أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

بل لا بدّ أن يكون ناسخا ، سواء كان قبل حضور وقت العمل أو كان بعده ، هذا كلّه فيما يتعلّق بما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي عن شيخنا قدس‌سره في ذلك المبحث.

أمّا ما نقله محرّر هذا الكتاب عن شيخنا قدس‌سره في ذلك المبحث فهذا نصّه في الجزء الثاني : والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان قبيحا في حدّ ذاته ، إلاّ أنّه لا مانع من عروض عنوان آخر على موجب لارتفاع قبحه ، بل لاتّصافه بالحسن ، نظير بقية العناوين القبيحة لو لا عروض عنوان آخر عليها ، فإذا فرض اقتضاء الحكمة من تقية أو غيرها تأخير البيان فلا بدّ من التأخير ، وإلاّ لزم العمل على خلاف الحكمة ، فالإشكال المذكور إنّما نشأ من تخيّل أنّ القبح في المقام نظير القبح الثابت للظلم الغير الممكن تخلّفه عنه ، مع أنّه من الضروري أنّ الأمر ليس كذلك بل هو تابع لتحقّق ملاكه ، فإذا اقتضت الحكمة تأخير البيان لمصلحة أقوى فلا مناص عن التأخير حفظا لتلك المصلحة ، انتهى (١).

ولا يخفى أنّ هذا الوجه هو عين ما حرّره هذا المحرّر هنا في الحاشية على ص ٥٠٨ (٢) فراجع هذه الحاشية تجدها عين ما نقله عن شيخنا قدس‌سره هناك.

ثمّ إنّ المحشّي بعد أن أوضح الوجه في جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة بأنّه ليس من قبيل الظلم بل هو من قبيل الكذب القابل لانفكاكه عنه لوجود المصلحة المقتضية له ، قال : على أنّ قبح الالقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة قابل أيضا للانفكاك عنه فيما كانت في مورده مصلحة مقتضية له انتهى (٣).

ولا يخفى أنّ تأخير البيان في حدّ نفسه لا يتّصف بحسن ولا بقبح ، بل هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٣٠٠.

(٢ و ٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٩٦ ، ٣٩٧.

٣٦١

إنّما يتّصف بالقبح بواسطة ما يترتّب عليه من إلقاء المكلّفين في المفسدة ، فإن كان في التأخير مصلحة أو في التقديم مفسدة مقاومة لتلك المفسدة التي يقع المكلّفون فيها عند تأخير البيان تعيّن التأخير ، أمّا أنّ نفس الالقاء في المفسدة يكون فيه مصلحة موجبة لانقلابه من القبح إلى الحسن غير مصلحة التأخير أو مفسدة التقديم ، فذلك محتاج إلى تأمّل ونظر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ هذا المطلب أعني الالتزام بكون التأخير عن وقت الحاجة لأجل مصلحة فيه أو لأجل مفسدة في البيان قبل الحاجة ، هو عين توجيه الشيخ قدس‌سره (١) في اختياره للوجه الثالث الذي أفسده شيخنا قدس‌سره فيما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (٢) في ذلك المبحث بلزوم الكسر والانكسار ، وسقوط مصلحة حكم الخاصّ عن التأثير فيه ، ولزوم كون الخاصّ المتأخّر ناسخا ، إلاّ بأن نقول إنّه كاشف عن اقتران العام بالمخصّص ولم يصل إلينا. وحاصل ما عندنا فعلا في هذه المسألة هو ما أشرنا إليه (٣) فيما نقلناه عمّا حرّرناه في التعليق على تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله.

وحاصل ذلك التأمّل : هو أنّ الصلاح في إخفاء حكم الخاصّ ولزوم عدم بيانه لا يقلب الحكم الواقعي لذلك الخاصّ إلى حكم العام ولا موجب للكسر والانكسار ، بل يكون حكم ذلك الخاصّ حكما واقعيا ثابتا في الواقع ، غير أنّه لا يمكن إظهاره ، ويكون المكلّفون معذورين في الجري فيه على طبق العام استنادا إلى أصالة العموم ، ويكون ركونهم إلى أصالة العموم من هذه الجهة كركونهم إلى

__________________

(١) لاحظ ما ذكره في مطارح الأنظار ٢ : ٢٣٢.

(٢) تقدّم نقله في الصفحة : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٣) في الصفحة : ٣٥٩.

٣٦٢

الحكم الظاهري المتعارف عند عدم علمهم بالحكم الواقعي ، ولا يكون الشارع هو الذي ألقاهم في خلاف الواقع. ولا فرق بين هذا الحكم الظاهري وبين بقية موارد الحكم الظاهري إلاّ أنّه في بقية الموارد يكون الشارع قد بيّن لهم الحكم الواقعي ، وإنّما كان وقوعهم في المفسدة بسبب الطوارئ والعوارض التي أوجبت عدم وصول ذلك البيان إليهم ، فلا يكون وقوعهم في المفسدة مستندا إلى الشارع ، وفي هذا المورد أيضا لا يكون وقوعهم في المفسدة مستندا إلى الشارع ، لأنّه لا يمكنه البيان ، فلا يكون هو المسئول عن وقوعهم في خلاف الواقع ، لأنّه لا يمكنه إيصال البيان إليهم لأجل ما فيه من المفسدة ، فيكون حاله كحال بقية الأحكام الظاهرية في كون الشارع معذورا في وقوعهم بخلاف الواقع ، إذ لا يلزمه إلاّ البيان المتعارف كما حقّق في محلّه (١) في كيفية جعل الطرق والأمارات والأصول العملية.

