أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

نعم ، إنّ التقييد بلحاظ الحكم تارة يكون من جهة انحصار سنخ الحكم في المقيّد ، وأخرى يكون من جهة أخرى ، مثل غلبة مورد القيد ونحو ذلك ، ولا ريب أنّ الظاهر هو النحو الأوّل ، ولعلّه لأجل ذلك قيل إنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيا.

نعم ، هناك أمر آخر فوق ذلك الظهور ، وهو كون الاحترازية هل هي بالنسبة إلى سنخ الحكم أو أنّها بالنسبة إلى شخص الحكم ، وعلى القائل بالمفهوم إثبات كونه من النحو الأوّل ـ أعني كون التقييد والاحترازية بالنسبة إلى سنخ الحكم ـ ليكون دالا بالالتزام على عدم وجود سنخ الحكم عند عدم ذلك القيد. وقد تقدّم (١) الكلام في هذه الجهة في كيفية دلالة التقييد بالشرط على الانتفاء عند الانتفاء.

ولا يبعد القول بأنّ الصفة المجرّدة عن الموصوف ملحقة بما هو المعتمد منها على الموصوف ، في إفادة التعليق والتقييد والانتفاء عند الانتفاء ، وذلك بملاحظة كون المنظور إليه في أمثال هذه العناوين هو الذوات أنفسها ، فتكون هي ـ يعني الذوات ـ مقرّا للحكم الوارد عليها بلحاظ اتّصافها بالأوصاف المذكورة ، وذلك لو تمّ يخرجها عن كونها من قبيل الألقاب.

وما أفيد في المقدّمة الأولى (٢) من أنّها لو دلّت على الانتفاء عند الانتفاء لكانت الألقاب وأسماء الذوات بذلك أولى ، من جهة أنّ ارتفاع الحكم عند ارتفاع الذات أولى من ارتفاعه عند ارتفاع عارض من عوارضها ، لا يخلو من تأمّل ، لأنّ ذلك إنّما هو في الحكم الشخصي ، أمّا سنخ الحكم فليس ملاك ارتفاعه

__________________

(١) في الصفحة : ٤١٥ وما بعدها من المجلّد الرابع من هذا الكتاب.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٥.

٦١

هو ارتفاع العارض أو الذات ، بل ملاك ارتفاعه ارتفاع ما أخذ فيه قيدا على وجه يكون سنخ ذلك الحكم معلّقا على اتّصاف الذات به ، ومن الواضح أنّ هذا لا يتأتّى فيما لو كان الحكم واردا على نفس الذات ، من دون أن يكون وروده عليها مقيّدا بقيد زائد على أصل الذات.

تنبيه : ذكر الشيخ قدس‌سره في مبحث مسقطات خيار العيب في المكاسب (١) فيما لو وطئ المشتري الجارية فظهر أنّها حامل ، وأنّ الوطء المذكور لا يمنع من الردّ ، بخلاف ما لو كان العيب غير الحمل ، مستدلا عليه بروايات منها صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « عن رجل اشترى جارية حبلى ولم يعلم بحبلها فوطئها ، قال عليه‌السلام : يردّها على الذي ابتاعها منه ، ويردّ عليه نصف عشر قيمتها لنكاحه إيّاها ، وقد قال علي عليه‌السلام : لا تردّ التي ليست بحبلى إذا وطئها صاحبها ، ويوضع عنه من ثمنها بقدر عيب إن كان فيها » (٢).

وهذه الرواية شاهدة بحجّية مفهوم الوصف ، لأنّ الصادق عليه‌السلام استدلّ به فيما حكاه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأنّه عليه‌السلام أمر أوّلا بأنّ الجارية الحبلى تردّ مع الوطء ، ثمّ استدلّ على ذلك بما حكاه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : « وقد قال علي عليه‌السلام » الخ ، هو جعل قول علي عليه‌السلام دليلا على ما أمر به أوّلا من ردّ الحبلى مع الوطء ، وإلاّ فلا دخل له بما أمر به عليه‌السلام أوّلا.

ولو كان لمجرّد بيان الحكمين أحدهما منه عليه‌السلام والآخر عن علي عليه‌السلام لكان الأنسب أن يقول : وقال علي عليه‌السلام. فادخال لفظة « قد » دليل على أنّ ما حكاه عن

__________________

(١) المكاسب ٥ : ٢٩٣ ، ٢٩٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٠٥ / أبواب أحكام العيوب ب ٥ ح ١ ، وأورد ذيله في ب ٤ ح ١.

٦٢

علي عليه‌السلام كانت حكايته بغرض الاستدلال بمفهومه على ما أمر به ، وليس ذلك من قبيل الجمع بين حكمين أحدهما منه عليه‌السلام والآخر من علي عليه‌السلام ، بل ولا من قبيل دفع توهّم من يتوهّم أنّ ما ورد عن علي عليه‌السلام من منع الوطء من الردّ ، وأنّ مراد الصادق عليه‌السلام هو بيان أنّ ما ورد عن علي عليه‌السلام مختصّ بغير الحبلى فلا يشمل الحبلى ، لما عرفت من أنّه لو كان الأوّل هو المراد لقال : وقال علي عليه‌السلام. كما أنّه لو كان الثاني هو المراد لكان الأنسب تصديره بمثل : وأمّا ما عن عليّ عليه‌السلام ، ليكون بمنزلة الجواب عن اعتراض مقدّر.

