أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

ثلاث مقدّمات.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المقدّمة الأولى أعني عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة كافية عن الثالثة أعني عدم ما يكون صالحا للقرينية كما أفاده ( دام ظلّه العالي ) ووفّقنا للاستفادة منه إن شاء الله تعالى ، هذا هو عين ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره وعين ما كنت علّقته عليه.

وحاصل البحث : أنّ الاستناد إلى مقدّمات الحكمة في إثبات الاطلاق راجع إلى قياس استثنائي ، محصّله أنّ المتكلّم لو أراد خصوص المقيّد لبيّنه ، لكنّه لم يبيّن فيستكشف من عدم البيان أنّه لم يرد خصوص المقيّد. وبرهان القضية الشرطية هو أنّه لو لم يبيّن مع فرض إرادته المقيّد لكان ناقضا لغرضه. والبيان الذي هو محطّ النفي والاثبات هو البيان المتعارف الذي جرى عليه العقلاء في التبليغ ، كما أنّ المراد بالمبيّن إنّما هو مدخلية القيد مثلا وعدمه لا مجرّد وصول مراد المولى إلى المكلّفين من دون معرفتهم أنّ له المدخلية أو أنّه لا مدخلية فيه ، ومن الواضح أنّ القضية الثانية الاستثنائية إنّما تتمّ عند تحقّق عدم البيان ، ومع فرض احتمال قرينية الموجود يكون المقام من قبيل احتمال البيان ، لأنّ القرينة بيان ، فيكون احتمال قرينية الموجود عبارة أخرى عن احتمال بيانية ذلك الموجود ، فلا يمكننا أن نقول لكنّه لم يبيّن ، لأنّ المفروض هو الشكّ في وجود البيان ، وحينئذ تكون المقدّمات محتاجة إلى المقدّمة الثالثة ، ولمّا كان المفروض هو كون المتكلّم في مقام البيان المتعارف الذي جرى عليه العقلاء ، يكون مرجع الشكّ في قرينية الموجود الموجب للشكّ في كونها بيانا إلى الشكّ في أنّ هذا المقدار من القرينة ممّا يعتمد عليه العقلاء وأهل اللسان في البيانية ، فلا يمكن الحكم عليه بأنّه لم يبيّن.

٤٤١

لكن هذا كلّه لو كان المراد من القدر المتيقّن في مقام التخاطب هو احتمال قرينية الموجود ، فإنّه لا ينبغي الإشكال في اعتبار عدمه في مقدّمات الحكمة ، وإنّما حكم شيخنا قدس‌سره بالاستغناء عنه بناء على ما يظهر من الكفاية والفوائد (١) من أنّ المراد به هو كون المقيّد متيقّن الارادة في عالم الخطاب لا من الخارج ، كما لو كان موردا للمطلق ، فإنّه بهذا المعنى يكون حاله حال القدر المتيقّن من الخارج في عدم صلاحيته للبيان.

ويشهد بذلك ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي ، فإنّه قال في أثناء الايراد على صاحب الكفاية ما هذا لفظه : وثبوت القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك لأنّه لا يكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، إلاّ إذا رجع القدر المتيقّن إلى حدّ الانصراف ، سواء كان من الانصراف إليه ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ، ويكون المتكلّم كأنّه قد بيّن القيد في اللفظ ، أو كان من الانصراف عنه بحيث يكون اللفظ منصرفا عمّا عدا القدر المتيقّن وإن لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقّن حينئذ ممّا يصلح للبيانية وإن لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأوّل. ولكن مجرّد وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يصلح لأن يكون بيانا ، ولا لأن يكون ممّا يصلح للبيانية ، وإلاّ لكان المورد أولى بذلك ، لأنّه أوضح مصاديق القدر المتيقّن ، مع أنّه قد عرفت عدم الالتزام به.

فتحصّل : أنّ الاطلاق يتوقّف على أمرين لا ثالث لهما : الأوّل كون المتكلّم في مقام البيان. الثاني : عدم ذكر القيد متّصلا كان أو منفصلا ، فإنّ من ذلك يستكشف إنّا عدم دخل الخصوصية في متعلّق حكمه النفس الأمري ، قضية

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٧ ، فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٧٤.

٤٤٢

تطابق عالم الثبوت لعالم الاثبات (١).

ولكن تفريع الانحصار بالمقدّمتين على هذا الشرح لا يخلو من تأمّل ، لأنّ عدم اقتران الكلام بما يحتمل القرينية ممّا لا بدّ منه حينئذ في المقدّمات ، فلا بدّ أن تكون المقدّمات ثلاثا : كونه في مقام البيان ، ولم يبيّن ، ولم يكن في البين ما يحتمل البيانية.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المقدّمة الثانية أعني عدم البيان كافية عن المقدّمة الثالثة فتأمّل ، بتقريب أنّ بيان التقييد تارة يكون مقطوع العدم وأخرى يكون مشكوكا ، فينفى بأصالة العدم ، والجامع هو أنّه لم يبيّن ، وحاصل المقدّمة الثانية : هو إحراز عدم البيان ، ومن المعلوم أنّه مع الشكّ في قرينية الموجود لا يكون عدم البيان محرزا لا وجدانا وهو واضح ، ولا بالأصل لعدم جريان أصالة عدم القرينة مع احتمال قرينية الموجود ، فيكون الحاصل أنّه إنّما تتمّ المقدّمات عند إحراز عدم البيان ، ومع الشكّ في البيانية لا تتمّ المقدّمات ، فلا يكون ذلك مقدّمة ثالثة ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ صاحب الكفاية (٢) أخذ البيان بمعنى مجرّد إيصال المراد إلى المكلّفين ، فلو وصل إليهم مراده بمثل كونه موردا للمطلق كان ذلك كافيا ، وحينئذ لا يمكن التمسّك بعدم ذكر القيد على إرادة المطلق ، لأنّه يجوز أن يكون مراده هو المقيّد وقد اكتفى ببيانه واعتمد فيه على كونه موردا لذلك المطلق ، فإنّ كون المطلق واردا في ذلك المورد كاف في تفهيمهم مراده وإن لم يفهموا أنّه على نحو الانحصار.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٧٦.