وإن شئت التفصيل ومزيد التوضيح فقل : إنّ الصور المتصوّرة في مسألة الكسر والانكسار ومسألة تفويت المصلحة على المكلّفين تكون في مقامات :

المقام الأوّل : مقام جعل الحكم وتشريعه ، فإنّ الفعل القابل لتعلّق التكليف به تارة يكون واجدا للمصلحة : وهذا يحكم بوجوبه. وأخرى يكون واجدا للمفسدة ، وهذا يحكم بحرمته. وثالثة يكون واجدا لكلا الجهتين ، وفي هذه الصورة يقع الكسر والانكسار ، ويكون الحكم الواقعي الذي يجعله الشارع لذلك الفعل تابعا لما هو الأقوى من هذين الملاكين المتزاحمين في مقام الجعل والتشريع بعد وقوع الكسر والانكسار بينهما ، ففي هذه الصورة يتحقّق الكسر

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة في المجلّد السادس على فوائد الأصول ٣ : ٩٦ ( راجع قوله قدس‌سره في أواخر الحاشية : والخلاصة هي أنّ في المقام أمورا ... ).

٣٦٣

والانكسار ، إلاّ أنّه لا يكون في البين تفويت من الشارع بالنسبة إلى المكلّفين.

المقام الثاني : أنّ الشارع بعد أن جعل الحكم على طبق المصلحة ولم يكن في البين ما يوجب إخفاء ذلك الحكم ، وقام بمقتضى وظيفته من الإبلاغ والبيان على حسب المتعارف ، ولكن ربما لا يصل ذلك البيان إلى بعض المكلّفين ، فيكون ذلك البعض موردا للحكم الظاهري لأجل مصلحة تقتضي جعل ذلك الحكم الظاهري في حقّه ، بلا كسر وانكسار بين مصلحة الواقع ومصلحة الحكم الظاهري ، ومن دون تفويت شيء على المكلّفين من جانب الشارع كما حقّق في محلّه ومرّت الإشارة إليه. وهذا راجع إلى الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية ، فعلى الطريقية الصرفة لا يكون في البين مصلحة في ذلك الحكم الظاهري ، نعم على القول بالسببية يتأتّى الإشكال ، وهل يتأتّى على السببية السلوكية التي يقول بها الشيخ قدس‌سره؟ فيه بحث حرّرناه في محلّه في أوائل حجّية الظنّ (١) ، فراجع.

المقام الثالث : أنّ الشارع بعد أن جعل الحكم الواقعي لذلك الفعل على طبق المصلحة ، يكون هناك مفسدة في إظهاره وبيانه للمكلّفين ، فيلتجئ الشارع إلى عدم البيان مع فرض صدور الحكم الواقعي منه ، وحينئذ يكون المكلّفون جاهلين بذلك الحكم الواقعي ، فيكونون موردا للحكم الظاهري ولو بمثل أصالة البراءة أو بمثل التمسّك بالعموم فيما نحن فيه مع فرض كون الخاص محكوما في الواقع بخلاف حكم ذلك العام ، وقد عرفت أنّه لا يلزم في ذلك كسر وانكسار ولا تفويت شيء من جانب الشارع على المكلّفين ، لأنّ هذا الصلاح والفساد إنّما هو في المرتبة المتأخّرة عن جعل الحكم على طبق المصلحة التي اقتضت جعله ،

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة في المجلّد السادس على فوائد الأصول ٣ : ٩٦.

٣٦٤

وتلك المرتبة هي مرتبة بيان الحكم والاعلان به وتبليغه على النحو المتعارف ، ولا ريب أنّ هذه المرتبة لا تؤثّر على المرتبة الأولى بعد فرض أنّها أثّرت أثرها ، بأن جعل الشارع الحكم على طبقها.

نعم ربما كان الوقت غير ملائم لجعل الحكم بحيث كانت هناك مفسدة تمنع من جعله ، لكن هذا وإن كان ممكنا إلاّ أنّ فرض الكلام إنّما هو خلافه ، لأنّ فرض الكلام إنّما هو بعد أن كانت مصلحة الجعل تامّة غير مزاحمة بشيء ، وإنّما كان المانع مانعا من إظهاره والإعلان به.

والغرض من هذا كلّه مجرّد الامكان لينفتح لنا كون المسألة من باب التخصيص المنفصل ، مثلا لو كان ولدك يضرّه لبس الحرير بأن يكون لبسه له موجبا لوقوعه في حمّى أيّام قلائل ، لكنّك لو أخبرته بأنّه حرام عليه يموت ، ففي هذه الصورة تارة يكون الشارع الحكيم قد جعل له حرمة لبس الحرير لكنّه لا يخبره به مخافة موته من جهة إخباره به ، فكان الضرر الأهمّ في الإخبار لا في أصل الجعل والتشريع. وأخرى لا يجعل له الحرمة بل يؤخّر جعلها حتّى يرتفع محذور إخباره بها وعند ذاك يجعلها ويخبره بها لأجل جهة تمنع من أصل الجعل ، والكسر والانكسار إنّما يجري في الصورة الثانية دون الأولى.