وبعد تمامية كون ذلك منه عليه‌السلام استدلالا بمفهوم ما صدر عن علي عليه‌السلام وهو قوله عليه‌السلام : « لا تردّ التي ليست بحبلى » الخ ، يمكننا القول بأنّه من قبيل الوصف الغير المعتمد على الموصوف ، إذ لم يقل علي عليه‌السلام لا تردّ الجارية التي ليست بحبلى الخ ، بل جرّده عن الموصوف وهو الجارية ، واعتمد على الصفة فقط ، وهي قوله عليه‌السلام : « لا تردّ التي ليست بحبلى » فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ الحمل الموجود لا يبعد أن يكون هو من غير سيّدها ، وهو وإن كان مملوكا للمشتري لكنّه عيب ، كما صرّح به الشيخ (١) وغيره في تعداد العيوب الموجبة لخيار الفسخ.

نعم ، لو كان الحمل من السيّد البائع فهي حينئذ أمّ ولد ، ويكون ردّها واجبا لانكشاف بطلان البيع ، إلاّ أنّ ذلك لا يخلّ بمحلّ الشاهد ، وهو أنّ الصادق عليه‌السلام استدلّ بمفهوم الوصف فيما نقله عن علي عليه‌السلام. وإن كانت الرواية مجملة من حيث تردّد الحمل بين كونه من السيّد فيكون الردّ واجبا ، أو من غيره فيكون الردّ جائزا وليس في البين قدر جامع.

__________________

(١) المكاسب ٥ : ٣٦٦.

٦٣

وفي نسخة خطّية من التهذيب رسم على لفظة « علي » علامة نسخة ، وبناء عليه تخرج الرواية عمّا نحن بصدده ، ويكون القائل هو الصادق عليه‌السلام.

وقد وجدت في هامش هذه النسخة هذه العبارة : المرفق إمّا بيان حكم آخر ، أو الاستدلال بمفهوم الصفة على ما ذكره عليه‌السلام ، أو بيان أنّ عدم الردّ المشهور عن علي ( صلوات الله عليه ) إنّما هو في غير الحبلى ، فلا يتوهّم التنافي ( م ق / سره ). ولم أعرف المرموز له بهذه الحروف من هو.

قوله : حيث إنّ كلمة « حتّى » يستعمل غالبا في ادخال الفرد الخفي في موضوع الحكم ... الخ (١).

الخفاء تارة يكون لأجل عظمة مدخول حتّى ، مثل مات الناس حتّى الأنبياء ، وأخرى لأجل ضعفه مثل قدم الحاج حتّى المشاة ، أو خسّته مثل سبقك الناس في الفضيلة حتّى الحجّامون. وهذه وإن كانت بحسب صناعة النحو عاطفة إلاّ أنّها بحسب النظر الأصولي غاية في الحكم ، فكأنّه في مثل قوله : احترم الناس حتّى الحجّامين ، قد أمره باحترام الناس واستمرار ذلك الاحترام من أعاليهم إلى أدناهم. وعلى كلّ حال ، أنّ هذا الاستدلال لم أجده في شيء من تحريراتي ، ولا في تحرير باقي المحرّرين ممّا تيسّر لي مراجعته.

ولا بأس بنقل ما حرّره نجله ، فإنّي رأيته وعلى خصوص هذه العبارة التصحيح الكثير بخطّه الشريف ، قال : وقد وقع الكلام فيما كان مشتملا على أداة الغاية في مقامين : الأوّل في دخول الغاية في المغيّى في كونها محكومة بحكمه ، أو خروجها عنه ، أو التفصيل في ذلك إمّا باعتبار الأدوات وكونها « حتّى » أو « إلى » وإمّا باعتبار نفس الغاية وكونها من جنس ما قبلها أو مغايرا له. والحقّ أنّه لا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٩ [ مع اختلاف يسير جدّا عمّا في النسخة المحشاة ].

٦٤

سبيل إلى دعوى الوضع بالنسبة إلى شيء من ذلك ، بل يختلف باختلاف المقامات وخصوصيات القضايا ، وقد لا يكون للقضية ظهور فيلزم العمل حينئذ على ما يقتضيه الأصول العملية ، انتهى. وبمثل ذلك ما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في الدورة السابقة والدورة الأخيرة ، وبنحوه عبّر المرحوم الشيخ محمّد علي في تحريراته المطبوعة (١) فراجعها.

ومع هذا كلّه فقد قال الشيخ قدس‌سره فيما حكاه عنه في التقريرات ما هذا لفظه : وادّعى بعض النحاة الإجماع على الدخول في حتّى ، ولعلّه خلط بين العاطفة والخافضة كما نصّ عليه ابن هشام (٢).

فلو لم يكن في البين شيء سوى هذا الموجود في تقريرات الشيخ قدس‌سره لكفى في الجزم بعدم صدور ذلك من شيخنا قدس‌سره ، إذ لا أقل من مراجعته للتقريرات المذكورة. قال ابن هشام في المغني : وزعم شهاب الدين القرافي أنّه لا خلاف في وجوب دخول ما بعد حتّى ، وليس كذلك ، بل الخلاف فيها مشهور ، وإنّما الاتّفاق في حتّى العاطفة لا الخافضة ، والفرق أنّ العاطفة بمنزلة الواو (٣). قال ذلك بعد أن مثّل للدخول بقوله :

ألقى الصحيفة كي يخفّف رحله

و الزاد حتّى نعله ألقاها

وللخروج بقوله :

سقى الحيا الأرض حتّى أمكن عزيت

لهم فلا زال عنها الخير مجدودا

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٠٤.

(٢) مطارح الأنظار ٢ : ٩٦.

(٣) مغني اللبيب ١ : ١٦٨.