(٢) كفاية الأصول : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٤٤٣

وشيخنا قدس‌سره (١) أخذ البيان بمعنى إفهامهم ما له الدخل في متعلّق حكمه ، ومجرّد فهمهم أنّ مورد القيد مراد مع شكّهم في الانحصار لا ينفع في البيان المذكور ، إذ لم يحصل لهم فهم المدخلية وعدمها ، وحينئذ لا يكون فهمهم أنّ مورد القيد مراد إلاّ من قبيل القدر المتيقّن الخارجي الذي لا أثر له في إسقاط الاطلاق.

وهذا الذي أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ المراد من البيان هو بيان المدخلية وعدمها لا مجرّد إيصال مراده إليهم من دون فهم المدخلية ، هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، لأنّ مجرّد إيصال مراده إليهم من دون أن يفهموا المدخلية إنّما يحسن في مقام كون الغرض هو حصول مراد المولى منهم ، وهذا المقدار من تفهيمهم كاف في حصول ذلك الغرض ، وهو سعيهم إلى الامتثال فيما فهموه من مراد المولى ، وهو فيما يكون واجدا للقيد ، فإنّه محصّل لمراد المولى على كلّ حال ، سواء كان مراده هو المقيّد أو كان مراده هو المطلق. على أنّه إنّما يتمّ ذلك فيما لو كان الاطلاق بدليا دون ما لو كان شموليا ، بل يكون الأمر فيه بالعكس ، بمعنى أنّه لو ورد أكرم العالم في مقام السؤال عن الفقهاء ، لا يكون فهمهم حكم الفقهاء وأنّه يريد إكرامهم محقّقا لمراد المولى على كلّ حال ، لجواز أن يكون مراده هو المطلق الذي يستدعي في المقام الشمول والعموم لكلّ عالم.

نعم يبقى شيء : وهو أنّه بناء على ما أفاده شيخنا قدس‌سره هو أنّ الاطلاق يكون ساقطا فيما لو كان الكلام مكتنفا بما يحتمل أن يكون بيانا وقرينة على التخصيص ومدخلية وجود القيد ، مثل ما لو قال : اعتق رقبة قارئة للقرآن ، واحتملنا أن يكون اعتبار القراءة فيها كناية عن الإسلام ، لأنّ ذلك لازم الإسلام ، على وجه لو كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٣.

٤٤٤

مراده هو اعتبار الإسلام والإيمان لكان ذكره هذا القيد كافيا في بيان المدخلية والبيانية ، فمع احتمالنا لبيانية القيد المذكور لا يمكننا الأخذ بمقتضى القضية الاستثنائية القائلة إنّه لو أراد القيد لبيّنه لكنّه لم يبيّن فثبت أنّه يريد المطلق (١) ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نفي مثل ذلك ممّا يصلح للبيانية والقرينية يكفي فيه المقدّمة الثانية القائلة إنّه لم يبيّن ، لأنّ مثل هذا المثال لا يمكننا الحكم عليه بأنّه لم يبيّن. هذا كلّه فيما يتعلّق بالحاجة إلى المقدّمة الثالثة.

وأمّا المقدّمة الأولى ، وهو كون المتكلّم في مقام البيان ، فقد أفاد المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس‌سره في غرره (٢) عدم الحاجة إليها ، ويكفي في الحكم بالاطلاق عدم ذكر القيد ولو كان في مقام الاهمال ، نظرا إلى أنّ إيراد الحكم على الطبيعة المهملة يوجب قهرا سراية الحكم إلى كلّ واحد من أفرادها.

وهو في غاية الغرابة ، فإنّ إيراد الحكم على الطبيعة المهملة في مقام الاثبات لا يمكن أن يستكشف منه إرادة المطلق ، لجواز أن يكون المراد هو المقيّد وقد تأخّر بيانه لجهة من الجهات الموجبة لعدم البيان فعلا ، فما لم يحرز كون المتكلّم في مقام البيان على وجه يكون ناقضا لما هو بصدده لو كان مراده الواقعي هو المقيّد ، لم يمكن الحكم عليه بأنّه قد أراد المطلق ، وذلك واضح بعد ما تقدّم شرحه.

كما أنّه قد عرفت أنّه لا حاجة إلى المقدّمة الأخيرة ، وهي احتمال قرينية

__________________

(١) وقد يشكل على الكفاية بأنّ كلامه يأبى عن الحمل على احتمال قرينية الموجود ، لأنّه يقول : إنّه بصدد بيان تمامه وقد بيّنه ، لا بصدد أنّه تمامه ، كي أخلّ ببيانه. وهذه الكلمات إنّما تناسب القدر المتيقّن في الامتثال [ منه قدس‌سره ].

