أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

الواقعية لمثله ، وهذا بخلاف ما لو كان المخصّص لبّيا إذ مرجعه إلى حجّية قطعه بحرمة إكرام الفسّاق ، ومن المعلوم أنّ القطع بحكم الطبيعة لا يكاد يسري إلى أفرادها المشكوكة ، وحينئذ فهذا المشكوك على فرض كونه فاسقا واقعا لا يكون مشمولا للحجّة على الخلاف الذي هو قطعه ، فيكون وزان المخصّصات اللبّية من تلك الجهة وزان المجملات المفهومية حيث إنّ الفرد المشكوك فيها أيضا لو فرض واقعا فاسقا لا يكون مشمولا للحجّة على الخلاف واقعا ، وحينئذ كان لنا مجال دعوى اختصاص حجّية أصالة الظهور بصورة القطع بعدم كون المورد مشمول الحجّية على الخلاف ، ومثل هذا المعنى يختصّ بالمجملات المفهومية والمخصّصات اللبّية دون اللفظية المصداقية ، والله العالم (١).

وأنت ترى أنّه في هذا التحرير لم يكن المانع عنده من التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية إلاّ مجرّد هذه الدعوى وهو قصور دليل حجّية الظهور عن الشمول للشبهات المصداقية ، ثمّ لمّا وصل في الدرس إلى هذا المقام بيّن أنّ المانع هو ما عرفت من احتمال اجتماع النقيضين ، ثمّ بعد هذا كلّه ظهرت هذه المقالة المطبوعة التي هي خلاصة الدورة الأخيرة فكان المانع عنده هو ما ذكره فيها من قصور الظهور نفسه وتعرّض فيها للوجه السابق من قصور حجّية الظهور وأبطله ، وأمّا الوجه الثاني الذي حرّرته فلم يتعرّض له في كلا المقالتين ، فراجع وتأمّل.

__________________

(١) وينبغي هنا مراجعة كتاب القضاء له قدس‌سره ص ١٠٧ كما ينبغي مراجعة المستمسك للسيّد سلّمه الله ص ١٣٦ ج ١ [ ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ] وينبغي أيضا مراجعة ما علّقناه [ في المجلّد السابع في الحواشي على فوائد الأصول ٣ : ٣٨٠ وما بعدها ] في مباحث أصالة عدم التذكية من مباحث البراءة [ منه قدس‌سره ].

١٦١

قوله : وفيه مضافا إلى أنّ عنوان المخصّص لا ينحصر في كونه من قبيل المانع مطلقا ، بل قد يكون من قبيل الشرط أو الجزء كما في قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) أو « بفاتحة الكتاب » (٢) ... الخ (٣).

اقتصر المرحوم الشيخ محمّد علي في هذه الجهة من الإشكال على قوله : لمنع كلّ من الصغرى والكبرى. أمّا الصغرى فلأنّه لا طريق إلى احراز كون العام مقتضيا والخاصّ مانعا ، لامكان أن يكون عنوان الخاص جزء المقتضي. وأمّا الكبرى الخ (٤) ، ولم يذكر لذلك مثالا. وكذلك المرحوم الشيخ موسى ، فإنّه في الدورة الأخيرة والدورة السابقة عليها اقتصر على قوله : وفيه ما لا يخفى صغرى وكبرى. أمّا في الأوّل فلأنّه قد يكون عنوان العام من قبيل المقتضي وعنوان الخاصّ من قبيل المانع كالعلم والفسق ، لا أنّه كذلك دائما. وأمّا في الثاني الخ.

والظاهر أنّ أغلب الأحكام الاثباتية يمكن دعوى كون الاستثناء فيها مسوقا لبيان المانع. أمّا الأحكام النافية مثل لا يجوز أو يحرم قبول الشهادة أو الاقتداء إلاّ من العادل أو بالعادل ونحو ذلك ، فالظاهر منها هو كون عنوان المستثنى شرطا لما هو مورد ذلك النفي أعني قبول الشهادة أو الاقتداء ونحوهما ممّا وقع موردا للنفي أو للتحريم ، ومن الواضح أنّ مجرّد كون العدالة مثلا شرطا في المنفي الذي هو قبول الشهادة أو جواز الاقتداء لا يوجب أن يكون نفس ذلك العنوان مانعا من نفس الحكم الذي هو نفي قبول الشهادة أو حرمة الاقتداء ، ومن هذا القبيل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

(٢) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٢ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٤) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٢٨.

١٦٢

قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » أو مع الطهور ، فإنّ فاتحة الكتاب أو الطهور جزء أو شرط للمنفي الذي هو الصلاة لا أنّه مانع من الحكم الذي هو نفي الصحّة أو نفي الانعقاد أو الكمال على ما مرّ (١) شرحه في مفهوم الاستثناء في إبطال قول الحنفي.

وعلى أي حال ، يظهر لك أنّ ما أورده المحشي على شيخنا قدس‌سره بقوله التحقيق الخ (٢) ، غير وارد. مضافا إلى أنّها مناقشة في مثال قد انفرد هو في التمثيل به ، وذلك ليس من دأب المحصّلين ، وقد تقدّم في مفهوم الحصر ما له تعلّق بأمثال هذه الجمل في خلاف أبي حنيفة ، فراجعه.

ثمّ إنّ في المقالة (٣) تقريبين لكيفية التمسّك بقاعدة المقتضي فيما نحن فيه ، ينبغي مراجعتهما ، ومحصّل التقريب الأوّل : هو أنّ الظهور مقتض للحجّية إلاّ إذا قام المانع وهو حجّية الخاص ، فإذا لم يحرز المانع من حجّية الظهور يكون الأخذ بما يقتضيه من الحجّية لازما كما هو الشأن في كلّ حكم احتمل وجود مانع منه. ومحصّل التقريب الثاني هو كون العلم مقتضيا لوجوب الاكرام وكون الفسق مانعا منه. وقد أجاب عن كلّ منهما ، فراجع.