والخلاصة : هي أنّ المفسدة الغالبة إن كانت في نفس الجعل كان المقام من قبيل الكسر والانكسار ورجع الأمر إلى النسخ ، وإن لم تكن المفسدة الغالبة إلاّ في البيان بعد الجعل لم يكن لغلبتها أثر إلاّ ترك البيان مع بقاء الحرمة الواقعية على ما هي عليه ، فلا يكون المقام إلاّ من قبيل تأخير البيان لا من باب النسخ ، وفي الحقيقة يكون الكسر والانكسار في البيان ، فإنّه واجب في حدّ نفسه على الحكيم من باب اللطف ، لكونه موصلا لهم إلى المصلحة الواقعية ومبعدا لهم عن

٣٦٥

المفسدة الواقعية ، لكن إذا اتّفق أنّه إذا بيّن لهم وقعوا في المفسدة الأعظم يكون تركه لازما على الحكيم ، فيؤخّره إلى أن يرتفع ذلك المحذور أعني وقوعهم بواسطة البيان في المفسدة الأعظم.

والحاصل : أنّ وقوع المفسدة الأهمّ في البيان لا يوجب خللا في أصل مصلحة الجعل ، فلا يكون في البين ما يوجب عدم الجعل ، بل لا يكون إلاّ ما يوجب تأخير البيان بعد فرض تحقّق الجعل ، فلا تكون المسألة من وادي النسخ ، فلاحظ وتدبّر.

ويمكن أن يقال : إنّ الأحكام في أوّل البعثة كذلك ، بأن يدّعى أنّ الحجاب مثلا واجب من أوّل بدو الشريعة ، لكن هناك مفسدة تمنع من إظهاره ، ويكون المكلّفون حينئذ موردا للحكم الظاهري. ولكن الظاهر أنّ هذه الأحكام ليست من هذا القبيل ، بل إنّ الحجاب في أوّل الشريعة لم يكن ذا مصلحة تقتضي إيجابه ، أو كان كذلك لكن كانت هناك مصلحة أخرى تقتضي الحكم بجوازه ، وبعد وقوع الكسر والانكسار كان الحكم الواقعي على طبق ما هو الأقوى منهما وهو المصلحة الثانية ، فيكون الحكم الواقعي حينئذ في أوّل الشريعة هو الجواز وعدم وجوب الحجاب إلى أن انعدمت تلك المصلحة أو صارت مصلحة الإيجاب أقوى ، فحينئذ يكون واجبا ، ويكون ذلك أشبه شيء بالنسخ بل هو هو بعينه.

وما نحن فيه من تأخير بيان الخاص في قبال العام وإن أمكن أن يكون كذلك ، بمعنى أن تكون المصلحة عند صدور العام هي كون الخاص محكوما واقعا بحكم العام إلى أوان صدور الخاصّ ، فتتبدّل المصلحة وينقلب الحكم في الخاصّ ، وحينئذ يكون الخاص المتأخّر ناسخا للعام ، وعلى الظاهر أنّه لا فرق

٣٦٦

في ذلك بين كون الخاص صادرا بعد وقت العمل بالعام أو كونه صادرا قبله بعد البناء على إمكان النسخ قبل حضور وقت العمل.

لكن هذا المعنى ، أعني كون الخاص المتأخّر ناسخا لحكم العام لا مخصّصا له بعيد في الغاية ، وحيث إنّ التخصيص ممكن بالتقريب الذي عرفته ، لا داعي إلى الالتزام بالنسخ المفروض بعده.

لا يقال : بناء على ما ذكرتموه من توجيه طريقة التخصيص ، تقع المزاحمة بين مصلحة الحكم فيما عدا الخاص ، فإنّها تقتضي إظهاره والاعلان به ، والمفسدة في بيان حكم الخاص على خلاف حكم العام ، فلو قدّمنا الأولى كما هو المفروض كان محصّله هو انكسار مصلحة حكم الخاصّ.

لأنّا نقول : إنّ مصلحة حكم الخاص لم تكن هي طرف المزاحمة ، بل إنّ طرفها هو المفسدة في إظهار حكم الخاص ، والشارع قد جمع بينهما فأظهر حكم العام فيما عدا الخاص ، كما أنّه أخفى الحكم الواقعي للخاص ، غير أنّه من إظهاره لما اقتضته تلك ، وإخفائه لما اقتضته هذه ، صار حكم الخاص مجهولا للمكلّف ، وكان حكمه الظاهري هو العمل على طبق أصالة العموم مع بقاء الحكم الواقعي بالنسبة إلى الخاص على واقعه محفوظا.

ومن ذلك يظهر لك الحال في التقية ، فإنّها يمكن أن يكون الواقع محفوظا في موردها لم يتبدّل إلى مقتضى التقية ، ولا يكون العمل على طبق التقية إلاّ من باب العذر المحض ، كما يمكن أن يكون من باب الكسر والانكسار وانقلاب الحكم الواقعي إلى مقتضى التقية ، والظاهر من أخبارها هو الثاني ، فيكون من قبيل الكسر والانكسار من دون تفويت شيء من جانب الشارع على المكلّف.

٣٦٧

قوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ عمدة ما وقع فيه الإشكال في المقام كما أشرنا إليه إنّما هي في تأخّر المخصّصات ... الخ (١).

الذي ينبغي عقد الكلام في مسألتين : الأولى : فيما تقدّم العام وتأخّر الخاصّ عن وقت العمل بالعام ، كما لو فرض أنّه قال : ادفعوا الخمس إلى الهاشميين ، ثمّ بعد العمل على ذلك قال : لا تدفعوا الخمس إلى بني لهب ، فهل تتحقّق المعارضة في هذه الصورة بين أصالة عدم النسخ وأصالة العموم أو لا؟

الذي ينبغي الجزم به هو الثاني ، فإنّ أصالة عدم النسخ يمكن أن تقرّب باستصحاب بقاء الحكم المحتمل نسخه. ويمكن أن تقرّب بالعموم الأزماني بالنسبة إلى ذلك الحكم ، وعليه يبتني قولهم إنّ النسخ تخصيص بحسب الأزمان. ويمكن أن تقرّب بالتمسّك بعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » (٢). ويمكن أن يدّعى كونها أصلا عقلائيا برأسه ، فيكون نظير أصالة الحقيقة في قبال احتمال إرادة المجاز بناء على أنّه أصل برأسه ، وليس براجع إلى أصالة عدم القرينة الحاكمة بإرادة المجاز.

