أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

سقوط العموم في كلّ منهما ، لكونه من الشبهة المصداقية في ناحية العام ، فإنّ كل واحد من الشخصين حينئذ يكون مشكوك العلمية ، وبعد الرجوع إلى الأصول العملية يكون كلّ منهما من دوران الأمر بين المحذورين إن كان مفاد الدليل هو التحريم ، وإن كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب كان من قبيل العلم الاجمالي بوجوب إكرام أحدهما ، فيلزم إكرامهما معا. هذا تمام الكلام على الصور الأربع المذكورات.

وهناك صورة خامسة لصورة تردّد زيد المذكور ، هي خارجة عن هذه الصور الأربع المذكورات ، وهي ما لو قال لا تكرم زيدا ، وكنّا نعرف زيدا بشخصه ، لكن لم نعرف أنّه عالم فيكون قوله المذكور تخصيصا لقوله أكرم العلماء ، أم أنّه ليس من العلماء فلا يكون تخصيصا للعموم المذكور ، فيكون التردّد حينئذ من قبيل الدوران بين التخصيص والتخصّص. وهذه هي التي أشرنا إليها فيما تقدّم (١) وقلنا إنّها لا تكون إلاّ مصداقية. وأثر هذا التردّد والشكّ هو أنّه على الأوّل ـ وهو التخصيص ـ يمكننا أنّ نرتّب على زيد المذكور الآثار الأخر للعلماء التي هي غير وجوب الاكرام ، كحجّية فتواه مثلا ونحو ذلك ممّا نفرضه أثرا للعالم ، وكان ذلك الأثر غير وجوب الاكرام. وعلى الثاني وهو التخصّص ـ أعني كون زيد المذكور خارجا عن العلماء خروجا موضوعيا ـ فلا يمكننا أن نرتّب عليه أثرا من آثار العلماء ، لا وجوب الاكرام ولا غيره من الآثار.

وفي جريان أصالة العموم في مثل ذلك لنثبت بها أنّ زيدا المذكور ليس من العلماء ، وأنّه خارج عنهم خروجا موضوعيا ، محلّ تأمّل وإشكال ، منشؤه أنّا وإن قلنا بحجّية المثبت من الأصول اللفظية ، إلاّ أنّه لا بدّ في جريانها من ترتّب الأثر

__________________

(١) في مثال إعطاء الزكاة للفقير المذكور في الصفحة : ١١٨.

١٢١

على مجراها ثمّ نثبت بذلك لازمها ، والمفروض في المقام أنّا لا نتمكّن من ترتيب أثر أصالة العموم في مجراها الذي هو زيد المذكور ، للعلم بأنّه غير واجب الاكرام ، فلا معنى لجريان أصالة عموم وجوب الاكرام في حقّه. اللهمّ إلاّ أن يكتفى في صحّة جريانها فيه بمجرّد ترتّب ذلك اللازم وإن لم يترتّب عليه أثر نفس العموم المذكور ، فتأمّل ، انتهى منقولا ممّا كنت حرّرته تعليقا على ما أفاده شيخنا قدس‌سره.

وينبغي أن يعلم أنّ ما عنون به صدر المسألة بقوله : بقي هناك أمور (١) ، كأنّه لا يخلو عن سهو ، إذ لم يذكر إلاّ أمرين : أوّلهما صورة العلم الاجمالي ، وثانيهما التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية. ولعلّ شيخنا قدس‌سره كان بناؤه على التعرّض لما في الكفاية (٢) من مسألة النذر ، ومسألة ما لو علم بحرمة إكرام زيد واحتمل كونه عالما فيكون من باب التخصيص وكونه غير عالم فيكون من باب التخصّص.

وهذا الأخير تعرّض له المرحوم الشيخ موسى في ذيل الكلام على الأوّل ، فقال فيما حرّره عن شيخنا قدس‌سره بعد الفراغ عن الأوّل : نعم لو علم أنّ شخصا خاصّا مسمّى بزيد محرّم الإكرام ، ولم يعلم بأنّه عالم حتّى يكون خارجا عن حكم العام ، أو جاهل حتّى يكون تخصّصا ، فاحراز أنّ زيدا جاهل بأصالة العموم مشكل ، بل الحقّ عدم إحراز كونه جاهلا بأصالة العموم ، لأنّ بناء العقلاء على التمسّك بالأصول اللفظية في الشكّ في المراد ، لا مع إحراز خروج زيد والشكّ في التخصيص والتخصّص ، ولا يقاس المثال بما إذا كان هناك زيد عالم وزيد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٨.

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٣ ـ ٢٢٦.

١٢٢

جاهل ، لأنّه لو كان زيدان مثلا وشكّ في خروج العالم منهما أو الجاهل فيشكّ في حكم زيد العالم ، وهذا بخلاف ما إذا كان المسمّى بزيد واحدا وشكّ في أنّه متّصف بالعلم أم لا ، لأنّ حكمه معلوم واتّصافه بالعلم مشكوك ، ولا يمكن إثبات جهله بأصالة العموم ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح في أصالة عدم الاستخدام في الوجه الثاني من وجوه عدم معارضتها لأصالة العموم في مثل آية ( وَالْمُطَلَّقاتُ ) الخ (١) ، فراجع ما حرّر عنه في الكتاب ص ٣٨٥ (٢).