(٢) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٢٣٤.

٤٤٥

الموجود ، بل يكفي المقدّمة الثانية القائلة إنّه لم يبيّن ، إذ لا بدّ من احراز أنّه لم يبيّن ، ومع احتمال قرينية الموجود لا يكون السامع قد أحرز أنّه لم يبيّن ، فما أفاده شيخنا من الاستغناء عن الثالثة مع أنّه يعتني باحتمال قرينية الموجود لا ضير فيه.

قوله : وأخرى ينشأ من التشكيك في الماهية في متفاهم العرف. وهذا يكون على قسمين ، فإنّ التشكيك تارة يكون بحيث يرى العرف خروج بعض مصاديق الطبيعة عن كونه فردا فينصرف اللفظ عنه لا محالة كانصراف لفظ ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان ، وأخرى يكون بحيث يشكّ العرف في كونه مصداقا له ، فينصرف اللفظ إلى غيره كانصراف لفظ الماء إلى غير ماء الزاج والكبريت ... الخ (١).

الذي حرّرته عنه قدس‌سره هو أنّ أفراد الطبيعة إذا كانت متواطئة ، بأن تكون متساوية الأقدام في صدق الطبيعة عليها ، لم يكن للانصراف في بعضها الناشئ عن قلّة الوجود وكثرته أثر. وإن لم تكن الأفراد متواطئة بل كانت من قبيل التشكيك ، على وجه يكون في بعضها نقصان عن البعض الآخر من حيث صدق الطبيعة ، كان الانصراف موجبا لظهور اللفظ في غيره ، وذلك كما في الماء ، فإنّ في ماء الزاج وماء الكبريت نقصانا في جهة صدق طبيعة الماء حتّى كأنّهما من غير جنسه ، وهكذا الحال في الإنسان ذي الحقوين.

إلاّ أنّ التشكيك قد يصل إلى درجة يوجب انصراف اللفظ عن ذلك الناقص وظهوره في غيره كما في الماء بالنسبة إلى ماء الكبريت والماء الزاجي ، وأخرى لا يكون موجبا إلاّ لانصراف اللفظ عن ذلك الناقص من دون أن يكون موجبا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٥ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٤٤٦

لظهوره في غيره ، وهذا لا يوجب إلاّ الاجمال كما في الانسان بالنسبة إلى ذي الحقوين.

والحاصل : أنّ نقصان الفرد قد يكون موجبا لانصراف اللفظ إلى غيره ، وقد يكون موجبا لانصرافه عنه ، والأوّل يكون موجبا لظهور اللفظ فيما عداه ، والثاني لا يوجب إلاّ اجمال اللفظ ، انتهى.

والانصاف : أنّ دعوى الانصراف في بعض المطلقات إلى بعض أصنافها أو عن بعض أصنافها ، ليس له ضابط تامّ يمكن التعويل عليه ، فإنّ من أظهر أفراد المشكّكات البياض والسواد ولا انصراف في كلّ منهما إلى مرتبة من مراتبهما. نعم ربما كان النقص في بعض الأفراد موجبا للانصراف ، لكنّه على وجه يعدّ كونه شذوذا في الطبيعة ، مثل الإنسان ذي الحقوين ونحو ذلك.

وكيف كان ، أنّ انصراف ما لا يؤكل عن الإنسان ليس ملاكه التشكيك ولا نقصا في الطبيعة ، بل ليس في البين إلاّ مجرّد الانصراف العرفي. قال شيخنا قدس‌سره فيما طبع من رسالة الصلاة في المشكوك : وأظهر من ذلك (١) خروج الإنسان بجملته وجميع فضلاته الطاهرة عن عناوين أدلّة الباب ، وما كان لها من عموم أو إطلاق ، إذ مضافا إلى اطراد ما تقدّم من موجب الانصراف في المقام أيضا ، فلا يخفى أنّ ما عدا الإنسان من أنواع الحيوان إنّما يتّصف بكونه محرّم الأكل أو محلّله أو كونه ممّا يؤكل أو لا يؤكل ونحو ذلك ، باعتبار أكل الإنسان له ، أمّا الإنسان فيحرم أكل كلّ فرد منه على أفراد نوعه ، فاختلفت الكيفية ، وتصوير الجامع العقلي وإن كان بمكان من الامكان ، لكن ظواهر الأدلّة منصرفة إلى الأنواع

__________________

(١) إشارة إلى ما ذكره قبل هذا من الانصراف عن الحيوانات التي لا لحم لها ، أو التي يستقذر أكلها مثل القمل والبرغوث [ منه قدس‌سره ].

٤٤٧

المحرّمة على نوع الإنسان ولا يعمّ أشخاص نوعه ، انتهى (١).

فتراه قدس‌سره لم يستدلّ على هذا الانصراف بالتشكيك ولا بنحوه من نقص الطبيعة ، بل لم يكن في البين إلاّ مجرّد الانصراف العرفي.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من القسم الثاني هو ما يوجب التوقّف في الحكم بإرادة المطلق ، لاحتمال كون ذلك المقدار من النقص في الفرد قرينة على عدم إرادته ، فيكون كما أفيد بقوله : إلاّ أنّ المطلق معه يكون في حكم احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية الخ (٢) ، وحينئذ يكون الفرق بين القسمين هو أنّ القسم الأوّل يكون موجبا لظهور اللفظ فيما عداه ، بخلاف الثاني فإنّه لا يوجب إلاّ التوقّف ، وهذا المقدار من الفرق أيضا لا ضابط له.