وكيف كان ، نقول إنّه إن كان التمسّك بقاعدة المقتضي بالنظر إلى أنّ عنوان العلم مقتض لوجوب الاكرام وأنّ عنوان الفسق مانع ، فقد عرفت الجواب عنه بما أفاده شيخنا قدس‌سره من المنع من ذلك صغرى وكبرى. وإن كان التمسّك بذلك بالنظر إلى أنّ الظهور في ناحية العام مقتض للحجّية وأنّ حجّية الخاص مانعة وأنّه لا

__________________

(١) في الصفحة : ٧٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٢٢.

(٣) مقالات الأصول ١ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

١٦٣

يرفع اليد عن ذلك الظهور الذي هو المقتضي لحجّية العام إلاّ إذا تحقّق المانع الذي هو حجّية الخاصّ ، فقد عرفت الجواب عنه بأنّ الخاصّ وإن لم يكن حجّة في مورد الشكّ المزبور إلاّ أنّ العام لا مورد له فيه ، لأن محصّل حجّية العام هو أصالة العموم والحكم بعدم التخصيص ، وهو إنّما يكون في مورد احتمال التخصيص الزائد كما في مورد الشبهة المفهومية دون ما نحن فيه من موارد الشبهة المصداقية ، إذ ليس فيها احتمال زيادة في التخصيص كي تكون أصالة العموم نافية لتلك الزيادة.

قوله : وحيث إنّ دليل المخصّص لا يكون حجّة في الأفراد المشكوكة فيبقى حجّية العام فيها بلا معارض ـ إلى قوله ـ فمدفوع بأنّ دليل المخصّص بعد تقييده للعام بغير افراده الواقعية وثبوت هذا التقييد عند المخاطب ... الخ (١).

ظاهره أنّ الخاصّ يوجب تقيّد العام واقعا على حسب مدلوله الواقعي ، وحينئذ يتوجّه النقض بالشبهة المفهومية ، فلا بدّ من الالتزام حينئذ بأنّ الخاصّ إنّما يقيّد العام بمقدار ما يكون هو ـ أعني الخاصّ ـ حجّة فيه ، بمعنى أنّا لا يمكننا رفع اليد عمّا بأيدينا من الحجّة الفعلية التي هي العموم إلاّ بحجّة فعلية على خلافها هي أقوى منها ، ففي مورد يكون الخاص حجّة فعلية نرفع اليد عن العموم ، وفي المورد الذي لا يكون الخاصّ حجّة فعلية فيه لا نرفع اليد عن تلك الحجّة الفعلية لكونه بلا موجب كما في الشبهة المصداقية.

نعم إنّ نفس عموم العام أعني أصالة العموم وعدم التخصيص لا تجري في حدّ نفسها في مورد الشكّ المذكور ، لأنّ ذلك الفرد على تقدير كونه فاسقا في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٦٤

الواقع لا يكون من قبيل التخصيص الزائد فلا تجري فيه أصالة العموم ، وحينئذ يكون رفع اليد عن أصالة العموم في ذلك الفرد من جهة عدم كونه موردا لها لا من جهة وجود ما هو الأقوى منها حجّية كما عرفت تفصيله فيما تقدّم فراجع.

ولكنّه مع ذلك كلّه قابل للتأمّل ، لأنّا إذا فرضنا أنّ مقدار التخصيص مقصور على مقدار حجّية الخاص لا على مدلوله الواقعي على ما هو عليه ، وفرضنا أنّ الخاص لم يكن حجّة في هذا الفرد المشكوك ، فقهرا يكون خروجه لو كان خارجا خروجا زائدا على ما قامت عليه حجّية الخاص ، فتجري حينئذ فيه أصالة العموم.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه وإن لم يكن الخاص حجّة فيه وكان المقدار الثابت من التخصيص إنّما هو بالنسبة إلى ما عداه ممّا علم كونه فاسقا ، ولكنّه مع ذلك لو فرضنا كونه فاسقا في الواقع لا يكون خروجه خروجا زائدا ، بخلاف مورد الشبهة المفهومية أعني مرتكب الصغيرة فإنّه على تقدير شمول الفاسق له يكون خروجه خروجا زائدا على ما علم خروجه. ولعلّ سرّ الفرق هو أنّ خروج مرتكب الصغيرة يكون خروجا زائدا على ما ثبت بالدليل الاجتهادي ، بخلاف مشكوك الفسق فإنّه لو كان فاسقا في الواقع لا يكون خروجه خروجا زائدا على ما تكفّله الدليل الاجتهادي وإن كان زائدا على ما هو متأخّر عن الدليل الاجتهادي من الشكّ الموضوعي ، فإنّ الدليل الاجتهادي لا نقصان فيه وإنّما النقصان من ناحية عدم إحراز كونه فاسقا ، ولا ريب أنّ الأدلّة الاجتهادية المتكفّلة للأحكام الواقعية لا يناط حكمها بالجهل والعلم بموضوعاتها ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ الخاصّ في حدّ نفسه وفي مرتبة ظهوره يكشف عن كون المراد بالعام هو ما عداه ، فيكون كشفه عن كون المراد بالعام ما عداه من

