أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

لما دلّ على أنّ المؤمن لا يجوز لعنه ، وليس ذلك بأعظم من مسألة تترّس الكفّار بالمسلمين ، وهكذا الحال في أمره لنا بلعنهم فإنّه كأمره بقتلهم يكون آبيا عن التخصيص بالمرّة.

ولكن هذه الطريقة لا تخلو عن مجازفة فإنّه بالضرورة لا يجوز لعن المؤمن ، وليس ذلك من قبيل التترّس فإنّه جائز لأجل المصلحة الأهمّ ، بخلاف مسألة اللعن ، فالأولى الالتزام بأنّ ذلك المؤمن خارج عن عموم لعنه عليه‌السلام لهم ، أو نقول باستكشاف كونه غير مؤمن حقيقة وإن كان بحسب الصورة الظاهرية مؤمنا ، أو نقول إنّه وإن لم يكن الاخراج تخصيصا اصطلاحا إلاّ أنّه يجري مجراه عملا ، فلو قال اللهمّ العن بني أميّة إلاّ فلانا كان في الحقيقة إخراجا من العمل ، نظير ما لو قتلهم بعد إخراجه منهم ، وحينئذ نقول لو فرضنا أنّ فلانا كان مؤمنا فقد أخرجه الإمام عليه‌السلام من دعائه ومن مورد الأمر باللعن فلاحظ.

وأمّا الأمثلة العامّة مثل أكرم جيراني ونحوه ، فكلّها راجعة إلى جهل الآمر على وجه لا يمكنه أن يحتجّ على المأمور بأنّك لم أكرمت فلانا الجار مع علمك بأنّه عدوي ، وأنّي لا أريد اكرام عدوّي ، ولا يكون قوله أكرم جيراني مع فرض جهله بأنّ فلانا الجار عدو له إلاّ كاقدامه هو على إكرامهم في أنّ ادخال ذلك الشخص فيهم لا يكون إلاّ من باب الجهل الصرف من دون أن يكون في البين تخصيص أصلا ، وليس ذلك إلاّ من قبيل ما لو أمره باكرام زيد وكان المأمور يعلم أنّ زيدا عدو له وأنّه يمنع من إكرام عدوّه أشد [ المنع ] فلو فعله المأمور لم يكن للآمر عليه حجّة في ذلك ، ولم يكن ذلك إلاّ من قبيل ما لو أقدم هو على إكرام ذلك الشخص ، ولا فرق بينهما غير أنّ ذلك تناقض في الارادة وهذا تناقض في العمل ، بمعنى أنّ عمله كان مناقضا لارادته النفسانية أو البارزة بقوله لا تكرم

٢٢١

عدوّي ، ولم يكن المنشأ في ذلك التناقض إلاّ جهل الآمر. وليس له في ذلك حجّة على المأمور إلاّ بأحد وجهين : أوّلهما أن يكون هذا الأمر مشتملا على التقييد ، بمعنى أنّ قوله أكرم زيدا أو أكرم هؤلاء أو جيراني يكون مقيّدا بقوله إن لم يكن عدوا. ثانيهما : أن يكون قوله الناشئ عن الجهل بمنزلة قول السكران والنائم لا يجوز للمأمور أن يأخذ به ويحتجّ به على الآمر ، ولأجل ذلك نقول إنّه لو (١) أمره بقتل هذا الشخص وكان هو متخيلا أنّه عدوّه مع كونه في الواقع أخاه أو ابنه ، أو أمره بقتل جماعة فيهم ابنه وهو لا يعلم ، وعلى أي حال يكون خارجا عمّا نحن فيه ، أمّا الثاني فواضح ، لما عرفت من كونه حينئذ ملحقا بكلام النائم والسكران ، وأمّا الأوّل فلأنّ ذلك التقييد يخرجه عمّا هو محلّ الكلام الذي عنونه الشيخ قدس‌سره بقوله : إذا علم تخصيص العام بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم (٢).

وحاصل الإشكال : هو أنّ من علمنا بعداوته لا شكّ في عدم خروجه عن قوله أكرم جيراني إذا كان المتكلّم جاهلا بعداوته ، بل يكون الحكم بوجوب الاكرام فيه واردا على ذلك العدو ، كما لو أنّ المتكلّم بنفسه أقدم على إكرامهم جميعا أو قتلهم جميعا في صورة ما لو قال اقتل هؤلاء جميعا مع فرض كون بعضهم أخاه أو ابنه ، فإذا كان هذا حال صورة العلم بالخلاف وأنّها أجنبية عن التخصيص ، فخروج حال صورة الشكّ في ذلك بطريق أولى. وربما يتّفق مثل ذلك فيما لو كان الآمر عالما بوجود العدو لكن أمر باكرام الجميع احتراما وإن دخل فيهم من لا يستحقّ الاكرام ، كما لو أمر الشارع باحترام الذرّية مع العلم بأنّ البعض ليس أهلا لذلك إلاّ أنّه مع ذلك يجب احترامه احتراما له صلى‌الله‌عليه‌وآله أو للأغلب

__________________

(١) [ لم يذكر جواب « لو » في العبارة ، لكنّ المعنى واضح ].

(٢) مطارح الأنظار ٢ : ١٤٣.

٢٢٢

منهم.

ولا فرق في ذلك بين كون القضية خارجية وكونها حقيقية ، وإن كانت قضايا القسم الثاني بالقضايا الخارجية أشبه منها بالقضايا الحقيقية.