وعلى أي حال ، ليس الملاك في الفرق بينهما هو ما يتراءى من عبارة الكتاب ، من أنّ اللفظ في الأوّل ينصرف عنه وفي الثاني ينصرف إلى غيره ، فإنّ الظاهر أنّ أحدهما عين الآخر ، فإنّ الانصراف عنه عين الانصراف إلى غيره ، بل الظاهر ممّا حرّرته عنه قدس‌سره وما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي من أنّ اللفظ في الأوّل ينصرف إليه وفي الثاني ينصرف عنه ، هو أنّ الانصراف إلى الشيء أقوى من الانصراف عن الشيء.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي في مقام الردّ على الكفاية في عدم احتياج مقدّمات الحكمة إلى عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ما هذا لفظه : وثبوت القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك ، لأنّه لا يكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، إلاّ إذا رجع القدر المتيقّن إلى حدّ الانصراف ، سواء كان من

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٤٨

الانصراف إليه ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ويكون المتكلّم كأنّه بيّن القيد في اللفظ ، أو كان من الانصراف عنه بحيث يكون اللفظ منصرفا عمّا عدا القدر المتيقّن وإن لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقّن حينئذ ممّا يصلح للبيانية وإن لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأوّل الخ (١).

وعلى أي حال أنّ الانصراف عمّا عدا القدر المتيقّن لا بدّ أن يكون موجبا للانصراف إلى خصوص القدر المتيقّن ، فلا يحصل الفرق بين القسمين إلاّ بجعل الثاني منهما وهو ما عبّر عنه بالانصراف عمّا عدا القدر المتيقّن عبارة عمّا يوجب التوقّف في الشمول لما عدا القدر المتيقّن ، فيكون موجبا للاجمال لا أنّه انصراف تامّ ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره في التقريرات (٢) قد ذكر للانصراف خمس مراتب : الأولى مجرّد الخطور. الثانية : ما له استقرار في الجملة لكنّه يزول بالتأمّل. الثالثة : ما يكون لاستمرار الشكّ واستقراره على وجه لا يزول بالتأمّل. الرابعة : ما يوجب التقييد. الخامسة : ما يوجب النقل إلى المعنى المشهور الذي هو المنصرف إليه.

وهذه المراتب كلّها إنّما هي في الشهرة بالنسبة إلى بعض أقسام المطلق وأصنافه ، ولا أثر للأوليين منها ، والثالثة توجب الإجمال ، والرابعة توجب التقييد ، والخامسة توجب النقل وصيرورة المطلق حقيقة في بعض أصنافه على حذو المجاز المشهور الذي ينقلب إلى الحقيقة. ولا يخفى أنّ هذه المراتب إنّما هي في شهرة بعض أصناف المطلق ، ولا دخل لذلك بكونه مشكّكا في قبال

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٧٦.

(٢) مطارح الأنظار ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٤٤٩

المتواطئ ، ولا بنقصان في الطبيعة وشذوذها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الثاني : أنّ استفادة الكبرى الكلّية من العام وإن كانت محتاجة إلى اجراء مقدّمات الحكمة في مصبّ العموم كما أشرنا إليه مرارا ، إلاّ أنّ المطلق يفترق عن العام في أمرين : الأوّل أنّ كون المتكلّم في مقام البيان لا بدّ وأن يحرز ... الخ (١).

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس‌سره في بيان الاحتياج في إثبات الاطلاق إلى مقدّمات الحكمة : وفي أسماء الأجناس نحتاج إلى إعمال مقدّمات الحكمة في موردين ، باعتبار كلّ من التقييد الأنواعي والتقييد الأفرادي ، بخلاف الألفاظ الموضوعة للعموم فإنّه نحتاج فيها إلى مقدّمات الحكمة في ناحية المصبّ باعتبار التخصيص الأنواعي فقط ، وأمّا باعتبار الأفرادي فنفس العام يتكفّل ذلك بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة ، كما أنّ في المطلقات نحتاج إلى إحراز كون المتكلّم في مقام البيان من الخارج ولو بمعونة الأصل العقلائي كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وفي العموم نفس أدلّة العموم تقتضي كون المتكلّم في مقام البيان ، فالفرق بين العام الأصولي والمطلق يكون من جهتين (٢).

وحيث إنّ كلا من هذين التحريرين لا يخلو عن إجمال ، فالأولى نقل ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام وهو : أنّك قد عرفت في باب العموم والخصوص أنّ الشمول تارة يكون وضعيا مثل أكرم كلّ عالم ، وأخرى يكون إطلاقيا مثل أكرم العالم. والفرق بين المثالين مع احتياج إثبات الشمول في كلّ منهما إلى مقدّمات الحكمة ، أنّ المحتاج في المثال الأوّل إلى مقدّمات الحكمة إنّما هو مصبّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٦ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٧٣.

٤٥٠

العموم ، أعني مدخول أداة العموم ، أمّا نفس العموم فلا يكون في دلالته على الشمول لكلّ فرد محتاجا إلى مقدّمات الحكمة ، بل يكون وضع الأداة لذلك كافيا فيه ، بخلاف نفس الشمول في المثال الثاني فإنّه أيضا محتاج إلى مقدّمات الحكمة كمصب العموم.