١٦٥

شؤون دلالته التصديقية المعبّر عنها بالظهور ، وهذه الدلالة التصديقية مع قطع النظر عن حجّيتها لا توجب رفع اليد عن العام ، وإنّما توجب ذلك بواسطة دليل حجّيتها ، ففي الخاص المردّد بين الأقل والأكثر مع كون الشبهة مفهومية لمّا كانت دلالته التصديقية منحصرة في الأقل ، كان مقدار التخصيص مقصورا عليه ، بخلاف الشبهة المصداقية فإنّه لا قصور في دلالته التصديقية على خروج الفاسق بعنوانه الواقعي ، فيكون هو الخارج ، ويكون العام مقيّدا بما عداه ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة في الفرق بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية ، بأنّ الأولى ترجع إلى احتمال التخصيص الزائد بخلاف الثانية لا تخلو من تأمّل ، لما عرفت من أنّه بعد فرض كون التخصيص في طول الحجّية ، ومن أنّ الخاص لا يكون حجّة في موارد الشكّ ، سواء كان على نحو الشبهة المفهومية أو كان على نحو الشبهة المصداقية ، يكون تحكيم العام في مورد الشكّ تحكيما له في مورد احتمال التخصيص الزائد ، سواء كان ذلك المورد من قبيل مرتكب الصغيرة أو كان من قبيل مشكوك الفسق على نحو الشبهة الموضوعية.

وحينئذ فالمتعيّن في الفرق بين المسألتين هو هذا الذي أشرنا إليه أخيرا ، وحاصله أنّ الخاص في حدّ نفسه وفي مرتبة ظهوره المعبّر عنه بالدلالة التصديقية يكون دالا على أنّ المتكلّم أراد بالعام ما عدا ذلك الذي دلّ عليه ذلك الخاصّ ، فهو بمقدار ظهوره يقيّد العام بما عداه تقييدا واقعيا ، ففي الشبهة المفهومية لمّا لم يكن للخاص دلالة تصديقية إلاّ بالنسبة إلى خصوص مرتكب الكبيرة ، ولم يكن له ظهور بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، لم يكن بحسب هذه الدلالة وذلك الظهور إلاّ كاشفا عن أنّ المتكلّم لا يريد بالعام إلاّ ما عدا مرتكب الكبيرة ، وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فإنّ ظهور الخاصّ ودلالته التصديقية بالنسبة إلى الفاسق

١٦٦

الواقعي المفروض كونه واضح المفهوم مبيّن الدلالة بالقياس إليه ، وحينئذ يكون كاشفا عن أنّ المتكلّم لا يريد بذلك العام إلاّ ما عدا الفاسق الواقعي.

وبعد تمامية الدلالة التصديقية وانتهاء مرتبة ظهور الخاصّ بما دلّ عليه من تقييد المراد الواقعي من العام بما عدا ما كان هو ـ أعني الخاصّ ـ ظاهرا فيه ، ننتقل إلى المرتبة الثانية وهي مرتبة حجّية ظهور ذلك الخاص ، فلا ريب أنّ الذي يكون معروضا لتلك الحجّية هو نفس ذلك الظهور بما اقتضاه من تقييد المراد الواقعي من العام ، ففي صورة الشبهة المفهومية يكون ما هو الحجّة هو تقييد العام بما عدا ما هو القدر المتيقّن من الخاصّ أعني خصوص مرتكب الكبيرة ، بخلاف مرتكب الصغيرة لأنّ الخاصّ لم يكن له ظهور في تقييد المراد الواقعي بالنسبة إليه كي يكون من قبيل قيام الحجّة على ذلك التقييد.

أمّا في صورة الشبهة المصداقية فلمّا كان الخاصّ كامل الظهور والدلالة التصديقية على تقييد المراد الواقعي من العام بما عدا معناه الواقعي المفروض كونه مبيّن المفهوم ، كانت حجّية ذلك الخاص موجبة للحكم بأنّ المراد من العام واقعا هو ما عدا ذلك الخاص ، وبعد قيام الحجّة على تقيّد المراد الواقعي من العام بما عدا الفاسق واقعا لا يمكن تحكيم ذلك العام فيما هو مشكوك الفسق على نحو الشبهة المصداقية ، وإن انطبق عليه عنوان العالم وكان العموم ظاهرا فيه في حدّ نفسه ، إلاّ أنّه بعد تقييد المراد الواقعي منه بما عدا الفاسق يكون انطباق المراد الواقعي من العام على ذلك الفرد مشكوكا ، وهذا هو محصّل ما أفادوه من أنّ العام وإن انطبق على الخاص إلاّ أنّه لم يعلم انطباقه عليه بما أنّه حجّة.

وبالجملة : أنّ هذا الخاصّ أعني قوله لا تكرم فسّاق العلماء وإن لم يكن حجّة فعليه في زيد العالم المشكوك الفسق على نحو الشبهة المصداقية ، إلاّ أنّه حجّة في كون المراد الواقعي في قوله أكرم كلّ عالم هو ما عدا الفاسق الواقعي ،

١٦٧

وأنّ الحكم بوجوب الاكرام لا يشمل الفاسق الواقعي ، وهذا المقدار من حجّيته كاف في إسقاط حجّية العموم بالقياس إلى ذلك الفرد المشكوك.

وحاصل الفرق بين الشبهتين وأساسه : هو أنّ مرتبة الحجّية بعد مرتبة الظهور ، وفي مورد الشبهة المفهومية لا ظهور للخاصّ إلاّ في الأقلّ الذي هو مرتكب الكبيرة فقط ، فتكون حجّيته مقصورة على ذلك ، فلا يكون موجبا لتقييد العام إلاّ بمقدار ظهوره ، وهذا بخلاف مورد الشبهة المصداقية فإنّ الخاص في حدّ نفسه ظاهر في إخراج الفاسق الواقعي وتقييد العالم بمن هو ليس بفاسق واقعا ، وحينئذ تكون حجّية الخاصّ منطبقة على هذا المقدار من الظهور ، ويكون كلّ من كان فاسقا واقعا خارجا عن ذلك العموم ، وتكون حجّية العام مقصورة على من ليس بفاسق واقعا ، فلا يمكن تحكيمها في من هو مشكوك الفسق واقعا ، فلا يكون المقام إلاّ من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية في ناحية العام ، غايته أنّه في مقام الحجّية ، ولا يكون حاله إلاّ حال التمسّك بمثل أكرم العلماء في من شكّ في علمه ، غايته أنّ ذلك تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية في ناحية العام من جهة مقام نفس الظهور ، وهذا من جهة مقام الحجّية.

