أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

تابعاً لنفس النذر ، والمفروض أنّه تعلّق بعدم الطبيعة ، فيكون على نحو السلب الكلّي ، ويسقط وينحلّ بمجرّد الاتيان بفرد واحد من أفراد الطبيعة ، إلاّ أن تكون هناك قرينة على أنّ الناذر لاحظ الأفراد ونذر ترك كلّ واحد منها ، ومجرّد كون غرضه تعلّق بردع نفسه عن الطبيعة لكونها مبغوضة له لا يكون قرينة على ذلك ، لكون وجوب الوفاء بالنذر إنّما يتبع إنشاء الناذر وإن كان على خلاف غرضه وداعيه ، كما هو الشأن في جميع أبواب العقود والايقاعات ، انتهى.

وإنّي فعلاً غير جازم بأنّ هذا التحرير هو الذي أراده الأُستاذ قدس‌سره ، لأنّي أتّهم نفسي في فهم مراده قدس‌سره. وكيف كان ، فإنّ هذا التوجيه لا يتمّ على الظاهر في النذر الايجابي. مضافاً إلى أنّه لا يمكن إتمامه حتّى في النذر السلبي ، لأنّ وجوب الوفاء تابع لقصد الناذر ، وقد حقّق في محلّه أنّ الظاهر من نفي الطبيعة هو نفي أفرادها انحلالياً ، وهو وإن انتقض بمجرّد وجود بعض أفرادها إلاّ أنه انتقاض في خصوص ذلك الفرد دون باقي الأفراد.

وبالجملة : أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر بمنزلة حكم العقل بلزوم إطاعة النهي المولوي المتعلّق بالطبيعة ، فكما أنّ ذلك الحكم العقلي موجود بعد الاتيان بفرد منها ، فكذلك ينبغي أن يكون وجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا ما في مباحث النهي ممّا أفاده قدس‌سره (١) في توجيه ذلك بأنّ الشمول للأفراد الطولية التي تكون في الآنات المترتّبة يتوقّف على العموم الأزماني ، وليس في باب النذر ما يتكفّل بالعموم المذكور ، ففيه : أنّ الذي يتكفّل بالشمول للأفراد الطولية هو إطلاق الطبيعة في سياق النفي أو في سياق أداة العموم ، مثل كل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٢٢ ـ ١٢٤. راجع أيضاً المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٦ ـ ٧.

٢٦١

ونحوها. مضافاً إلى أنّه لو كان النذر غير شامل للأفراد الطولية لكان مقتضاه سقوطه في الآن الثاني بعد إطاعته في الآن الأوّل.

وكذا ما أفاده قدس‌سره من كون الشمول الاستغراقي في باب التكاليف لكلّ فرد فرد من جهة اشتمال كلّ فرد على المفسدة الموجبة للمبغوضية الملازمة لنظر الآمر إلى كلّ واحد من تلك الأفراد ، وذلك غير موجود في باب النذر ، فإنّه أيضاً قابل للتأمّل ، من إمكان نظر الناذر إلى الأفراد أيضاً ، مع كونه لا يتمّ في النذور الايجابية. مضافاً إلى ما عرفت من أنّ سريان الحكم إلى كلّ فرد إنّما هو قهري بواسطة وقوع صرف الطبيعة المطلقة في حيّز النفي أو في حيّز أداة العموم.

والحاصل : أنّ النظر القاصر قاصر عن توجيه ما عليه المشهور في باب النذر ، فإنّه بحسب النظر القاصر لا يتمّ إلاّبأحد وجهين : دعوى العموم المجموعي ، أو دعوى كون المنذور هو كلّية الايجاب أو كلّية السلب ، والأوّل متوقّف على العناية الزائدة ، والثاني يتوقّف على لحاظ الكلّية اسمياً.

والذي حرّره قدس‌سره في مسألة المشكوك (١) في أنّ المطلوب بالنهي قد يكون هو آحاد السلوب ، وقد يكون هو السلب الكلّي ، وقد يكون هو الاتّصاف بالسلب ، ونزّل النذر على الثاني ، فلعلّه لا يخلو من تأمّل ، لتوقّفه على النظر إلى كلّية السلب اسمياً. ولعلّ نظر المحقّق القمي قدس‌سره كان إلى هذه الجهة ، وهي محتاجة إلى التأمّل ، ولعلّها أمتن ما يمكن أن يقال في هذه المسألة ، فتأمّل.

قال الشهيد قدس‌سره في قواعده : قاعدة ، كلّ يمين خولف مقتضاها نسياناً أو جهلاً أو إكراهاً فلا حنث فيها ، لظاهر « رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (٢) إلى أن قال : فرع ، إذا قلنا بعدم الحنث هنا هل تنحلّ اليمين أم

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٢٦٨ ـ ٢٨٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

٢٦٢

لا؟ يظهر من كلام الأصحاب انحلالها ، فلو خالف مقتضاها بعد ذلك لم يحنث ، لأنّ المخالفة قد حصلت والمخالفة لا تتكرّر. ويحتمل أن تبقى اليمين ، لأنّ الاكراه والنسيان لم يدخلا تحتها ، لما قلناه ، فالواقع بعد ذلك هو الذي تعلّقت به اليمين ، والأوّل أقرب (١). وظاهره اختصاص الخلاف أو الوجهين في خصوص المخالفة لعذر ، دون المخالفة عن عمد ، لأنّ منشأ احتمال عدم الانحلال في موارد العذر هو احتمال عدم كون ما صدر مشمولاً لليمين ، وحينئذ يستفاد منه أنّ المخالفة لو كانت عن عمد لا إشكال في انحلال اليمين فيما بعدها ، إذ لا إشكال في كون تلك المخالفة مشمولة لليمين.