واعلم أنّ شيخنا الأستاذ المحقّق العراقي قدس‌سره كان على ما حرّرته عنه في الدرس يميل إلى التمسّك بالعموم في مقام الشبهة المذكورة ، أعني ما لو حرم إكرام زيد وتردّد بين كونه عالما فيكون من باب التخصيص ، أو كونه غير عالم فيكون من باب التخصّص. وعمدة الوجه الذي أفاده هناك هو استشهاده بتمسّك العلماء بالعموم في أمثال ذلك ، وهم من جملة من تثبت بهم السيرة العقلائية. لكنّه في المقالة المطبوعة عدل عن ذلك ، فقال بعد ذكر بعض الوجوه وردّها : بل عمدة الوجه عدم قابلية هذا الأصل لاثبات اللوازم والآثار ، فمرجعه إلى عدم مثبتية هذا الأصل كسائر الأصول المثبتة ولو كانت بنفسه أمارة ، كأصالة صحّة عمل الغير غير المثبت لملزومه مثلا مع كونه أمارة ، ومرجعه إلى عدم حجّية أصالة العموم مع كونه أمارة في لوازمه مع حجّيته في نفسه ومورده (٣).

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٢) [ بحسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، وبحسب الطبعة الحديثة راجع أجود التقريرات ٢ : ٣٧٠ ـ ٣٧٢ ].

(٣) مقالات الأصول ١ : ٤٥٠.

١٢٣

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المانع من أصالة العموم في المقام هو دعوى انحصار حجّيتها كما في الكفاية بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوما بحكمه كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الأصول اللفظية وإن كان حجّة إلاّ أنّه لا بدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا دليل هنا إلاّ السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل (١).

والحاصل : أنّ أصالة العموم إنما تجري لإدخال المشكوك تحت حكم العام ، لا في إخراجه عن مفهوم العام بعد العلم بأنّ حكمه غير حكم العام. ومن الغريب أنّ عبارة الكفاية بهذه الصراحة في عدم الاستناد في المنع عن حجّية العام في ذلك إلى المثبتية ، ومع ذلك يفيد الأستاذ قدس‌سره في المقالة ما ظاهره أنّ الوجه في منع الكفاية هو المثبتية ، حيث إنّه بعد أن نقل عنه أنّه منع في الكفاية من التمسّك بالعموم لأنّ دليلها لبّي ، وأنّ القدر المتيقّن منه هو صورة الجزم بدخول الفرد والشكّ في خروجه عن حكمه لا عكسه ، وأفاد أنّه قدس‌سره أجاد فيما أفاد ، قال : أقول بتوضيح منّا : إنّ وجه عدم حجّية أصالة العموم لاخراج المشكوك ليس من جهة عدم حجّية الأصل المزبور لاثبات الآثار لعموم أفراد العنوان واقعا ، إذ هو بمعزل عن التحقيق ، إذ مرجعه إلى عدم حجّية الأصل لما هو مفروض الفردية ، وشأن العمومات في أمثال القضايا الحقيقية إثبات الحكم لجميع أفرادها الواقعية فعلية أو فرضية ، وهو أيضا مورد اعترافهم بحجّية الأصل فيها ، إذ هو من باب التمسّك بالعام في متيقّن الفردية مع الشكّ في خروجه عنه حكما (٢).

ولم أتوفّق لفهم المراد من هذه العبارة ، فإنّ ظاهرها أنّه ربما استدلّ على

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٦.

(٢) مقالات الأصول ١ : ٤٥٠.

١٢٤

عدم حجّية أصالة العموم في هذا المقام ، لأنّها ليست بحجّة في إثبات الآثار لكلّ فرد من أفراد العالم الواقعي ، هذا إن أرجعنا قوله « واقعا » إلى افراد العنوان ، وإن أرجعناه إلى الآثار يكون معناه أنّه لا يثبت الآثار الواقعية ، وإن أرجعناه إلى الاثبات يكون معناه أنّها لا تثبت الآثار إثباتا واقعيا. وكلّ من هذه الوجوه لا محصّل له ـ كما أفاده ـ إلاّ عدم حجّية أصالة العموم حتّى في مقام الشكّ في الخروج عن الحكم مع فرض إحراز كون المشكوك من أفراد العام. مضافا إلى أنّ ذلك لا دخل له بعدم حجّية الأصل فيما نحن فيه.

وعلى كلّ حال ، لا أظنّ أحدا يتفوّه بذلك ، ولعلّه يشير بذلك إلى ما عن شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير فيما لو قال لا تكرم زيدا ، وتردّد زيد المذكور بين كون المراد منه هو زيدا العالم ، أو كون المراد منه هو زيدا الجاهل ، فيتولّد من ذلك العلم الاجمالي بحرمة إكرام أحدهما ، وأصالة العموم حاكمة بأنّ المراد منه هو زيد الجاهل ، فإنّه قدس‌سره قال : وربما يقال إنّ أصالة العموم لا تكون موجبة لانحلال العلم الاجمالي ، فإنّ دليل العموم إنّما هو بمنزلة الكبرى الكلّية الغير المتكفّلة لحال فرد ، وليس حاله حال البيّنة ، إلى أن قال : وأمّا دليل العام فحيث إنّه لا نظر له إلى خصوص فرد ، فلا يكون موجبا لانحلال العلم الاجمالي ، إلى أن قال : ولكنّه لا يخفى أنّ دليل العام وإن لم يكن متكفّلا لحكم خصوص فرد ابتداء ، إلاّ أنّه يثبت له الحكم بعد انضمام الصغرى إلى الكبرى الخ (١).