ومن ذلك يتّضح لك ما في الحاشية على ص ٤٧٥ (١) وما بعدها من الحواشي فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا إذا كان بمعنى إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، أو قام الإجماع على كونه ملاكا من دون تقييد موضوع الحكم به لعدم صلاحية تقيّد موضوع الحكم بما هو ملاكه ... الخ (٢).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ الغرض من الملاك في هذا المقام إن كان هو عبارة عن حكمة التشريع ، لم يكن تخلّفها موجبا للتخصيص لعدم اطرادها ولا انعكاسها ، وإن كان عبارة عن علّة الحكم كانت من قيود الموضوع لا محالة ، لأنّ الضابط فيها هو كونها صالحة لأن تلقى إلى المخاطب عنوانا كلّيا ، والظاهر أنّ الشقاوة من هذا القبيل.

وإن كان الغرض من الملاك هو المصالح والمفاسد التي تكون الأحكام تابعة لها عند العدلية كما يشهد به قوله : لعدم صلاحية تقيّد موضوع الحكم بما هو ملاكه ، فهي أجنبية عن باب التخصيص بالمرّة ولا ربط لها بالمكلّف ، ولا أثر

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٤٣ من الطبعة الحديثة.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ، وقد وردت هذه العبارة في ضمن المتن المتقدّم في صفحة : ٢١٢ ، كما سيأتي التعليق على هذه العبارة بصياغتها الجديدة في الصفحة : ٢٣٢ ].

٢٢٣

لشكّ المكلّف في تحقّق المصلحة في هذا الفرد وعدم تحقّقها ، بل لا معنى لأن يقول المكلّف إنّ هذا الفرد الفلاني خارج لعدم تحقّق مصلحة الحكم فيه ، إذ لا طريق له إلى العلم بذلك ، وإلاّ لصحّ لكلّ مبدع أن يقول إنّي أقطع بعدم المصلحة في بقاء الحكم ، كما ادّعى من يقول بحلّية الربا مثلا في هذا الزمان ، وكما لو ادّعى عمر بأنّه يقطع بانقضاء مصلحة حلّية المتعة كما نقل عنه في الهرولة بين الصفا والمروة.

نعم ، هنا مطلب أشار إليه شيخنا قدس‌سره (١) وهو أنّ التخصيص في مثل ذلك يكون أفراديا بالنسبة إلى من علم بعداوته ، وأمّا من شكّ في عداوته فهو وإن لم تقم عليه حجّة في قبال العام إلاّ أنّه يمكن التمسّك فيه بالعموم ، لأنّه لو كان عدوا لكان خارجا وكان تخصيصا زائدا ، بخلاف المخصّص اللفظي على ما عرفت من أنّه بعد سقوط حجّية الخاصّ فيه لا يمكن الرجوع فيه إلى العام لعدم كونه تخصيصا زائدا على ما تكفّله قوله لا تكرم فسّاق العلماء ، لكن يمكن التأمّل في ذلك أيضا ، وأنّ العلم بأنّه لا يريد العدو يكون موجبا لتقيّد العام بعدمه ، فلا يكون خروجه حينئذ تخصيصا زائدا ، فتأمّل ، هذا.

ولكن شيخنا قدس‌سره فرض في أصل المسألة فروضا لو سلّمت لم يكن التخصيص فيها إلاّ أفراديا ، وذلك لأنّه فرض أنّ الحكم الوارد على العام إنّما ورد عليه لملاك ، وأنّ موضوع ذلك العام لا يمكن أن يكون مقيّدا بوجود ذلك الملاك ، وأنّ هذا الملاك قد اطّلع المكلّف على أنّه لم يكن موجودا في هذا الفرد ، وبعد تسليم هذه المقدّمات لا بدّ أن يكون التخصيص أفراديا ، ولا يكون الخارج إلاّ ذلك الفرد الذي لم يكن الملاك متحقّقا فيه ، من دون أن يكون موجبا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٥.

٢٢٤

لتقيّد ذلك العام بوجود الملاك ، ولازم ذلك أنّا إذا شككنا في فرد أنّه هل الملاك موجود فيه ، يكون الشكّ بالنسبة إلى ذلك الفرد شكّا في التخصيص ، وبعد إجراء العموم فيه يكون أصالة عموم العام فيه كأمارة على وجود الملاك فيه ، وحينئذ لا يرد عليه ما في الحاشية (١) من أنّ انعدام الملاك في فرد لا بدّ أن يكون لخصوصية فيه ، فيكون عدم تلك الخصوصية قيدا في العام ، فإنّ ذلك وإن كان مسلّما إلاّ أنّه قدس‌سره قد سدّ هذا الباب ، بالمقدّمة القائلة بأنّ الحكم يستحيل أن يتقيّد وجودا أو عدما بما هو راجع إلى ملاكه.

نعم ، يرد عليه المنع من هذه المقدّمة وغيرها ممّا قد عرفته. مضافا إلى أنّ الالتزام بكون التخصيص أفراديا وأنّ كلّ واحد من تلك الأفراد المنعدم فيها يكون خارجا خروجا مستقلا ، يوجب الالتزام بخروج المورد عن كونه من قبيل الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ويدخلها في باب الشكّ في أصل التخصيص على نحو الشبهة الحكمية ، لرجوع الشكّ حينئذ إلى أنّ هذا الفرد هل هو خارج عن العموم خروجا مستقلا أو أنّه غير خارج عنه ، ولا ريب حينئذ في أنّ المرجع هو أصالة العموم وعدم التخصيص بالنسبة إلى ذلك الفرد المشكوك خروجه ، فتأمّل.