وفي الجواهر في شرح قول الماتن : « لا يتحقّق الحنث بالاكراه ولا مع النسيان ولا مع عدم العلم » بعد أن نقل كلام المسالك في أنّ اليمين هل تنحل بذلك كما تنحل بالعمد ، أو لا تنحل لعدم دخول الثلاثة تحتها ، قال : وعدم الحنث الذي يترتّب عليه الكفّارة باعتبار ظهور أدلّتها في غير الفرض لا يقتضي عدم اندراج هذه الأفراد في متعلّق اليمين ، فالأقوى حينئذ الانحلال (٢) ، والله العالم.

قوله : أمّا في الأسباب العادية والعقلية فواضح ، فإنّ المجعول الشرعي فيها ليس إلاّ المسبّب ولا شكّ فيه ، والمشكوك فيه ليس من المجعولات الشرعية ، ولا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ـ إلى قوله ـ وأمّا في الأسباب الشرعية كالغسلات في باب الطهارة الحدثية والخبثية ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ الأسباب الشرعية إنّما كانت أسباباً شرعية باعتبار كون المسبّب

__________________

(١) القواعد والفوائد ٢ : ٢٠٧ ـ ٢٠٩.

(٢) راجع جواهر الكلام ٣٥ : ٣٣٨ ـ ٣٤٠.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

٢٦٣

فيها شرعياً ، كالطهارة من الحدث أو الطهارة من الخبث ، سواء قيل بجعل السببية أو بجعل المسبّب ، فلو كان المسبّب في الأسباب العادية والعقلية شرعياً ، لكانت أيضاً أسباباً شرعية ، وكانت داخلة في النزاع المذكور ، وحينئذ فلابدّ في السبب العقلي أو العادي من كون المسبّب فيه أيضاً مثله عادياً أو عقلياً ، كما في سببية الالقاء للاحراق.

والأولى إبدال لفظة « المجعول » بالواجب فيقال : فإنّ الواجب الشرعي فيها ليس إلاّ المسبّب.

ثمّ إنّ السبب تارةً يكون سبباً للتكليف ، وتارةً يكون سبباً للوضع ، وثالثة يكون سبباً للمكلّف به ، وهو المراد في هذا المقام بالشكّ في المحقّق والمحصّل.

أمّا سبب التكليف لو تردّد بين الأقل والأكثر ، فلا ينبغي الريب في عدم الرجوع فيه إلى البراءة من جزئية السبب ، وإنّما المرجع هو البراءة من التكليف عند حصول الأقل أو استصحاب عدم التكليف ، كما لو تردّد المغرب بين غيبوبة القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

وهكذا الحال في سبب الوضع مثل البيع العقدي مثلاً الذي يكون سبباً في الملكية ، لو شككنا في اعتبار القبض فيه ، فإنّ المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر عند عدم ذلك المشكوك الاعتبار.

أمّا ما يكون من قبيل سبب المكلّف به لو تردّد بين الأقل والأكثر ، فإن كانا ـ أعني السبب والمسبّب ـ عاديين أو عقليين مثل الضرب بالنسبة إلى القتل لو كان المأمور به هو القتل ، فلا ريب في أنّه لا مورد فيه للبراءة عند التردّد في سببه بين الأقل والأكثر ، ولم يدّعه أحد. نعم لو كان المأمور به هو السبب كان مورداً للبراءة

٢٦٤

قطعاً بناءً على كونه من قبيل الأقل والأكثر غير الارتباطيين. ولو قيل إنّه من قبيل الارتباطيين كان الكلام في كون المرجع فيه هو البراءة والاحتياط راجعاً إلى ذلك المبحث.

ولو كان المسبّب شرعياً كما في أفعال الوضوء والغسل بالنسبة إلى الطهارة من الحدث التي هي حكم شرعي ، وكذلك أفعال الغسل ـ بالفتح ـ بالنسبة إلى الطهارة من الخبث التي هي حكم شرعي ، وكما في أفعال الذبح بالنسبة إلى الذكاة التي هي حكم شرعي ، أعني حلّية الأكل والطهارة ، وهذا هو المراد بقولهم : المحصّل الشرعي ، كما أنّ الأوّل هو المراد بقولهم : المحصّل العقلي أو العادي.

وكيف كان ، فالذي ينبغي أن يقال : إنّ الأمر في مثل ذلك ـ أعني المحصّل الشرعي ـ لا يتوجّه إلاّ إلى السبب ، ولا يعقل توجّهه إلى المسبّب ، لما عرفت من أنّه حكم وضعي هو فعل الشارع. أمّا باب العقود والإيقاعات فكذلك ، بمعنى أنّ التكليف فيها سواء كان أمراً أو نهياً لا يعقل توجّهه إلى نفس الحكم الوضعي الذي هو من المجعولات الشرعية ، وإنّما يتوجّه إلى نفس العقد الذي هو السبب أو إلى نفس المعاملة بوجودها الانشائي ، وهو ـ أعني الوجود الانشائي ـ غير ذلك الحكم الوضعي الذي هو من المجعولات الشرعية ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ العقد سبب أو نقول إنّه آلة.

وكذلك الحال لو قلنا بأنّ المسبّبات هي الأحكام العرفية العقلائية ، غايته أنّ الشارع أمضاها ، فإنّ الأمر وكذلك النهي وإن صحّ تعلّقه بالمسبّب الذي هو النقل والانتقال أو الملكية في عالم اعتبار العقلاء ، إلاّ أن ذلك الاعتبار ليس بحكم شرعي كي يكون تعلّق التكليف به تعلّقاً بالحكم الشرعي ، بل إنّه اعتبار عقلائي يرونه متولّداً ومسبّباً عن إيجاد العقد ، فيكون نسبة ذلك الاعتبار إلى العقد نسبة

٢٦٥

العناوين الثانوية إلى العناوين الأوّلية ، فيصحّ تعلّق التكليف به ، غايته أنّ ذلك الاعتبار العقلائي المتولّد من العقد قد أمضاه الشارع ، لا أنّ الشارع يجعل ذلك الاعتبار عند وجود العقد ، ويكفي في كونه حكماً شرعياً كونه اعتباراً عقلائياً متولّداً في عالم اعتبار العقلاء من العقد وإمضاء الشارع لذلك الاعتبار.