وبالجملة : أنّ لنا في كلّ واحد من المثالين احتمالين ، الأوّل : احتمال التخصيص الأنواعي الذي يكون بمنزلة التقييد للمصب ، بأن يكون المراد من العالم الذي يجب إكرامه هو خصوص العادل مثلا ، فيكون العالم مقيّدا بذلك ويكون الفاسق خارجا عنه ، ويكون من قبيل التخصيص الأنواعي. وهذا التصرّف المحتمل إنّما هو تصرّف في مصب العموم ، أعني أنّ نفس العالم الذي هو مدخول كلّ في المثال الأوّل والذي هو مورد الشمول الاطلاقي في المثال الثاني ، يكون مقيّدا بخصوص العادل ، والنافي لاحتمال هذا التصرّف ـ أعني تقييد العالم بالعادل ـ هو مقدّمات الحكمة في كلّ واحد من المثالين.

ثمّ بعد الفراغ عن أنّ مصبّ العموم هو مطلق العالم عادلا كان أو غيره ، أو أنّه مخصوص بخصوص العادل ، ننقل الكلام إلى احتمال آخر وهو احتمال التخصيص الأفرادي ، لأنّه يحتمل أن يكون في خصوص زيد العالم مانع من دخوله تحت ذلك العموم ، بأن يكون زيد المذكور خارجا عن عموم مطلق العالم أو العالم العادل وإن كان عادلا. والمتكفّل لطرد هذا الاحتمال هو نفس وضع أداة العموم في المثال الأوّل. وأمّا في المثال الثاني فالمتكفّل فيه لطرد الاحتمال المذكور هو مقدّمات الحكمة ، بأن يقال : لو كان زيد المذكور خارجا في نظر المتكلّم عن عموم من يجب إكرامه لكان عليه أن يقيم دليلا على خروجه ، فلمّا لم يذكر ما يدلّ على خروجه عنه مع أنّه في مقام بيان تمام مراده ، كشف ذلك عن

٤٥١

عدم خروجه وأنّ حكمه شامل لجميع من هو مصداق للعالم المذكور.

فيكون المثال الثاني وهو الشمول الاطلاقي محتاجا إلى جريان مقدّمات الحكمة مرّتين ، مرّة بالنسبة إلى نفس المصب وأخرى بالنسبة إلى نفس العموم والشمول لذلك الفرد المشكوك ، بخلاف المثال الأوّل وهو الشمول الوضعي فإنّه لا يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة إلاّ مرّة واحدة ، وهي اجراؤها في ناحية المصب في قبال احتمال التقييد والتخصيص الأنواعي ، أمّا بالنسبة إلى نفس العموم في قبال احتمال التخصيص الأفرادي فلا حاجة فيه إلى مقدّمات الحكمة ، بل إنّ نفس الموضوع كاف في طرد الاحتمال المذكور.

وهناك فرق آخر بين المثالين المذكورين ، وهو أنّ من جملة مقدّمات الحكمة كون المتكلّم في مقام البيان ، وهذه المقدّمة لا بدّ من إحرازها ، لكن في المثال الأوّل يكون وضع الأداة للعموم وكونها داخلة على ما هو مجرى مقدّمات الحكمة كافيا في إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، بخلاف المثال الثاني فإنّ إحراز كون المتكلّم في مقام البيان يكون متوقّفا فيه على التعلّق بالأصل العقلائي القاضي بأنّ الأصل في كلّ كلام صدر من متكلّم أنّ صدوره كان في مقام البيان ، إذ أنّ كونه في غير ذلك المقام أمر على خلاف ما يقتضيه طبع إلقاء الكلام من أنّه إنّما ألقي لأجل الافادة وإظهار المراد بتمامه ، وأنّ المتكلّم لم يكن قصده الاخفاء وعدم الاظهار ، انتهى ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره.

أمّا ما أفاده قدس‌سره من كون العموم الوضعي مثل قوله أكرم كلّ عالم محتاجا إلى مقدّمات الحكمة في المدخول ، وأنّ مفاد لفظ كلّ هو العموم الأفرادي ، ومفاد إطلاق المدخول هو العموم الأنواعي ، فقد تقدّم الكلام عليه في مبحث العموم

٤٥٢

والخصوص (١) ، وأنّ مفاد إضافة لفظ كلّ هو طرد احتمال الاخراج والتخصيص ، سواء كان الاخراج أنواعيا أو كان أفراديا. كما أنّ مفاد إطلاق المدخول هو طرد احتمال التقييد والتوصيف للعالم بكونه عادلا أو كونه غير زيد ، بمعنى كونه في قبال التقييد ، سواء كان أنواعيا أو كان أفراديا ، وإن كان الثاني بعيدا جدّا.

وعلى أي حال ، فإنّ ما أفاده قدس‌سره من احتياج الاطلاق الشمولي إلى إجراء مقدّمات الحكمة مرتين ، يمكن التأمّل فيه ، فإنّه لو قال أكرم العالم وثبت بمقدّمات الحكمة أنّ طبيعة العالم هي موضوع الحكم غير مقيّدة بشيء ، يكون تعلّق الحكم بها باعتبار وجودها الخارجي كافيا في سراية الحكم إلى كلّ واحد من أفرادها ، من دون حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في إثبات العموم الأفرادي ، كلّ ذلك بعد فرض كون الحكم المتعلّق بها منظورا به الطبيعة باعتبار وجودها الخارجي ، إذ يكفي في ذلك تساوي أفراد الطبيعة وعدم ترجيح بعضها على بعض ، وعدم مناسبة المقام لكون المراد هو صرف الوجود ليكتفى بفرد واحد من أفرادها.

