أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

إراقته ونجاسة ملاقيه ، وحينئذ فعند كونه مستصحب النجاسة إلى حين الاراقة لا يترتّب حرمة الشرب ، لكن يترتّب بطلان الوضوء الواقع منه ونجاسة ملاقيه قبل الاراقة ، ولو قامت البيّنة على نجاسته كان الحكم كذلك بطريق أولى ، وإنّما الفرق هو أنّه لو كان لتلك النجاسة أثر ولازم تكويني مثل أنّ شاربه يكون محموما وكان للمحموم أثر شرعي وهو وجوب التصدّق عليه ، رتّبنا ذلك الأثر في مورد قيام البيّنة بخلاف مورد قيام الأصل وهو استصحاب النجاسة ، إلاّ إذا قلنا بأنّه مثبت كالأمارة ، وهذا هو الفارق بين الأصل اللفظي والأصل العملي ، لا أنّه من قبيل طولية الآثار في الأصل العملي دون اللفظي.

هذا ما حرّرته في ربيع الأوّل / ١٣٨٤ ، وينبغي الضرب على أغلب ما كنت حرّرته سابقا (١).

قوله : الثاني أنّا وإن سلّمنا كون العام المخصّص مجازا إلاّ أنّ أصالة عدم الاستخدام إنّما تجري فيما إذا شكّ في إرادة معنى مجازي أو حقيقي آخر من الضمير لا فيما علم المراد منه ... الخ (٢).

أورد عليه في الحاشية بقوله : المراد بالضمير في محلّ الكلام وإن كان معلوما إلاّ أنّ المدّعي لجريان عدم الاستخدام لا يدّعي ظهور نفس الضمير في شيء ـ إلى قوله ـ بل إنّما هو يدّعي ظهور الكلام بسياقه في اتّحاد المراد بالضمير ومرجعه ، وبما أنّ المراد بالضمير في محلّ الكلام معلوم ، يدور الأمر بين رفع اليد

__________________

(١) [ ينبغي التنبيه على أنّ هذه الحاشية حرّرها المصنّف قدس‌سره في الدورة الثالثة والأخيرة من دوراته الأصولية ، وكتبها في أوراق منفصلة وألصقها بالأصل ، وأمّا سائر حواشي هذا المبحث السابقة واللاحقة فهي محرّرة قبل هذه الدورة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٨١

عن الظهور السياقي المثبت لعدم إرادة العموم من العام ، ورفع اليد عن أصالة العموم المقتضية للالتزام بالاستخدام ، الخ (١).

ولا يخفى أنّ هذا الظهور السياقي مسلّم لا شبهة فيه ، بل هو بمعنى المطابقة بين الضمير ومرجعه الواقعي قطعي قهري ، إذ لا مجال فيه للتغاير بينهما واقعا ، ولكن بعد أن علمنا أنّ المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات كان ذلك عبارة أخرى عن كون مرجع ذلك الضمير واقعا هو خصوص الرجعيات ، ولكن إن أبقينا العام على عمومه فقد سلكنا بالضمير خلاف الظاهر ، بأن أرجعناه إلى معنى هو مغاير لما هو الظاهر من لفظ مرجعه وهو معنى الاستخدام ، فلم نحتفظ بأصالة عدم الاستخدام. وإن التزمنا باسقاط العموم وقلنا إنّ المراد من لفظ المرجع هو المرجع الواقعي ، فقد احتفظنا بأصالة عدم الاستخدام ، لكن لم نحتفظ بأصالة العموم ، وحيث إنّ أصالة عدم الاستخدام ساقطة لكون المراد بالضمير معلوما ، كانت أصالة العموم بلا معارض.

والحاصل : أنّ المراد بأصالة السياق إن كان هو الوحدة الواقعية فهي قطعية لكنّها لا تنتج ، وإن كان المراد بها هو أنّ الأصل في الضمير أن يكون راجعا إلى ما هو الظاهر من اللفظ السابق عليه فهي عبارة أخرى عن أصالة عدم الاستخدام ، فلاحظ تمام الحاشية وتأمّل.

أمّا أنّه بعد العلم بأنّ المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات ، يكون مقتضى السياق وأصالة الوحدة بين الضمير ومرجعه هو حمل العام على طبق المراد بذلك الضمير ، فهو إن كان المراد بالسياق وأصالة الوحدة هو عدم الاستخدام فقد عرفت حالها ، وإن كان المراد به الاتّحاد ولو بالتصرّف بالعام ، ففيه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٧١.

٢٨٢

أنّه لا أصل لهذا الأصل ، وإنّما أقصى ما عندنا هو أنّ الأصل في الضمير أن يكون مطابقا لمرجعه ، ومن الواضح أنّ ذلك لا دخل له بأنّ الأصل في المرجع أن يطابق ضميره الراجع إليه.

والحاصل : أنّ السياق والوحدة إنّما تحكم على الضمير وأنّه لا بدّ أن يكون على طبق مرجعه ، لا أنّها تحكم على المرجع وأنّه لا بدّ أن يطابق ضميره ، وحيث قد علم بالمراد بالضمير وأنّه قد خالف الظاهر من مرجعه فقد سقط فيه الأصل المزبور ولا أصل يوجب علينا أن نجعل المرجع مطابقا لضميره.