وعلى أيّ ، لا يكون التكليف متعلّقاً بحكم شرعي يجعله الشارع عند وجود العقد كي يكون من قبيل التكليف بالمسبّبات الشرعية المجعولة للشارع عند وجود أسبابها ، فلاحظ وتأمّل ، لإمكان أن يقال : إنّ الملكية لو لم تكن إمضائية بل كانت تأسيسية من جانب الشارع ، فليس معنى جعلها تأسيساً من جانبه أنّه يجعلها عند حصول العقد ، بل معنى ذلك هو على نحو ما عرفت من اعتبار العقلاء ، يعني أنّه يعتبرها عنواناً ثانوياً للعقد ، وحينئذ يمكن تعلّق التكليف الشرعي بها على حذو ما عرفت من إمكان الأمر بها لو كانت إمضائية. نعم إنّ ذلك لا يتأتّى في مثل الطهارة من الحدث أو الخبث ، فتأمّل.

فتلخّص لك : أنّ مثل الطهارة من الخبث أو الطهارة من الحدث أو التذكية التي هي موضوع الحل والطهارة لو قلنا إنّها من الأحكام الوضعية الشرعية المجعولة للشارع عند تحقّق أسبابها ، لا معنى للقول حينئذ بتعلّق التكليف بها بنفسها ، ويتعيّن القول حينئذ بتعلّق التكليف بأسبابها ، بل إنّ اطلاق الأسباب والمسبّبات على ذلك لا يبتني على الحقيقة ، إذ في الحقيقة لا سببية في مثل ذلك ولا مسبّبية ، بل ليس في البين إلاّموضوعات هي من أفعال المكلّفين جعلت لها أحكام شرعية ـ تكليفية كانت أو وضعية ـ على نحو القضية الحقيقية ، فكلّما تحقّق أحد تلك الموضوعات تحقّق حكمه التكليفي أو الوضعي ، وليست هي من قبيل العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية كي تكون تلك العناوين الثانوية

٢٦٦

صالحة لتعلّق التكليف بها لكونها مقدورة بواسطة القدرة على أسبابها التي هي الأفعال بعناوينها الأوّلية ، وإلاّ لصحّ التكليف بالمسبّبات في أسباب الأحكام التكليفية إذا كانت أسبابها أفعالاً اختيارية ، مثل الافطار الذي هو سبب لوجوب الكفّارة.

نعم ـ كما هو غير بعيد ـ لو قلنا بأنّها من الأُمور الواقعية التي لا يعرفها المكلّفون ولا يعرفون أسبابها ، والشارع المقدّس عرّفهم بها وبأسبابها ، أمكن القول بتعلّق التكليف بها كما يمكن تعلّقه بأسبابها ، بل إنّه بناءً على هذا القول لا فرق بين تعلّق التكليف بها أو تعلّقه بأسبابها ، لأنّ أسبابها لو فرض في ظاهر الدليل أنّها هي التي تعلّق التكليف بها ، فهو ـ أعني التكليف ـ إنّما يتعلّق بتلك الأسباب باعتبار ترتّب تلك المسبّبات عليها ، لأنّها حينئذ من قبيل العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية ، فلو شكّ في حصولها عند عدم الاتيان بما يشكّ في مدخليته في ترتّب تلك المسبّبات على تلك الأسباب ، كان اللازم هو الاحتياط والاتيان بكلّ ما يحتمل مدخليته في ذلك. لكنّها تخرج على هذا القول عن كونها من قبيل المسبّبات الشرعية ، وتدخل في المسبّبات العقلية والعادية ، نظير ترتّب الاحراق على الالقاء ، ونظير ترتّب إزهاق الروح على الضرب بالسيف مثلاً ، ونحو ذلك من الأسباب والمسبّبات العقلية والعادية التي لا مورد فيها للجعل ، لا بالنسبة إلى نفس السبب ، ولا بالنسبة إلى نفس المسبّب ، ولا بالنسبة إلى نفس السببية.

وغاية الفرق بينهما أنّ هذه أسباب ومسبّبات توليدية يعرفها المكلّفون ويعرفون أسبابها ، أعني الأفعال الأوّلية التي تتولّد منها ، وتلك لا يعرفها المكلّفون ولا يعرفون أسبابها ، أعني الأفعال الأوّلية التي تتولّد منها هذه العناوين الثانوية ،

٢٦٧

بل إنّ الشارع المقدّس المطّلع على الواقعيات كشف ذلك للمكلّفين ، وعرّفهم بها وبأسبابها التي تتولّد منها.

وعلى أيّ حال ، لا يكون للقول بالمحقّق أو السبب الشرعي بالنسبة إلى المكلّف به معنى محصّل ، كي يتكلّم عليه بأنّ المرجع فيه عند الشكّ في المحصّل والمحقّق والسبب بين الأقل والأكثر ، هل هو أصالة الاشتغال وأصالة عدم حصول المسبّب ، أو أنّ المرجع فيه هو أصالة البراءة من جعل الشيء الفلاني جزءاً من ذلك المحقّق وذلك السبب ، وأصالة عدم تحقّق السبب أو أصالة البراءة من سببية الأقل ، ونحو ذلك من الأُصول ، فلاحظ ما أُفيد في هذه المباحث عن شيخنا قدس‌سره وتأمّل ، فإنّ ذلك لا يستقيم إلاّعلى تقدير الجمع بين كون المسبّب حكماً شرعياً وكونه مأموراً به. والظاهر أنّ ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به ، كي يجعل ذلك محلّ الكلام فيما بينه قدس‌سره وبين القائلين بأنّ المرجع في الأسباب والمحقّقات الشرعية هو أصالة البراءة من جعل المشكوك جزءاً من ذلك السبب.