ولعلّه لأجل ذلك عدل في هذا التحرير عن التعبير باحتياج المطلق الشمولي إلى إجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في ناحية الأفراد ، إلى التعبير بقوله : الثاني أنّ سراية الحكم إلى تمام الأفراد في طرف المطلق إنّما يكون من جهة تساوي أفراد الطبيعة في صدق الطبيعة عليها الخ (٢) ، ولعلّ هذا المعنى أعني التساوي هو المراد فيما حرّرناه عنه قدس‌سره من إجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : ١٠٥ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٥٣

الشمول الافرادي ، بل لعلّه هو المراد ممّا تقدّم نقله (١) عن شريف العلماء من إدخال عدم الترجيح ونحوه في مقدّمات الحكمة ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ كون المتكلّم في مقام البيان في صورة العموم الشمولي يكفي فيه نفس الشمول المستفاد من دخول كلّ ، لا يخلو عن تأمّل ، فإنّا لو قلنا بعدم الحاجة إلى إثبات إطلاق المدخول بمقدّمات الحكمة ، وأنّ دخول كلّ كاف ومغن عنه ، لتمّ ما أفاده قدس‌سره ، لكنّه بناء على ذلك لا نحتاج إلى مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول ، لا أنّا نكون محتاجين إليها وأنّ إثبات كون المتكلّم في مقام البيان يكون من ناحية الشمول المستفاد من إضافة لفظ كلّ. وإن قلنا بمسلكه قدس‌سره من أنّه لا ربط لمفاد كلّ الذي هو الشمول الأفرادي بمفاد مقدّمات الحكمة في المدخول من الاطلاق الأنواعي لا يكون الشمول الأفرادي كاشفا عن كون المتكلّم في مقام البيان من ناحية الاطلاق الأنواعي ، إذ يجوز أن يصرّح بأنّ موضوع هذا الحكم ومتعلّقه هو كلّ فرد من أفراد المدخول ، لكنّه لا يكون في مقام البيان من ناحية إطلاق المدخول ، وأنّه هل للعدالة ـ مثلا ـ مدخل فيه بحيث يكون المدخول هو خصوص العادل ، أو أنّه لا مدخلية فيه للعدالة على وجه يكون ذلك الشمول الأفرادي واردا على كلّ من نوعي العالم العادل والفاسق.

والحاصل : أنّه لا ملازمة بين كون العام شاملا لكلّ فرد من أفراد العالم مع كون المتكلّم في مقام البيان من ناحية العالم نفسه ، وأنّه هل يختصّ بالعادل أو يشمل كلا القسمين ، إلاّ إذا قلنا إنّ الشمول الأفرادي في ناحية لفظ كلّ يكفي في سراية الحكم إلى كلّ واحد من أفراد العالم ، من دون فرق بين الفاسق من تلك الأفراد وبين العادل ، فتأمّل.

__________________

(١) في الصفحة : ٤٢٨.

٤٥٤

قوله : الثالث : أنّ انقسامات المطلق حيث كانت كثيرة ... الخ (١).

الأولى نقل ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام لعلّه أوضح ، وهو : أنّك قد عرفت أنّ الاطلاق عبارة عن كون الصفة مساوية لنقيضها في الدخول تحت الماهية ، فتارة يكون ذلك التساوي بالنسبة إلى خصوص صفة كالهاشمية وغير الهاشمية ، بالنسبة إلى أكرم العالم ، وإن لم يتحقّق التساوي بالنسبة إلى صفة العدالة بل كانت هذه الصفة غير مساوية لنقيضها ، بأن كان العالم مقيّدا بالعدالة مثلا ، ويعبّر عن الاطلاق في مثل ذلك بالاطلاق الاضافي ، لكون العالم إنّما كان مطلقا بالاضافة إلى خصوص صفة الهاشمية وعدمها دون صفة العدالة وعدمها.

وأخرى يكون ذلك التساوي جاريا في جميع الصفات اللاحقة للماهية ، ويعبّر عنه بالاطلاق الحقيقي في قبال الاطلاق الاضافي.

ثمّ إنّ أصالة كون المتكلّم في مقام البيان وإن كان جريانه بالنسبة إلى جميع الصفات ، فإذا فرضنا أنّه لم يقيّد الماهية بشيء من الصفات كان نتيجة ذلك هي الاطلاق بالاضافة إلى جميع الصفات ، إلاّ أنّه لو ورد بعد ذلك ما يوجب التقييد بصفة خاصّة لم يكن ذلك موجبا لاستكشاف أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان بالكلّية ، ليكون ذلك موجبا لسقوط ظهوره بالمرّة ، بل أقصى ما فيه أن يكون كاشفا عن أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان من جهة خصوص تلك الصفة لا من جهة جميع الصفات ، بل يكون بالنسبة إلى باقي الصفات على ما هو عليه من كونه مجرى لأصالة كونه في مقام البيان ، فيبقى إطلاقه بالنسبة إلى باقي الصفات محفوظا ، غاية الأمر أنّه لا يكون إطلاقا حقيقيا ، بل يكون إطلاقا إضافيا ، هذا إن قلنا إنّ ورود التقييد ببعض الصفات يكون رافعا للمقدّمة الأولى أعني كون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٥٥

المتكلّم في مقام البيان.