٦٥

قوله : وأمّا الجهة الثانية فتوضيح الحال فيها أن يقال : إنّه بعد ما ثبت أنّ ملاك الدلالة على المفهوم وعدمها ... الخ (١).

فصّل في الكفاية (٢) بين كون الغاية راجعة إلى نفس الحكم مثل كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام ، وكونها راجعة إلى الموضوع ، فحكم في الأوّل بدلالته على المفهوم ، وألحق الثاني بالوصف الذي قد منع فيه الدلالة على المفهوم ، مع الاعتراف بأنّ تحديده بها إنّما هو بملاحظة الحكم ، بدعوى أنّ ذلك لا يقتضي انتفاء سنخ الحكم عن غير المغيّى ، وإنّما أقصى ما فيه هو عدم الحكم إلاّ بالمغيّا.

ولا يخفى أنّه بعد الاعتراف بكون التقييد بالغاية إنّما يكون بلحاظ الحكم ، لم يبق ما يقتضي الوقفة في الحكم بالمفهوم إلاّ دعوى كون الحكم المذكور هو الشخص لا السنخ ، ومن الواضح أنّ هذه الجهة من الدعوى جارية في صورة كون المغيّى هو الحكم ، فإنّه إنّما يدلّ على المفهوم إذا كان المغيّى هو السنخ لا الشخص.

ثمّ إنّ شيخنا قدس‌سره جلّ غرضه هو بيان أنّ رجوع الغاية إلى متعلّق الحكم بعد فرض كون الملحوظ بذلك المتعلّق هو المادّة بلحاظ الحكم ، يكون موجبا لكون المغيّى هو الحكم الذي لا إشكال في دلالته على الانتفاء ، كما صرّح بذلك المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس‌سره بقوله : والظاهر أنّ الغاية قيد للحكم إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه ، لأنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) كفاية الأصول : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٦٦

الحرام » (١) مع قوله عزّ اسمه ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٢) بنسق واحد ، فكما أنّ الحكم لو جعلت غايته المعرفة تكون الغاية قيدا للحكم ، فكذلك في سائر الأمثلة التي جعلت فيها الغاية غاية بعد اسناد المحمول إلى موضوعه (٣).

وحينئذ فما في الحاشية الثانية من قوله : فما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من ظهور الكلام في رجوع القيد إلى مفاد الجملة ... ، ليس على ما ينبغي الخ (٤) ليس كما ينبغي ، فتأمّل فيه ، فإنّ ما استظهره المحشي من رجوع القيد إلى متعلّق الحكم لا إلى الموضوع نفسه ولا إلى مفاد الهيئة ، لا ينافي ما أفاده شيخنا قدس‌سره من رجوع القيد إلى المادّة بلحاظ النسبة الطلبية الموجب لتقييد ذلك الطلب.

قوله : فيكون ظهور القيد راجعا إلى الجملة في حدّ ذاته معارضا بظهور كونه قيدا للمعنى الافرادي ... الخ (٥).

والحاصل : أنّا لو قلنا بظهور الجملة في دخول الغاية فيما قبلها ، أو قامت قرينة على ذلك ، كان ذلك مناسبا لكون الغاية غاية للمحمول أعني نفس الفعل ، لا حاصل الجملة الذي هو الفعل باعتبار تعلّق الوجوب به. وقد يتأمّل في المناسبة المذكورة ، لأنّ كون الغاية داخلة فيما قبلها كما يلتئم مع كون الغاية للفعل ، وأنّ التقييد قبل الحكم ، فكذلك يلتئم مع كونها غاية للحكم ، وأنّ التقييد بها يكون في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٦ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٤ ح ٢ ( مع اختلاف يسير عمّا في المصدر ).

(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٣) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٠٥.

(٤) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٨٠.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٢٨١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٦٧

حال طرو الحكم ، بلا أن يكون في البين ما يوجب كون ذلك أنسب بأحد الوجهين.

والحاصل : أنّ كون الغاية داخلة في المغيّى أو غير داخلة يتأتّى على كلّ من الوجهين ، فإنّ المغيّى في مثل سر إلى البصرة إن كان هو نفس السير قبل الحكم عليه بالوجوب ، كانت الغاية غاية للمتعلّق الذي هو السير ، وكانت محلّ النزاع في كونها داخلة فيه أو خارجة عنه. وإن كان المغيّى هو السير باعتبار طرو الوجوب عليه كانت الغاية غاية له باعتبار حكمه ، وكانت أيضا محلا للنزاع في كونها داخلة فيه أو خارجة عنه. ودعوى أنّ دخولها فيما قبلها إنّما يناسب كونها غاية للسير لا للوجوب ، يمكن تطرّق المنع إليها ، بل يمكن أن يقال : إنّ محصّل كون الغاية داخلة في السير هو أنّها داخلة فيه باعتبار ورود الحكم عليه الذي هو الوجوب ، وحينئذ يكون أنسب بالقول بكون التحديد بالغاية باعتبار الحكم لا باعتبار المعنى الافرادي ، هذا.

ولكن ما أفاده شيخنا قدس‌سره ليس إلاّ دعوى الظهور الناشئ عن المناسبة ، ولا بعد في ذلك ، فإنّ الالتزام بكون مدخول حتّى ـ مثلا ـ داخلا فيما قبلها عبارة أخرى عن أنّ حتّى متعلّقة بنفس السير ، وحينئذ يكون الغاية راجعة إلى نفس السير لا إلى نفس الحكم ، ولا إلى السير باعتبار ورود الحكم عليه ، فتأمّل.