ولا يخفى أنّ محلّ الكلام إنّما هو في الشكّ بين الأقل والأكثر في المكلّف به ، إمّا بنفسه كما في باب الصلاة ، وإمّا بموضوعه كما لو تردّدت الرقبة الواجب عتقها بين مطلق الرقبة أو خصوص [ المؤمنة ] ، وإمّا بسببه كما في الأسباب العقلية والعادية. ولا يتصوّر ذلك في الأسباب الشرعية ، إذ لا يعقل التكليف بمسبّباتها.

ولو تصوّرنا ذلك فيها بأن قلنا إنّه يشترط في لباس المصلّي مثلاً أن يكون واجداً لذلك الحكم الشرعي ، وصحّحنا ذلك بكون ذلك الوجوب الشرطي الشرعي متوجّهاً إلى الأفعال التي تكون موضوعاً لذلك الحكم الشرعي الوضعي أعني الطهارة ، لم يمكن القول باجراء البراءة في الجزء المشكوك ، لأنّ المجموع إنّما وجب باعتبار كونه موضوعاً لذلك الحكم الشرعي ، ومع الشكّ في بعض

٢٦٨

أجزائه تكون الموضوعية مشكوكة ، ويتعيّن الرجوع حينئذ إلى الاحتياط ، هذا. مضافاً إلى أنّه لا تصل النوبة إلى الاحتياط أو البراءة ، بل يكون المرجع في هذا الحكم الوضعي كسائر الأحكام الوضعية عند الشكّ في أسبابها هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الفصل الرابع : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الوجوبية الحكمية ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لابد في أصل المسألة من تقييد ذلك المشكوك الجزئية بأنّه على تقدير عدم اعتباره لا يكون معتبر العدم ، بحيث تكون الصلاة مثلاً على تقدير عدم جزئية ذلك المشكوك الجزئية مقيّدة بعدمه ، وإلاّ لكان من قبيل الدوران بين المحذورين ، وكان من قبيل الدوران بين الشرطية والمانعية ، فلابدّ أن تكون أصل المسألة ممحّضة للشكّ في الجزئية ، وأنّه على تقدير عدم الجزئية لا يكون الاتيان بذلك المشكوك الجزئية ولو من باب الاحتياط لاحتمال جزئيته موجباً لفساد العمل ، وإن أفسده لو جيء به بعنوان الجزئية ، بناءً على كون ذلك من الزيادة الموجبة لبطلان العمل.

قوله في الحاشية : والعبارة التي وقفت عليها في الحاشية ... الخ (٢).

قال في الحاشية في أواخر الدليل الأوّل ممّا استدلّ به على لزوم الاحتياط في مسألة الأقل والأكثر ما نصّه : وأمّا إذا لم يتعيّن القدر المذكور لتعلّق التكليف ، ودار الأمر بين تعلّق التكليف به بخصوصه أو بما يزيد عليه ، بحيث لا يكون القدر المذكور مطلوباً بنفسه أصلاً ، بل مطلوباً بطلب الكل في ضمنه فلا ، لدوران

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ١ ) : ١٥٤.

٢٦٩

التكليف إذن بين طبيعتين مختلفتين ، غاية الأمر أن يكون أحدهما أقلّ جزءاً من الآخر ، فإنّ ذلك بمجرّده لا يقضي بترجيح الأقل كما لا يخفى. ومداخلة أجزاء أحدهما في الآخر غير مجدٍ فيه ، بعد فرض عدم قضاء الأمر بالكلّ بمطلوبية الجزء إلاّفي ضمنه ، فلا يقين إذن بإرادة الأقل لو أُتي به على انفراده ، كما في غير المشاركين في الجزء ، الخ (١).

وله عبارة قبل هذه يقول فيها : فاشتغال الذمّة حينئذ دائر بين طبيعتين وجوديتين لا يندرج أحدهما في الآخر ، وإن اشتمل الأكثر على أجزاء الأقل ، لما عرفت من عدم الملازمة بين الأمرين الخ.

ولا يخفى أنّ هذه العبائر صريحة في أنّه يريد أن يلحق المسألة بالمتباينين ، ويرى أنّ التكليف بالشيء لا بشرط يباين التكليف به بشرط شيء ، فإنّه قال : فإن قلت : إنّ التكليف بالأكثر في المقام قاض بالتكليف بالأقل في الجملة ، فيصدق ثبوت الاشتغال به على طريق اللاّ بشرط ، وحينئذ فيدور الأمر في الزائد بين البراءة أو الشغل وحصول التكليف وعدمه ، فينفى بالأصل. قلت : ليس التكليف بالأقل ثابتاً على طريق اللاّ بشرط ليكون ثبوت التكليف به على نحو الاطلاق ، بل ثبوته هناك على سبيل الاجمال والدوران بين كونه مطلوباً بذاته أو تبعاً للكل في ضمنه الخ.

والمستفاد من مجموع السؤال والجواب أنّ السائل يريد أن يجعل القدر المشترك بين وجوب الأقل ووجوب الأكثر هو وجوب الأقل لا بشرط المعبّر عنه بالاطلاق لينحلّ العلم الاجمالي ، لأنّ ذلك هو عين كون وجوب الأقل معلوماً بالتفصيل. وهو قدس‌سره في الجواب يمنع من ذلك ويقول : إنّ القدر المشترك بين

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٥٦٤ ـ ٥٦٥.