وخلاصة الفرق بين المفهومية والمصداقية : أنّ العام في الشبهة المفهومية ينقسم إلى العادل أعني غير المرتكب ، وإلى مرتكب الكبيرة ومرتكب الصغيرة ، وقوله لا تكرم الفاسق منهم إنّما قام حجّة على اخراج الأوّل أعني مرتكب الكبيرة ، دون الثاني أعني مرتكب الصغيرة ، وحينئذ يبقى العام حجّة فيه أعني مرتكب الصغيرة.

وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فإنّه لو قال لا تكرم مرتكب الكبيرة منهم مثلا وقد شككنا في ارتكاب زيد العالم لها ، فعلى تقدير كونه مرتكبا لها لم يكن إخراجا زائدا وتخصيصا جديدا كي ينفى بأصالة العموم التي هي عبارة عن أصالة

١٦٨

عدم التخصيص ، بل لا يكون إلاّ من قبيل سعة الخارج سعة تكوينية ، نظير ما لو لم يكن فيهم مرتكب الكبيرة ثمّ بعد مدّة وجد فيهم مرتكبها ، فإنّ وجوده لا يكون تخصيصا وإخراجا من العام ، بل يكون وجودا للخاص الذي قد خرج من العام ، فتأمّل.

قوله : وأمّا قياس الأصل اللفظي بالأصول العملية فيبطله أنّ حجّية الأصل العملي في مورد الشبهة المصداقية ... الخ (١).

هذا القياس غريب ، فأين العموم في الأصل العملي ، وأين الخاص الذي في قباله كي يكون إجراء أصالة البراءة في مورد الشبهة الموضوعية من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية. وشيخنا قدس‌سره قد ذكر هذا القياس في الأدلّة العقلية في المسألة الرابعة ، أعني مسألة الشبهة التحريمية المصداقية حسبما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي فقال : بقي الجواب عن سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، وأنّه كيف صحّ التمسّك بالأصول العملية في الشبهات الموضوعية ولم يصحّ التمسّك بالأصول اللفظية فيها ، ولعمري أنّ الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فإنّ الأصول اللفظية الخ (٢). لكنّه لم يوضّح أصل الشبهة وأين هو الخاصّ الذي يكون في قبال العام.

نعم إنّ محرّر هذا الكتاب قد حرّره عنه قدس‌سره في الجزء الثاني في مسألة الشبهة التحريمية عن إجمال النصّ ، فجعل مثل النهي عن الغناء بمنزلة قوله لا تكرم الفسّاق من العلماء ، وجعل مثل قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال » (٣) بمنزلة قولك أكرم كلّ عالم ، فيكون الخارج المتيقّن عن عموم قوله « كلّ شيء لك حلال » هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٣.

(٢) فوائد الأصول ٣ : ٣٩٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤ ( مع اختلاف يسير ).

١٦٩

الغناء المشتمل على كلّ من الترجيع والإطراب ، فيبقى الواجد لأحدهما داخلا تحت عموم « كلّ شيء لك حلال » ، وبناء على سراية الإجمال إلى العام في الشبهة المفهومية ينبغي القول بسقوط البراءة في صورة اجمال النصّ.

وأجاب أوّلا بالمنع من السراية في الشبهة المفهومية. وثانيا بالفرق بين البابين فإنّ المخصّص في الأصول اللفظية يوجب تقيّد موضوع العام ، وهذا بخلاف الدليل في قبال الأصل العملي ، فإنّ الدليل الدالّ على حرمة الغناء لا يوجب تقييدا في موضوع الأصل وإنّما يوجب ارتفاعه (١).

والذي حرّرته عنه قدس‌سره هناك في مقام بيان الفرق بين البابين : هو أنّ باب التخصيص في قبال الأصل اللفظي يكون كلّ من العام والدليل الوارد على خلافه من سنخ واحد ، فيضمّ أحدهما إلى الآخر ، ويكون النتيجة هي تقييد العام واقعا ، فيوجب ذلك سقوطه عن الحجّية ، بخلاف الدليل في قبال الأصل العملي فإنّه ليس من سنخه فلا يمكن انضمامه إليه ، بل يكون الدليل واردا على الأصل العملي ، فلا ينضمّ إليه كي يسري إجماله منه إليه (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٤٤.

(٢) ومن جملة القائلين بجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية المرحوم السيّد محمّد كاظم اليزدي قدس‌سره وقد تعرّض لذلك في كتاب الربا من ملحقات العروة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٦ : ٣٤ مسألة ١٥ ] فراجعه.

نعم في بعض تحريراته قدس‌سره ربما يظهر منه المنع ، فقال في رسالته في منجّزات المريض في مقام الردّ على الجواهر ، وفيه ما بيّن في محلّه من أنّ العمومات ليست متكفّلة لبيان حال الموضوعات ولا لبيان الأحكام الظاهرية والواقعية معا كما هو لازم التمسّك بها في الشبهات المصداقية كما لا يخفى [ رسالة في منجّزات المريض ( المطبوعة مع حاشية المكاسب الطبعة الحجرية ) : ٩ ].