وهذه التقريبات وإن كان بعضها غير مسلّم ، إلاّ أنّ أصالة عدم النسخ لا تجري في المقام بأي وجه وجّهناها به من هذه الوجوه.

أمّا الأوّل فواضح كما أفاده شيخنا قدس‌سره (٣) من أنّ الحكم الذي يراد استصحابه بالنسبة إلى بني لهب إنّما هو وجوب دفع الخمس إليهم ، ومع الشكّ في خروجهم من أوّل الأمر لا يكون حدوث هذا المعلوم متيقّنا متيقّنا سابقا كي يحكم ببقائه بالنسبة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٧ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٠٠.

٣٦٨

إليهم من زمان صدور العام إلى زمان صدور الخاصّ ، حيث إنّه بعد صدور الخاص لا شبهة في عدم جواز الدفع إليهم ، وإنّما كان الأثر للاستصحاب هو لزوم قضاء ما دفعوه سابقا إليهم ، فالحكم الذي يراد استصحابه إنّما هو وجوب الدفع إليهم إلى زمان صدور الخاصّ ، وقد عرفت أنّ الشكّ إنّما هو في الحدوث لا في البقاء بعد فرض الحدوث ، إذ لو كان الحكم حادثا فلا شكّ في بقائه إلى زمان صدور الخاصّ وفي كون الخاص ناسخا له.

ومن ذلك تعرف الوجه في عدم جريان الأصل المذكور لو كان المستند فيه هو العموم الأزماني ، لأنّ العموم الأزماني في طول العموم الأفرادي ، والمفروض هو الشكّ في شمول ذلك العموم الأفرادي ، ومع الشكّ في دخولهم تحت ذلك الحكم العام كيف يمكننا أن نقول إنّ وجوب الدفع إليهم ثابت في كلّ آن.

وهكذا الحال فيما لو كان المستند هو عموم « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » فإنّ هذا أيضا متفرّع على دخولهم تحت العموم السابق. بل وهكذا الحال فيما لو كان المستند هو بناء العقلاء ، ليكون أصالة عدم النسخ أصلا برأسه ، فإنّ هذا لو سلّم كونه هو المدرك لم يكن جاريا فيما نحن فيه ، لأنّه أيضا متفرّع على دخولهم تحت العموم السابق ، إذ ما لم يثبت الحكم في حقّهم لم يكن معنى لبناء العقلاء على عدم نسخه.

على أنّ هذا الوجه لا وجه له ، إذ العقلاء بما أنّهم عقلاء لا ينظرون إلى النسخ إلاّ بما أنّه حادث من الحوادث ، فإذا شكّوا في حدوثه بنوا على عدم حدوثه ، فيكون راجعا إلى الوجه الأوّل ، لا أنّه أصل برأسه ، إذ لا يمكن القول بأنّ العقلاء بانون على كون عدم النسخ أصلا برأسه إلاّ إذا كان النسخ معروفا لديهم ، وكانوا لا يعتنون باحتماله ، نظير عدم اعتنائهم باحتمال التجوّز في قبال أصالة

٣٦٩

الحقيقة.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ هذا الأصل يتوقّف جريانه على إحراز شيء يقع الشكّ في نسخه ، والمفروض أنّ الحكم مشكوك من أوّل الأمر ، ولو أغضي النظر عن ذلك وقيل إنّ المحتمل نسخه هو عموم العام ، لقلنا إنّه من الأصول الملحقة بالأصول الجهتية ، فيكون محكوما لأصالة العموم التي هي من الأصول المرادية المقدّمة على ما هو من سنخ الأصول الجهتية.

وبعد تحقّق عدم جريان أصالة عدم النسخ في المقام لا يبقى بأيدينا إلاّ أصالة العموم التي يكون مقتضاها هو النسخ. لكن هذا الأصل أيضا غير جار في المقام ، لأنّ الخاص واقف له بالمرصاد ، وحينئذ يكون الحكم بالنسخ دوريا ، لتوقّفه على أصالة العموم ، وتوقّف أصالة العموم على سقوط ذلك الخاص عن تخصيص ذلك العام وصيرورته ناسخا له ، وكونه كذلك موقوف على بقاء أصالة العموم بحالها ، وهذا بخلاف التخصيص فإنّه لا يتوقّف إلاّ على قابليته في حدّ نفسه لتخصيص العام ، فلا يقال إنّ التخصيص موقوف على عدم النسخ ، وعدم النسخ موقوف على عدم شمول العام وهو عبارة عن التخصيص ، لما قد عرفت من أنّ التخصيص لا يتوقّف على عدم النسخ ، بل إنّ مرتبة النسخ متأخّرة عن التخصيص ، حيث إنّ النسخ إنّما يكون بعد تمامية الدلالة على الحكم الذي يراد نسخه ، والمفروض أنّ الخاص يخصّص العام قبل الوصول إلى درجة نسخه به ، فتأمّل.

قال شيخنا قدس‌سره فيما حرّرته عنه في باب التعادل والتراجيح في بيان تقدّم التخصيص على النسخ في مقام الردّ على قول الشيخ قدس‌سره (١) بأنّ التخصيص مقدّم

__________________

(١) فرائد الأصول ٤ : ٩٤ ، مطارح الأنظار ٢ : ٢٢٦.