٢٧٠

وجوب الأقل ووجوب الأكثر ليس هو وجوب الأقل لا بشرط ، بل القدر المشترك هو الوجوب المجمل المردّد بين كون الأقل واجباً بذاته أو في ضمن الأكثر (١) ، ولابدّ أن يكون ذلك القدر المشترك هو الوجوب لا بشرط المقسمي ، نعني بذلك القدر المشترك بين اللاّ بشرط القسمي وبين البشرط شيء ، لا القدر المشترك بين الثلاثة حتّى ما يكون بشرط لا ، لما عرفت من أنّ ما يكون بشرط لا خارج عن محلّ النزاع.

وكيف كان ، فإنّ الوجوب المتعلّق بالأقل بذاته هو اللاّ بشرط القسمي ، وأنّ الوجوب لا بشرط القسمي يباين الوجوب بشرط شيء ، فتكون المسألة من قبيل الدوران بين المتباينين.

قوله : فالماهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة للماهية بشرط شيء ـ إلى قوله ـ والتقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار واللحاظ ـ إلى أن يقول ـ فإنّ التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقل عن كونه متيقّن الاعتبار ... الخ (٢).

هذه حقائق راهنة ، لكنّه يقول : والعلم التفصيلي بوجوب الأقل المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين الأقل والأكثر ، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ، لأنّه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجباً لانحلال نفسه (٣).

ولا يخفى أنّه بعد فرض كون الماهية ملحوظة لا بشرط المقسمي ، أو

__________________

(١) [ في الأصل : أو في ضمن الأقلّ ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٦٠.

٢٧١

ملحوظة لا بشرط القسمي ، أو ملحوظة بشرط شيء ، واحدة في الخارج ، لا يكون هذا التغاير الاعتباري موجباً لخروج وجوب الأقل عن كونه معلوماً بالتفصيل ، بل يكون ما يطرأ على الأقل من وجوبه لا بشرط المقسمي الذي هو نفس المعلوم بالاجمال ، ووجوبه لا بشرط القسمي الذي هو أحد طرفي المعلوم بالاجمال متّحداً خارجاً مع وجوبه في ضمن الأكثر ، الذي هو الطرف الآخر للمعلوم بالاجمال ، وحينئذ فيكون المعلوم الاجمالي عين ذلك المعلوم بالتفصيل من وجوب الأقل والشكّ البدوي في الزائد ، لا أنّ المعلوم بالتفصيل هو عين المعلوم بالاجمال ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك الخدشة فيما أُفيد في العبارة السابقة من قوله : ومن هنا قلنا إنّ الاطلاق ليس أمراً وجودياً ، بل هو عبارة الخ (١) ، فإنّ تقابل الاطلاق والتقييد سواء قلنا إنّه من قبيل العدم والملكة ، أو قلنا إنّه من تقابل الضدّين ، أو قلنا إنّه من تقابل النقيضين ، لا يثمر فيما نحن فيه من إمكان الانحلال أو منعه ، فإنّه يدور على الاتّحاد الخارجي ، فلا يضرّ فيه التباين اللحاظي ، فلا يكون القول بأنّ تقابلهما من قبيل تقابل الضدّين موجباً لكون المقام من قبيل المتباينين ، كي يكون ذلك أساساً للقول بعدم الانحلال العقلي.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ ما أُفيد أوّلاً في تقرير مذهب صاحب الحاشية مطابق لما فيها ، لكن ما أُفيد في تقرير مذهب الأُستاذ قدس‌سره في تقريب عدم الانحلال العقلي هو عين ما ذهب إليه صاحب الحاشية. نعم هناك مطلب آخر طفحت به عبارات الحاشية وعبارات شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في هذا التقرير وغيره ، وصرّح به

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٥٤.

٢٧٢

الأُستاذ قدس‌سره كما أشار إليه في التقرير المطبوع في صيدا (١) وحرّرته عنه قدس‌سره مفصّلاً فيما حرّرته عنه قدس‌سره ، وذلك هو أنّ تحقّق العلم التفصيلي بوجوب الأقل إنّما يوجب الانحلال العقلي والرجوع إلى البراءة العقلية فيما هو الزائد على ذلك القدر المعلوم ، إذا لم يكن ذلك الزائد ممّا يتوقّف عليه الفراغ اليقيني عمّا علم وجوبه تفصيلاً وهو الأقل ، وذلك هو المفروض فيما نحن فيه ، فإنّه بعد فرض العلم التفصيلي الوجداني المتعلّق بالأقل ، يكون العقل حاكماً بلزوم الفراغ اليقيني عن ذلك المقدار الذي علم تفصيلاً ، ولا يحصل الفراغ عنه إلاّبالاتيان بذلك الزائد ، ولا يسوّغ له العقل حينئذ الاكتفاء بالخروج الاحتمالي.