قوله : فإنّ إثبات تخصيص العام بأصالة عدم الاستخدام ليس من جهة كونه من آثاره شرعا ، بل هو من جهة ملازمته عقلا ، وبهذا الاعتبار يكون داخلا في الأصول المثبتة ، ومن الواضح أنّ إثبات لازم عقلي بأصل فرع إثبات ملزومه ، فالأصل إذا لم يمكن إثبات الملزوم به فكيف يمكن إثبات اللازم به مع أنّه فرعه وبتبعه (١).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ مبنى حجّية الأصول اللفظية في إثبات اللازم هو كونه بحسب نظر العقلاء من آثار مجرى الأصل ، فإن كانت الطولية هي السبب في التوقّف في الأصول اللفظية كانت سببا في التوقّف في الأصول فيما لو كان الأثر الشرعي أثرا ولو بألف واسطة ، وإن لم تكن الطولية موجبة للتوقّف في الأصول الشرعية ، لم تكن موجبة له في الأصول اللفظية.

والأولى أن يقال : إنّ الفارق هو وجود الاطلاق في ناحية الأصول العملية الشامل لجميع الآثار ، وأنّ الآثار الطولية لما هو مجرى الأصل آثار لنفس مجرى الأصل ، بخلاف الأصول اللفظية فإنّ الآثار الطولية فيها وإن كانت بنظر العقلاء

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٨٣

آثارا لنفس مجرى الأصل ، إلاّ أنّه حيث لا إطلاق فيما يدلّ عليها ، إذ ليس الدليل عليها إلاّ بناء العقلاء المفروض عدمه أو الشكّ فيه عند عدم الأثر فيما هو الأثر الأوّل في مجرى الأصل كما فيما نحن فيه ، فلا يكون لنا ما يدلّ على حجّية الأصل اللفظي في الصورة المزبورة.

قوله : فلو كان المولى أراد من العموم خصوص البعض واتّكل في ذلك على معلومية إرادة البعض من الجملة الأخرى فقد أخلّ ببيانه ... الخ (١).

هذا التفصيل لو تمّ فإنّما يتمّ في صورة كون العموم ثابتا بمقدّمات الحكمة ، أمّا لو كان عمومه لفظيا وضعيا فلا مجال فيه لهذا الضابط الراجع إلى الإخلال بمقدّمات الحكمة ، بل تكون المسألة داخلة في احتمال قرينية الموجود ، ولم يعلم من حال العقلاء بناؤهم على الأخذ بأصالة الحقيقة أو الأخذ بأصالة الظهور عند احتمال قرينية الموجود.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ احتمال قرينية الموجود مانع من الأخذ بالظهور ، سواء كان مدرك الظهور هو مقدّمات الحكمة أو كان مدركه الظهور اللفظي الوضعي ، وسواء كان محتمل القرينية في نفس الجملة أو كان في جملة أخرى ما دام المتكلّم مشغولا بكلامه المفروض اتّصال بعضه ببعض ، فتأمّل. ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده قدس‌سره في المسألة الآتية.

ولا يخفى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما يأتي ، فإنّ الكلام فيما يأتي إنّما هو في أنّ دليل الاخراج الذي هو الاستثناء هل هو مختصّ بالأخيرة أو يشمل الجميع. أمّا ما نحن فيه فإنّه لا ريب في أنّ التخصيص إنّما هو في الأخيرة ، ولكنّا نريد أن نجعل الاختصاص في الأخيرة التي هي مشتملة على الضمير قرينة على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٨٤

الاختصاص في سابقتها وهي ذات مرجع الضمير ، ومن الواضح أنّ جعل ذلك المبحث من قبيل احتمال قرينية الموجود لا يوجب جعل هذا المبحث من هذا القبيل.

والخلاصة : هي أنّك قد عرفت أنّ أصالة عدم الاستخدام لا مجرى لها في المقام ، وأنّ الجاري فيه هو أصالة العموم ، وبعد تمامية ذلك لم يبق إلاّ احتمال سقوط أصالة العموم في نفسها ، لا لتقديم أصالة عدم الاستخدام عليها ، ولا وجه حينئذ لسقوطها.

وإن شئت فقل : إنّ الضمير لا يزيد على كونه إشارة إلى المطلّقات السابقة ، فلا يكون الحكم بأنّ بعولتهنّ أحقّ بردهنّ إلاّ حكما على تلك المطلّقات ، فيكون للمطلّقات السابقة حكمان أوّلهما التربّص وما بعده ، وثانيهما أنّ البعل أحقّ بردّها ، ولو كان الثاني بنفسه أو بواسطة الدليل الخارجي مختصّا بالرجعيّات لم يكن ذلك موجبا لاختصاص الأوّل بها ، سيّما إذا كان ذلك الاختصاص بواسطة الدليل الخارجي.

وبالجملة : ليس المقام من قبيل الاكتناف بما يصلح للقرينية على وجه يكون موجبا لسقوط أصالة العموم بالقياس إلى الحكم الأوّل.

قوله : والتحقيق أن يقال بعد ما عرفت من لزوم رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة ... الخ (١).

لا يخفى أنّ أدوات الاستثناء إنّما هي موضوعة لإيجاد الاخراج الفعلي العملي ، ولا فرق فيه بين كون المخرج منه جملة واحدة أو أكثر ، إذ لا يختلف

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٨٥

بذلك معنى أداة الاستثناء من إيجاد الاخراج ، ولا فرق في ذلك بين كون عقد الوضع مذكورا في الجملة الأولى فقط وبين كونه مذكورا في جميع الجمل (١) وذلك لأنّ الاخراج من الموضوع إنّما هو بلحاظ الحكم ، فيقع الكلام في أنّ هذا الاخراج من الموضوع الأوّل هل كان بلحاظ جميع الأحكام أو أنّه كان بلحاظ خصوص الأخير منها.