١٧٠

قوله : بل إدراج التمسّك بقاعدة اليد في ذيل قاعدة التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية لا يمكن أن يتوهّم ، بناء على أنّ موضوع الحكم بالضمان من الأوّل مقيّد باليد العادية ، لما أخذ في معنى الأخذ من الغلبة والاستيلاء كما هو ليس ببعيد ... الخ (١).

لا يخفى أنّه بعد البناء على أنّ مفاد « على اليد » (٢) هو اليد العدوانية ، يكون

__________________

ولاحظ ما قبله فإنّه صريح في المنع. وقد ذكر المسألة في وصية العروة فراجع المسألة ٣ [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٥ : ٦٧٩ / فصل في الموصى به ].

أمّا قاعدة المقتضي فقد تعرّض لها في نكاح العروة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٥ : ٤٩٩ ـ ٥٠١ مسألة ٥٠ ] وبنى على حرمة النظر إلى من شكّ في كونها زوجته ، مستندا في ذلك إلى قاعدة المقتضي ، وإلى أصالة عدم تحقّق الزوجية في خصوص احتمال الزوجية ، وفي احتمال المحرّمية النسبية اقتصر على الأوّل. لكن في مسألة ملاقاة النجاسة لما هو مشكوك الكرّية ذكر أنّ الأقوى عدم الانفعال [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٨٣ مسألة ٧ ] ، وفي مسألة القليل المشكوك المادّة حكم بالانفعال ، وفي مسألة الشكّ في كون الدم أقل من درهم أو في كونه من دم الجروح مع إحراز كونه أكثر من الدرهم بنى على المنع [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٢١٧ مسألة ٣ ، ٢١٣ مسألة ٦ ] ، ولعلّه من جهة التمسّك بعمومات المنع مع النجاسة أو الدم ، أو من جهة قاعدة المقتضي ، لكن في مسألة الشكّ في كونه دم حيض مع إحراز كونه أقلّ من الدرهم بنى على الجواز [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٢١٧ مسألة ٣ ] ، ولعلّه من [ جهة ] التمسّك بعموم العفو عن الأقل مع فرض كون الشكّ في الشبهة المصداقية بالنسبة إلى ما هو المخصّص لذلك العموم ، أعني ما لو كان الأقلّ دم حيض ، فراجعه وتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) مستدرك الوسائل ١٤ : ٧ / كتاب الوديعة ب ١ ح ١٢ ، عوالي اللئالي ٢ : ٣٤٥ / ١٠.

١٧١

خروج اليد الأمانية بالتخصّص ، ولا يمكن إثبات الضمان حينئذ بما يأتي من الركون إلى أصالة عدم الإذن ، لأنّها لا تحرز العدوانية. إلاّ أن يقال : إنّ العدوان أمر عدمي وهو الاستيلاء مع عدم الإذن ، كما صرّح به المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : وأصالة عدم رضا المالك تثبت كون اليد يدا عادية ، إذ اليد العادية ليست إلاّ عبارة عن ذلك الخ (١). ولا يخفى ما فيه فإنّ العدوان أمر وجودي ، وحينئذ لا بدّ من الالتزام بأنّ العدوان لم يكن مأخوذا في عموم على اليد وإنّما أقصى ما فيه هو أنّ الموجب للضمان هو اليد مع عدم الإذن من المالك ، والشاهد على ذلك هو الحكم بالضمان مع فرض عدم العدوان كما في المقبوض بالعقد الفاسد والمقبوض بالسوم.

وقد حرّر المرحوم الشيخ محمّد علي (٢) هذا المطلب بنحو الترديد ، وأنّه على تقدير أخذ العدوان في اليد يكون أجنبيا عن التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية الخاص ، بل يكون من الشبهة المصداقية من ناحية العام ، بخلافه على تقدير عدم أخذه فيه فإنّ الشبهة تكون من ناحية الخاصّ ، ويمكن حينئذ إثبات الضمان بأصالة عدم إذن المالك ، لكنّه عقّبه بما عرفت من دعوى كون العدوان أمرا عدميا ، وقد عرفت ما فيه.

وقال قدس‌سره في رسالة اللباس المشكوك ص ٢٩٠ : فإنّ المتحصّل ممّا دلّ على ضمان اليد ، بعد تخصّصه أو تخصيصه بما إذا لم يكن بإذن المالك ، هو ترتّب الضمان على الاستيلاء على مال الغير عند عدم إذنه فيه ، ومرجعه إلى تركّب سببه من عرضين لموضوعين ، فيكون كلّ منهما بالنسبة إلى محلّه من النعتي ، وبالنسبة

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٣١.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٢٩.

١٧٢

إلى الآخر من المقارن ، ويكفي مسبوقية محلّه به في إحرازه بالأصل عند إحراز الآخر بالوجدان في التئام سبب الضمان بلا مئونة أمر آخر حسبما تحرّر ضابطه (١).