فحمل الأستاذ قدس‌سره هذه الجمل من شيخنا قدس‌سره على أنّ أصالة العموم لا تثبت الآثار للأفراد الواقعية ، فأورد عليه ما أورد. ولكن لا يخفى أنّ هذه الجمل لا دخل لها في هذه الجهة ، وإنّما المراد منها هو أنّ أصالة العموم لا تتضمّن إلاّ حكما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٨ ( بعض الفقرات نقلت بالمضمون ).

١٢٥

كبرويا ، من دون تعرّض لخصوص كلّ فرد ، ومن هذه الجهة لا تكون موجبة للانحلال ، بخلاف البيّنة القائمة على أنّ زيدا العالم واجب الاكرام ، فإنّها توجب الانحلال ، لتعرّضها لحال الفرد بخصوصه ، ولأجل ذلك أجاب عنه شيخنا قدس‌سره بأنّها وإن لم تكن متعرّضة لحال الفرد بخصوصه ابتداء ، إلاّ أنّها تكون مثبتة لحكمه بواسطة ضمّ الصغرى إليها ، وحينئذ ينتهي حالها إلى حال البيّنة ، لأنّ النتيجة بعد ضمّ الصغرى إلى الكبرى هي أنّ زيدا يجب إكرامه ، وذلك يوجب انحلال العلم الاجمالي. فأين هذا المطلب من دعوى أنّ أصالة العموم ليست بحجّة في إثبات الآثار لعموم أفراد العام واقعا ، الذي هو مساوق لعدم حجّية العموم عند الشكّ في التخصيص ، فلاحظ وتأمّل. وهذا أحد الموارد التي تكون فيها أصالة العموم مثبتة للوازم.

وأمّا ما أفاده من الركون في عدم حجّية أصالة العموم في المقام إلى عدم قابلية هذا الأصل لاثبات اللوازم والآثار الخ ، ففيه أنّ الظاهر أنّ هذا الأصل كسائر الأصول اللفظية الراجعة إلى أصالة الظهور ، ولا خصوصية لهذا الأصل من بينها توجب عدم كونه مثبتا دونها ، لوحدة الدليل الدالّ على حجّية هذه الأصول وهو بناء العقلاء. ولو كان المدّعى هو أنّ جميع الأصول اللفظية كذلك ـ يعني عدم كونها مثبتة ـ فهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، فإنّه يوجب سدّ باب الاثبات في أغلب الأمارات من أخبار الآحاد والمتواترات والآيات القرآنية ، إذ لا تجد فيها ما هو النصّ ، وإنّما جلّ الاعتماد في استفادة الأحكام منها على الظهور الراجع إلى هذه الأصول اللفظية ، وحينئذ يكون اللازم هو أن لا تكون هذه الأمارات كلّها حجّة إلاّ فيما يدخل تحت الدلالة اللفظية من مداليلها المطابقية والالتزامية ، دون ما يكون خارجا عن ذلك ولو مثل دلالة الآيتين على أقلّ الحمل ، ونحو ذلك ممّا هو من

١٢٦

لوازم المداليل الخارجة عن المطابقة والالتزام الاصطلاحي ، بل يسري ذلك إلى الأقارير والبيّنات. أترى أنّه لو قامت البيّنة على حياة زيد بأن شهد العدول بحياته الآن ، لم يكن ذلك موجبا للحكم بنبات لحيته ، إلى غير ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به.

نعم ، هناك أمر صرّح به شيخنا قدس‌سره (١) في ردّ التمسّك بعموم السلطنة (٢) على نفوذ إباحة التصرّفات المتوقّفة على الملك ، مع الالتزام بتقدير الملكية قبل التصرّف آناً ما ، فإنّ شيخنا قدس‌سره قد ردّ ذلك بأنّه إذا توقّف عموم العام وشموله لمورد على إعمال عناية في ذلك المورد مثل تقدير الملكية ، لا تكون أصالة العموم في ذلك جارية. وليس هذا براجع إلى أنّ أصالة العموم لا تثبت ذلك اللازم ، بل لأنّ أصالة العموم المتوقّفة على تصرّف شرعي لا يمكن إجراؤها قبل قيام الدليل على ذلك التصرّف الشرعي ، لأنّ إجراءها موقوف عليه ، فلا يمكن إثباته باجرائها.

وبالجملة : أصل هذه الجملة التي أفادها شيخنا قدس‌سره في هذا المقام وغيره هو أنّ فردية فرد للعام ، وشمول العام لذلك الفرد لو كان متوقّفا على إعمال عناية في ذلك الفرد ، لا يمكن التمسّك في ذلك الفرد بأصالة العموم وإحراز تلك العناية بأصالة العموم ، لأنّ جريان أصالة العموم يتوقّف على إحراز كون المورد فردا للعام ، والمفروض أنّ إحراز كونه فردا له يتوقّف على إحراز تلك العناية ، وإحراز تلك العناية يتوقّف على إجراء أصالة العموم ، وأين هذا من دعوى كون أصالة العموم لا تثبت اللوازم.

__________________

(١) منية الطالب ١ : ١٧٥ ، ١٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

١٢٧

أمّا ما أسنده في المقالة إلى الفقهاء واستند إليه فيما حرّرته عنه في الدرس فمنه قوله في المقالة : قد يظهر من شيخنا العلاّمة قدس‌سره في باب المعاملات كثيرا التشبّث بأصالة العموم لاثبات ما شكّ في دخوله في العام ، مع الجزم بمخالفة حكمه له (١).