ينبغي مراجعة ما أفاده قدس‌سره في الجزء الثاني في مسألة عدم منجّزية العلم الاجمالي عند كون بعض أطرافه خارجا عن الابتلاء ، وأنّه لو حصل الشكّ في كون هذا الطرف خارجا عن الابتلاء ، فإنّه قدس‌سره على ما في تحريرات السيّد سلّمه الله (٢) صرّح بكون الخروج عن الابتلاء وإن كان موجبا لسقوط التكليف بحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٤٣.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٣ وما بعدها.

٢٢٥

العقل إلاّ أنّه من قبيل القيود الراجعة إلى الملاك لا من قبيل ما يرجع إلى التصرّف في موضوع الحكم ، فراجع وراجع ما علّقناه (١) هناك على ذلك المقام.

وقد يقال : إنّ ملاك الحكم هو علّته ، ونحن إذا علمنا بعدم الملاك في فرد فقد علمنا بعدم الحكم فيه ، أمّا الفرد الذي احتملنا فيه وجود الملاك فلنا استكشاف الملاك فيه من عموم الحكم ، ويكون الانتقال من الحكم إلى وجود ملاكه انتقالا إنّيا نظير انتقالنا من الحكم الشرعي في مورد إلى تحقّق المصلحة في ذلك المورد بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح الواقعية ، وأمّا مسألة الصحيح والأعمّ فإنّ الأمر فيها بالعكس ، بمعنى أنّ وجود الأمر في هذه الصلاة يكون علّة في الحكم بصحّتها ، كما أنّ عدم الأمر بها يكون علّة في فسادها ، فعند وجود الأمر بالعبادة ننتقل إلى معلوله وهو الصحّة ويكون الانتقال لمّيا ، وإطلاق الأمر أو عمومه كاف في إثباته في مورد الشكّ وهو علّة في الحكم بصحّته ، فليس شيء من المسألتين من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية.

نعم [ يرد ] على الصورة الأولى أنّه لا طريق لنا إلى إحراز عدم تحقّق الملاك في مورد لنحكم بعدم تحقّق الحكم فيه.

تنبيه : قد يقال إنّ دليل حجّية خبر العادل مثلا عام ، وقد خرج منه الخبر الذي عورض بما هو أقوى منه سندا ، وعند الشكّ في كون هذا الخبر القائم على الحكم الفلاني هل له معارض ، يكون التمسّك بدليل الحجّية على حجّية ذلك الخبر تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية ، وهكذا فيما دلّ على حجّية العموم مثلا فإنّه قد خرج منه العام الذي يكون له مخصّص ، فإذا شككنا في أنّ هذا العام

__________________

(١) في أواخر المجلّد السابع في الحواشي على فوائد الأصول ٤ : ٥٥ وما بعدها.

٢٢٦

القائل بأنّه يجب إكرام العلماء هل له مخصّص ، يكون التمسّك بما دلّ على حجّية العموم على حجّية هذا العام تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية. وهكذا الحال في العموم القائل إنّ فتوى المجتهد حجّة على العامي ، فإنّه قد خرج منه ما لو كانت للأعلم فتوى مخالفة لفتوى هذا المجتهد ، فلو أفتى غير الأعلم بفتوى يكون التمسّك بذلك العموم على حجّيتها تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية.

ففي أمثال هذه الموارد يكون عموم دليل الحجّية ساقطا لكونه تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية ، من دون حاجة إلى ما أفادوه في برهان وجوب الفحص عن المعارض وعن المخصّص وعن فتوى الأعلم من التمسّك بأذيال العلم الاجمالي أو المعرضية ، كما أنّه بناء على ذلك لا يكون الفحص وعدم العثور نافعا في جواز الرجوع إلى عموم دليل الحجّية ، لأنّ ذلك لا يخرج المسألة عن كونها من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية.

والجواب عن هذا الإشكال : هو أن يقال إنّ خروج العام المخصّص والخبر المعارض والفتوى المعارضة بفتوى الأعلم عن عمومات دليل الحجّية ليس من قبيل المخصّص اللفظي ، بل إنّ ذلك الخروج من قبيل المخصّصات اللبّية ، وبعد البناء على أنّه لا مانع من التمسّك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية من ذلك ، يكون اللازم هو الرجوع إلى عمومات دليل الحجّية في آحاد تلك الحجج ، وحينئذ لا يجب الفحص في إجراء حكم العام على أيّ واحد منها ، وإنّما نقول بوجوب الفحص فيها من جهة العلم الاجمالي بأنّ بعض الأخبار لها معارض وبعض العمومات لها مخصّص ، وبعض الفتاوى من غير الأعلم لها معارض وهو فتوى الأعلم ، أو من جهة المعرض في كلّ واحد من هذه الأمور ، ولأجل ذلك احتجنا في العمل بهذه الحجج الفعلية إلى الفحص عن المعارض.

٢٢٧

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ القائل بجواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لفظيا مثل ما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم فسّاق العلماء ، وقد شككنا في كون زيد العالم فاسقا ، ينبغي أن يقول باجراء حكم العام عليه بدون توقّف على فحص إلاّ من جهة العلم الاجمالي بفسق بعض العلماء ، أو من جهة المعرضية إن اتّفق أنّ المورد من هذا القبيل ، فراجع وتأمّل ، هذا.

