها تعالى بقوله : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ )(٣) ، ومع

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٦٩.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٩.

١٥٧

ذلك دلّت الأخبار على كون التفاضل مانعاً من الصحّة أو التساوي شرطاً في الصحّة من مثل قوله عليه‌السلام : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (١) وقوله عليه‌السلام : « لا يصلح إلاّمثلاً بمثل » (٢) ونحو ذلك ممّا دلّ على الفساد الوضعي من جهة شرطية التساوي أو مانعية التفاضل ، ولكن مع ذلك لا يكون هذا النهي التكليفي المتعلّق بالمعاملة الربوية مجرّداً عن اقتضاء الفساد الذي عرفت أنّه من لوازمه الذاتية ، بل هو على ما هو عليه من اقتضاء سلب السلطان الموجب للفساد ، وإنّما في البين فساد آخر آت من ناحية عدم الشرط أو من ناحية وجود المانع ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٣ : ٣٤١ / أبواب الربا ب ١٢ ح ٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٤٩ / أبواب الربا ب ١٤ ح ٣ ، ب ٨ ح ٢.

١٥٨

[ الكلام في الشبهة غير المحصورة ]

قوله : بل لابدّ في الشبهة الغير المحصورة (١) من اجتماع كلا الأمرين وهما كثرة العدد وعدم التمكّن من جمعه في الاستعمال ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ ملاك سقوط حرمة المخالفة إنّما هو القيد الثاني ، وهو عدم التمكّن من الجمع بين المحتملات في الاستعمال ، فإنّه هو الذي يوجب عدم التمكّن من المخالفة القطعية الموجب لسقوط حرمتها. نعم إنّ ذلك ـ أعني عدم التمكّن من الاستعمال ـ يكون في الشبهة غير المحصورة ناشئاً عن كثرة الأطراف الموجبة لكثرة الاحتمالات.

قوله : أمّا عدم حرمة المخالفة القطعية فلأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ليست من الأحكام الشرعية ، كي يكون الخطاب بها قبيحاً عند عدم التمكّن العادي من مخالفتها ، بل هي ـ أعني حرمة المخالفة القطعية ـ من الأحكام العقلية ، إذ ليست هي إلاّعبارة عن قبح المعصية ، ولا ريب في أنّ حكم العقل بقبح المعصية وتنفّره

__________________

(١) [ في الطبعة الحديثة هنا زيادة ليست في محلّها ، بل محلّها بعد قوله : وبهذاتمتاز الشبهة الغير المحصورة ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١١٧ ـ ١١٨.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١١٩.

١٥٩

منها ليس منوطاً بالتمكّن العادي من المعصية ، إذ لا يكون الحكم العقلي إلاّكلّياً كبروياً غير منوط بتحقّق موضوعه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحسن والقبح العقليين تابعان للقدرة. وفيه تأمّل ، لأنّ ذلك إنّما هو في استحقاق المدح والذمّ ، دون مجرّد الحسن والقبح.

وفيه : ما لا يخفى ، فالأولى أن يقال : إنّ حكم العقل بالقبح منوط بالقدرة والاختيار ، وحيث لا يكون الفعل مقدوراً كالطيران إلى السماء مثلاً ، لا يحكم العقل بقبحه ، لكنّه لا يحكم بعدم قبحه ، بل يكون ذلك خارجاً عن الصلاحية للحكم بالقبح والحكم بعدم القبح ، بل أقصى ما فيه هو عدم الحكم بالقبح لا الحكم بعدم القبح.

وبالجملة : أنّ العقل يحكم بقبح المعصية القطعية وبالتنفّر منها وبالزجر عنها ، لكنّها لو كانت غير مقدورة لا تكون مورداً لحكمه ، لا أنّه يحكم بعدم قبحها ، والمخالفة القطعية إذا لم تكن مقدورة عقلاً تكون من هذا الوادي ، أعني وادي عدم الحكم بالقبح ، لا من وادي الحكم بعدم القبح ، ومن الواضح أنّ مجرّد ذلك ـ أعني عدم حكمه بالقبح من باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ لا يوجب حكم العقل بالترخيص في المخالفة القطعية ، غايته أنّه لا يحكم بالترخيص ، على حدّ عدم حكمه بالزجر ، يعني أنّه من باب خروج المورد عن تحت سيطرة الحكم العقلي منعاً وترخيصاً ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل من علم بحرمة أحد فعلين لا يسع الزمان إلاّ أحدهما ، كما لو علم بحرمة إنقاذ أحد الغريقين وإباحة إنقاذ الآخر لا وجوبه ، فإنّ المخالفة القطعية في أمثال ذلك غير مقدورة عقلاً ، لكن ذلك لا يوجب سقوط لزوم الموافقة القطعية بترك إنقاذهما ، بناءً على كون العلم الاجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعية. أمّا بناءً على أنّ لزوم الموافقة القطعية

١٦٠