الأولى أن يقول بدل قوله « لاثبات » : لاخراج ما شكّ في دخوله. وكيف كان ، فإنّه يومئ في ذلك ـ كما صرّح به فيما حرّرته عنه في الدرس ـ إلى ما ذكره الشيخ قدس‌سره في مقام الجواب عن نقوض كاشف الغطاء (٢) على القائلين بالاباحة في المعاطاة ، التي منها لزوم كون إرادة التصرّف مملّكة ، فقد قال الشيخ قدس‌سره في الجواب عنه : وأمّا ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرّف مملّكة ، فلا بأس بالتزامه إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل ودليل جواز التصرّف المطلق وأدلّة توقّف بعض التصرّفات على الملك ، فيكون كتصرّف ذي الخيار والواهب فيما انتقل عنهما بالوطء والبيع والعتق وشبهها (٣).

وكأنّ الأستاذ قدس‌سره يتخيّل أنّ قيام السيرة العقلائية على نفوذ عتق المقبوض بالمعاطاة يدور الأمر فيه بين أن يكون العتق نافذا بلا تقدير الملكية ، أو يكون مع تقدير الملكية. وعلى الأوّل تكون السيرة المذكورة مخصّصة لعموم ما دلّ على أنّ عتق غير المالك لا ينفذ ، وعلى الثاني لا يكون العام المذكور مخصّصا بالسيرة ، بل يكون الحكم بنفوذ العتق المذكور من باب التخصّص ، لأنّه بتقدير الملكية يخرج عن كونه عتقا من غير المالك ، وأصالة العموم تعيّن الثاني فيكون

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٤٤٩.

(٢) شرح القواعد ٢ : ٢٣.

(٣) المكاسب ٣ : ٤٨.

١٢٨

ممّا نحن فيه. وفيه ما لا يخفى ، فإنّه تكلّف في تفسير كلام الشيخ ، بل لعلّه تفسير بما لا يرضى صاحبه.

فالأولى أن يقال : إنّ مراد الشيخ قدس‌سره كما هو صريح عبارته هو العمل بذلك العموم ، لا عدم إعماله تخصّصا ، فإنّ ذلك العموم هو عبارة عن اشتراط المالكية في العتق ، وحاصله : أنّه يجب أن يكون المعتق مالكا ، ونحن إذا قدّرنا الملكية نكون قد عملنا بذلك العموم ، ولم يكن في البين تخصيص ولا تخصّص ، كما أنّا قد عملنا بما دلّت عليه السيرة من نفوذ العتق ، وأخذنا بالاستصحاب إلى حين القطع بخلافه وهو حين التصرّف.

نعم ، يرد على الشيخ قدس‌سره أنّه إصلاح للمسألة بالالتزام بشيء لا دليل عليه وهو تقدير الملكية ، بل الذي يقتضيه الجمع الأوّلي هو إمّا رفع اليد عمّا دلّت عليه السيرة وأصالة العدم ، أو رفع اليد عن العموم المذكور ، والمتعيّن هو رفع اليد عن مقتضى الأصل أعني استصحاب عدم الملكية ، والحكم بنفوذ العتق لكونه مملوكا من أوّل الأمر وأنّ المعاطاة تفيد الملكية ، لكنّه حينئذ لا يكون جوابا لكاشف الغطاء ، ويكون ما أفاده في الايراد على الجماعة مسجّلا.

قال المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس‌سره في غرره عند تعرّضه لهذه المسألة : يظهر من كلماتهم التمسّك بأصالة عموم العام واستكشاف أنّ الفرد المفروض ليس فردا له ، إذ بعد ورود الدليل على وجوب إكرام كل عالم يصحّ أن يقال كلّ عالم يجب إكرامه ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب. ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بأنّها لا تنجّس المحل ، فإن كانت نجسة غير منجّسة لزم التخصيص في قضية كلّ

١٢٩

نجس ينجّس ، وأمثال ذلك غير عزيز في كلماتهم وكلمات شيخنا المرتضى قدس‌سره (١) ثمّ إنّه قدس‌سره تأمّل في ذلك لقصور دليل الحجّية عن الشمول للمورد المذكور ، وجعله من قبيل أصالة الحقيقة في مورد العلم بالمراد مع الشكّ في كونه على نحو الحقيقة أو المجاز ، ثمّ إنّه في الهامش بحاشية منه فرّق بينهما بأنّ مثال الحقيقة لا شكّ في المراد الجدّي منه لكونه معلوما بخلاف المقام ، انتهى.

وكان الأنسب أن يقول : ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بأنّها تطهّر المحل ، فإن كانت نجسة مطهّرة لزم تخصيص قضية كلّ نجس لا يطهّر. لكنّه قدس‌سره لعلّه نظر في ذلك إلى ما يقال من أنّه لو كانت الغسالة نجسة لنجّست ما اتّصل بالمحل النجس من اليد ، وهكذا ما اتّصل عند تطهيره إلى تمام البدن.

وكيف كان ، فقد ظهر لك الكلام في هذه المسألة من مسألة ماء الاستنجاء (٢) ، ويكون ما دلّ على التطهير بالماء القليل في قبال ثلاث قواعد : الأولى أنّ القليل يتنجّس بالملاقاة. والثانية أنّ المتنجّس لا يطهّر. الثالثة أنّ المتنجّس منجّس. والأخيران ساقطان للعلم بالخروج عنهما إمّا موضوعا أو حكما فقط ، وتبقى قاعدة الماء القليل يتنجّس بالملاقاة بلا معارض ، فيكون محكوما بالنجاسة.