٣٧٠

على النسخ لشيوعه وكثرته بخلاف النسخ لندرته وقلّته ، فإنّه قال فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : وفيه أنّه إنّما يقدّم التخصيص على النسخ لأنّ النسخ متأخّر رتبة ، حيث إنّه إنّما يكون إذا بقي العام على عمومه ، ليكون ذلك الخاص ناسخا له ، والمفروض أنّ ذلك الخاصّ بمجرّد وجوده يكون قرينة على عدم إرادة العموم ، فيكون مخصّصا له ، فلا تصل النوبة إلى بقاء العام على عمومه ليكون ذلك الخاص ناسخا له. ثمّ إنّه قدس‌سره أوضح ذلك أيضا فيما حرّرته عنه هناك بقوله : فإنّ التخصيص لمّا كان مقدّما رتبة على النسخ كان مقدّما عليه في مقام المعارضة ، بل إنّ كلّ تجوّز إذا دار الأمر بينه وبين النسخ كان مقدّما عليه ، وسرّه هو أنّ النسخ إنّما يكون بعد حمل اللفظ على ظاهره من العموم أو غيره من المعاني الحقيقية ، ووجود ما كان مخالفا لهذا الأصل يكون رافعا له ، فلا يدعه باقيا على حقيقته حتّى تصل النوبة إلى كونه ناسخا له ، انتهى.

وحاصله : أنّ عملية التخصيص مقدّمة على عملية النسخ ، لأنّ مرجع تلك إلى تحقيق مراد المتكلّم ، ومرجع هذه إلى أنّ هذا الذي أراده المتكلّم ثابت باق أو أنّه قد نسخ ، والحاصل أنّ مرتبة النسخ وعدمه بعد إحراز المراد ، وإحراز المراد في المقام إنّما هو بأصالة العموم المفروض كون الخاص واقفا لها بالمرصاد ، وهو موجب بحسب النظر العرفي لحمل العام على الخاص ، وبعد تحقّق هذه العملية أعني عملية حمل العام على الخاص التي هي عبارة عن التخصيص لا مجال لاحتمال النسخ.

المسألة الثانية : فيما لو كان المتقدّم هو الخاص ، واحتمل كون العام الوارد بعد العمل بالخاص ناسخا ، فيجري في حكم الخاص أصالة عدم النسخ بمعنى استصحاب نفس حكم الخاص ، لكنّه محكوم بأصالة عموم العام ، فإنّ

٣٧١

مقتضى أصالة العموم هو كون الخاص محكوما بحكم العام ، ومعه لا يبقى شكّ في ارتفاع حكم الخاصّ ، وبذلك يندفع الإشكال على ذلك بما سيأتي نقله (١) عن شيخنا المحقّق العراقي من أنّ مجرّد كون الأصل في أحد الطرفين لفظيا وفي الطرف [ الآخر ] حكميا لا يوجب الحكومة ، فإنّ ذلك إنّما هو فيما لو كان مورد الأصلين واحدا.

ووجه الاندفاع هو ما عرفت من أنّ أصالة العموم في طرف العام حاكمة بارتفاع الحكم السابق للخاص.

وبه أيضا يندفع ما في الحاشية ص ٥١٢ (٢) من إنكار السببية والمسبّبية ، فراجع وتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ مورد كلّ من أصالة العموم واستصحاب بقاء الحكم السابق للخاصّ إنّما هو الخاص ، وهو مورد واحد ، فالأصل اللفظي فيه يكون حاكما على الأصل العملي. نعم لو صدرت جملة من المولى مجملة ولم نعلم أنّها كانت نسخا لحكم سابق كوجوب الدعاء عند رؤية [ الهلال ] أو أنّها كانت تخصيصا لعام سابق كوجوب إكرام العلماء ، بأن كنّا نحتمل أنّ تلك الجملة لاخراج النحويين مثلا من هذا العموم ، ففي مثل ذلك يمكن أن يقال الأصل اللفظي وهو أصالة العموم في أكرم العلماء لا تكون حاكمة على الأصل الحكمي في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أعني استصحاب عدم نسخ ذلك الحكم. على أنّ الأصل يمكن أن نقول بحكومته حتّى في مثل المثال ، لأنّ الأصل اللفظي يترتّب عليه لازمه العقلي الاتّفاقي وهو هنا تحقّق نسخ الوجوب المذكور.

__________________

(١) في الصفحة : ٣٨٠.

(٢) راجع أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٤٠٢.

٣٧٢

نعم ، لو كان كلّ من الحاكم والمحكوم من الأصول العملية لم تكن الحكومة جارية عند تعدّد المورد كما في موارد العلم الاجمالي بطرو نجاسة على أحد الإناءين اللذين يكون أحدهما في حدّ نفسه مستصحب الطهارة والآخر موردا لقاعدة الطهارة.

وهكذا الحال لو كان المستند في أصالة عدم النسخ هو العموم الأزماني لحكم الخاص ، فإنّ هذا العموم الأزماني فرع الحكم نفسه ، ومع كون أصالة العموم في ناحية العام المتأخّر حاكمة بارتفاع حكم الخاص لا يبقى مورد ومحلّ لعمومه الأزماني ، لما عرفت فيما حقّق في محلّه (١) من كون نسبة العموم الأزماني إلى نفس الحكم من قبيل نسبة الحكم إلى موضوعه ، ومع كون أصالة العموم الأفرادي في ناحية العام حاكمة بارتفاع أصل الحكم الخاصّ ، لا يبقى محل ومورد لعمومه الأزماني ، بل قد عرفت في محلّه أنّ هذا العموم الأزماني يكون محكوما لما هو الأقل من العموم الأفرادي ، فإنّك قد عرفت في محلّه أنّ استصحاب حكم الخاصّ لو كان جاريا يكون حاكما على العموم الأزماني ورافعا لموضوعه.