قوله : وأمّا كلمة « إلاّ » فهي قد تستعمل صفة وأخرى استثنائية ، أمّا الأولى فلا تفيد إلاّ تقييد المفهوم الافرادي ، نظير بقية الأوصاف ... الخ (١).

قد يقال : إنّ إلاّ الوصفية إنّما هي مثل الآية الشريفة أعني قوله تعالى : ( لَوْ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٦٨

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(١) فلا تكون إلاّ من قبيل الوصف المؤكّد ، فلا تقييد فيها. لكن ابن هشام في المغني بعد أن ذكر الآية الشريفة ومثال سيبويه : لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا ، وفرّق بينهما بأنّ الوصف في الآية مؤكّد وفي المثال مخصّص قال : وهكذا الحكم أبدا إن طابق ما بعد إلاّ موصوفها فالوصف مخصّص له ، وإن خالفه بافراد أو غيره فالوصف مؤكّد ، ولم أر من أفصح عن هذا (٢).

ولعلّ نظر شيخنا قدس‌سره فيما أفاده من افادتها تقييد المفهوم الافرادي إلى القسم الثاني (٣) ، وإن كان ما يأتي من أمثلة الاقرار من قبيل القسم الثاني ، أعني الوصف المؤكّد.

قوله : لتمحّض كلمة « إلاّ » حينئذ في الوصفية ، ولا يصحّ كونها استثنائية ... الخ (٤).

أورد عليه في الحاشية بقوله : هذا إنّما يتمّ فيما إذا كان المتكلّم من العارفين بقواعد اللغة العربية ... الخ.

قال في الجواهر فيما لو قال له عليّ عشرة إلاّ درهم ـ بالرفع ـ وكان مراده الجريان على القانون العربي : كان إقرارا بالعشرة الخ (٥). ومن ذلك تعرف أنّ كلّ من تعرّض لهذا الفرع فإنّما مراده هو ما ذكر ، من كونه بعد فرض الجريان على قواعد العربية. أمّا من لا يعرف القواعد المذكورة فلا معنى لأن يحكم عليه بما

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٢٢.

(٢) مغني اللبيب ١ : ١٠٠.

(٣) [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٤.

(٥) جواهر الكلام ٣٥ : ٨٧ ـ ٨٨.

٦٩

يقتضيه الرفع من التوصيف. نعم من كان عارفا وأقرّ ـ بالرفع ـ ثمّ بعد ذلك ادّعى أنّي لم أقصد بذلك ما تقتضيه القاعدة العربية لم يسمع منه.

قوله : وأنت خبير بأنّ الاستثناء قبل الحكم أي الاستثناء عن المعنى الافرادي غير معقول ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّ هذا الإشكال وارد في الأوصاف على ما أفاده قدس‌سره من كون التقييد بالنسبة إلى المفاهيم الافرادية. ولعلّ الاخراج قبل الحكم أسهل منه ، باعتبار أنّه يمكن أن يكون قوله : ما له عليّ عشرة إلاّ درهما ، ردّا على من يدّعي على المتكلّم بأنّه لي عليك عشرة إلاّ درهما ، فيكون الجواب عنه ردّا عليه حاكيا كلامه. ولو صحّحناه في هذا المقام صحّ في غيره ممّا يتخيّل فيه أو يتوهّم توجّه الدعوى المذكورة إلى ذلك المتكلّم ، فراجع ما علّقناه على ما حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره في هذا المقام (٢).

والذي يتلخّص في مثل له عليّ عشرة إلاّ واحد : أنّه في صورة الايجاب إن قرئ بالنصب كان إقرارا بالتسعة ، سواء كان من قبيل الاخراج قبل الحكم أو كان من قبيل الاخراج حال الحكم ، وإن كان الأظهر الثاني. وإن قرئ بالرفع كان من قبيل الصفة المؤكّدة ، وكان إقرارا بالعشرة.

أمّا صورة السلب ، فإن قرأ بالنصب أمكن أن يكون من قبيل الاخراج قبل الحكم ، فلا يكون إقرارا بشيء أصلا ، وأن يكون إخراجا حال الحكم فيكون قد أقرّ له بواحد. وهذا هو الأظهر بل هو المتعيّن. وإن قرأ بالرفع أمكن أن يكون من الاخراج حال الحكم فيكون قد أقرّ له بواحد ، وأن يكون من قبيل التوصيف فلا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

٧٠

يكون اقرارا بشيء أصلا ، ولا يمكن أن يكون من قبيل الاخراج قبل الحكم وإلاّ لكان منصوبا (١).

والجامع بين التوصيف والاخراج قبل الحكم والاخراج بعد الحكم ـ أي الاخراج حال الحكم ـ هو أنّ مفاد « إلاّ » هو إحداث المغايرة بين ما بعدها وما قبلها ، فإن لوحظت المغايرة بينهما بحسب الذات كانت وصفية ، وإن لوحظت

__________________

(١) له عليّ عشرة إلاّ واحد :

على الاستثناء والاخراج قبل الحكم ، يكون إقرارا بالتسعة ، لكون « العشرة إلاّ واحد » حينئذ بمنزلة الاسم للتسعة ، ويقرأ الواحد بالنصب ، لكونه بعد كلام موجب.

على الاستثناء حال الحكم ، يكون إقرارا بالتسعة ، لكونه إخراجا للواحد من الاقرار بالعشرة ، ويقرأ الواحد بالنصب أيضا.

على كون « إلاّ » وما بعدها صفة ، يكون إقرارا بتمام العشرة ، لكون « إلاّ » بمعنى غير ، وهي وما بعدها صفة مؤكّدة للعشرة ، وحاصله الاقرار بعشرة موصوفة بكونها غير واحد ، فتكون مؤكّدة لأنّ كلّ عشرة هي غير واحد ، ويقرأ « الواحد » بالرفع على كونه صفة العشرة ، لتضمّنه معنى غير بواسطة « إلاّ » التي هي بمعنى غير.