واعلم أنّ هذه العبارة هي بعينها عبارة الشيخ قدس‌سره في التقريرات ، فإنّه بعد أن ذكر المثال وأنّ أصالة عدم التخصيص تقول إنّه ليس بعالم ، ثمّ ذكر مثال العلم الإجمالي في زيد الخارج بين كونه هو زيدا العالم أو هو زيدا الآخر الجاهل ، وأنّ أصالة عدم التخصيص هي المرجع فيه ويحكم بأنّه هو الجاهل ، قال : فنقول إنّ

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٢٢٢.

(٢) التي سيتعرّض لها في الصفحة ١٣٢.

١٣٠

كلّ عالم يجب إكرامه بالعموم ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لم يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب ، وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية ، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنّها لا ينجّس المحل ، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا كلّ نجس ينجّس (١).

وقد عرفت أنّا إذا قلنا بالطهارة يلزم تخصيص كلّ قليل ينجس بالملاقاة ، فالتخصيص لأحد العمومين لازم على كلّ حال ، وليست المسألة من دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص إلاّ بالنظر إلى كلّ نجس ينجّس ، الموجب لسقوطه ، إلاّ أن نقول بجريان أصالة العموم في هذه الكلّية الثانية بالمعنى الأعمّ من الخروج تخصيصا أو تخصّصا ، اللازم [ أن ] يكون لازمه بالاعتبار الثاني هو عدم النجاسة ، وحينئذ يكون هذا الأصل في هذه الكلّية معارضا لأصالة العموم في الكلّية الأخرى ، وهي كلّ قليل ينجس بالملاقاة ، وبعد التساقط يكون المرجع هو قاعدة الطهارة. ولكنّه مع ذلك لا يكون المرجع هو قاعدة الطهارة ، لأنّ في خصوص الغسالة ما يدلّ على النجاسة من الأخبار ، مثل رواية العيص بن القاسم : « سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء ، فقال عليه‌السلام : إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه ، وإن كان من وضوء الصلاة فلا بأس » (٢).

وأمّا ما ذكره في حاشية الغرر من الفرق بين أصالة العموم في المقام وأصالة الحقيقة بأنّ المراد في الثاني معلوم بخلاف المقام ، ففيه ما لا يخفى ، لأنّ المراد معلوم في المقام أيضا ، للعلم بأنّ زيدا غير داخل في قوله أكرم كلّ عالم ، غايته

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢ : ١٥٠.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢١٥ / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب ٩ ح ١٤ ، وقد ورد ذيله في كتاب الخلاف ١ : ١٧٩ ـ ١٨٠ المسألة ١٣٥.

١٣١

الشكّ في أنّه خارج موضوعا أو أنّه خارج حكما ، وليس ذلك من قبيل الشكّ في المراد ، بل هو من قبيل الشكّ في أنّه كيف يريد ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك قوله قدس‌سره : ونظيره أيضا تمسّكهم بالاطلاقات في أمثال المورد في باب الاستنجاء لاثبات طهارته (١).

كأنّه قدس‌سره يريد بذلك حكمهم بطهارة ماء الاستنجاء بأن جعلوا ما دلّ على أنّه لا بأس به (٢) دالا على طهارته ، استنادا إلى أنّه لو قلنا بنجاسته مع مجرّد العفو عنه يكون هذا الدليل مخصّصا لعموم ما دلّ على المنع من النجاسة في حال الصلاة ، بخلاف ما لو حكمنا بطهارته فإنّه حينئذ يكون من باب التخصّص بالنسبة إلى دليل المنع من النجاسة في حال الصلاة.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الحكم بطهارته أيضا يكون مخصّصا لعموم نجاسة ماء الغسالة ، أو نجاسة الماء القليل عند ملاقاته للنجاسة.

وبالجملة : أنّ لنا عمومين أو إطلاقين ، أحدهما إطلاق نجاسة ماء الغسالة ، الثاني إطلاق منع النجاسة في الصلاة ، وهذا الدليل الدالّ على أنّه لا بأس به لا بدّ أن يكون مقيّدا أو مخصّصا لأحدهما. ومدّعي النجاسة يدّعي أنّه لا يستفاد من ذلك الدليل إلاّ مجرّد العفو عنه في حال الصلاة ونحوها ، فيكون هذا الحكم من باب التخصيص بالنسبة إلى دليل المنع من النجاسة حال الصلاة ، ومن باب العمل بالعام بالنسبة إلى دليل نجاسة الغسالة أو الماء القليل. ومدّعي الحكم بالطهارة يدّعي أنّه يستفاد من ذلك الدليل النافي للبأس عنه طهارته وعدم نجاسته ، فيكون هذا الحكم بالنسبة إلى دليل المنع من باب التخصّص ، وبالنسبة إلى دليل نجاسة

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٤٤٩.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٢١ / أبواب الماء المضاف ب ١٣ ح ١ وغيره.

١٣٢

الغسالة من باب التخصيص.

وبالجملة : ليس الحكم بالطهارة من باب الركون إلى أصالة الاطلاق الذي يكون نتيجته التخصّص ، بل إنّ لازمها هو التخصيص لأحد الاطلاقين ، والمدار في الترجيح على ما يستفاد من نفس دليل العفو ، وإلاّ فيمكن أن يقال : إنّ عموم المنع في الصلاة ساقط قطعا إمّا بالتخصيص أو بالتخصّص ، فيكون عموم نجاسة الماء القليل بحاله بلا مزاحم. إلاّ أن نقول : إنّه يستفاد من دليل نفي البأس أو ممّا اشتملت عليه الروايات من أنّ ما أصابه من الماء أكثر (١) أو أنّه لا ينجّس الثوب (٢) أنّه طاهر ، فيكون مخصّصا لأدلّة الماء القليل أو الغسالة.