وليس مراده من كون خروج اليد المأذون فيها من باب التخصّص هو كون اليد المضمّنة معنونة بعنوان العدوان ، وإلاّ لما أمكن إحرازه بأصالة عدم الإذن ، بل مراده من التخصّص هو كون اليد المأذون فيها من المالك يدا للمالك ، فتكون خارجة عن مفاد « على اليد ما أخذت » لأنّها مسوقة ليد غير المالك ، ومجرّد الأخذ لا يعطي إلاّ اعتبار الاستيلاء الاستقلالي ، وهو أعني الاستيلاء الاستقلالي هو الموجب لكون يد الوكيل والأمين والودعي خارجة بالتخصّص عن عموم « على اليد » ، إذ لا ظهور في الاستيلاء والأخذ في كونه على نحو العدوان ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ محصّل طريقة التخصيص هو الالتزام بأنّ اليد في قوله عليه‌السلام « على اليد ما أخذت » شاملة لكلّ يد ، وأنّ اليد إذا كانت بإذن المالك تكون خارجة بالتخصيص عن هذا العموم ، وحينئذ لا بدّ من النظر في ذلك الدليل الذي تكفّل باخراج يد الأمانة مثلا ، فإن كان محصّله هو أنّ اليد التي هي متّصفة بكونها بإذن من المالك لا تكون موجبة للضمان بنحو مفاد كان الناقصة ، كان الباقي تحت العام هو اليد المتّصفة بعدم كونها بإذن المالك على نحو مفاد ليس الناقصة ، وحينئذ يكون حال هذه المسألة هو عين الحال في أصالة عدم القرشية.

نعم لا بدّ في دعوى كفاية عدم الإذن من المالك بما هو مفاد ليس التامّة من الالتزام بأنّ الخارج هو اتّفاق اجتماع الاستيلاء مع صدور الإذن من المالك في

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٤٥٩ ـ ٤٦٠ ( مع اختلاف يسير ).

١٧٣

وعاء الزمان ، وحينئذ يكون الباقي تحت العام هو اليد المجتمعة في الزمان مع عدم الإذن من المالك ليكون استصحاب عدم الإذن من المالك بنحو مفاد ليس التامّة كافيا في تحقّق عنوان الباقي تحت العام ، ولا يخفى صعوبة إقامة الدليل على هذه الدعوى.

وأشكل من ذلك ما لو قلنا بالتخصّص وأنّ يد الأمانة هي يد المالك ، فإنّ ظاهره حينئذ هو كون عموم « على اليد » مسوقا ليد غير المالك ، فيصعب إثبات الضمان بأصالة عدم الإذن من المالك ، فتأمّل جيّدا.

والحاصل : أنّ الاستيلاء عرض لصاحب اليد ، والإذن والرضا عرض للمالك ، والأمانة مركّب منهما ، أعني أنّ يد الأمانة عبارة عن استيلاء صاحب اليد والإذن من المالك ، فيكون التركّب المذكور من قبيل مجرّد الاجتماع في وعاء الزمان ، من دون أن يكون أحد العرضين قيدا للآخر ، وإذا كان الخارج بالتخصيص أو التخصّص هو هذا المركّب يكون الباقي تحت العام ضدّه أو نقيضه وهو اجتماع الاستيلاء مع عدم الإذن من المالك ، فيكون أصالة عدم الاذن نافعة في ترتّب الحكم بالضمان وانطباق عموم على اليد على مورد الشكّ المزبور ، وتكون المسألة حينئذ من صغريات [ إحراز ] أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر بالوجدان ، لكونها من قبيل التركّب من عرضين لموضوعين.

وفيه تأمّل ، لأنّ هذه اليد وإن شئت فقل هذا الاستيلاء قابل لأن يكون متّصفا بكونه صادرا عن إذن من المالك وبكونه صادرا لا عن إذن منه ، أو أنّه يتّصف بعدم صدوره عن إذن من المالك ، ما شئت فعبّر ، في قبال ما يكون صادرا عن إذن من المالك ، فإنّ جميع ما يمكن التعبير به عنه لا يخرج عن مفاد ليس

١٧٤

الناقصة ، لكونه في قبال التركّب الوصفي الذي هو مفاد كان الناقصة (١) في ناحية الأمانة المفروض خروجها عن هذا العموم تخصّصا أو تخصيصا ، ومجرّد أنّ الاستيلاء عرض لصاحب اليد ، والإذن عرض للمالك ، لا يوجب تركّب اليد الأمانية من قبيل مجرّد الاجتماع في الزمان ، لأنّ اليد الأمانية ليست مركّبة منهما ليكون حاصلها هو الاستيلاء وعدم الإذن ، بل إنّما هي مركّبة من الاستيلاء الموصوف بكونه صادرا عن الاذن ، وإن شئت فقل هي الاستيلاء المأذون فيه من المالك ، فإنّه على أيّ حال يكون الجزء الثاني من موضوع الأمانة قيدا وصفة للجزء الأوّل منه الذي هو الاستيلاء ، وحينئذ يكون الباقي تحت ذلك العموم هو اليد التي ليست بالاذن من المالك ، أو اليد الصادرة لا عن إذن من المالك على نحو مفاد ليس الناقصة ، تبعا لما هو خارج عن ذلك العموم ، فكان ذلك الخاص قد قسّم العام إلى قسمين : قسم يكون الاستيلاء صادرا عن إذن من المالك ، وهذا هو الخارج. وقسم لا يكون الاستيلاء فيه عن إذن من المالك ، أو يكون الاستيلاء فيه لا عن إذن من المالك ، وهذا هو الباقي ، فيكون العدم فيه نعتيا بما هو مفاد ليس الناقصة كما هو مقتضى البرهان الذي تكفّلته المقدّمة الثانية ممّا أفاده قدس‌سره (٢) في تسجيل الايراد على صاحب الكفاية قدس‌سره (٣).

نعم يمكن أن يقال : إنّ اليد المضمّنة هي المركّبة من الاستيلاء وعدم الإذن على نحو مفاد ليس التامّة. لكن ذلك خلاف ما أفاده قدس‌سره من البرهان في المقدّمة الثانية الذي يكون حاصله أنّ الخارج لو كان بمفاد كان الناقصة لا بدّ من أن يكون

__________________

(١) [ في الأصل : التامّة ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٣١ وما بعدها.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٣.

١٧٥

الباقي هو مفاد ليس الناقصة ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (١).