ليس له عليّ عشرة إلاّ واحد :

على الاستثناء والاخراج قبل الحكم ، لا يكون إقرارا بشيء أصلا ، لكون المجموع اسما للتسعة ، ويقرأ « الواحد » بالنصب لكونه استثناء من الايجاب ، فإنّه إخراج من العشرة قبل ورود النفي عليها.

على الاخراج حال الحكم ، يكون إقرارا بواحد ، لكونه إخراجا من العشرة التي نفاها بقوله : ليس له عليّ عشرة ، ويقرأ « الواحد » بالرفع على البدليّة من المستثنى منه ، وهو المختار لكونه متّصلا بعد النفي ، ويجوز النصب على الاستثناء ، لكنّه قليل.

على كون « إلاّ » وما بعدها صفة ، لا يكون إقرارا بشيء أصلا ، لكونه قد نفى العشرة التي هي غير واحد ، ويقرأ « الواحد » بالرفع كما تقدّم في صورة الاثبات. [ منه قدس‌سره ].

٧١

بحسب الحكم كانت استثنائية إمّا قبل الحكم وإمّا حال الحكم ، فراجع في ذلك ما حرّرنا فيما علّقناه على ما استفدناه من شيخنا قدس‌سره في هذا المقام.

ثمّ إنّ الذي يظهر من شيخنا قدس‌سره في هذا المقام بقوله : إذ كلّ قيد للمعنى الافرادي يكون بالأخرة راجعا إلى التوصيف الخ (١) هو أنّ الاخراج قبل الحكم تكون « إلاّ » فيه وصفية ، ولكن الذي جرى عليه اصطلاحهم في « إلاّ » الوصفية هنا هو المؤكّدة ، فتكون العشرة موصوفة بأنّها غير واحد ، وكلّ عشرة هي غير واحد ، هذا على الوصفية ، نظير قوله تعالى ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ )(٢) بمعنى لو كان قد تعدّدت الآلهة في قبال الواحد وإن كان هو منهم ، بخلاف الحمل على الاخراج قبل الحكم فإنّ محصّله حينئذ هو العشرة المخرج منها الواحد ، وهذا المعنى أعني الاخراج ولو قبل الحكم لا يتأتّى في الآية الشريفة ، إذ ليس المراد آلهة مخرج منهم هو تبارك وتعالى.

تكملة قال في الكفاية : فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة من عدم الافادة محتجّا بمثل « لا صلاة إلاّ بطهور » (٣) ـ إلى قوله ـ وثانيا : بأنّ الاستعمال مع القرينة كما في مثل التركيب ممّا علم فيه الحال لا دلالة له على مدّعاه أصلا كما لا يخفى (٤).

لا يخفى أنّه لا ينبغي الريب في أنّ الاستثناء المفرغ بعد النفي صريح في أنّ ما تسلّط عليه النفي ثابت لما بعد إلاّ ، وهو ـ أعني ما تسلّط عليه النفي ـ منفي عمّا عدا ما بعد إلاّ.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) الأنبياء ٢١ : ٢٢.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

(٤) كفاية الأصول : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٧٢

نعم ، في مثل « لا صلاة إلاّ بطهور » يقع التأمّل في أنّ المنفي هو الصحّة أو الكمال أو نفس الذات ، وبأي واحد أخذناه يكون منفيا عن الصلاة بلا طهور ، ثابتا لها مع الطهور ، وذلك هو محصّل الحصر ، فإنّه عبارة عن النفي عمّا عدا المحصور عليه ، والاثبات للمحصور عليه الذي هو واقع بعد إلاّ ، ولا يعقل الاستعمال ولو مجازا في خلاف ذلك.

والحاصل : أنّ مفاد « ما » و « إلاّ » عند اجتماعهما في الكلام إنّما هو النفي والاثبات ، لأنّه عبارة عن نفي الشيء عمّا عدا ما بعد إلاّ ، وإثبات نفس ذلك المنفي لما بعد إلاّ ، وذلك هو عبارة عن الحصر. ولا يمكن استعمالهما في غير مفادهما ـ أعني الحصر المتحصّل من النفي والاثبات ـ ولو مجازا إلاّ باخراج لفظ « ما » عن النفي أو إخراج لفظ « إلاّ » عن الاثبات. نعم ، يمكن التجوّز فيه بنحو آخر بأن يكون الكلام ظاهرا في نفي الحقيقة ، فيستعمل في نفي الصحّة أو الكمال تنزيلا وتأويلا ، ولكنّهما مع ذلك لم يخرجا عن مفادهما الأصلي الذي هو الحصر والنفي والاثبات. ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله قدس‌سره : وثانيا بأنّ الاستعمال الخ.

ومنه أيضا يعرف الوجه في إفادة كلمة الشهادة الحصر ، وأنّه لا دخل له بكون الخبر المقدّر هو « موجود » أو هو « ممكن » فإنّ أي واحد من هذين لو قدّرناه يكون النفي والاثبات واردا عليه ، وتكون الجملة مفيدة للحصر.

نعم ، هناك شيء آخر وهو كيفية استفادة التوحيد من هذه الجملة الشريفة ، وذلك مطلب آخر لا ربط له بما هو محلّ الكلام ، من كون الاستثناء المفرغ بعد النفي مفيدا للحصر لكونه صريحا في النفي والاثبات ، أمّا كون المنفي ما هو فذلك مطلب آخر.