ومن ذلك قوله قدس‌سره : ومن هذا الباب أيضا تشبّثهم باطلاقات التحذير على مخالفة الأمر لاثبات خروج الأمر الاستحبابي عن مصداق الأوامر (٣).

كأنّه قدس‌سره يريد أنّهم يقولون : إنّ الأمر في قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )(٤) لا يشمل الأمر الاستحبابي الذي لا حذر في مخالفته ، فيكون المراد بالأمر في الآية الشريفة هو خصوص الوجوبي ، لأنّه لو كان عاما لهما لكان خروج الاستحبابي بالتخصيص ، وأصالة العموم في الأمر قاضية بخروجه تخصّصا.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّهم إنّما يريدون أنّه تعالى علّق الحذر على مجرّد مخالفة الأمر ، فدلّ على أنّه بذاته يقتضي الحذر ، فيكون بذاته مقتضيا للوجوب.

وأين هذا من الركون إلى أصالة العموم لاثبات التخصّص.

__________________

(١ و ٢) المصدر المتقدّم ح ٢ وغيره.

(٣) مقالات الأصول ١ : ٤٤٩.

(٤) النور ٢٤ : ٦٣.

١٣٣

ومن ذلك يظهر لك ما في قوله : ومنه أيضا تمسّكهم باطلاقات ترتّب الآثار على الصلاة ، مثل كونها ناهية عن المنكر وقربان كلّ تقي (١) وأمثالها لاثبات أنّ الفاسدة منها ليست بصلاة. ومن المتمسّكين بذلك في مسألة الصحيح والأعمّ لاثبات مدّعاه من وضع الصلاة للصحيحة أستاذنا الأعظم في كفايته (٢) ومع ذلك أنكر حجّية أصالة العموم في المورد في بحث العام من الكفاية (٣) الخ (٤).

فإنّك قد عرفت أنّ الاستدلال بذلك ليس من جهة الركون إلى أصالة العموم ، وأنّه لو كان شاملا للفاسد لاحتاج إلى التخصيص ، بل إنّما هو من جهة الاستظهار من نفس الدليل الدالّ على أنّ الصلاة قربان كلّ تقي ، بدعوى أنّه يستفاد منه أنّ ما هو قربان هو نفس الصلاة بما لها من المعنى ، فيكون لازمه أنّها بما لها من المعنى لا تشمل الفاسد.

وإن شئت فراجع الكفاية فإنّها صريحة في ذلك ، قال قدس‌سره في الكفاية : ثالثها الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسمّيات ، مثل الصلاة عمود الدين (٥) ، إلى قوله : وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى ، إلى قوله : خلاف الظاهر الخ (٦) فإنّك تراه صريحا في أنّه لا يريد الاستدلال بأصالة العموم على خروج الفاسد ، بل يريد الاستدلال بأنّ ظاهر هذه الأخبار هو ثبوت هذه الآثار

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٤٣ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٢ ح ١ ، ٢.

(٢) كفاية الأصول : ٢٩.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٤) مقالات الأصول ١ : ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ٤ : ٢٧ / أبواب أعداد الفرائض ب ٦ ح ١٢ ، ٣٤ / ب ٨ ح ١٣.

(٦) كفاية الأصول : ٢٩.

١٣٤

لعنوان الصلاة بما لها من المعنى الذي يقتضيه حاق حقيقتها ، وحيث إنّ هذه الآثار لا تثبت للفاسد دلّ ذلك على أنّ حاق حقيقتها هو الصحيح.

ولا يخفى أنّه فيما حرّرته عنه في الدرس جعل من هذا القبيل كلّ ما وقع في كلمات الفقهاء من قولهم إنّ مقتضى الجمع بين القواعد هو أنّ المسألة تكون هكذا ، قال فيما حرّرته عنه : فإنّ معنى ذلك المحافظة على عمومات القواعد وإثبات شقّ خارج عن موضوعاتها ليبقى عموم الجميع بحاله ، إذ لو دخلت في موضوع إحدى القاعدتين دون الأخرى مع صدق كلا الموضوعين عليها لزم تخصيص الأخرى بتلك المسألة ، وهذا هو المراد بقولهم : إذا دار الأمر بين التخصّص والتخصيص فالتخصّص أولى ، انتهى.

أمّا ما نقله عن الفقهاء ، فإن كان مثل طهارة ماء الاستنجاء ومثل قول الشيخ قدس‌سره في الجواب عن إشكال كاشف الغطاء قدس‌سره فقد عرفت أنّه ليس من هذا القبيل ، وأمّا غير ذلك فيحتاج إلى الاطّلاع عليه لنعرف حاله.

وأمّا قولهم إنّ التخصّص مقدّم على التخصيص ، فهو نظير قولهم إنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، فإنّه إنّما يجري فيما لم يعلم المراد وتردّد بين كونه هو المعنى الحقيقي أعني الحيوان المفترس أو المجازي أعني الرجل الشجاع. أمّا [ لو ] علم المراد وأنّه هو النمر مثلا ولكن شكّ في أنّه كيف أريد هل على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز ، فقد حقّق في محلّه أنّ أصالة الحقيقة لا تجري في ذلك. وهذا أعني قولهم إنّ التخصّص أولى من التخصيص ، وأنّه عند العلم بأنّ زيدا يحرم إكرامه والشكّ في كونه غير عالم فيكون من باب التخصّص أو كونه عالما فيكون من باب التخصيص من هذا القبيل ، فلا تجري فيه أصالة العموم لتكون قاضية بأنّه من باب التخصّص.