قوله : لا يخفى ـ إلى قوله ـ لا يمكن إحراز دخول المشكوك في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي كما ذهب إليه المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) ... الخ (٣).

لا يخفى أنّه قد حرّر عنه قدس‌سره جملة من الأصحاب في مسألة التمسّك بأصالة العدم في أمثال هذه المقامات مباحث مفصّلة كما يظهر لمن راجع التقريرات المطبوعة وغيرها ، وقد حرّرنا عنه قدس‌سره جميع ذلك في مبحث اللباس المشكوك (٤) فراجعه. ولكن هنا بعض النقاط نشير إليها.

منها : ما يظهر ممّا حرّر عنه (٥) من أنّ صورة تركّب الموضوع من عرضين ولو لمحلّ واحد داخلة فيما تجري فيه قاعدة إحراز أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر بالوجدان ، فإنّ ذلك على إطلاقه لا يتمّ ، وينحصر جريان القاعدة في هذه الصورة بما إذا كان لحاظ العرضين لمحل واحد لحاظا استقلاليا لا عنوانا للمعروض ، فالأوّل مثل الصلاة وطهارة المصلّي ، ويظهر لك من ذلك أنّه ربما كان تركّب العرض وجوهره من قبيل مفاد كان التامة إن لوحظ العرض مستقلا. والثاني مثل العالم العادل ، فإنّ المثال الأوّل تجري فيه القاعدة المزبورة بخلاف الثاني ، وببالي أنّ لذلك إشارة فيما حرّرناه في مبحث اللباس المشكوك ، فراجع.

__________________

(١) في الحاشية اللاحقة.

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٣.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٨ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٤) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٧.

١٧٦

ومن جملة النقاط التي ينبغي الاشارة إليها : ما أفاده قدس‌سره فيما نقل عنه من المقدّمات الثلاث التي ساقها في مقام الردّ على الكفاية لاثبات عدم الجدوى بأصالة عدم الفسق والقرشية في ترتيب الحكم العام ، أعني وجوب الاكرام وعدم التحيّض بعد الخمسين ، فإنّ المقدّمة الأولى وإن كان لا غبار عليها على الظاهر إلاّ أنّ ما أفيد فيها من إطلاق كون العام يتقيّد دائما بنقيض الخاص ، سواء كان متّصلا أو منفصلا ، ليس كما ينبغي ، فإنّ أغلب التخصيصات المتّصلة لا تقيّد العام بضدّ الخاصّ ، بل تقيّده بنفس عنوان الخاصّ مثل أكرم كلّ عالم عادل ، وهكذا الحال فيما لو كان مثل هذا التخصيص منفصلا مثل أن يقول أكرم كلّ عالم ثمّ يقول أكرم العادل من العلماء.

اللهمّ إلاّ أن يصلح ذلك ، بأنّ الكلام في التخصيص الذي هو الاخراج ، والأمثلة المذكورة لا تتضمّن التخصيص بل تتضمّن التقييد ، وحينئذ يتمّ الاطلاق المزبور ، فإنّ التخصيص بمعنى الاخراج ينحصر في الاستثناء وما جرى مجراه من الحكم بخلاف حكم العام ، كأن يقول أكرم العلماء ثمّ يقول لا تكرم الفسّاق منهم ، أو يقول أكرم العلماء لكن لا تكرم الفاسق منهم ، والأوّل من قبيل المنفصل والثاني من قبيل المتّصل ، فتأمّل. أو يقال إنّ المراد هو أنّ الباقي لا بدّ أن يكون معنونا بنقيض عنوان الخارج حتّى في مثل أكرم العلماء العدول فإنّ الخارج هو الفسّاق ، والباقي مقيّد بنقيض ذلك وهم العدول ، والمراد بالمخصّص حينئذ هو العنوان الخارج سواء كان بطريق الاستثناء أو كان بطريقة التوصيف ، فإنّ الخارج حينئذ يكون ضدّا لما بقي ، وعلى كلّ حال أنّ الأمر سهل لكونه مناقشة في التعبير.

وأمّا المقدّمة الثانية : فيمكن المناقشة فيها من جهتين :

١٧٧

الأولى : ما أفيد فيها من أنّ انقسام العام إلى أوصافه ونعوته القائمة به في مرتبة سابقة على الانقسام إلى لواحقه ومقارناته الخ ، لا يتوقّف عليها ما هو المطلوب من لزوم كون التقييد بأوصاف العام راجعا إلى مفاد كان الناقصة.

الجهة الثانية : ما أفيد في البرهان على عدم صحّة أخذ وصف الشيء بمفاد كان التامّة ، من الترديد بأنّه لو كان كذلك فإمّا أن يكون ذلك مع بقاء إطلاق الذات بالنسبة إلى جهة النعتية ، أو يكون مع التقييد بالجهة النعتية ، أو يكون مع الاهمال ، والثالث باطل لاستحالة الاهمال في الواقع ، والثاني باطل أيضا لاستلزامه لغوية التقييد بالعدم المحمولي ، والأوّل باطل أيضا لوضوح التدافع بين الاطلاق من جهة النعتية والتقييد بالعدم المحمولي الخ ، فإنّ هذا البرهان والتردّد بين الأمور الثلاثة جار بعينه في باب المقارنات التي يكون التركّب فيها بحسب الاجتماع في الزمان مثل اليد وعدم الاستئمان من ناحية المالك ، فإنّ الذات بالنسبة إلى العنوان المنتزع من ذلك المقارن مثل عنوان التأخر والتقدّم والتقارن إن أخذت مطلقة من جهة هذا العنوان حصل التدافع بين هذا الاطلاق وبين تقييد الذات بالاجتماع في الزمان مع ذلك المقارن ، وإن أخذت الذات مقيّدة بذلك العنوان المنتزع كان ذلك مغنيا عن تقييدها بالاجتماع المذكور ، وإن أخذت الذات مهملة توجّه عليه استحالة الاهمال في الواقع.