وهكذا الحال لو كان المستند في أصالة عدم النسخ هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة » (٢) فإنّ الحكم الثابت للخاصّ بأصالة العموم في ناحية العام هو أيضا داخل في حلاله وحرامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّا لو سلّمنا أنّه ليس في مقام

__________________

(١) راجع فوائد الأصول ٤ : ٥٣١ وما بعدها / التنبيه الثاني عشر. وراجع أيضا حواشي المصنّف قدس‌سره الآتية في المجلّد العاشر من هذا الكتاب.

(٢) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

٣٧٣

بيان أنّه لا نبي بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله بل كان في مقام بيان أنّ أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية لا ترتفع إلى يوم القيامة ، لم يكن ذلك منافيا لنسخ بعض أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يقوم مقام نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلفائه ( صلوات الله عليهم ) لأنّ ذلك الحكم الناسخ هو أيضا من أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نعم ، لو كانت هذه القضية ـ أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » الخ ـ قضية خارجية ، وكان المنظور بها خصوص الأحكام التي كانت موجودة حين صدور هذه الجملة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لكان مقتضاها عدم طرو النسخ عليها حتّى من قبل نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن الظاهر أنّها قضية حقيقية ، وأنّ مفادها هو أنّ كلّ ما يكون حلالا من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو حلال إلى يوم القيامة ، ولا شبهة أنّ هذه القضية شاملة للأحكام التي تصدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بيانه هذه القضية الكلّية ، سواء كانت تلك الأحكام المتأخّرة أحكاما ابتدائية أم كانت ناسخة لحكم سابق ، فإنّ كلا منهما يصدق عليه أنّه حلاله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرامه ، وحينئذ يكون مفاد هذه القضية أنّ أحكامه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينسخها أحد بعده ، فيكون مفادها أيضا راجعا إلى أنّه لا نبي بعده بنحو الكناية ، ولعلّ أن يكون فيه تلميح إلى النسخ والتغيير الصادر من مثل عمر وأمثاله ، وهذا إذا أضفناه إلى ما دلّ على كون خلفائه من ذرّيته صلى‌الله‌عليه‌وآله يقومون مقام نفسه يكون ما يصدر من الأئمّة عليهم‌السلام من النسخ خارجا عن عموم هذه القضية بالتخصّص ، لكون مفاد تلك الأدلّة هو أنّ نسخهم يكون عين نسخه.

وكيف كان ، فلا دلالة لهذه القضية على أنّ العام المتأخّر عن الخاصّ لا يكون ناسخا للخاصّ.

أمّا كون المستند في أصالة عدم النسخ هو بناء العقلاء وإن لم يكن راجعا

٣٧٤

إلى شيء ممّا تقدّم من المستندات ، فقد عرفت (١) ما فيه وأنّه لا واقعية لهذا البناء العقلائي ، ومع قطع النظر عن ذلك فهو محكوم لأصالة العموم ، لكونها من الأصول المرادية ، وهو ملحق بالأصول الجهتية ، وحينئذ تكون هذه المسألة مشاركة للمسألة الأولى في أنّه لا مجرى فيها لأصالة عدم النسخ ، غايته أنّ تلك لا مورد فيها لأصالة عدم النسخ ، وهذه تكون أصالة عدم النسخ فيها محكومة لأصالة العموم ، فقد بقينا في هذه المسألة نحن وأصالة العموم ، ومقتضاها وإن كان هو النسخ ، إلاّ أنّها محكومة بالخاصّ ، وأنّ عملية التخصيص سابقة في الرتبة على عملية النسخ كما أشار إليه شيخنا قدس‌سره فيما نقلناه عنه فيما تقدّم (٢).

وإن شئت قلت : إنّ كون هذا العام المتأخّر ناسخا للخاص المتقدّم متوقّف على جريان حكم العام على الخاصّ المذكور وهو عين أصالة العموم المحكومة بفرض سبق الخاص ، وهذه الحكومة أعني حكومة الخاص على العام لا ترتفع إلاّ بفرض كون العام ناسخا له ، فيكون النسخ متوقّفا على أصالة العموم ، وأصالة العموم موقوفة على عدم كون الخاص مخصّصا للعام ، وكونه كذلك متوقّف على كون العام ناسخا له.

ولا يتأتّى الدور من جانب العكس ، بأن يقال إنّ كون الخاص مخصّصا للعام متوقّف على عدم كونه ناسخا له ، وعدم كونه ناسخا له متوقّف على سقوط عمومه له ، وسقوط عمومه له متوقّف على كونه مخصّصا له ، لما عرفت فيما تقدّم (٣) من أنّ كون الخاص مخصّصا للعام وموجبا لسقوط حجّية أصالة العموم فيه لا

__________________

(١) في الصفحة : ٣٦٩.

(٢) في الصفحة : ٣٧١.

(٣) في الصفحة : ٣٧٠ ـ ٣٧١.

٣٧٥

يتوقّف على عدم كون العام ناسخا له ، لأنّ اقتضاء الخاص تخصيص العام كان بطبيعة الحال لا بثبوت كون العام غير ناسخ له.

ثمّ إنّ من هذا الذي ذكرناه في بيان الوجه في سقوط أصالة العموم ، يتّضح لك الجواب عمّا ربما يتوهّم في المقام من أنّ أصالة العموم المفروض كونها محكومة بالخاص كيف جعلتموها حاكمة على أصالة عدم النسخ ، وهل يعقل أن يكون المحكوم بشيء حاكما على غيره.