١٣٥

هذا إذا كان المدرك في الأولوية المذكورة هو أصالة العموم. وإن كان المدرك هو الغلبة ونحو ذلك ، ففيه المناقشة في الصغرى ، وأنّ الغالب هو التخصيص.

وبالجملة : أنّ ذلك راجع إلى تلك الكلمات المجملة التي يدعونها في باب تعارض الأحوال التي قد حقّق في محلّه أنّه لا أصل ولا أساس لأغلبها ، فراجع.

وأمّا الاستدلال على إثبات أنّ زيدا المذكور ليس بعالم بعكس النقيض من جهة أنّ الأصل هو أنّ كلّ عالم واجب الاكرام ، وعكس نقيضه هو أنّ كلّ من ليس بواجب الاكرام فهو ليس بعالم فتكون النتيجة من قولنا إنّ زيدا المذكور ليس بواجب الاكرام ، هي أنّ زيدا المذكور ليس بعالم.

فحقّ الجواب عنه أن يقال : إنّ زيدا المذكور خارج عن الأصل ، لأنّه إن كان غير عالم فهو غير داخل في عنوان العالم ، وإن كان عالما فهو خارج عنه بما أنّه مراد ، بمعنى أنّ المراد الواقعي هو العالم ما عدا زيد ، فيكون حاصل عكس النقيض هو أنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس مصداق العالم أو ليس بمراد من العالم ، فيكون حاصل الشكل هو أنّ زيدا لا يجب إكرامه إمّا لأجل أنّه ليس بمصداق العالم أو أنّه ليس بمراد منه ، وكلّ من لا يجب إكرامه لأحد الوجهين فهو ليس بعالم بأحد الوجهين ، وتكون النتيجة أنّ زيدا المذكور ليس بعالم بأحد الوجهين.

والحاصل : أنّه لا إشكال في أنّ من لا يجب إكرامه نوعان : عالم لا يجب إكرامه وآخر جاهل لا يجب إكرامه ، وحينئذ لا تصحّ الكبرى القائلة إنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم ، لانّ بعض من لا يجب إكرامه هو عالم.

ولو أريد إثبات صحّة كلّية هذه الكبرى بكلّية أصلها وهو أنّ كلّ عالم يجب

١٣٦

إكرامه ، ففيه أنّ هذه الكلّية إنّما نسلّم كلّيتها إذا لم يوجد في قبالها الدليل القائل لا تكرم زيدا المفروض أنّا نحتمل كونه عالما ، ومع وجود هذا الاحتمال لا يثبت عندنا أنّ كلّ عالم يجب إكرامه ، وهذا الاحتمال لا يمكن طرده إلاّ بأصالة العموم المفروض توقّفنا في إجرائها في إحراز كون زيد المذكور ليس بعالم ، إذ لو لم نتوقّف في ذلك كانت أصالة العموم بنفسها مثبتة لكونه غير عالم من دون حاجة إلى تكلّف الاستدلال بعكس النقيض.

ولعلّ ذلك هو المراد بما أفاده بقوله : ولكن نقول إنّ ذلك اللازم ( يعني عكس النقيض ) إنّما يترتّب في فرض حجّية أصالة العموم لاثبات لازم المدلول ( وهو أنّ زيدا المذكور ليس بعالم ) وإلاّ فلا يكون لنا طريق إلى هذه الكلّية المحكوم عقلا من اللوازم الخ (١) ، وإن كانت العبارة المذكورة قاصرة عن إفادة هذا المعنى.

وعلى كلّ حال ، لا حاجة إلى ما التزم به من التفكيك في الحجّية بين الأصل وعكس نقيضه ، بقوله : فلا محيص لهم في أمثال هذه القضايا الظنّية التعبّدية من التفكيك بين حجّية الظنّ في أصله دون عكس نقيضه الخ (٢) ، مع أنّ التفكيك في حجّية الظهور بين الأصل ولازمه الذي هو عكس نقيضه غير ممكن ، لأنّ الملازمة عقلية فإذا ثبتت الكلّية في الأصل ثبتت في لازمه العقلي بالضرورة ، فتأمّل.

ولعلّ مراد المستدلّ بعكس النقيض هو أنّا نلتزم باختصاص حجّية أصالة العموم بمورد الشكّ في الخروج عن الحكم بعد إحراز الموضوع ، ونلتزم بأنّ الأصل وهو أنّ كلّ عالم واقعي واجب الاكرام باق على عمومه ، وأنّه لم يخرج منه

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

(٢) مقالات الأصول ١ : ٤٥١.

١٣٧

فرد واحد من أفراد العالم ، وذلك بأصالة العموم. وعكسه ، وهو أنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم واقعي أيضا كذلك ، يعني أنّه مورد أيضا لأصالة العموم. وبعد النظر إلى ما دلّ على أنّ زيدا لا يجب إكرامه نشكّ في أنّه خارج عن هذا العموم في ناحية عكس النقيض ، ومقتضى أصالة العموم فيه أنّ زيدا المذكور ليس بعالم.