قال قدس‌سره في رسالته في اللباس المشكوك التي طبعت في النجف الأشرف مع تقريرات درسه على المكاسب ص ٢٦٦ : وإمّا إن نستند في ذلك إلى خصوص ما يدلّ على البراءة الشرعية ، ونمنع عن جريان الحكم العقلي المذكور ( يعني قبح العقاب بلا بيان ) لمنع كفاية مجرّد العلم بتعلّق التكليف المذكور بالأقل في الانحلال العقلي المتوقّف عليه تمامية البراءة العقلية ، نظراً إلى أنّه بعد استقلال العقل بعدم جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية عند قطعية التكليف ، فلا يكاد أن يتمّ الانحلال العقلي بمعلومية التكليف في بعض الأطراف ، ويندرج الآخر في مجاري البراءة العقلية ، إلاّمع عدم استلزامه لهذا المحذور ، ولا يكاد يتحقّق ذلك إلاّ مع كون المعلوم التفصيلي بحيث لا يتوقّف القطع بموافقته على انضمام المحتمل الآخر إليه وإطلاقه بالنسبة إليه ، وإلاّ فمع إهماله من هذه الجهة ، وتردّده بين أن يكون بالنسبة إليه على وجه الاطلاق أو التقييد ، كما هو الحال في الارتباطيات ، فلا يكاد يتحقّق القطع بموافقة القدر الثابت مع عدم انضمام

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٩٢ ـ ٤٩٣.

٢٧٣

المحتمل الآخر إليه ، فضلاً عن أن يوجب الانحلال ، بل ليس إجمال العلم هاهنا إلاّ عبارة أُخرى عمّا ذكر من الإهمال ، فلا يعقل أن يجعل نفس القضية المهملة موجبة للانحلال (١) ، انتهى ما أفاده قدس‌سره.

وما أفاده من قوله قدس‌سره : بل ليس إجمال العلم هنا إلاّعبارة أُخرى عمّا ذكر من الاهمال ( يعني القضية المدّعى كونها تفصيلية وهي وجوب الأقل مردّداً بين كونه بنفسه أو في ضمن الأكثر ) هو المشار إليه في التقرير المزبور ، وأساس المطلب هو ما صرّح به أوّلاً من عدم الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في قبال الشغل اليقيني ، وليس المراد به الشغل اليقيني بالنسبة إلى المعلوم بالاجمال كما تضمّنه تعبير التقرير ، بل المراد به كما صرّح به بقوله : إلاّمع كون المعلوم التفصيلي الخ ، هو الشغل اليقيني بالنسبة إلى المعلوم بالتفصيل الذي هو وجوب الأقل ، فإنّه وإن كان معلوماً بالتفصيل ، إلاّ أن الاتيان به وحده لا يكون محصّلاً للفراغ عنه يقينياً ، لاحتمال وجوب الأكثر ، المفروض أنّه على تقدير كونه هو الواجب يكون وجوده شرطاً في سقوط الأمر المتعلّق بالأقل ، كما هو الشأن في الارتباطية.

وكيف [ كان ] فإنّ هذه الشبهة في عدم الانحلال العقلي قويّة ، لأنّ العلم التفصيلي إنّما يوجب الانحلال العقلي إذا أمكن الرجوع إلى البراءة العقلية فيما زاد على ذلك المقدار المعلوم بالتفصيل ، والمفروض فيما نحن فيه عدم إمكان ذلك ، لأنّ ذلك القدر المعلوم تفصيلاً قد اشتغلت به الذمّة يقيناً ، وذلك يستدعي الفراغ اليقيني حتّى عند القائلين بأنّ العلم الاجمالي غير منجّز للتكليف ، لأنّ المفروض أنّ ذلك المقدار قد وقع متعلّقاً للعلم التفصيلي ، ومقتضى العلم التفصيلي بوجوبه هو حكم العقل بلزوم الخروج اليقيني عنه ، ومع كون المورد

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٢٩٧ ـ ٣٠١ ( طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام ).

٢٧٤

مورداً لحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني وتحقّق احتمال الضرر في الفراغ الاحتمالي ، كيف يمكننا القول بأنّه يحكم بقبح العقاب على ترك ذلك الزائد بلا بيان.

وقد أجاب بعض أجلّة العصر عن هذه الشبهة فيما حرّرته عن درسه سلّمه الله (١) ، وهاك نصّ ما حرّرته : وهو أنّ الجواب يتوقّف على مقدّمات :

الأُولى : أنّ محلّ الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين ممحّض لهذه الجهة ـ أعني الارتباط ـ مع قطع النظر عن الجهات الأُخر من اعتبار الترتيب أو الموالاة بين الأجزاء ، فإنّ ذلك غير لازم للارتباطية ، إذ ربما اعتبرت الموالاة في الواجبات غير الارتباطية ، وربما اعتبر فيها الترتيب كما في صلاة الظهرين ، كما أنّه ربما لم يعتبر الموالاة في الواجبات الارتباطية كما في الغسل الترتيبي ، بل ربما لم يعتبر الترتيب فيها ، كما قيل في مسح القدمين في الوضوء ، وكما قيل به في غسل الشقّين في الغسل الترتيبي.

المقدّمة الثانية : أنّ كلّ واحد من أجزاء المركّب الارتباطي يكون بنفسه متعلّقاً للوجوب ، بلا اعتبار قيد يوجب مباينته مع الكل. وبعبارة أُخرى : إذا دار الأمر بين وجوب الأجزاء الأربعة وبين وجوب الخمسة ، فالأربعة لا يختلف حالها ، سواء كانت بنفسها متعلّقة للوجوب أو كانت في ضمن الخمسة ، بحيث إنّها على تقدير تعلّق الوجوب بها فقط لا تكون مباينة لنفسها على تقدير تعلّق الوجوب بالخمسة. وبالجملة : فالأربعة لا تكون مقيّدة بشرط لا على تقدير تعلّق الوجوب بها ، كما أنّها لا تكون مقيّدة بشرط انضمام الخامس على تقدير تعلّقه بالخمسة ، فعلى تقدير تعلّق الوجوب بالخمسة لا يكون عدم سقوطه بالاتيان

__________________

(١) بتاريخ ذي الحجّة ١٣٤٠ ه‍ ق [ منه قدس‌سره ].