ولكن يمكن القول بأنّ هذه المقامات وإن كان المخصّص فيها لبّيا إلاّ أنّا لمّا لم نفرّق بينه وبين المخصّص اللفظي في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لزمنا أن نقول إنّ ذلك يوجب الفحص ، والفحص يكون موجبا للاطمئنان بعدم كون المورد من مصاديق الخاص ، فيكون الفحص موجبا لخروج المورد عن الشبهة المصداقية ، كما أنّه يوجب خروجه عن المعرضية أو عن دائرة العلم الاجمالي ، أو نقول إنّ هذه الموارد ليست من باب التخصيص بل هي من باب تزاحم الحجّتين وتقدّم ما هو الأقوى ، وقد استقرّ بناء العقلاء على الأخذ بما ينبغي الأخذ به عند عدم إحراز المزاحم ، وليس ذلك من باب أصالة عدم التخصيص ولا من باب أصالة عدم المانع ، فلاحظ.

ويمكن تخريج المسألة على أصالة عدم المعارض بناء على أنّه يكفي في حجّية هذا الخبر وجوده وعدم وجود ما هو الأقوى منه أو عدم وجود معارضه ، فتكون المسألة من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان وإحراز الجزء الآخر بالأصل ، فتأمّل.

وما هذا الإشكال في المقام إلاّ كما إذا قيل إنّ الغريق لو ابتلي بمزاحم أهمّ يكون خارجا عن عموم انقذ كلّ غريق ، ومع الشكّ في وجود الأهمّ يكون

٢٢٨

التمسّك في هذا الغريق بعموم انقذ كلّ غريق من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية. وهكذا الحال في جميع الواجبات فإنّا لو التزمنا بأنّ المزاحم يخرجها عن عموم الوجوب ، يكون التمسّك بعموم وجوبها في مقام احتمال المزاحم من قبيل التمسّك به في الشبهة المصداقية ، والجواب واحد وهو المنع من كون التزاحم من باب التخصيص.

قوله في الكفاية طبع بغداد ص ١١٥ : والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجّيته إلاّ فيما قطع أنّه عدوّه لا فيما شكّ فيه ... الخ (١).

لا يخفى أنّ القطع بأنّ المولى لا يريد إكرام العدو الواقعي يوجب القطع بخروج العدو الواقعي ، وذلك موجب لانقطاع حجّية العام بالنسبة إلى العدو الواقعي ، ولا وجه لانحصار سقوط حجّيته بخصوص من قطع بعداوته ، وليس سقوط حجّية العام فيما يكون المخصّص لفظيا إلاّ من هذه الجهة ، أعني من جهة كشف الخاص عن أنّ المتكلّم لا يريد بالعام ذلك النوع من الخاص ، وحينئذ يكون سقوط العام في صورة القطع بأنّه لا يريد الخاص أولى من سقوطه في قبال الخاص اللفظي ، لأنّ هذا الكشف بالتعبّد وذاك بالقطع.

لا يقال : إنّ القطع بأنّه لا يريد إكرام العدو لا يوجب القطع بالتخصيص باخراج البعض ، لجواز أن لا يكون فيهم عدو ، وحينئذ فلا يحصل القطع بالتخصيص والخروج إلاّ بالنسبة إلى من حصل القطع بعداوته.

لأنّا نقول : إنّ قوله لا تكرم فسّاق العلماء أيضا لا يوجب العلم التعبّدي بالتخصيص ، لجواز أن لا يكون فيهم فاسق ، لأنّ قضية الخاص كقضية العام قضية تعليقية ، فكما أنّ محصّل القطع المزبور هو أنّه لا يريد إكرام الجار لو كان عدوّا ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٢.

٢٢٩

فكذلك محصّل ذلك الدليل اللفظي هو أنّه لا يريد إكرام العالم لو كان فاسقا ، وكما يقال إنّ قوله لا تكرم فسّاق العلماء منوّع ، فكذلك يقال إنّ القطع بأنّه لا يريد إكرام العدو منوّع للعام ، بمعنى أنّا نقطع بأنّه لا يريد العدو منهم وأنّه يريد الصديق منهم أو غير العدو.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّه لا أثر في الجهة التي نحن فيها لوجود الحجّة اللفظية الخاصّة في قبال العام ، لأنّ المدار إنّما هو على كون المتكلّم لا يريد ذلك البعض ، لا على خصوص وجود حجّة لفظية أخرى على خلافه.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله قدس‌سره : فإنّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلا بدّ من اتّباعه ما لم تقم حجّة أخرى على خلافه ، الخ (١). حيث قد ظهر لك أنّه لا خصوصية لقيام حجّة أخرى ، بل المدار على حصول العلم أو ما يقوم مقامه على أنّ المتكلّم لم يرد ذلك الخاص.

ولو قيل : إنّ القطع بأنّه لا يريد إكرام عدوّه لا يوجب القطع بأنّه لا يريد المشكوك ، وحينئذ يكون العام محكّما فيه لعدم وجود حجّة أخرى في خلافه.

لقلنا : إنّ قيام الحجّة اللفظية على أنّه لا يريد الفاسق الواقعي لا يوجب قيام الحجّة على أنّه لا يريد هذا المشكوك ، وما هو إلاّ الاحتمال وهو متحقّق في المقامين ، وكما أنّ إسقاط أصالة العموم في مشكوك الفسق لكونها لا تدفع تخصيصا زائدا ، فكذلك هي في مشكوك العداوة أيضا لا تدفع إخراجا زائدا على ما علمناه من أنّه لا يريد إكرام العدو. ولعلّ المراد هو أنّ القطع بأنّه لا يريد العدو يوجب خروج من قطع بعداوته من جهة كونه مقطوع الخروج ، وبعبارة أخرى أنّ الخارج هو المقيّد بالقطع ، وحينئذ يكون مشكوك العداوة بمنزلة مشكوك القطع

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٣.