فإنّ الجواب عن هذا التوهّم واضح ، حيث إنّا إنّما قلنا بأنّ أصالة العموم حاكمة على أصالة عدم النسخ من قبيل المماشاة مع الخصم الذي توهّم المعارضة بين الأصلين المذكورين ، فقلنا في جوابه إنّ أصالة عدم النسخ محكومة لأصالة العموم ، وإلاّ ففي الحقيقة هو هذا الذي ذكرناه أخيرا ، وهو أنّ النظر في كون العام ناسخا للخاص أو كونه غير ناسخ له ، إنّما يكون بعد تمامية مقام الكشف والدلالة في ناحية العام ، ونحن في الرتبة التي نريد أن نأخذ العام كاشفا عن المراد الواقعي يكون الخاص حاكما عليه في هذه الرتبة ، ويكون ذلك الخاص موجبا لخروج مورده عن عموم ذلك العام ، وبعد تمامية هذه العملية والفراغ عن مقام استكشاف المراد الواقعي من ذلك العام بضمّ الخاصّ إليه ، لا يبقى مورد لاحتمال كون العام ناسخا للخاص.

وبالجملة : أنّ ما اشتمل [ على ] هذا التوهّم من قوله إنّ أصالة العموم المحكومة بالخاص كيف تكون حاكمة على أصالة عدم النسخ ، هو بنفسه يكون جوابا عن التوهّم ، وذلك لأنّ محكومية العام بالخاصّ هي عين الحكم بأنّه لا نسخ في البين ، وأنّ احتماله ساقط ، وأنّه بعد فرض كون العام محكوما بالخاص لا يبقى مورد لاحتمال كونه ناسخا للخاص.

٣٧٦

أمّا ما في الحاشية على ص ٥٠٩ من الاستدلال على كون العام المتأخّر مخصّصا بالخاص المتقدّم ، لا أنّ العام يكون ناسخا للخاص ، بأنّ احتمال كون العام ناسخا للخاص المتقدّم إنّما يكون فيما إذا كان العام المتأخّر متكفّلا ببيان الحكم من حين صدور دليله ، وأمّا إذا كان متكفّلا ببيان الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة من أوّل الأمر ـ كما هو الظاهر في كلّ كلام صادر من أحد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام متكفّل بإثبات حكم شرعي ـ فلا يبقى في مورده مجال لاحتمال النسخ الخ (١).

فهو قوي متين ، لكن يبقى الإشكال في وجه تأخير حكم ذلك العام فيما عدا الخاص ، فإنّ هذا التأخير بالنسبة إلى ما عدا الخاص يكون من قبيل تأخير بيان الحكم في أوّل البعثة ، وقد عرفت أنّ الظاهر في تلك الأحكام هو أن لا يكون لها واقع قبل صدور بيانها ، وأنّ واقعها إنّما يتحقّق عند صدور بيانها ، وحينئذ نضطرّ إلى القول بأنّ الحكم في هذا العام المتأخّر صدوره عن الخاص إنّ تحقّق ما تضمّنه من الحكم إنّما هو عند صدور بيانه والإعلام به ، وحينئذ يكون احتمال كونه ناسخا للخاص موجودا ، ولا يندفع إلاّ بما عرفت من تقدّم التخصيص على النسخ رتبة ، فراجع وتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ ما عدا ذلك الخاص لو كان سابقا محكوما بحكم العام ، مثل أن يرد في الأوّل أكرم الفقهاء ولا تكرم النحويين ، ثمّ بعد العمل على كلّ منهما مدّة يرد قوله أكرم العلماء ، وحينئذ لا يكون الإشكال إلاّ في النحويين ، وأنّ حكمهم الذي هو الحرمة قد تبدّل إلى الوجوب ، فيكون منسوخا بأن يقول من الآن فصاعدا يجب إكرام جميع العلماء ، أو أنّه لم يتبدّل ويكون ما دلّ سابقا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٩٨.

٣٧٧

على حرمة إكرامهم مخصّصا لهذا العام المتأخّر. لكن على الثاني لا يكون قوله أكرم العلماء ذا حكم جديد ، وعلى الأوّل يكون بالنسبة إلى النحويين ذا حكم جديد ، وأمّا بالنسبة إلى الفقهاء فلا يكون إلاّ تأكيدا ، وهو بعيد في الغاية.

ومن ذلك يظهر الحال فيما لو شكّ في كونه حكما جديدا أو كونه حاكيا عمّا سبق ، فإنّه يتعيّن الثاني ، إذ على الأوّل لازمه التبعيض ، وهو كونه جديدا بالنسبة إلى النحويين ، وتأكيدا بالنسبة إلى الفقهاء وهو بعيد.

أمّا لو كان الفقهاء سابقا محكومين بحكم مخالف لحكم قوله أكرم العلماء ، فإن قلنا بالنسخ كان ناسخا للحكمين ، وإن قلنا بالتخصيص حصل التعارض بين الأدلّة السابقة وبين هذا العموم ، لكون المسألة حينئذ من قبيل إخراج جميع الأفراد.

نعم ، لو كان ما عدا النحويين محكوما بحكم عام لدليل يكون أعمّ من قوله أكرم العلماء ، كان هذا العام المتأخّر مخصّصا للعام في الفقهاء ومخصّصا ـ بالفتح ـ للدليل السابق القائل بحرمة إكرام النحويين ، ولا يمكن التبعيض بأنّ قوله أكرم العلماء ناسخ لبعض ما سبق ومخصّص ـ بالفتح ـ ببعض ما سبق.