٢٧٥

بالأربعة لقصور في ناحية الأربعة ، بل لقصور في ناحية الوجوب ، لعدم تناوله الأربعة في حال عدم وجود الخامس ، فيكون عدم سقوط وجوب الأربعة على هذا التقدير لأجل عدم امتثال الخامس الملازم لوجوب الأربعة ، لا لأجل عدم الاتيان بمتعلّق وجوب الأربعة.

المقدّمة الثالثة : أنّ محصّل قاعدة الاشتغال هو أنّ العقل حاكم بلزوم الاتيان بما تعلّق به التكليف ، فإنّما يجب علينا عقلاً الخروج عن عهدة التكليف بالاتيان بموضوعه ومتعلّقه ، ولا يحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الآخر الملازم للتكليف المتعلّق بالأقل على تقدير وجوب الأكثر.

إذا عرفت هذه المقدّمات تعرف أنّ الشبهة المذكورة إنّما تتمّ على تقدير كون قاعدة الاشتغال حاكمة بلزوم امتثال ما يكون ملازماً للتكليف ، أمّا إذا لم يكن محصّلها إلاّلزوم الاتيان بمتعلّق التكليف المعلوم وتحصيل القطع بحصول متعلّقه ، فلا تتمّ الشبهة المزبورة.

وحاصله : أنّه لو فرضنا كون الواجب في الواقع هو الأكثر ، فعدم سقوط الوجوب المتعلّق بالأقل عند الاتيان به لم يكن لعدم حصول متعلّقه أعني الأقل ، بل لعدم سقوط ذلك المقدار من الوجوب المتعلّق بالزائد ، لما هو مقتضى الارتباط من التلازم بين الوجوبين التحليليين الناشئ عن وحدة الوجوب المتعلّق بتلك الأشياء المتعدّدة ، فإنّ هذا ـ أعني وحدة الوجوب وعدم وحدته ـ هو المائز بين الارتباطيين والاستقلاليين ، لا أنّ كلّ واحد من أجزاء الواجب في الارتباطيات مقيّد بالانضمام دون الاستقلاليات. وإذا كان المنشأ في عدم سقوط الأقل بالاتيان بنفس الأقل ـ لو كان الواجب في الواقع هو الأكثر ـ هو عدم سقوط المقدار التحليلي من الوجوب المتعلّق بالزائد على الأقل ، ففي الحقيقة يكون عدم

٢٧٦

سقوطه بذلك ، لا من جهة عدم حصول متعلّقه ، وإلاّ لكان البعث إلى الأقل ممكناً مع الاتيان به ، ومن الواضح امتناع ذلك ، بل إنّما يكون عدم السقوط من جهة عدم حصول الأجزاء الزائدة.

وبالجملة : فعدم امتثال الأكثر تارةً يكون لعدم الاتيان بالأقل والأكثر جميعاً ، وتارة يكون لعدم الاتيان بالمقدار الزائد وإن أتى بالأقل ، ففي صورة الاتيان بالأقل لا يكون نقصان في ناحية الأقل ، وإنّما النقصان من جهة عدم الاتيان بذلك المقدار الزائد ، وحينئذ ففيما نحن فيه من العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر ، بعد فرض الانحلال وكون الأقل معلوم الوجوب تفصيلاً ، لا يحكم العقل إلاّبالفراغ اليقيني عن الأقل الذي علم اشتغال الذمّة به ، فإنّ ذلك موجب لسقوطه. انتهى ما حرّرته عنه سلّمه الله. وقد أوضح ذلك قدس‌سره في مقالتيه في مسألة التعبّدي والتوصّلي (١) ، وفي مبحث الأقل والأكثر ، فراجع (٢).

ولا يخفى أنّ الحجر الأساسي في هذه المقدّمات إنّما هو المقدّمة الثانية الراجعة إلى دعوى انحصار المائز بين الارتباطيات وغيرها في أنّ الارتباطيات يكون الوجوب فيها واحداً ، وفي غيرها يكون متعدّداً ، وأنّ الارتباطية لا توجب تقييد كلّ جزء بالانضمام إلى الجزء الآخر ، وأنّ عدم سقوط الواجب الارتباطي فيما لو أتى به فاقداً لبعض الأجزاء إنّما هو من جهة عدم امتثال الأمر الضمني المتعلّق بذلك المفقود ، لا من جهة أنّه لم يأت بالمأمور به أصلاً ، وإلاّ كان اللازم عليه التكرار ، بل من جهة أنّ عدم سقوط الأمر المتعلّق بالباقي يوجب عدم سقوط الأمر بذلك المقدار الذي قد أتى به ، لأجل الملازمة بين الوجوب من حيث

__________________

(١) مقالات الأُصول ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٢٧٧

الحدوث والبقاء.

ولكن الظاهر أنّ هذه المقدّمة لا يمكن إثباتها ، لأنّ المأتي به إذا لم يكن فيه خلل لا يعقل عدم سقوط أمره ، فإنّ الاتيان بمتعلّق الأمر علّة تامّة لسقوطه ، فلا يعقل بقاؤه ما لم يكن الباقي قيداً في صحّة المأتي به.

ولا يخفى أنّ جهة التلازم بين الوجوبين في مرحلة الحدوث والبقاء وإن أوجبت توقّف سقوط الوجوب عمّا أتى على الاتيان بالباقي ، إلاّ أن هذه الجهة ـ أعني جهة التلازم بين الوجوبين ـ لمّا كانت ناشئة عن وحدة الوجوب الناشئة عن وحدة المتعلّق ، التي ليست هي إلاّ اعتبار كون مجموع تلك الأجزاء شيئاً واحداً الذي ليس هو إلاّعبارة عن كون كلّ من الأجزاء مقيّداً بوجود الجزء الآخر ، كان الأمر بالأخرة منتهياً إلى أنّ المنشأ في عدم سقوط الوجوب عمّا أتى به هو كون كلّ من تلك الأجزاء مقيّداً بالباقي.