وهكذا الحال لو قلنا إنّه رافع للمقدّمة الثانية أعني عدم البيان المتّصل أو المنفصل ، فإنّ الاطلاق أعني تساوي الصفة ونقيضها إنّما تمّ بعد ثبوت أنّه ليس في البين تقيّد بها ، وبعد الظفر بالتقييد ينكشف لنا الخطأ فيما حكمنا به من عدم وجود التقييد بالنسبة إلى خصوص تلك الصفة دون غيرها.

فقد ظهر لك بذلك أنّ العثور على القيد المنفصل لا يوجب سقوط الاطلاق إلاّ بالنسبة إلى الصفة التي عثرنا على التقييد بها دون باقي الصفات ، بل يبقى ظهوره في الاطلاق بالنسبة إلى باقي الصفات بحاله. نعم لو كان التقييدات التي عثرنا عليها كثيرة جدّا لكانت موجبة لوهن ذلك الاطلاق ، فإنّ كثرتها توجب وهن كونه في مقام البيان بالنسبة إلى الباقي ، أو وهن أصالة عدم التقييد المنفصل بالنسبة إلى الباقي ، انتهى.

قلت : إنّ العثور على التقييد المنفصل إنّما يوجب الخطأ في المقدّمة الثانية لو كان ذلك المنفصل موجودا حين صدور المطلق ، أمّا لو كان متأخّرا عن ذلك فلا يكون موجبا إلاّ لسقوط المقدّمة الأولى.

قوله : فإنّ ظاهر تعلّق الأمر بخصوصية من خصوصياتها هو كونه غيريا ومفيدا للشرطية أو الجزئية ... الخ (١).

وبعبارة أوضح على مسلكه قدس‌سره أنّ ظاهر تلك الأوامر هو الارشاد إلى الأمر النفسي الضمني الذي عنه تنتزع الجزئية أو الشرطية ، وهذا مثل أن يقول صلّ ثمّ يقول اركع في صلاتك أو توضّأ لها أو تستّر فيها ، أمّا لو قال صلّ مع الركوع أو مع الساتر والطهارة فذلك لا يخرج عن كونه من قبيل الاطلاق والتقييد ، مثل أعتق

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٥٦

رقبة واعتق رقبة مؤمنة. ثمّ الأوّل وإن ادّعي ظهوره في الغيرية أعني الضمنية والقيدية ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون المراد منه الاستقلالية ، بأن يكون من قبيل الواجب في ضمن واجب ، ودعوى ظهوره الثانوي في التقييد قابلة للمنع.

قوله : الأولى : في بيان أنّ ظهور القرينة في الكلام يتقدّم على ظهور ذي القرينة وإن كان الثاني أظهر ... الخ (١).

تقدّم في بعض مباحث العموم (٢) التأمّل في ذلك ، وأنّ الملاك هو تقديم أقوى الظهورين. نعم إنّه ارتكازي يجري عليه أهل اللسان من دون تأمّل ووهلة نظر ، كلّ ذلك حسب مرتكزاتهم الفطرية من دون أن يعرفوا أنّ هذا قرينة وذاك ذو القرينة ، وأنّ ظهور الثاني مقيّد الحجّية بعدم ظهور (٣) ، بل إنّ هذه الدعوى وهي أنّ هذا قرينة وذلك ذو القرينة قابلة للمنع والقلب ، وإلاّ فلم لا نقول إنّ ظهور أسد قرينة على ظهور يرمي ، ومن فرض علينا أن يكون الثاني قرينة على الأوّل.

ومنه يظهر لك التأمّل في الضابط الذي أفاده قدس‌سره (٤) في المقدّمة الثانية من كون ما هو فضلة في الكلام قرينة على ما هو العمدة فيه ، بل لعلّ كون العمدة قرينة أولى ، لكونه هو السابق في الذكر ، وهو الذي يتأثّر منه ذهن السامع على وجه يأخذه حاكما على ما يأتي بعده. ولعلّ هذا الذي أفاده قدس‌سره من كون الفضلة قرينة مناف لما أفاده قدس‌سره من كون ظهور ضرب قرينة على الفاعل والمفعول ، إذ المفعول فضلة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٢ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) في الصفحة : ٣٣٢.

(٣) [ هكذا في الأصل ، ولعلّ الأنسب إضافة « الأوّل » أو « أقوى » ].

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٣.

٤٥٧

والحاصل : أنّ هذه الأمور وإن ذكرها علماء العربية ، إلاّ أنّ الظاهر أنّها تحكمات وتخرّصات لا أساس لها. ومنه يظهر لك التأمّل في ضابط القرينة المنفصلة ، وأنّ المناط في جميع ذلك على تقديم ما هو الأقوى ظهورا ، وهو أمر ارتكازي لا يدخل تحت حدّ وضابط ، وهو حقيقة الاجتهاد في فهم الظهورات والجمع بينها ، ولو كان له ضابط محصور وحدّ محدود لانسدّ باب الاجتهاد في فهم الروايات والآيات.