ثمّ إنّ لشيخنا المحقّق الآغا ضياء الدين العراقي طاب ثراه كلاما في هذا المقام أنقله ملخّصا عمّا حرّرته عن درسه (١) ، فإنّه رحمه‌الله بعد أن ذكر إرجاع أصالة عدم النسخ إلى الأصول الجهتية ، ذكر الطولية بينها وبين الأصول المرادية ، وذكر توجيه تقدّم التخصيص على النسخ بهذه الطولية ، إلاّ أنّه عكسها فجعل أصالة الظهور في طول الأصول الجهتية ، بتقريب أنّ الحكم بأنّ الظاهر مراد ، الذي هو عبارة عن أصالة الظهور ، إنّما يكون بعد الفراغ عن أنّه قد صدر لبيان الواقع لا

__________________

(١) سنة ١٣٣٨ ه‍ / ق [ منه قدس‌سره ].

٣٧٨

لجهة أخرى غير بيان الواقع.

وبعبارة أوضح : أنّ ما صدر لبيان الواقع يحكم عليه بأنّ ظاهره مراد ، فيكون الأصل الجهتي مأخوذا في موضوع الأصل المرادي ، فيكون مقدّما عليه رتبة ، وبعد الفراغ عن ذلك التقدّم الرتبي رتّب عليه الوجه في تقدّم التخصيص على النسخ ، حيث إنّه عند الدوران بين رفع اليد عن أصالة عدم النسخ ورفع اليد عن أصالة عدم التخصيص يكون اللازم هو الحكم بالثاني دون الأوّل ، لما هو واضح من أنّ الأصل المتأخّر رتبة الذي هو أصالة عدم التخصيص لا يصلح لمعارضة الأصل المتقدّم عليه رتبة أعني أصالة عدم النسخ.

ثمّ إنّه أورد على توجيه التقديم بهذا التوجيه : أوّلا بأنّه إنّما يتمّ في العام المتقدّم صدوره على صدور الخاص ، لأنّ العام حينئذ هو مورد تعارض هذين الأصلين ، فيتأتّى فيه ما ذكر من أنّ الأصل المتأخّر أعني أصالة عدم كون العام مخصّصا لا يعارض الأصل المتقدّم أعني أصالة عدم كونه منسوخا.

أمّا لو كان الأمر بالعكس بأن كان صدور الخاص متقدّما على صدور العام ، فلا يتأتّى فيه التوجيه المذكور ، لعدم توارد هذين الأصلين على مورد واحد ، فإنّ مورد أصالة عدم النسخ هو الخاص ، ومورد أصالة عدم التخصيص هو العام ، وليست أصالة عدم التخصيص في العام بمتأخّرة في الرتبة عن أصالة عدم النسخ في الخاص كي يقال إنّها لا تعارضها لكونها متأخّرة عنها.

وثانيا : ما حاصله المنع من التقدّم الرتبي ، بدعوى أنّ كلا من أصالة الظهور والأصل الجهتي في عرض الآخر ، هذا حاصل وملخّص ما أفاده رحمه‌الله فيما حرّرته عنه.

٣٧٩

ولكنّه يظهر من مقالته (١) اعتماده على هذا الوجه ، فإنّه بعد أن وجّه التقديم بنحو ما أفاده شيخنا الأستاذ الأعظم قدس‌سره وأنّ مرجع ذلك إلى حكومة الجمع والتصرّف الدلالي على التصرّف الجهتي ، قال : ولنا أيضا بيان آخر في وجه التقدّم ، وهو أنّ أصالة الظهور إنّما تجري في الظهورات الصادرة لبيان الحكم الحقيقي الواقعي ، فالأصول الجهتية ينقّح موضوع الأصول اللفظية ، ولازمه تقدّم الأصول الجهتية على اللفظية رتبة ، وحينئذ لا يصلح الأصول اللفظية للمعارضة مع الأصل الجهتي ، فلا مجال لرفع اليد عن الجهة باجراء الأصول اللفظية وإبقاء حجّية الظهور بحاله ، كيف ولا تنتهي النوبة إلى أصالة الظهور بلا جهة وعلّة ، فالأصول الجهتية جارية في رتبة نفسها بلا معارض ، وبعد جريانها ينتهي الأمر إلى الأصل الدلالي ، فيؤخذ به لو لا وجود ما هو أقوى دلالة عليه كما لا يخفى (٢).

والجمع بين هذين الوجهين لا يخلو من غرابة ، فإنّ الوجه الأوّل الذي كانت نتيجته ما صرّح به من حكومة الجمع والتصرّف الدلالي على التصرّف الجهتي ، لا بدّ أن يكون مبنيا على أنّ أصالة العموم وعدم التخصيص سابقة في الرتبة على الأصل الجهتي الذي هو أصالة عدم النسخ ، وهذا الوجه الثاني مبني على العكس من ذلك ، وأنّ الأصل الجهتي سابق في الرتبة على الأصل اللفظي ، الراجع إلى مقام الدلالة ، أعني أصالة العموم وعدم التخصيص ، فكيف أمكن الجمع بين هذين الوجهين.

وعلى كلّ حال ، أنّك قد عرفت أنّ الحقّ من هذين الوجهين هو الأوّل منهما ، إن كان مبناه ما تقدّم عن شيخنا الأستاذ الأعظم قدس‌سره من كون عملية

__________________

(١) المطبوعة سنة ١٣٥٨ [ منه قدس‌سره ].

(٢) مقالات الأصول ١ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

٣٨٠