٢٣٠

وهو لا يزيد على الشكّ. وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الخارج بالقطع هو العدو الواقعي لا العدو المقيّد بالقطع كي يكون مشكوك العداوة مشكوك القطع ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ الذي حرّره في المقالة هو عين ما حرّره في الكفاية ، فلا حاجة إلى نقل ما أفاده في المقالة ص ١٥١ (١).

ومن جملة ما حرّره هنا قوله : ومن البديهي أنّ القطع بكلّ عنوان لا يسري إلى مصداقه المشكوك ، فبالنسبة إلى المصاديق المشكوكة لا يكون في البين حجّة على خلاف العام واقعا ، فلا قصور حينئذ في تطبيق الحجّة على المورد الخ (٢).

وفيه : ما عرفت من أنّ القطع بعدم إرادة العدو الواقعي يوجب قصر حجّية العام على من عداه فتقف حينئذ حجّية العام في مقام الشكّ بلا أن يكون في ذلك المقام حجّة فعلية على خلافها.

قوله قدس‌سره في الكفاية : بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظيا ، فإنّ قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأنّه كان من رأس لا يعمّ الخاصّ ـ إلى قوله ـ والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجّيته إلاّ فيما قطع أنّه عدوّه لا فيما شكّ فيه ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ مجرّد كون العام الملقى في المخصّص اللفظي كأنّه لا يعمّ الخاصّ من رأس لا يوجب سقوط العموم في الشبهة المصداقية ما لم ينضمّ إليه باقي الجهات المتقدّمة الموجبة لعدم إمكان التمسّك.

ولا يخفى أنّ القطع بعدم إرادة العدو في المخصّص اللبّي لا يوجب خروج

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة ، راجع الطبعة الحديثة من مقالات الأصول ١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(٢) مقالات الأصول ١ : ٤٤٤.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٢.

٢٣١

العدو بما أنّه مقطوع الخروج كي يكون ما شكّ في عداوته من قبيل ما شكّ في كونه مقطوع الخروج الذي هو عبارة عن الشكّ في الخروج المصحّح للتمسّك بالعموم ، بل إنّ القطع بخروج العدو يكون موجبا لخروج العدو الواقعي كالقطع التنزيلي الحاصل من الدليل اللفظي القائل لا تكرم عدوّي منهم ، وحينئذ يكون الباقي تحت العام في صورة القطع الوجداني بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، هو ما عدا العدو من جيرانه ، فيكون حاله حال المخصّص اللفظي في كون الباقي هو ما عدا الخاصّ ، فلم يظهر الفرق بين النحوين ، نعم إنّ التفرقة العقلائية والسيرة العقلائية فارقة ، لكنّها محتاجة إلى إثبات ، فتأمّل.

قول شيخنا قدس‌سره وأمّا إذا كان المراد من المخصّص اللبّي إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، إمّا بنفسه أو لأجل قيام الإجماع على ذلك من دون أن يتقيّد موضوع الحكم به ، لعدم صلوح تقيّد موضوع الحكم بما هو ملاكه ... الخ (١).

إن كان المراد بالملاك هو المصالح والمفاسد ، أعني به الغاية المترتبة على مثل وجوب الصلاة من كونها ناهية عن الفحشاء مثلا ، فذاك وإن لم يكن صالحا لأخذه في موضوع الحكم ، إلاّ أنّ الشارع الحكيم لا بدّ أن يجعل موضوع حكمه مطابقا لتلك المصلحة التي يتوخّاها ولو باعتبار غلبة النهي عن الفحشاء.

وإن كان المراد من الملاك علّة الحكم كما يظهر من جعله النصب علّة في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٣ [ المتن المنقول هنا موافق للنسخة الحديثة من أجود التقريرات ، وقد تقدّم التعليق على هذا المتن بصياغته الموجودة في النسخة القديمة غير المحشاة في الصفحة : ٢٢٣ ، كما ورد هذا المتن بصياغته القديمة في ضمن المتن المتقدّم في الصفحة : ٢١٢ ].

٢٣٢

وجوب لعن بني أميّة ، فذلك عبارة أخرى عن كون الموضوع هو الناصبي ، نظير كون المسكر علّة في حرمة شرب الخمر ، فهل ترى من نفسك أن تقول إنّ ما قطعنا بعدم إسكاره خارج عن عموم حرمة شرب الخمر ، وأنّ ما شككنا في إسكاره يكون داخلا ، ومن دخوله نستكشف أنّه ليس بمسكر (١) ولو أرجعنا الاسكار إلى التجنّب عن الاسكار كان راجعا إلى القسم الأوّل أعني ما يكون غاية للحكم.

قوله : وهو أنّ الفرق بين الفحص هنا وبين الفحص في الشبهات البدوية ، هو أنّ الفحص في المقام إنّما هو عمّا يزاحم الحجّة ، بداهة أنّ الظهور في الكلام يتمّ بعدم القرينة المتّصلة وهو مقتض للعمل به ... الخ (٢).