ومنه يظهر لك أنّه لو كان عقد الوضع مذكورا في الأخيرة لم يتعيّن الحكم على ذلك الاخراج بأنّه من خصوص الأخيرة ، وما أفيد بقوله : حيث إنّ عقد الوضع ذكر في الجملة الأخيرة مستقلا فقد أخذ الاستثناء محلّه ، ويحتاج تخصيص الجمل السابقة إلى دليل الخ (٢) ، قابل للتأمّل ، فإنّ الاستثناء في مثل هذه الصورة قابل للرجوع إلى الجميع وللرجوع إلى الأخيرة ، وكأنّه مبني على أنّ الاستثناء يكون من السابق بعد اللاحق ، فيقال إنّه بعد أن أخذ الاستثناء محلّه لا وجه لتوجيهه إلى السابق ، وفيه ما لا يخفى فإنّه إخراج واحد وإنّما يتكلّم في أنّه إخراج من الأخير أو من الجميع. مضافا إلى أنّه لو كان الميزان أخذ المحل فلم لا نقول إنّه يرجع إلى الأوّل فيأخذ محلّه.

نعم ، في خصوص الآية الشريفة (٣) ربما نقول إنّ الظاهر منها هو الرجوع إلى الأخيرة ، لمناسبة التوبة للحكم بعدم قبول الشهادة والحكم بالفسق دون ما

__________________

(١) وكأنّه مبني على أنّه لو وقع الاخراج من الموضوع السابق على الأحكام المتأخّرة يكون كلّ واحد من تلك الأحكام المتأخّرة واردا عليه بعد الاخراج ، وفيه تأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) النور ٢٤ : ٤ ـ ٥.

٢٨٦

تقدّمها من الأحكام ، بل يمكن القول بعدم رجوعه إلى الأولى حيث إنّ الحدّ وهو الجلد لا يسقط بالتوبة.

ويمكن أن يقال : إنّ الاضراب وتغيير الأسلوب بإعادة الموضوع في خصوص الحكم الأخير يدلّ على أنّ ذلك ابتداء كلام جديد ، فيكون الاستثناء مختصّا بالحكم الأخير الذي هو الفسق دون ما تقدّمه حتّى عدم قبول الشهادة ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ عدم قبول الشهادة من جهة الفسق المفروض زواله بالتوبة بمقتضى الاخراج من الأخيرة ، وحينئذ يكون عدم قبولها محدودا بعدم التوبة أيضا ، وهكذا الحال فيما لو كان التعدّد في ناحية الموضوع ثمّ كرّر المحمول في بعضها أو جيء بمحمول آخر غير المحمول الأوّل كما لو قال أكرم العلماء والشعراء وأكرم السادات ، أو قال أكرم العلماء والشعراء والخطباء وخذ الفتوى من الفقهاء إلاّ الفسّاق ، فإنّه ربما كان تغيير الأسلوب قرينة على ابتداء كلام جديد.

وبالجملة : أنّ المقامات مختلفة والأحكام متفاوتة ومناسبات الاستثناء لبعضها دون بعض ونحو ذلك ممّا لا مجال للضابط فيه ، فلا بدّ من ملاحظة كلّ مثال بخصوصه ، ومنه يظهر لك التأمّل فيما تضمّنته الحاشية على ص ٤٩٦ (١) من ضابط التفصيل فلاحظ وتأمّل ، كما أنّ الحصر في خمسة أقسام لعلّه يتطرّق إليه الإشكال بالزيادة ، فإنّ الجمل امّا أن تختلف موضوعا ومحمولا أو تختلف موضوعا مع الاتّحاد في المحمول أو بالعكس ، والأوّل قسم واحد ، والثاني يمكن فيه ذكر المحمول في الأولى فقط أو فيها وفي الأخيرة أو في الجميع ، وهكذا الحال فيما لو اتّحد الموضوع واختلف المحمول ، فإنّ الموضوع ربما تكرّر في الجميع أو لم يذكر إلاّ في الأولى أو فيها وفي الأخيرة ، بل إنّ القسم الأوّل ربما كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٧٥.

٢٨٧

مؤلّفا من بعض القسمين الأخيرين ، بأن يكون بعض الجمل يختلف مع البعض موضوعا ومحمولا ، وربما كان البعض متّحدا مع البعض موضوعا أو متّحدا [ محمولا ] كلّ ذلك تكثير للأقسام وتطويل بلا طائل.

كما أنّ الظاهر أنّ البحث لا يختصّ بالاستثناء بل يجري في جميع القيود المتأخّرة ، كما وقع النزاع في آية التيمّم أعني قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) الخ (١) ، في أنّ هذا القيد وهو لم تجدوا راجع إلى الجميع من قوله تعالى : ( كُنْتُمْ ) إلى آخره ، أو إلى الأخيرين ، أو خصوص الأخير.

والأولى أن يقال : إنّ الأمثلة تختلف ، فربما كان لنا موضوع واحد وأورد عليه أحكام متعدّدة ، سواء كان متأخّرا مثل قولك أكرم وعظّم وقلّد العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، أو كان متقدّما مثل قولك إذا دخل العلماء البلد فافتح أبواب المساجد واجمع الناس وافرش السوق وهيّئ الاستقبال إلاّ الفسّاق منهم ، فإنّه لا ينبغي [ الريب ] في رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع ، وأنّه يوجب التخصيص في الجميع. ولو كانت هناك موضوعات متعدّدة وأحكام متعدّدة مثل أحسن إلى النحويين وتعلّم من الكتّاب وبالغ في إكرام الهاشميين إلاّ الفسّاق ، أو كان هناك موضوع واحد متكرّر مثل أكرم العلماء وقلّد العلماء وتعلّم من العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، فهو الذي وقع الكلام فيه في الرجوع إلى خصوص الأخيرة أو إلى الجميع.