٧٣

وبالجملة : أنّ الاستثناء المفرغ صريح في إفادة الحصر ، وأمّا الاستثناء التامّ بعد النفي فلا يمكن إخراجه عن إفادة الحصر إلاّ بجعل الاخراج فيه قبل الحكم ، أو بجعل « إلاّ » فيه وصفية ، وكلّ منهما خلاف الظاهر ، بل إنّ الأوّل ـ أعني الاخراج قبل الحكم ليكون ما بعد « إلاّ » مسكوتا عنه ـ غير معقول كما أفاده شيخنا قدس‌سره وقد مرّ شرحه.

وهكذا الحال في الاستثناء بعد الاثبات فإنّه يدلّ على نفي الحكم عمّا بعد إلاّ ، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلاّ بقرينة قوية تدلّ على أنّ « إلاّ » مسوقة للوصف ، أو على أن الاخراج قبل الحكم ليكون ما بعد إلاّ مسكوتا عنه ، وقد عرفت ما في الأوّل والثاني. لكن الاستثناء من الاثبات خارج عن محلّ الكلام من الحصر ، فإنّ مرجع الحصر إلى نفي الحكم عمّا عدا المحصور عليه وإثباته للمحصور عليه ، مثل قولك ما قام أحد إلاّ زيدا ، يكون ما بعد « إلاّ » محصورا عليه. أمّا مثل قام القوم إلاّ زيدا ، فإنّ الأمر فيه بالعكس ، أعني أنّه من قبيل نفي الحكم عمّا بعد إلاّ ، وإثباته لما عداه ، هذا.

ولكن عدّ الحصر من أقسام المفهوم لا يخلو من تسامح ، فإنّ النفي والاثبات فيه بدلالة المنطوق كما رجّحه في الكفاية (١). نعم الاستثناء من الاثبات داخل في المفهوم ، باعتبار أنّه يفهم من الاستثناء في مثل « قام القوم إلاّ زيد » أنّ زيدا لم يقم ، لكنّه أيضا بدلالة « إلاّ » على مخالفة ما بعدها لما قبلها ، لا أنّه من قبيل المفهوم الذي هو لازم المنطوق.

وينبغي أن يعلم أنّ أصل خلاف أبي حنيفة إنّما هو في أنّ الاستثناء من النفي لا يدلّ على الاثبات فيما بعد « إلاّ » ، مستشهدا على ذلك بمثل « لا صلاة إلاّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١١.

٧٤

بطهور » ، فإنّ مجرّد وجود الطهور لا يثبت وجود الصلاة ، لجواز انتفاء الصلاة لأجل انتفاء باقي ما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط ، فكأنّ أبا حنيفة يرى أنّ هذا من الاستثناء قبل الحكم ، بأن يكون المتكلّم قد أخرج الصلاة مع الطهور عن عموم الصلاة ، ونظر إلى الصلاة التي بدون طهور فحكم عليها بأنّها ليست بصلاة ، أمّا مع الطهور فهو مسكوت عنه ، وحينئذ لا يكون الاستثناء من النفي إثباتا.

والمصنّف قدس‌سره قد أجاب عنه أوّلا : بأنّ مورد هذا النفي والاثبات هو الصلاة الجامعة لجميع ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط عدا الطهور ، ويكون الحاصل هو أنّ الصلاة الجامعة إن لم تكن مع الطهور فهي ليست بصلاة ، وإن كانت مع الطهور فهي صلاة ، وحاصل ذلك أنّ الصلاة الجامعة ليست بصلاة إلاّ إذا كانت مع الطهور ، فإنّها حينئذ صلاة. ثمّ في الحاشية أفاد أنّ متعلّق النفي والاثبات هو الامكان ، وأنّ الصلاة لا يمكن أن تكون صلاة إلاّ إذا كانت مع الطهور ، فإنّها حينئذ يمكن أن تكون صلاة إذا لحقها باقي الأجزاء والشرائط.

ثمّ أجاب ثانيا بقوله : وثانيا الخ ، وقد عرفت الإشكال في هذا الثاني. ولكن يمكن أن يكون مراده من الاستعمال مع القرينة هو استعمال « إلاّ » في الاخراج قبل الحكم ، فلا تكون حينئذ دالّة على الاثبات فيما بعد إلاّ.

ويمكن أن يقال : إنّ خلاف أبي حنيفة في دلالة « إلاّ » على مخالفة ما بعدها لما قبلها في الحكم لم يكن مبنيا على كونها وصفية ، ولا على كون الاخراج قبل الحكم ، بل هو مبني على أنّ الاخراج وإن كان بلحاظ الحكم ، إلاّ أنّ مجرّد إخراج زيد مثلا عن عموم الحكم في قوله : قام القوم ، لا يدلّ إلاّ على إخراج زيد المذكور من هذا الحكم الذي أورده على القوم ، من دون تعرّض للحكم على زيد بعدم القيام ، بل أقصى ما فيه أنّه يبقى مسكوتا عنه.

٧٥

وبالجملة : أنّ غير أبي حنيفة يدّعي أنّ الكلام المشتمل على الاستثناء يتضمّن حكمين : إيجابي وسلبي ، فالاستثناء من الاثبات يتضمّن الحكم على القوم بالقيام ، وعلى زيد بعدم القيام ، فيكون قوله : إلاّ زيد ، بمنزلة قوله إنّ زيدا لم يقم ، فيكون دليلا اجتهاديا على مخالفة ما بعد « إلاّ » لما قبلها في الحكم. وهكذا الحال بالعكس في الاستثناء من النفي. وأبو حنيفة يدّعي سكوت « إلاّ » عن كلّ شيء سوى إخراج ما بعدها عن الحكم الوارد على ما قبلها.