الأولى في المقام هو التفصيل بأن يقال : إنّ الكلام تارة يكون عن نفس المتفحّص عنه ، وأنّه على تقدير وجوده يكون مانعا من الأصل أو أنّه يكون موجبا لانعدام مقتضى الأصل. وأخرى يكون عن حال الأصل قبل الفحص ، وأنّ سقوطه في ذلك الحال هل يكون لأجل المانع ، أو أنّ سقوطه لأجل عدم المقتضي.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فحاصله : أنّ المتفحّص عنه في باب الأصول اللفظية إنّما هو المزاحم لما بأيدينا من الظواهر ، وفي باب الأصول العملية إنّما هو الوارد أو الحاكم على ما بأيدينا من الأصول العملية ، وعلى الظاهر أنّه ليس كلّ منهما من قبيل المانع ، فإنّ الخاص ليس بمانع من حجّية العام وإنّما هو مزاحم ، ومن الواضح أنّ المزاحم إنّما يكون في رتبة المزاحم لا أنّ عدمه من مقدّماته ،

__________________

(١) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والصحيح : أنّه مسكر ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٣٣

وإلاّ لكان عدم أحد الضدّين المتزاحمين من مقدّمات وجود الضدّ الآخر كما حقّق ذلك في مبحث الضدّ (١).

وأمّا الدليل على التكليف بالنسبة إلى الأصل النافي له فهو على تقدير وجوده يكون رافعا لموضوع الأصل العملي. هذا بالنسبة إلى نفس المتفحّص عنه الذي هو المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني ، أعني سقوط الأصل قبل الفحص وعدم حجّيته ، فهل يكون ذلك من باب عدم المقتضي أو من باب وجود المانع ، فإن استندنا في عدم الحجّية قبل الفحص إلى العلم الاجمالي ، فهو على الظاهر من باب وجود المانع ، لأنّ العلم الاجمالي على خلاف مقتضى الأصل مانع من الرجوع إليه ، من دون فرق في ذلك بين الأصول اللفظية والأصول العملية. نعم لو استندنا في الأصول اللفظية إلى المعرضية وفي الأصول العملية إلى القيام بما هو وظيفة العبودية ، كان سقوط الأوّل لوجود المانع وهو المعرضية ، وسقوط الثاني لعدم المقتضي.

وربما يتوهّم أنّ سقوط الأوّل لعدم المقتضي أيضا ، لأنّ المعرضية توجب عدم انعقاد الظهور أو لا أقل من عدم حجّيته في الكشف عن المراد.

ولكن لا يخفى أنّ الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّ عدم انعقاد الظهور أو عدم الحجّية لم يكن لقصور في المقتضي وإنّما هو لأجل المانع ، وهو كون الكلام في معرض التخصيص بواسطة كون ديدن ذلك المتكلّم الخاصّ على الاعتماد على ما يأتي من القرائن المنفصلة.

ثمّ إنّ كون سقوط الأصول العملية قبل الفحص من باب عدم المقتضي

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ١٠ وما بعدها ، وراجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب الصفحة : ١١٤ وما بعدها.

٢٣٤

واضح لو كان المدرك فيه هو ما عرفت الاشارة إليه وهو مقتضى العبودية ، أمّا لو كان المدرك فيه هو الإجماع أو الاخبار فيمكن القول بأنّ ذلك لأجل المانع الذي هو الإجماع والاخبار المشار إليها ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ ذلك أيضا من باب عدم المقتضي ، لأنّ الأخبار والإجماع يوجبان تقييد مجرى الأصل ، فيكون انعدام القيد عبارة عن انعدام المقتضي الذي هو أصل الحجّية.

وعلى كلّ حال فالأمر هيّن لكونه راجعا إلى التسمية ، ولا أظنّ أنّ في البين أثرا يترتّب عليه. وما أدري ما الداعي لشيخنا قدس‌سره لتحرير هذه المقدّمة ، وأي دخل لها فيما رتّبه عليها ، وكأنّه تبع في ذلك لما في الكفاية (١) حيث إنّه بعد الفراغ عن الكلام على وجوب الفحص ذكر إيقاظا حاصله : الفرق بين وجوب الفحص في الأصول اللفظية وأنّه عن المزاحم ، وفي الأصول العملية حيث إنّ العقل بدونه لا يستقلّ بقبح العقاب والنقل مقيّد بالإجماع ، وظنّي أنّ ما صنعه في الكفاية من تأخير هذا البحث وجعله إيقاظا وتنبيها بعد الفراغ من أصل برهان وجوب الفحص أولى من جعله مقدّمة ، لأنّ هذا البحث لا يتّضح إلاّ بعد الفراغ عن أصل المسألة وأنّ مدرك وجوب الفحص ما ذا.

قوله : مانعة الخلو (٢).

يعني بالمعنى الأعمّ ، وإلاّ ربما كانت قضية العلم الاجمالي منفصلة حقيقية كما لو علم بنجاسة أحد الإناءين وطهارة الآخر.

قوله : قضية متيقّنة إلى قضية مشكوكة ... الخ (٣).

العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر صورة علم اجمالي ، وإلاّ ففي

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٣٥

الحقيقة هو علم تفصيلي في شيء وشكّ بدوي في آخر كما يتّضح ذلك فيما لو كان المعلوم شخصيا ، كما لو كانت أمامك إناءات متعدّدة ووقعت نجاسة في أحدها المعيّن الذي هو الصغير مثلا واحتملت وقوع مثلها في غيره ، فإنّ عدّ ذلك من العلم الاجمالي بين نجاسة هذا الاناء أو نجاسته هو مع الآخر الكبير لا يخلو من تسامح في التعبير ، إذ لا واقع لذلك إلاّ العلم بنجاسة هذا الصغير والشكّ في نجاسة الكبير. وهكذا الحال لو كان المعلوم كلّيا مثل أن تعلم أنّك مشغول الذمّة لزيد إمّا بأربعة دراهم أو بخمسة دراهم ، أو تعلم بأنّ عليك قضاء فرائض مردّدة بين الأربعة والخمسة.