قوله : فإن قلت : إذا قطعنا النظر عن المتعلّق ونظرنا إلى نفس الوجوب الصادر من المولى الجامع بين الخطابين ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : ولا يمكن الجواب عن هذا الدور بأنّ نفس التكليف سابق في لحاظ الاطلاق والتقييد على المكلّف به ، فيكون نفس وجوب العتق مطلقا في أحد المثالين ومقيّدا في المثال الآخر ، فيحمل المطلق على المقيّد ، وذلك لأنّ نفس وجوب العتق أعني القدر الجامع بين التكليفين لا واقعية له كي يكون موردا لحمل المطلق منه على المقيّد ، وخصوص كلّ واحد منهما لا يمكن الحمل فيه إلاّ بلحاظ كون التكليفين تكليفا واحدا المتوقّف على وحدة متعلّقهما الذي عرفت أنّه متوقّف على الحمل في ناحية نفس التكليف ، انتهى.

قلت : يمكن الجواب عن هذا الدور بأنّه من قبيل الدور المعي ، فإنّ حمل إطلاق التكليف في قوله أعتق رقبة مؤمنة على المقيّد في قوله إن ظاهرت فاعتق رقبة ، يكون في عرض حمل إطلاق المتعلّق في الثاني على المقيّد في الأوّل ، فهما في ذلك نظير ما لو قال أكرم العالم العادل ثمّ قال أكرم العالم الفقيه ، فإنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٥٨

مقتضى الجمع هو حمل الاطلاق في الأوّل من ناحية الفقه على التقييد به في الثاني ، وحمل الاطلاق في الثاني من ناحية العدالة على التقييد بها في الأوّل.

وحاصل الأمر : أنّه لو فهم العرف من الدليلين وحدة التكليف ، فلا محيص من حمل الاطلاق في كلّ منهما على الآخر. نعم يمكن الفرق في نظر العرف بأنّه في مثل المثال الثاني يكون وحدة التكليف أقرب إلى نظر العرف في المثال الأوّل ، بل إنّ المثال الثاني يكون من قبيل التقييدين الواردين على المطلق الأوّل ، وهو قوله أكرم العالم ، بل يمكن الفرق بينهما بأنّ القيدين في المثال الثاني في رتبة واحدة بخلافهما في المثال الأوّل.

والأولى تخريج المثال على ما لو تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، فيكون قوله أكرم العالم العادل بمنزلة قوله أكرم العالم إن كان عادلا ، وقوله أكرم العالم الفقيه بمنزلة قوله أكرم العالم إن كان فقيها ، والجمع بين الشرطين بعطف أحدهما على الآخر بمفاد لفظة الواو أو بمفاد لفظة أو ، ويكون ذلك موجبا لاختلاف الحكم ، وعلى الأوّل يكون الشرط هو اجتماعهما ، وعلى الثاني يكون الشرط هو أحدهما ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّه لو قال أعتق رقبة ثمّ قال إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، كان الظاهر هو لزوم حمل الاطلاق الأوّل من الجهتين على التقييد في الثاني وهو واضح ، ولكن الذي يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (١) هو التسوية في الإشكال بين هذه الصورة والصورة الأخرى ، أعني ما لو قال أعتق رقبة مؤمنة وإن ظاهرت فاعتق رقبة ، وهكذا فيما حرّرته عنه قدس‌سره فراجع وتأمّل. والظاهر جريان الإشكال فيه كما في الصورة المذكورة في هذا التحرير ، فلاحظ.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٨٠.

٤٥٩

قوله : الثاني : أن يكون كلّ من التكليفين إلزاميين ، إذ لو كان دليل القيد مفيدا للاستحباب لما كان هناك تناف بينه وبين الاطلاق ، فلا يكون هناك موجب للحمل. ولا فرق حينئذ بين أن يكون دليل المطلق إلزاميا أو لم يكن ، إذ الرافع للمنافاة عدم دلالة المقيّد على الالزام وترخيصه للترك غير المنافي لبقاء المطلق على إطلاقه ... الخ (١).

ومع هذا التصريح الأخير الدالّ على أنّ موجب الحمل إنّما هو دلالة المقيّد على الالزام بالقيد ، وأنّه لو لم يدلّ على الالزام فلا موجب للحمل ، أورد عليه في الحاشية بقوله : لا يذهب عليك أنّه لا يعتبر في حمل المطلق على المقيّد إلاّ كون خصوص دليل المقيّد إلزاميا ، وأمّا كون الدليل المطلق إلزاميا فلا ملزم له أصلا ، ثمّ أخذ في بيان ذلك الخ. وكأنّ هذا الايراد إنّما يرد على محض التعبير بقوله : أن يكون كلّ من التكليفين إلزاميين.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وأمّا اعتبار كون التكليفين إلزاميين فلما عرفت من أنّهما لو كانا استحبابيين لم يقع التنافي بينهما ، بل ستأتي الاشارة إلى أنّه لو كان المقيّد استحبابيا لا يقع التنافي بينهما ولو كان المطلق وجوبيا ، وسرّه ما ذكرناه من أنّ التكليف الاستحبابي لا يمنع من ترك متعلّقه كي يكون منافيا لما يقتضيه التكليف بالمطلق من جواز ترك ذلك القيد والاتيان بالصنف الآخر الخ.

قوله : وهذا هو السرّ في عدم حمل المشهور إطلاقات المستحبّات على مقيّداتها. نعم إذا كان المطلق في باب المستحبّات ناظرا إلى إثبات درجة خاصّة ، وكان دليل المقيّد ناظرا إلى إثبات تلك الدرجة بعينها ، لتحقّقت المنافاة بينهما ... الخ (٢).

يمكن أن يقال : إنّ الأمرين الاستحبابيين إن اتّحدا فلا محيص عن الحمل ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٨ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٤٦٠