وبالجملة : أنّ الارتباطية توجب تقييد بعض الأجزاء ببعض ، بحيث إنّه يكون فقدان المركّب لبعض الأجزاء موجباً للنقص بالأجزاء الموجودة على وجه لا تكون مسقطة للأمر المتعلّق بها نفسها ، وغاية ذلك هو أن يكون المتأخّر من الأجزاء شرطاً في صحّة المتقدّم ، فيكون كسائر ما ظاهره من قبيل الشرط المتأخّر حتّى أنّ بعض الأساطين التزم بأنّ امتثال الأمر المتعلّق بمجموع الصلاة لا يكون إلاّ عند الفراغ من ميم السلام عليكم ، وقد تعرّض لذلك شيخنا الأُستاذ الأعظم قدس‌سره في بعض مباحث الواجب المعلّق والمشروط (١).

ومن ذلك يتّضح أنّ الارتباطية بهذا المعنى من تقييد بعض الأجزاء ببعض

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : ٩٣ وما بعدها ، وكذا راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٥ وما بعدها.

٢٧٨

وعدم سقوط الأمر المتعلّق بالأوّل إذا لم يأت بالثاني ، لا يوجب التكرار في الأوّل بل إنّ الأمر المتعلّق بالأوّل يكون سقوطه معلّقاً على الاتيان بالثاني ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون الثاني شرطاً في الأوّل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو التزمنا بما أفاده من معنى الارتباطية ، الذي هو التلازم بين الوجوبين في مرحلة الحدوث والبقاء ، من دون أن يكون الجزء الخامس شرطاً في الأجزاء الأربعة ، لم نتخلّص من الشبهة ، إذ لا يكون الاقتصار على الأقل إلاّمن قبيل الشكّ في سقوط الأمر المتعلّق بذلك الأقل ، لأنّ المفروض أنّه لو كان الخامس واجباً في الواقع ، لكان الأمر بالأربعة عند عدم الاتيان به باقياً بحاله لم يسقط إلاّعند الاتيان بالخامس.

ثمّ إنّك حيث قد عرفت أنّ الارتباطية توجب تقييد كلّ من الأجزاء بالبواقي يتّضح لك أنّ الارتباطية في الأجزاء محتاجة إلى تصرّفين : أحدهما جعل وجوب الجزء أو جعل الجزء ، والآخر جعل وجوب الارتباط بين هذا الجزء وبين غيره من الأجزاء ، أو جعل شرطية الارتباط المذكور ، من دون فرق في ذلك بين أن يتصدّى ابتداءً لجعل شرطية الارتباطية ، أو أنّه يعلّق به الأمر الشرطي ، أو أنّه يأمر بالمركّب الواجد لذلك الشرط ، أو أنّه يكون منتزعاً من جعل الوجوب الواحد وارداً على تمام الأجزاء المنظورة بعنوان الوحدة ، أو غير ذلك من الطرق التي ينتزع منها الشرطية.

والحاصل : أنّ كلّ واحد من أجزاء الواجب الارتباطي يتحمّل تكليفين : التكليف المتعلّق به في ضمن الكل ، والتكليف المتعلّق بربطه بباقي الأجزاء وربط باقي الأجزاء به ، بحيث يكون الجزء مأموراً به من حيث نفسه ولو ضمناً ، ومأموراً به من حيث إنّ وجوده يكون شرطاً في صحّة باقي الأجزاء.

٢٧٩

نعم ، إنّ ما هو الشرط في الواجبات الارتباطية مثل الطهارة في حال الصلاة مثلاً لا يتحمّل إلاّوجوباً واحداً ، وهو وجوبه من حيث إنّ وجوده يكون شرطاً في صحّتها ، وذلك هو عين الارتباطية.

وحاصل الفرق : أنّ وجوب الجزء لمّا لم يكن عين الارتباطية ، كانت ارتباطيته محتاجة إلى جعل آخر ، أمّا وجوب الشرط فإنّه لمّا كان عين الارتباطية لم يكن محتاجاً إلى جعلين.

ولا يخفى أنّ عمدة النظر في المقام إنّما هو إلى جعل الارتباطية ، الذي هو الجعل الثاني في الأجزاء والجعل الوحيد في الشرائط ، فإنّ هذا الجعل والتقييد هو المنشأ في الإشكال السابق ، أعني كون المقام من قبيل الشكّ في الامتثال ، وأنّه لا يسوّغ لنا العقل الموافقة بالاحتمال بعد إحراز الشغل اليقيني على ما عرفت تفصيله في الشبهة المتقدّمة.

وحينئذ نقول بعونه تعالى في حلّ الشبهة المرقومة : إنّ الواجب الارتباطي المردّد بين كونه أربعة أجزاء أو خمسة أجزاء ، لو كان في الواقع مركّباً من خمسة أجزاء ، يكون الجزء الخامس واجباً بوجوبين : أحدهما الجزئي المعبّر عنه بالوجوب النفسي الضمني ، والآخر الوجوب الشرطي المعبّر عنه بالوجوب الغيري المقدّمي ، بل يمكن القول بأنّ الوجوب الثاني أيضاً وجوب نفسي على ما حقّقه الأُستاذ قدس‌سره في مبحث مقدّمة الواجب (١) من كون الشروط ممّا يترشّح عليها الوجوب النفسي.

ولا يخفى أنّ الوجوب الثاني للجزء المذكور وإن كان بعد فرض الارتباطية

__________________

(١) راجع مبحث الواجب النفسي والغيري في أجود التقريرات ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، وراجع أيضاً المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٩٦ وما بعدها.

٢٨٠