نعم ربما كان الأقل ملتفتا إليه حين العلم كما في هذه الأمثلة ، وربما كان العلم واسع المراتب على وجه لا يلتفت إلى الأقل ولا يكون منظورا إليه بما أنّه قدر متيقّن بحيث يكون الزائد عليه مشكوكا إلاّ بعد نحو من السبر ، وذلك كما لو جرت بينك وبين زيد معاملات كثيرة في أزمنة متطاولة وتعلم فعلا بأنّه قد بقي شيء في ذمّتك لزيد ولكنّه في منتهى الابهام من حيث القلّة والكثرة ، وهذا يستخرج الأقل المتيقّن فيه بنحو من السبر والترديد فتقول إنّه درهم ، فترى أنّ ما في ذمّتك أنّه أزيد من الدرهم ، وهكذا تذهب به صاعدا حتّى تصل إلى مقدار لا تعلم بأنّ ما في ذمّتك أزيد منه ، وحينئذ تقف على ذلك المقدار وتراه معلوما تفصيلا وترى الزائد عليه مشكوكا ، ثمّ تذهب في المشكوك الزائد حتّى تصل إلى درجة تعلم أنّه لا يزيد عليها.

قوله : وثالثة يكون مورد جمع فيه الأمران ... الخ (١).

ظاهر الكلام أنّ المراد بذلك هو العلم الاجمالي فيما يكون المعلوم فيه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٣٦

معلّما بعلامة خاصّة. والظاهر أنّ الاجتماع المذكور كما هو موجود فيه فهو موجود في العلم الاجمالي المرسل المردّد بين الأقل والأكثر ، فإنّك لو علمت أنّ في القطيع ما هو محرّم على الاجمال ولكنّك لا تعلم مقداره ، فإنّ ذلك المعلوم على ما هو عليه من القلّة أو الكثرة مردّد بين كونه في هذا النصف أو في ذلك النصف الآخر ، فيكون المعلوم مردّدا بين المتباينين ، كما أنّه مردّد بين الأقل والأكثر ، فيكون المعلوم في هذه الصورة كحاله فيما لو كان معلّما بعلامة خاصّة وكان ذلك المعلّم بتلك العلامة الخاصّة مردّدا بين الأقل والأكثر.

نعم ، بينهما فرق من جهة أخرى أشرنا إليها ، وهي أنّ ذلك المرسل وإن كان صورة مردّدا بين الأقل والأكثر لكنّه في الحقيقة محض تسامح في التعبير ، وإلاّ فهو علم بذلك الأقل وشكّ بدوي في الزائد ، وذلك الأقل يكون متردّدا بين المتباينين ، بخلاف المعلوم ذي العلامة فإنّه ليس بهذه المثابة ، بل إنّ البيض على ما هي عليه من قلّة وكثرة معلومة بالتفصيل ، وإنّما يقع الترديد بين وجودها في هذا النصف ووجودها في النصف الآخر ، فلا يكون ذلك المعلوم إلاّ مردّدا بين المتباينين ، أمّا التردّد في قلّته وكثرته فلا يخرجه عن كون البيض كلّها معلومة الحرمة على وجه لو حصل التردّد في الحرام غير المعلّم بين كونه عشرة أو كونه خمسة عشر فأنت لا ترى علمك إلاّ واقعا على العشرة ، وترى الخمسة الزائدة مشكوكة من أوّل علمك ، بخلاف المعلوم ذي العلامة فإنّك بعد أن علمت بحرمة جميع البيض الموجودة في هذا القطيع وتردّد مقدارها بين العشرة والخمسة عشر لا ترى الخمسة الزائدة على تقدير وجودها خارجة عن متعلّق علمك ، بل تراها داخلة منصبغة بعلمك بحرمة البيض ، فهي في نفسها وإن كانت مشكوكة الوجود في القطيع ، فلا تكون منجّزة من هذه الجهة ، إلاّ أنّ علمك التفصيلي بحرمة جميع

٢٣٧

البيض موجب لتنجّزه ، وهذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره من اجتماع المقتضي واللاّمقتضي ، فلا يكون اللاّمقتضي مزاحما للمقتضي.

ولكن قد يخدش ذلك : بأنّ الحالة بعد العثور على المقدار المتيقّن من عدد البيض هي أنّه يحتمل وجود بيض أخرى هي معلومة الحرمة ، وذلك لا يكفي في التنجّز ، فإنّ تلك البيض الأخرى لو كانت موجودة فهي وإن كانت معلومة الحرمة إلاّ أنّها فعلا غير معلومة الوجود فلا تكون منجّزة ، فإنّ العلم بحرمة البيض الموجودة في هذا القطيع إنّما يكون منجّزا من جهة العلم بوجود الحرام لا من جهة العلم بحرمة الموجود ، وإن كان أحدهما ملازما للآخر في غير هذا المورد ، لكنّه في هذا المورد لمّا حصل التفكيك فإنّه وإن علم بحرمة البيض الموجودة إلاّ أنّه بالنسبة إلى الخمسة المزبورة لا يكون إلاّ من قبيل العلم بحرمة البيض الموجودة ، وليس هو من قبيل العلم بوجود الحرام ، فلا يكون العلم المذكور منجّزا بالنسبة إلى الخمسة.