والظاهر أنّ الآية الشريفة من قبيل الثاني ، فإنّ ذكر الضمير في كلّ جملة عبارة أخرى عن تكرار عقد الوضع ، وإلاّ فكيف كان عقد الوضع موجودا في الأخيرة مع أنّ الموجود فيها إنّما هو اسم الاشارة وهو كالضمير. كما أنّ الأولى

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

٢٨٨

توسعة البحث إلى القيد المتأخّر كما عرفت في آية التيمّم وعدم التخصيص بالاستثناء.

قوله : والأوّل إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأولوية من المدركات العقلية ، وأمّا إذا كانت عرفية كما في آية الأف (١) فيخرج عن المفهوم ويدخل في المداليل اللفظية العرفية (٢).

أورد عليه في الحاشية بقوله : قد تقدّم من شيخنا الأستاذ قدس‌سره الاعتراف بأنّ المفهوم داخل في المداليل اللفظية ، فلا وجه لما أفاده في المقام من خروج ما إذا كانت الأولوية عرفية من المفهوم الموافق بالأولوية ، انتهى.

لا يخفى أنّ مراد شيخنا قدس‌سره هو التفرقة بين مثل قولك أكرم خدّام العلماء في دلالته بالأولوية على وجوب إكرام العلماء ، ومثل آية الأف ، فإنّ الأوّل لا يكون إلاّ بنحو من الملازمة والانتقال من الأضعف إلى موضوع آخر يكون هو الأولى بالحكم الوارد على غيره ، بخلاف آية الأف فإنّه مع هذه الأولوية يمكن أن يكون من قبيل الكبرى الكلّية التي ذكر منها فردها الأخفى ، فيخرج حينئذ عن عالم المفاهيم التي وقع الكلام في كون دلالتها لفظية أو عقلية. وقد اختار هو قدس‌سره كونها لفظية ، ويكون مفاد الآية الشريفة داخلا في المداليل اللفظية العرفية بلا كلام ، ويكون ذلك من قبيل ذكر ما هو الأخفى من أفراد موضوع الكبرى.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس‌سره في هذا المقام ما هذا لفظه :

ونعني بالمفهوم الموافق هو ما إذا وافق المفهوم المنطوق في الكيف من

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٢٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٨٩

الايجاب والسلب ، كقوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) وكقولك أكرم خدّام العلماء ، حيث إنّ الأوّل يدلّ على حرمة الضرب والإيذاء الذي يكون أشدّ من قول أف ، والثاني يدلّ على وجوب إكرام العلماء ، ودلالتهما على ذلك إنّما تكون بمقدّمة عقلية قطعية وهي أولوية حرمة الضرب من حرمة قول أف ، وأولوية إكرام العلماء من إكرام خدّامهم. بل يمكن أن يكون ذكر أف في الآية المباركة من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام ، وذكر الفرد الخفي للتنبيه على الفرد الجلي ، فتكون دلالة الآية على حرمة الإيذاء الشديد من المداليل الالتزامية اللفظية لا من المداليل الالتزامية العقلية. نعم ، في مثل أكرم خدّام العلماء تكون الدلالة عقلية لمكان الأولوية القطعية.

والحاصل : أنّ المفهوم الموافق يختلف بحسب الموارد ، فتارة يكون استفادة المفهوم من باب المقدّمة العقلية القطعية ، وأخرى يكون من باب دلالة نفس اللفظ ، وذلك في كلّ مورد يكون ذلك المنطوق للتنبيه به على العام ، الخ (١).

وقال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه قدس‌سره : ثمّ وجه الأولوية قد يكون لحكم العقل بها ، أو لدلالة اللفظ عليها ، وأولوية حرمة إيذاء الوالدين بالضرب المستفادة من قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) يمكن أن يكون على كلا الوجهين ، لأنّ العقل يحكم بعد أن علم بحرمة الأف أنّ الضرب محرّم بطريق أولى ، فهذه الأولوية من الأحكام العقلية الملازمية ، واللفظ أيضا دالّ عليها بالدلالة السياقية ، لأنّه يفهم من هذا الكلام أنّه من قبيل التنبيه على العام بذكر الخاص ، فإنّه بصدد بيان أوّل درجة من الإيذاء وأدناه ، فحرمة أعلى درجته تستفاد من سوق الكلام ، انتهى.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٥٥.

٢٩٠

قوله : والثاني يتحقّق في منصوص العلّة ، ونعني به ما كان العلّة المذكورة فيه واسطة في العروض ... الخ (١).

لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره تعرّض في هذا المقام للضابط الفارق بين الواسطة في العروض وغيرها على سبيل الإجمال ، ووعدنا بأنّه يتعرّض له مفصّلا بعد الفراغ من هذه المباحث ، وبعد الفراغ من هذه المباحث ومباحث النسخ تعرّض قدس‌سره للضابط المذكور ، وقد حرّرناه عنه قدس‌سره هناك ، ولا بأس بنقله هنا ، وهذا هو نصّ ما استفدته منه قدس‌سره في ضمن درسين :

لا يخفى أنّه تقدّم في مبحث التخصيص بمفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ذكر لمنصوص [ العلّة ] وهناك وعدنا قدس‌سره بأن يتعرّض لبيان الضابط لذلك ، وبعد الفراغ من مباحث النسخ تعرّض قدس‌سره لذلك الضابط ، فلا بأس بالحاقه بتلك المباحث ، والذي أفاده قدس‌سره في بيان ذلك هو ما يلي ، قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه :

الكلام في ضابط العلّة المنصوصة وبيان الفارق بينها وبين حكمة التشريع. وقبل الشروع في المقصود ينبغي أن يعلم أنّ العلّة المنصوصة لا بدّ أن ترجع إلى الكبرى الكلّية بخلاف حكمة التشريع ، والعمدة من الذي نريد تحقيقه هو بيان الضابط الفارق بين هذين القسمين ، وأنّ أيّا منهما صالح لأن يكون كبرى كلّية وأيّا منهما غير صالح لذلك ، ولنقدّم لذلك مقدّمة وهي [ أنّ ] أهل المعقول قسّموا الواسطة إلى الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض.

ومرادهم بالواسطة في الثبوت هي ما تكون علّة في عروض العارض على معروضه على وجه يكون المعروض هو نفس الذات الكذائية ، وتكون الجهة المذكورة أجنبية عن المعروضية لذلك العرض ، وإنّما تكون علّة في لحوق

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٩١

العرض لتلك الذات.

ومرادهم بالواسطة في العروض ما تكون هي المعروضة لذلك العرض ، وبسبب اتّحاد تلك الواسطة مع الذات الكذائية وانطباقها عليها تكون تلك الذات معروضة لذلك العرض ، وحيث إنّ الحكم اللاحق للموضوع الفلاني يكون لحوقه له لحوق العرض لمعروضه ، كان من هذه الجهة قابلا للقسمة المذكورة.

فيمكن أن يكون عروض الحكم على موضوعه بواسطة ثبوتية تكون علّة في ورود الحكم على ذلك الموضوع ، وتكون أجنبية عن معروض ذلك الحكم.

كما يمكن أن يكون عروضه عليه بواسطة عروضية تكون هي في الحقيقة مورد ذلك الحكم وتكون هي الموضوع والمعروض لذلك الحكم ، غير أنّه بواسطة انطباقها على الموضوع الفلاني واتّحادها معه يكون الحكم المذكور عارضا على ذلك الموضوع.

ثمّ إنّ ما كان من وسائط الأحكام من قبيل الثاني ـ أعني الواسطة في العروض ـ تكون مطّردة ومنعكسة ، بمعنى أنّ الحكم يدور مدار تلك الواسطة وجودا وعدما ، ويكون مرجعها إلى الكبرى الكلّية.

وما كان من قبيل الأوّل أعني الواسطة في الثبوت لا يلزم فيه الاطّراد والانعكاس ، بل كما يمكن فيه ذلك يمكن أن يكون للمورد خصوصية يكون الحكم تابعا لها وجودا وعدما ، لا أنّه تابع للواسطة المذكورة ، بل يجوز أن توجد الواسطة في غير المورد ولا يوجد الحكم لأجل فقدان خصوصية المورد ، وحينئذ لا تكون العلّة مطّردة ، كما يجوز أن لا توجد الواسطة في بعض أفراد ذلك المورد ويكون الحكم موجودا فيه ، وحينئذ لا تكون العلّة منعكسة ، ويكون جعل الحكم لتمام أفراد المورد على وجه يكون شاملا لما هو فاقد لتلك الواسطة نظير الحكم

٢٩٢

الاحتياطي لئلاّ تفوت مصلحة تلك الواسطة ، لعدم الضابط المائز بين ما هو واجد لها من تلك الأفراد عمّا هو فاقد لها منها ، فيجعل الحكم على تمام الأفراد لئلاّ يشذّ عنه شيء ممّا هو واجد لتلك الجهة أعني الواسطة ، ولو كان على نحو لو لم توجد العلّة في ذلك الموضوع لم يكن الحكم موجودا فيه كانت العلّة منعكسة.

فقد تلخّص لك ممّا تقدّم : أنّ الواسطة في العروض هي المعبّر عنها بالعلّة المنصوصة ، وهي التي يكون الحكم دائرا مدارها وجودا وعدما ، وهي التي يتعدّى فيها عن مورد الحكم إلى كلّ ما تتحقّق فيه الواسطة المذكورة ، ويكون مرجع التعليل بها إلى الكبرى الكلّية ، وتكون مطّردة كما تكون منعكسة.

وأمّا الواسطة في الثبوت فإن كانت متحقّقة في تمام أفراد ذلك الموضوع الذي لحقه الحكم بواسطتها كانت من قبيل علّة الحكم ، وهي المعبّر عنها بالعلّة المستنبطة ، ولا يمكن فيها تسرية الحكم عندنا إلى ما هو من غير ذلك المورد ممّا تتحقّق معه الواسطة المذكورة إلاّ بعد إثبات أنّه لا خصوصية للمورد في ذلك الحكم ، وأنّ الحكم يسري إلى كلّ مورد تتحقّق فيه العلّة المذكورة ، ونعبّر عن ذلك بتنقيح المناط ، ويكون مطّردا ومنعكسا كالواسطة في العروض ، ولا فرق بينهما إلاّ في كون الأوّل من قبيل الكبرى المطوية فلا يجري فيه الاستصحاب عند الشكّ بخلاف الثاني. وإن لم تكن الواسطة في الثبوت متحقّقة في تمام أفراد ذلك الموضوع الذي لحقه الحكم بواسطتها كانت من قبيل حكمة التشريع التي لا يدور الحكم مدارها لا وجودا ولا عدما ، ويكون السرّ في جعل الحكم لتمام أفراد الموضوع وإن كان بعضها فاقدا لتلك الواسطة هو المحافظة عليها لئلاّ تفوت المكلّف لعدم الضابط المميّز بين ما هو واجد لها عمّا هو فاقدها من أفراد ذلك الموضوع. وربما كانت العلّة غير مطّردة لكنّها تكون منعكسة ، فينعدم الحكم عند