ولكن لو كان ذلك هو مراد المستدلّ لكان جوابه واضحا أيضا ، لأنّ هذا الدليل الدالّ على أنّ زيدا لا يجب إكرامه واقف بالمرصاد لكلّ من الأصل وعكس نقيضه ، فلا بدّ من إصلاح حاله مع الأصل قبل لازمه الذي هو عكس نقيضه ، لكون الأصل سابقا في الرتبة على عكس نقيضه ، وطريق إصلاحه معه هو ما ذكرناه من خروجه عن الحكم في الأصل إمّا خروجا موضوعيا أو خروجا حكميا ، وعلى كلّ منهما فهو ليس بمراد بالعالم في قولنا كلّ عالم ، ويكون حاصل عكس النقيض هو أنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم واقعا أو ليس بمراد من العالم ، وحينئذ لا تكون النتيجة إلاّ أنّ زيدا المذكور إمّا ليس بعالم واقعا أو ليس بمراد من العالم. ولو أجرينا أصالة العموم في ناحية الأصل وقلنا إنّ مفادها أنّ زيدا المذكور ليس بعالم كان مفادها كافيا عن الركون إلى التمسّك بعموم عكس النقيض. وعلى كلّ حال لا يكون الجواب محتاجا إلى الالتزام بالتفكيك في حجّية أصالة العموم بالنسبة إلى احتمال الخروج الحكمي بين الأصل والعكس بمعنى إجرائها في الأصل دون العكس ، ولو توقّف الجواب على ذلك كان الإشكال (١) مسجّلا قطعا ، لعدم معقولية التفكيك بين الأصل وعكس نقيضه في الأصل المزبور. وراجع ما أفاده في عبائره ولعلّ المراد غير هذا الذي

__________________

(١) [ في الأصل : الاستدلال ، والصحيح ما أثبتناه ].

١٣٨

شرحناه فإنّ تلك العبارات لا يمكن تحصيل المراد منها إلاّ بنحو الاحتمال والظنّ.

قوله : الثاني إذا تردّد أمر فرد بين دخوله ... الخ (١).

قلت : لا يخفى أنّ الشبهة المصداقية كالشبهة المفهومية تارة تكون متردّدة بين المتباينين وأخرى بين الأقل والأكثر. مثال الأولى أن يقول : أكرم العلماء ثمّ يقول لا تكرم زيدا العالم ، ونفرض أنّه ليس بينهم إلاّ شخص واحد مسمّى بزيد ، لكن لأجل بعض العوارض تردّد ذلك الشخص بين شخصين عالمين بحيث لم نعرف أيّهما المسمّى بزيد ، هل هو الجالس في هذا الطرف مثلا أو الجالس في ذلك الطرف الآخر. ومثال الشبهة الثانية المثال المعروف وهو لو قال : لا تكرم الفاسق من العلماء ، وشككنا في فسق زيد وعدالته ، فعلى تقدير فسقه يكون الخارج من عموم العلماء أزيد منه على تقدير عدالته.

والظاهر أنّه لا ريب في عدم الرجوع إلى عموم العام في النحو الأوّل من الشبهة المصداقية ، أعني ما يكون من قبيل التردّد بين المتباينين ، لا من جهة العلم الاجمالي بحرمة اكرام أحدهما ، ولا من جهة تعارض أصالة العموم في كلّ منهما ، بل من جهة أنّ نفس أصالة [ العموم ] لا تجري في حقّ كلّ منهما وإن فرض موت الآخر ، هذا لو كان التردّد بين عالمين.

ولو كان التردّد بين عالم وجاهل وكانت الشبهة مصداقية بأن اشتبه العالم بالجاهل ، فلا ريب في عدم الرجوع إلى أصالة العموم في كلّ منهما لكونه من الشبهة المصداقية في ناحية العام ، فتأمّل.

وإنّما محلّ الكلام هو الشبهة المصداقية الثانية وهي المردّدة بين الأقلّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٩.

١٣٩

والأكثر ، ولا يخفى أنّ عمدة ما يستدلّ به للقول بجواز التمسّك بالعام في مورد الشكّ المذكور هو قياس هذه الشبهة المصداقية المفروض تردّدها بين الأقل والأكثر بالشبهة المفهومية المردّدة كذلك مع كون الخاص منفصلا كما في مسألة تردّد الفاسق في قوله لا تكرم الفاسق من العلماء بين كون المراد منه هو خصوص مرتكب الكبيرة أو مطلق المرتكب ولو كان مرتكبا للصغيرة فقط دون الكبيرة ، فكما تقدّم (١) في برهان جواز التمسّك في تلك المسألة من أنّ مرجعها إلى التخصيص الزائد على المعلوم ، وهو خصوص مرتكب الكبيرة ، فيبقى العام بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة بحاله ، فكذلك نقول هنا إنّ القدر الثابت الذي لزمتنا الحجّة بحرمة إكرامهم هو أولئك الأشخاص الذين علمنا فسقهم ، وبذلك المقدار يلزمنا رفع اليد عن عموم أكرم العلماء ، أمّا بالنسبة إلى هذا الشخص المشكوك فسقه فلمّا لم تلزمنا الحجّة بحرمة إكرامه ، فلا وجه لرفع اليد فيه عن عموم أكرم العلماء ، إذ لم يثبت في قبالها حجّة على الخلاف.

وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية ، فإنّ التخصيص لمّا كان عبارة عن إخراج أحد النوعين اللذين ينقسم إليهما ما هو مصبّ العموم ، كان عبارة أخرى عن تنويع العام إلى نوعين ، نوع خارج عن العموم ونوع يكون باقيا تحت العموم ، وفي الشبهة المفهومية يكون القدر المتيقّن من التنويع هو التنويع بحسب ارتكاب الكبيرة ، وأمّا التنويع بحسب ارتكاب الصغيرة فقط فلم يثبت بالدليل الخاص المفروض كونه مجمل المفهوم بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، فيكون عموم العام محكّما فيه ، ويكون إخراجه عن عموم العام تخصيصا زائدا على المقدار المعلوم ، بمعنى أنّ ذلك يكون تنويعا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٥ وما بعدها.

١٤٠