نعم ، لا بدّ في الجواب حينئذ من سلوك التأخّر الرتبي وهو ما شرحناه قبل ذلك ، وهو أنّ الشكّ والتردّد بين الأقل والأكثر في المقام الأوّل أعني ما كان معلّما بعلامة خاصّة ، لم يكن متعلّقا بنفس ما تعلّق به العلم الذي هو المعلوم في رتبة تعلّق العلم به ، وإنّما يكون متعلّق الشكّ والتردّد المزبور في الموجود من ذلك الذي تعلّق العلم به ، فلا يكون الشكّ في الأقل والأكثر رافعا لأثر العلم لعدم وجوده في مرتبته ، وهذا بخلاف المقام الثاني فإنّ الشكّ فيه في الأقل والأكثر يكون واقعا في رتبة العلم فيكون موجبا لانحلاله.

وتوضيح ذلك : أنّك ترى في صورة تعلّق العلم الاجمالي بحرمة البيض من هذا القطيع ، أنّ العلم تعلّق بعنوان البيض الموجودة في ذلك القطيع ، وفي هذه

٢٣٨

المرتبة أعني مرتبة تعلّق العلم بالبيض لا ترى في علمك المذكور قضية متيقّنة وقضية مشكوكة ، بل في هذه المرتبة لا ترى إلاّ نفس البيض وأنّها محرّمة ، ولأجل تردّد ذلك الذي تراه تحت العلم بين كونه في هذا النصف مثلا وكونه في النصف الآخر ، فيلزمك الاجتناب عنهما معا.

نعم بعد الالتفات إلى عدد البيض يحصل لك الشكّ والتردّد بين الأقل والأكثر ، لكنّك ترى أنّ شكّك المذكور غير واقع في رتبة علمك ، بل تراه واقعا بعد العلم بحرمة البيض الموجودة في ذلك القطيع ، بمعنى أنّك ترى أنّ تلك البيض التي تعلّق علمك بوجودها مشكوكة العدد ، بحيث إنّ شكّك في عدد البيض يتعلّق بها بعد الفراغ عن تعلّق العلم بها ، فأنت ترى أنّ ذلك الذي كان جميعه متعلّقا لعلمك بحرمته قد وقع موردا لشكّك فيه من حيث العدد. وهذا بخلاف صورة تعلّق العلم الاجمالي بحرمة جملة من هذا القطيع فإنّك ترى أنّ ذلك العلم بعينه مؤلّف من قضية متيقّنة وأخرى مشكوكة ، فترى أنّك لا تعلم إلاّ بحرمة عشرة منها ، وأنّ ما زاد على ذلك أعني الخمسة مثلا لا تراها إلاّ مشكوكة من أوّل الأمر ، فيكون شكّك المردّد بين الأقل والأكثر واقعا في مرتبة علمك ، بل ترى أنّ علمك لم يكن إلاّ عبارة عن هذا الشكّ المردّد بين الأقل والأكثر ، وفي الحقيقة لم يكن لك علم إلاّ بحرمة العشرة دون ما زاد عليها.

وحاصل الفرق : أنّ العلم الاجمالي في صورة تعلّقه بحرمة جملة من القطيع تراه في مرتبة حدوثه متقطّعا إلى قضية متيقّنة وقضية مشكوكة ، بخلاف ما لو كان متعلّقا بحرمة البيض فإنّه في مرتبة حدوثه لا تراه إلاّ قضية واحدة يقينية غير مشوبة بشكّ أصلا ، وإنّما يكون الشكّ متعلّقا بمقدار الموجود من موضوع تلك القضية اليقينية.

٢٣٩

فإن قلت : على هذا لو علمنا بحرمة الخمر الموجود في هذه الأواني التي نعلم أنّ بعضها خمر وبعضها خل ، وكانت أواني الخمر الموجودة مردّدة بين العشرة والخمس عشرة ، ينبغي أن لا يكون العلم التفصيلي بخمرية عشرة معيّنة موجبا لانحلال العلم المذكور ، لعين ما ذكرتموه في حرمة البيض ، فإنّ معلوم الحرمة هنا أيضا معلّم بعلامة خاصّة وهي الخمرية.

قلنا : هذه مغالطة واضحة ، فإنّ حرمة الخمر الكلّي معلومة بالتفصيل ، وإنّما المعلوم بالاجمال هو وجوده في جملة هذه الأواني ، وهذا الوجود الذي تعلّق به العلم لمّا كان مردّدا في مرتبة تعلّق العلم به بين الأقل والأكثر لم يكن ذلك العلم إلاّ متعلّقا بالعشرة منه دون الزائد ، فيكون حاله حال المعلوم المرسل غير المعلّم بعلامة خاصّة.

وبالجملة : أنّ الخمرية هي موضوع الحكم المعلوم وليست هي علامة لما هو الموجود من ذلك الموضوع ، بخلاف عنوان البيض فإنّه أجنبي عن موضوع التحريم الذي هو موطوء الإنسان مثلا وإنّما هو علامة لما هو الموجود من ذلك الموضوع.

نعم لو كانت الحرمة المعلومة متعلّقة بذات تلك الأواني ، وكان كونها خمرا علامة لها ، لكان مثل العلم بحرمة البيض ، لكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس متعلّق الحرمة وموضوعها إلاّ نفس الخمر وذلك معلوم بالتفصيل ، والعلم الاجمالي إنّما تعلّق بوجود الخمر في جملة من هذه الأواني ، والمفروض أنّه مردّد بين العشرة والخمسة عشر ، فلا يكون المعلوم وجوده إلاّ العشرة دون الزائد انتهى ، وهذا آخر ما كنا حرّرناه. ومن ذلك يعلم الحال في الفرائض الفائتة المردّدة بين الأقل والأكثر ، فإنّه من قبيل أواني الخمر الموجودة في ضمن مجموع الأواني.

٢٤٠