وحينئذ فلا بدّ من الجواب عن هذا البرهان في كلا المسألتين ، أعني مسألة تركّب الموضوع من الجوهر وعرضه ، وتركّبه من الجوهرين ، أو الجوهر والعرض لمحلّ آخر ، بأن نقول إن أخذ أحد الجزءين بالاضافة إلى الآخر بما هو مفاد كان أو ليس التامة وإن لزمه تقييد الذات بالاتّصاف به في المسألة الأولى ـ أعني تركّب الجوهر مع عرضه ـ وتقييدها بالعنوان المنتزع في باقي المسائل ، إلاّ

١٧٨

أنّ هذا التقييد غير قصدي بل هو قهري نظير لزوم تقييد المادّة على تقدير رجوع القيد إلى الهيئة كما مرّ تفصيله في مبحث الأوامر (١) في مسألة دوران الأمر في القيد الواحد بين كونه راجعا إلى المادّة وكونه راجعا إلى مفاد الهيئة ، وهذا التقييد القهري لمّا لم يكن بقصد وجعل من الحاكم لم يكن له دخل في موضوعية الموضوع ، فلا يحتاج في مقام جريان الأصل إلى إحرازه بعد فرض أن أحرزنا أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، وحينئذ فلا يتمّ ما أفيد من التردّد بين الصور الثلاث المذكورة.

فالعمدة حينئذ في إثبات كون تركّب العرض ومحلّه من قبيل مفاد كان الناقصة دون التامّة ، هو ظهور الدليل الدالّ على أخذ الموضوع مركّبا منهما مثل أكرم العالم ، فإنّ مثل هذا الدليل ظاهر في أنّ موضوع وجوب الاكرام هو الرجل المتّصف بأنّه عالم ، وهكذا لو قال أكرم العالم الذي ليس بفاسق ، فإنّه ظاهر في أنّ هذا التركّب تركّب اتّصافي أعني اتّصاف العالم بأنّه ليس بفاسق ، فيكون على مفاد ليس الناقصة دون ليس التامّة ، فإنّ ذلك لو كان من قبيل ليس التامّة لكان موضوع الإكرام هو العالم وعدم الفسق لا العالم المقيّد بكونه ليس بفاسق ، وهكذا الحال في الباقي بعد التخصيص بقوله أكرم العلماء إلاّ الفسّاق ، فإنّ الخارج لمّا كان هو العالم المقيّد بالفسق على نحو مفاد كان الناقصة ، كان الباقي هو العالم الذي انتفى عنه الفسق بنحو مفاد ليس الناقصة ، إذ لا ريب في أنّ سلب العارض عن معروضه لا يكون إلاّ بمفاد ليس الناقصة ، وليس ذلك من باب التقيّد الذاتي القهري. نعم إنّه تقييد واقع في الدرجة الثانية من الاخراج ، بمعنى كون الاخراج وتضييق دائرة

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٣٢ ( الخاتمة ) ، وراجع أيضا ما ذكره المصنّف قدس‌سره في أوائل بحث المطلق والمشروط من المجلّد الثاني من هذا الكتاب صفحة : ٤٣.

١٧٩

العموم سابقا في الرتبة على هذا التقييد.

ولكن الانصاف أنّه لا يخرج بذلك عن كون التقيّد ذاتيا ، وأنّه أجنبي عن المدخلية في الموضوع ، نعم نحن نحتاج إلى الأصل ليكون نافيا لما هو موضوع الحكم فيه ، لا لأجل حكم العام ابتداء ، لكنّه غير نافع في ذلك لكونه مثبتا. وعمدة النزاع مع الكفاية إنّما هو هذه الجهة أعني كون استصحاب العدم نافعا أو أنّه غير نافع لا في أنّ الأصل يحرز عنوان الباقي. والظاهر أنّ صاحب الكفاية لا يسلّم كون الباقي معنونا حتّى عنوان عدم الخاص ، بل يدّعي أنّ الباقي لم يقيّد بشيء ، وإنّما جلّ همّنا هو طرد عنوان الخاص ، وسيأتي (١) له مزيد توضيح إن شاء الله.

وكيف كان ، فإنّ هذه الإشكالات إنّما تجري في المركّبات التي على مفاد كان الناقصة ، أمّا لو كان التركّب من باقي المسائل مثل اليد وعدم الأمانة فإنّه ظاهر في أنّ موضوع الحكم هو اليد من طرف الآخذ وعدم الاستئمان من طرف المأخوذ منه ، فلا يكون ظاهرا إلاّ في التركّب بما هو مفاد ليس التامّة.

وأمّا المقدّمة الثالثة : فلا ينبغي أن تكون مسوقة لقبال الكفاية ، إذ ليس مراد الكفاية هو كون العدم السابق على وجود الموضوع هو مفاد ليس الناقصة كي يتوّجه عليه ما في المقدّمة المذكورة من كون العدم الناقص إنّما يطرأ بعد وجود الموضوع ، وأنّ العدم السابق ليس هو العدم الناقص بل هو العدم التامّ ، بل الظاهر أنّ مراد الكفاية هو الاكتفاء بأصالة العدم التامّ الثابت قبل وجود الموضوع في إثبات حكم العام بناء منه على أنّ الاخراج بالاستثناء لا يعنون العام كي يكون

__________________

(١) في الصفحة : ١٨٥ ، وراجع أيضا الحاشيتين الآتيتين في الصفحة : ١٩٧ وما بعدها والصفحة : ٢٠٤ وما بعدها.

١٨٠