وحينئذ يتعيّن الجواب عنه أوّلا : بأنّ تتبّع موارد استعمال أهل اللسان ، وانسباق أذهانهم إلى ما هو أزيد من السكوت يشهد بخلاف ما يدّعيه ، فإنّهم يفهمون من الاستثناء الحكم على ما بعد « إلاّ » بخلاف الحكم الثابت لما قبلها.

وثانيا : أنّ اخراج زيد من الحكم في مقام جعل الحكم الكلّي يلزمه أن يكون زيد المذكور محكوما بنقيض الحكم السابق ، إذ ليس المقصود هو شخص الحكم السابق بل هو سنخه ، ومن الواضح أنّ إخراج الشيء من سنخ الحكم يلزمه الحكم عليه بنقيض الحكم السابق ، فإنّ الاخراج من إثبات سنخ الوجوب يلزمه الحكم على ذلك الخارج بعدم الوجوب ، كما أنّ الاخراج من نفي سنخ الوجوب يلزمه الحكم على ذلك الخارج بثبوت ذلك السنخ في حقّه. ولعلّ من قال إنّ دلالة الاستثناء على مخالفة ما بعد الأداة لما قبلها في الحكم إنّما يكون بالمفهوم لا المنطوق كان نظره إلى هذه الجهة ، أعني أنّ الاخراج من سنخ الحكم السابق يلزمه الحكم على الخارج بنقيض الحكم السابق ، فراجع وتأمّل.

وممّا ذكرناه في ردّه أوّلا يتّضح لك أنّ الاستدلال على المدّعى بكلمة التوحيد في محلّه ، حيث إنّ مرجعه إلى أنّ أهل اللسان يفهمون من قوله لا إله إلاّ الله أنّ ما بعد « إلاّ » محكوم بنقيض الحكم السابق ، الذي هو في المقام نفي

٧٦

الوجود أو نفي المعبودية بحقّ ، أو غير ذلك ممّا شرحناه (١) في أنّ المنفي بهذه الجملة ما هو. وعلى أي حال ، أنّهم يفهمون منها أنّ ذلك المنفي ثابت لما بعد إلاّ ، لا أنّ ما بعد « إلاّ » يكون مسكوتا عنه ، وهذا الذي يفهمه أهل اللسان إنّما يفهمونه من مجرّد هذه الجملة في حدّ ذاتها ، من دون استناد إلى قرينة مقالية أو مقامية ، ولأجل ذلك يحكمون باسلامه بمجرّد صدور هذه الجملة منه. وهكذا الحال في أبواب الأقارير فإنّهم يحكمون على من قال ليس له عليّ عشرة إلاّ درهم بأنّه قد أقرّ له بدرهم ، وما ذلك إلاّ من جهة ما ذكرناه من كون اللفظ بنفسه ظاهرا في ذلك ، وهو أعني الانسباق من اللفظ دليل الحقيقة ، وحينئذ فلا وجه لما أفيد في الكفاية من الجواب عن هذا الاستدلال بقوله : إنّه لا موقع للاستدلال ـ إلى قوله ـ لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال (٢).

قوله قدس‌سره في الكفاية : وربما يعدّ ممّا دلّ على الحصر كلمة ( بل ) الاضرابية. والتحقيق : أنّ الاضراب على أنحاء : منها ما كان ... الخ (٣).

الظاهر أنّ هذه الأنحاء التي ذكرها قدس‌سره كلّها في « بل » المسبوقة بالايجاب ، والظاهر أنّ التي تكون للحصر هي المسبوقة بالنفي أو النهي ، فإنّها صريحة في النفي والاثبات كلفظة إلاّ الاستثنائية المسبوقة بالنفي : قال ابن مالك :

وبل كلكن بعد مصحوبيها

كلم أكن في مربع بل تيها

وانقل بها للثاني حكم الأوّل

في الخبر المثبت والأمر الجلي (٤)

__________________

(١) راجع الحاشية الآتية في الصفحة : ٧٨ وما بعدها.

(٢) كفاية الأصول : ٢١٠.

(٣) كفاية الأصول : ٢١١.

(٤) شرح ابن عقيل ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٧٧

قوله : وحينئذ فلو قدّرنا الوجود فيكون نفي الوجود عن الآلهة الأخرى بالمطابقة ونفي الامكان بالملازمة ، ولو قدّرنا الامكان فيكون إثبات الامكان له تعالى بالمفهوم وإثبات الوجود له تعالى بالملازمة ... الخ (١).

هذه الدلالة الالتزامية فرع ثبوت الملازمة بين نفي الوجود ونفي الامكان في الأوّل ، وثبوت الملازمة بين ثبوت إمكانه تعالى وبين وجوده تعالى ، وهذه الملازمة إنّما تكون علّة لتحقّق الدلالة الالتزامية بالنسبة إلى المتكلّم العارف بأنّ نفي وجوب الوجود يوجب نفي الامكان ، وأنّ مجرّد الامكان للواجب يوجب وجوده ، وأنّ الإله لا بدّ أن يكون واجب الوجود ، وهذا المعنى ربما لا يعرفه عوام أولئك المسلمين في أوّل إسلامهم ، إذ لا يكون الإله عندهم إلاّ عبارة عن المعبود ، ولا يتصوّرون حقيقة واجب الوجود على وجه يكون مجرّد إمكانه موجبا لوجوده ، وأنّ نفي وجوده يستلزم نفي إمكانه.