٢٩٣

انعدامها من ذلك الموضوع ، وحينئذ تكون متوسّطة بين ما هو من قبيل تنقيح المناط وما هو من قبيل حكمة التشريع ، هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات فحاصل الكلام فيه ، أنّ الحكم على العلّة المأخوذة في الحكم بأنّها من قبيل العلّة المنصوصة ، وأنّ الحكم غير مختصّ بمورده بل يكون تابعا لتلك العلّة أينما وجدت ، يتوقّف على أمور ثلاثة :

الأوّل : أن تكون العلّة من العناوين العرفية التي تكون معرفتها بيد العرف ليصلح أن يخاطب بها المكلّف ، وتلقى عهدتها عليه فعلا أو تركا ، وذلك مثل الاسكار ونحوه من العناوين العرفية القابلة للالقاء على عاتق المكلّف. أمّا لو لم تكن العلّة من هذا القبيل بل كانت أمرا مجهول الحقيقة عند العرف مثل النهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الأمر بالصلاة ونحو ذلك من العلل التي يجهلها العرف ولا يمكن أن تلقى إليه وأن يكلّفوا بها ، لم تكن العلّة المذكورة صالحة لأن تكون من منصوص العلّة ، ولا يتعدّى عن مورد الحكم إلى ما توجد فيه العلّة ممّا هو خارج عن مورد الحكم المذكور ، بل تكون حينئذ من قبيل حكمة التشريع غير المطّردة ولا المنعكسة.

الأمر الثاني : أن لا يكون للحكم المعلّل إضافة إلى المورد ، بحيث نحتمل فيه أن تكون العلّة المذكورة علّة لحكم خصوص ذلك المورد دون غيره ممّا وجدت فيه تلك العلّة ، كأن يقول إنّ تحريم الخمر لأجل الإسكار ، فإنّه يحتمل فيه كون الإسكار علّة لخصوص حرمة الخمر دون غيره ممّا وجد فيه الإسكار ، بل لا بدّ أن يؤخذ الحكم المذكور أعني التحريم مطلقا لتكون العلّة المذكورة أعني الإسكار علّة لذلك الحكم المطلق ليسري الحكم إلى كلّ ما وجدت فيه تلك العلّة.

٢٩٤

الأمر الثالث : أن لا يكون للعلّة المذكورة إضافة إلى خصوص المورد بحيث يحتمل أن تكون العلّة في ذلك الحكم هي خصوص المضاف منها إلى ذلك المورد دون غيرها ممّا يضاف إلى الموارد الأخر كأن يقول الخمر حرام لإسكاره ، فإنّه يحتمل فيه كون العلّة في التحريم هو خصوص الإسكار المضاف إلى الخمر دون مطلق الإسكار ، بل لا بدّ أن تكون العلّة المذكورة مطلقة بأن يقول الخمر حرام لأجل الإسكار ليكون العلّة في التحريم هو مطلق الإسكار ، وتكون صحّة التعليل متوقّفة على تحقّق الكبرى الكلّية القائلة إنّ كلّ مسكر حرام ، فيكون التحريم ساريا إلى كلّ مورد تتحقّق فيه العلّة المذكورة أعني الإسكار ، بخلاف ما لو قال : الخمر حرام لأجل إسكاره ، فإنّ صحّة التعليل فيه لا تتوقّف على تحقّق تلك الكبرى الكلّية ، بل يكفي في صحّته كون إسكار خصوص الخمر علّة في تحريمه من دون حاجة إلى تلك الكبرى الكلّية.

وبالجملة : لا يمكن أن يكون التعليل راجعا إلى الكبرى الكلّية إلاّ حيث يكون حسن التعليل أو صحّته متوقّفا على تحقّق تلك الكبرى ، ولا يكون ذلك متوقّفا على ما ذكر إلاّ بعد تحقّق هذه الأمور الثلاثة ، ولو اختلّ واحد منها لم تكن صحّة التعليل متوقّفة على تلك الكبرى ليكون ذلك التعليل طريقا إلى استكشاف تلك الكبرى الكلّية ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من مجموع هذا التحرير أنّ لنا أمورا ثلاثة ، الأوّل : الواسطة في العروض ، وهي المسمّاة بالعلّة المنصوصة. والثاني : الواسطة في [ الثبوت ] ، وهي علّة الحكم ، وهي المسمّاة بالعلّة المستنبطة ، وهي التي تكون متحقّقة في جميع أفراد ذلك الموضوع ، وحينئذ إن كان الحكم فيها ساريا إلى كلّ ما وجدت فيه تلك العلّة سمّيت بتنقيح المناط ، وصارت مطّردة ومنعكسة.

٢٩٥

والثالث : هو حكمة التشريع ، وهي لا تطّرد ولا تنعكس ، هذا في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الاثبات ، فهو قدس‌سره وإن ذكر الضابط فيه وحصره بالأمور الثلاثة ، إلاّ أنّ الأوّل من هذه الأمور لا مجال لانكاره ، إذ لا ينبغي الإشكال في أنّ ما يجهله العرف لا يمكن أن يجعل من قبيل الكبرى الكلّية التي هي مطّردة ومنعكسة ، بل لا بدّ أن يكون ذلك من قبيل حكمة التشريع.

أمّا الوجهان الأخيران فيمكن المناقشة فيهما في مقام الاستظهار ، فتكون المناقشة فيهما صغروية فقهية استظهارية. بل ربما أشكل على الأوّل منهما بعدم المعقولية ، إذ لا يعقل أن يكون مطلق الاسكار علّة لخصوص حرمة الخمر دون غيره من المسكرات ، اللهمّ إلاّ أن تكون العلّة هي الاسكار المضاف إلى الخمر ، وحينئذ يكون الوجه الأوّل من الوجهين الأخيرين راجعا إلى الأخير منهما ، ومراده قدس‌سره منه هو أنّ مجرّد احتمال الخصوصية كاف في التوقّف ، ولا يبعد ذلك.

أمّا ما في الحاشية (١) ممّا ظاهره الرواية فلعلّه إشارة إلى ما في الوسائل في باب ما يفعل فعل الخمر فهو حرام ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : « إنّ الله عزّ وجلّ لم يحرّم الخمر لاسمها ولكن حرّمها لعاقبتها فما فعل فعل الخمر فهو خمر » (٢).

وعلى كلّ حال لو ادّعى استفادة التعميم عرفا من مثل ذلك فإنّما هو من ما بعد هذه الجملة من قوله « فما فعل فعل الخمر فهو خمر » هذا مضافا إلى كثير من الروايات المتضمّنة لحرمة كلّ مسكر (٣) وأنّ كلّ مسكر خمر (٤) ، وأنّ الله حرّم الخمر وأنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٨٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٤٣ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٩ ح ٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٢٦ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥ ح ٥.

(٤) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٣٦ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ وغيره.

٢٩٦

تحريم المسكر من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وفي بعضها لم حرّم الله الخمر؟ قال لفعلها وفسادها (٢) ، أو لأنّها أمّ الخبائث (٣).

والحاصل : أنّ مسألة الخمر والاسكار معلومة الحال من الخارج ، وأنّ المدار في الحرمة على الاسكار وجودا وعدما في الخمر وغيره ، وإنّما جلّ غرض شيخنا هو التمثيل ، وأنّ إضافة العلّة إلى المورد ربما أوجبت احتمال الخصوصية كما يشاهد ذلك في قول الطبيب لا تشرب الخل لحموضته ، فإنّ احتمال الخصوصية فيه قوي ولذلك ربما أتبعه بقوله ولا بأس بشرب ماء الليمون أو ماء النارنج. ولا يقال : إنّ الخصوصية للخل لا لنفس الحموضة ، لأنّها بالذات من حيث الكيف الطعمي الخاص متّحدة في الجميع ، فتخرج حينئذ عن العلّية ويكون العلّة هو الخل نفسه. لأنّا نقول : هذا لا يسدّ باب الاحتمال المذكور ، لاحتمال كون الخصوصية للتركّب من المواد الخلية مع ذلك الطعم الخاصّ على وجه لو انسلخ الخل عن تلك الخصوصية من الطعم لم يكن يمنعه الطبيب ، كما لو قال ولا بأس بشرب العتيق منه المنقلب طعمه إلى الحلاوة.

وبالجملة : أنّ العلّة لو أضيفت لم يبعد احتمال الخصوصية في المضاف إليه ، وإمكان قول الطبيب لا تشرب الخل لحموضته ، ولا بأس بشرب ماء النارنج ، ولا مانع من شرب الخل العتيق الذي زالت حموضته ، يكشف عن إمكان كون المجموع من المضاف والمضاف إليه هو العلّة ، بل قد عرفت أنّ ذلك ليس ببعيد ، فما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه مع إضافة العلّة إلى خصوص المورد لا يمكن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٢٥ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥ ح ٢ ، ٤ ، ٦ ، ٢٤ ـ ٢٦ ، ٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٠٥ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٩ ح ٢٥.

(٣) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣١٧ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٣ ح ١١.

٢٩٧

الحكم بالعموم لا ينبغي الإشكال فيه. أمّا مسألة الاسكار والخمر فهي إنّما نحكم فيها بالعموم من جهات قيام الأدلّة الأخرى ، فهي خارجة عمّا هو غرض شيخنا قدس‌سره ، وإنّما ذكرها من باب المثال وأنّه لو خلّينا نحن وقوله حرّمت الخمر لاسكارها لم يمكن الحكم بعموم العلّة فيه لغير الخمر ، وبذلك يندفع ما أورده عليه في الحاشية على ص ٤٩٩ (١).

نعم ، هناك مطلب آخر وهو أنّ العلّة بعد فرض تمامية الدليل على كونها مطّردة ومنعكسة لا تخرج بذلك عن كونها واسطة في الثبوت ولا تكون واسطة في العروض ، والأثر المترتّب على ذلك يظهر في باب الاستصحاب كما في مسألة استصحاب نجاسة الماء بعد زوال التغيير بالنجاسة ، وكما في مسألة استصحاب حجّية الفتوى بعد زوال العدالة ، فإنّ الأوّل من قبيل الواسطة في الثبوت فيجري فيه الاستصحاب ، والثاني من قبيل الواسطة في العروض فلا يجري فيه الاستصحاب. وهذا الفرق أيضا راجع إلى مقام الاستظهار ولو بواسطة فهم العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، وسيأتي إن شاء الله (٢) أنّ لذلك أثرا آخر يظهر في المعارضة.