ولعلّه لأجل ذلك التجأ قدس‌سره إلى الجواب بنحو آخر ، وهو ما أفاده بقوله : هذا ويمكن أن يقال : إنّ كلمة « لا » في المقام كما في لو لا الغالبية مستغنية عن الخبر ، كما في ليس التامّة. وليس معنى وجوب حذف الخبر على ما ذكره النحويون إلاّ عدم الاحتياج إليه ، وحينئذ فيكون كلمة لا مفيدة لعدم تقرّر مدخوله في الوعاء المناسب له الخ (٢).

ولأجل أنّ تسلّط النفي على نفس الذات من دون لحاظ جهة من الجهات القابلة لطروّها عليها ولو مثل الوجود أو التقرّر في وعائها المناسب لها غير

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٧٨

معقول ، صرنا بحاجة إلى تقدير شيء في البين هو الوجود أو التقرّر ، وحينئذ يعود المحذور المذكور.

ولعلّ الأولى أن يقال : إنّ هذه الجملة الشريفة لا تحتاج إلى هذه التكلفات ، فإنّ المنفي فيها ـ وهو الإله ـ مشتقّ من المشتقّات ، فيكون وزانه وزان قولنا لا رازق إلاّ الله ولا راحم إلاّ هو ، فيكون قولنا لا إله إلاّ الله بمنزلة قولنا لا معبود إلاّ الله ، وحينئذ يكون لفظ الجلالة بدلا من الضمير المستتر في ذلك المشتق ، فلا يكون من الاستثناء المفرّغ. والأقرب جعله هو الفاعل أو النائب عن الفاعل في أمثال هذه المشتقّات ، فيكون من الاستثناء المفرّغ.

والجملة لا تحتاج إلى الخبر ، لأنّ محصّل قولك لا رازق إلاّ الله أنّه لا يرزقنا إلاّ الله. وهكذا الحال في كلّ ما يكون من هذا القبيل من المشتقات ، مثل قولك لا راحم إلاّ الله ، ونحو ذلك ، بل إنّ هذا التوجيه يتمشّى في الأسماء الجامدة التي تكون بمعنى المشتق ، مثل قولك لا رجل إلاّ زيد أو لا إنسان إلاّ زيد مثلا ، ممّا كان الغرض منه نفي كمالية الرجولية والإنسانية وحصرها في زيد.

ومن ذلك يظهر لك أنّ محصّل قولنا لا إله إلاّ الله هو أنّه لا يعبد إلاّ الله ـ بالبناء للمفعول ـ وبعد إرجاعه إلى أصله من البناء للفاعل يكون وزانه وزان قوله تعالى : ( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ )(١) ونحوه ممّا يكون مساقه مساق حصر العبادة فيه تبارك وتعالى ، وهذا هو محصّل الشهادة بالتوحيد في العبادة ، فإنّ الغرض منه نفي عبادة غير الله وإثبات العبادة له تبارك وتعالى ، فكأنّ المتكلّم قد نظر إلى تلك الأصنام المعبودة واعترف بأنّه لا يعبدها ، وأنّه إنّما يعبد الله وحده. وليست المسألة ناظرة إلى واجب الوجود في قبال الممكن ، وحصر واجب الوجود فيه

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٢٣ ، يوسف ١٢ : ٤٠.

٧٩

تبارك وتعالى ، وأنّه لا واجب الوجود إلاّ هو تبارك وتعالى ، فإنّ هذه المباحث ـ أعني مباحث الواجب والممكن ـ لا يعرفها أولئك العرب الذين كلّفوا بالتوحيد ، وإنّما يعرفون أنّ هناك معبودات والشارع كلّفهم بحصر العبادة فيه تبارك وتعالى ونفيها عمّا عداه.

وبناء عليه يكون اللازم هو أنّ كلّ من اعترف بهذا المضمون يكون داخلا في الموحّدين وإن لم يكن بتلك الألفاظ المخصوصة ، أعني قوله أشهد أن لا إله إلاّ الله. كما أنّ من ألحق بها قوله : وأنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم مبعوث من الله أو مرسل من الله أو أنّه نبي الله أو غير ذلك ممّا يتضمّن الاعتراف بنبوّته صلى الله عليه وسلم يكون داخلا في المسلمين ، وإن لم يكن بذلك اللفظ الخاصّ ، أعني أشهد أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله. اللهمّ إلاّ أن يكون في البين تعبّد خاصّ ، بحيث إنّه لا يترتّب عليه أثر الإسلام إلاّ إذا كان اعترافه بتلك الألفاظ الخاصّة ، وهو بعيد جدّا.

نعم جرى اعتراف المسلمين على هذه الصورة ، ولعلّ الاقتصار عليها إنّما كان لأجل خفّتها وكونها أخصر من غيرها ، أو كونها أصرح منه ، أو كونها أبلغ منه ، ونحو ذلك من الجهات التي رجّحتها في أنظارهم على غيرها من الجمل التي تؤدّي مؤدّاها من التوحيد في العبادة.

قال في الشرائع والجواهر في المسألة التاسعة من مسائل الارتداد من كتاب الحدود التاسعة : كلمة الإسلام نصّا وفتوى أن يقول : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله ، أو ما في معناهما ، بل إن ترك لفظ الشهادة ففي كشف اللثام حكم بإسلامه الخ (١) كما لو قال لا إله إلاّ الله ، بدون لفظة أشهد.

وقال في المسالك في هذه المسألة : وحيث يتوقّف الإسلام على

__________________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ١٩١ ، جواهر الكلام ٤١ : ٦٣٠.

٨٠