قوله : والثاني ( يعني ما يكون بالمساواة ) يتحقّق في منصوص العلّة ـ إلى قوله ـ وقد يتحقّق المفهوم بالمساواة في غير منصوص العلّة فيما إذا أحرز مناط الحكم من الخارج يقينا ... الخ (٣).

وهذا هو المسمّى بتنقيح المناط القطعي ، ومثّل له المرحوم الشيخ موسى

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٨٠.

(٢) راجع الحاشيتين الآتيتين في الصفحة : ٣١٥ و ٣٢٠.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٩ ـ ٣٨١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٩٨

بمسألة بئر بضاعة فقال ما هذا لفظه : وقد يستفاد المساواة من العلّة المطوية ويعبّر عنها بمستنبط العلّة ، وهذا إنّما يكون حجّة إذا حصل القطع بمساواة هذا الموضوع مع نظائره كما نقطع بعدم الفرق بين بئر بضاعة المسئول عنها وبين سائر الآبار ، وأمّا لو ظنّ بالمساواة فلا دليل على حجّيته عند الخاصّة ، انتهى.

قلت : ولعلّه إليه يرجع ما نجده في كثير من كلمات الفقهاء من أنّ الشيء الفلاني المذكور في الرواية لا خصوصية له ، وأنّه إنّما ذكر فيها من باب المثال. لكن يمكن أن يقال : إنّ ما وقع من ذلك ليس من قبيل العلّة المستنبطة المعبّر عنها بتنقيح المناط القطعي ، بل هو راجع إلى طريق آخر للمساواة غير منصوص العلّة وغير العلّة المستنبطة ، بل هو راجع إلى استفادة الكبرى الكلّية من الجملة ، وأنّ موضوع الحكم فيها أعمّ من الذي ذكر فيها ، وأنّ هذا الذي ذكر فيها مورد من موارد تلك الكبرى ، وأنّ ذكرها كان من باب المثال. ولا يخفى أنّ ذلك لا دخل [ له ] بالعلّة أصلا ، وإنّما هو اجتهاد في فهم الحكم الكبروي من الجملة ، وحينئذ يكون ذلك خارجا عن استفادة العلّة بالمرّة ، ولا دخل له بدعوى تنقيح المناط القطعي.

قوله : أمّا الكلام في المفهوم الموافق بالأولوية ، فربما يقال بأنّ المعارض للعام إن كان هو المفهوم ليس إلاّ ، فلا بدّ من تقديم المفهوم عليه مطلقا ، سواء كان النسبة بينهما عموما من وجه أو عموما مطلقا ، فإنّ رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرّف في المنطوق والمفروض لزومه له بنحو الأولوية ، غير ممكن ، ورفع اليد عن المنطوق والتصرّف فيه مع عدم كونه معارضا للعموم بلا وجه ، فيتعيّن التصرّف في العموم وتخصيصه بغير مورد المفهوم لا محالة ... الخ (١).

الظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما عن الشيخ قدس‌سره في التقريرات في تقريب ما عليه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨١ ـ ٣٨٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٩٩

المشهور أو الاتّفاق من تقديم المفهوم على العموم وإن كان بينهما عموم من وجه. وقد صرّح المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عن شيخنا قدس‌سره بنسبة هذا القول إلى الشيخ في التقريرات ، فقال : وقد ذكر في التقرير لجهة الاتّفاق في تقديم المفهوم الموافق الخ.

والأولى نقل عبارة التقريرات بعينها ليتّضح المراد منها فنقول : قال الشيخ قدس‌سره فيما حرّره عنه في التقريرات : هداية ، لا كلام في تخصيص العام بمفهوم الموافقة الراجع إلى دلالة اللفظ بحكم العقل على ثبوت الحكم في الأشدّ بطريق أولى ـ إلى أن قال ـ ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون النسبة بين المفهوم والعموم عموما من وجه ، كما في قولك لا تكرم الفسّاق وأكرم خدّام العلماء ، فالتعارض إنّما هو في العالم الواجب الإكرام بالمفهوم ومحرّم الإكرام بالعموم ، أو كان المفهوم أخصّ كما إذا قيل أكرم خدّام العالم الفاسق.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المفهوم في المقام قضية لبّية لا يمكن التصرّف فيها بنفسها بالتخصيص ، وإنّما هو يتبع المنطوق ، فلا بدّ إمّا من التصرّف في المنطوق بالقول بأن قولنا أكرم خدّام العلماء إنّما لا يراد منه وجوب إكرام الخدّام باخراجه عن الظاهر بالمرّة ، إذ على تقديره فلا معنى للمنع من ثبوت الحكم للمفهوم ، لاستقلال العقل بثبوت الحكم على وجه الأولوية ، نظير استقلال العقل بوجوب المقدّمة بعد فرض وجوب ذيها ، ولا يعقل القول ببقاء الدليل الدالّ على الوجوب مع المنع عن وجوب المقدّمة ، لرجوع ذلك إلى منع الملازمة بين الوجوبين ، وقد فرض حكم العقل بثبوتها ، ولا ريب أنّ ذلك تصرّف بارد لا ينبغي ارتكابه لمن له أدنى درية.

وأمّا القول بالتخصيص فهو متعيّن ولو لم يكن شائعا ، لما عرفت من

٣٠٠