أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

مسامحة في التعبير كما هو واضح.

ثمّ لا يخفى أنّه لا حاجة في هذا الذي شرحناه إلى اعتبار طرو مفاد أداة العموم على الطبيعة قبل طرو مفاد التوصيف أو الاستثناء عليها ، ولا إلى عكس ذلك ، بل هو متأت وجار على كلا الاعتبارين ، وإن كان التحقيق أنّ كلا من الاعتبارين وارد على الطبيعة في مقام الحكم عليها في عرض الآخر ، فإنّ هذه الطبيعة أعني طبيعة العالم تكون محكومة بوجوب الاكرام ، وبلحاظ طرو وجوب الاكرام عليها تكون معروضة ومطروة لاعتبار كلّ فرد منها ولاعتبار اتّصافها بالعدالة.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّ التخصيص والتقييد وغيرهما من الاعتبارات لا توجب استعمال اللفظ فيما هو نتيجة التخصيص والتقييد ، من دون فرق في ذلك بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ، سواء كان ذلك بلفظ الاستثناء أو كان بلفظ التقييد والتوصيف ، وسواء كان المستثنى عنوانا كلّيا مثل الفاسق أو كان شخصيا جزئيا مثل زيد ، بل لا فرق فيه بين كون المخرج منه عنوانا عاما مثل العلماء ، أو كونه إشارة إلى جماعة خاصّة مثل أكرم هؤلاء ، أو كونه اسم عدد مثل هؤلاء العشرة ، أو كونه اسما للمجموع المركّب مثل صم هذا الشهر إلاّ اليوم الأخير منه ، فإنّ جميع التخصيصات في جميع هذه الموارد تكون راجعة إلى ناحية الحكم ، لا إلى المستعمل فيه ، هذا فيما لو كان ذلك متّصلا.

ومنه يظهر الحال في المنفصل ، أمّا ما كان موجودا حين صدور العام ويكون المتكلّم قد اعتمد عليه فواضح ، لأنّه يكون من قبيل القرينة المتّصلة. وأمّا ما لم يكن موجودا ثمّ بعد صدور العام مثل ( أكرم كلّ عالم ) ورد ( لا تكرم فسّاق العلماء ) مثلا فهو أيضا لا يوجب التجوّز ، وإنّما يوجب كون ذلك الظاهر وهو

١٠١

( أكرم كلّ عالم ) خلاف الواقع ، بمعنى أنّ ظاهر ذلك الكلام هو أنّ محط الحكم هو كلّ عالم بقول مطلق ، ثمّ بعد العثور على ذلك المخصّص المنفصل انكشف أنّه إنّما حكم على العادل من العالم ، فلا يكون الخطأ إلاّ في ناحية الحكم دون ناحية الاستعمال ، بمعنى أنّه لم ينكشف لنا أنّه أراد بالعالم خصوص العادل منه ليكون مجازا ، بل إنّما انكشف لنا أنّ حكمه على تلك الطبيعة لم يكن على تمام أفراد العالم ، بل كان على خصوص العادل.

وبالجملة : أنّ التخصيص والتقييد تصرف في ناحية الحكم على الطبيعة ، لا أنّه تصرّف في المعنى الذي استعمل اللفظ فيه ، وذلك التصرّف إن كان مع القرينة المتّصلة أو ما بحكمها كان من قبيل التخصيص المتّصل ، وإن لم تكن القرينة متّصلة كان من قبيل عدم بيان تمام ما له الدخل في كيفية الحكم ، ويكون من قبيل تأخير البيان ، وليس شيء منهما راجعا إلى التجوّز في الاستعمال بوجه من الوجوه ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر لي هو أنّه في خصوص المخصّص المتّصل لا يكون الوجه في عدم التجوّز إلاّ تلك الارادة التمهيدية ، وأنّ كلا من توجيه صاحب الكفاية (١) وصاحب الغرر وشيخنا قدس‌سرهم لا يعدو هذه الارادة التمهيدية. وأيضا أنّ كلامهم في المخصّص المنفصل ، وتوجيه عدم التجوّز فيه لا يعدو ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ التخصيص المنفصل لا يكون إلاّ تصرّفا في المرتبة الثانية من الدلالة التصديقية ، التي هي مركز حجّية الظهور الراجعة إلى الحكم التصديقي بأنّ المتكلّم قد أراد الظاهر إرادة جدّية ، مع بقاء المرتبة الأولى من الدلالة التصديقية بحالها ، وتلك المرتبة الأولى من الدلالة التصديقية هي عبارة عن ظهور

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١٨.

١٠٢

الكلام وكونه بحيث يمكن فيه النقل بالمعنى ، وينسب الحاصل إلى المتكلّم بطريق القول ، غاية الأمر أنّ صاحب الكفاية يسمّي هذه المرتبة من الدلالة بالدلالة الاستعمالية أو الدلالة القانونية. ولا يخلو تسميتها بذلك من مناسبة ، فإنّها لا تخرج عن حيّز الاستعمال وعن مجرّد الظهور الذي هو موضوع الحجّية ، على وجه يكون ذلك الظهور كقانون يأخذه السامع عن المتكلّم. وليس مراده بالدلالة الاستعمالية هي الدلالة التصوّرية ، فإنّ تلك الدلالة التصوّرية ليست عند صاحب الكفاية بدلالة ، بل هي عنده جهالة وضلالة كما صرّح به في أوائل مباحث الألفاظ (١). كما أنّه ليس مراده من الدلالة القانونية جعل القاعدة في مورد الشكّ ، بل ليس مراده من الدلالة القانونية إلاّ ذلك الظهور ، الذي هو عبارة عن المرتبة الأولى للدلالة التصديقية ، وحينئذ فلا يتّضح الخلاف في جميع هذه المسائل بين هؤلاء الأعلام ، فراجع كلماتهم ليتّضح لك صحّة ما أدّعيه ، والله هو ولي التوفيق والهداية.

والأولى تبديل الدلالة في هذه المقامات بالارادة ، فإنّ الارادة هي محلّ الكلام في التجوّز والحقيقة ، لا الدلالة التي هي عبارة عن مرحلة ما يفهمه السامع من كلام المتكلّم ، وحينئذ يكون تقسيمها إلى تصوّرية وتصديقية بكلا المرتبتين أجنبيا عن محلّ البحث من الحقيقة والمجاز ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : قلت ليس الأمر كذلك ، فإنّ التخصيص الأفرادي يوجب تقييد مدخول الأداة أيضا ... الخ (٢).

الظاهر أنّا لو التزمنا بالاخراج من نفس الشمول الذي هو مفاد كلّ أو

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٠٣

بالاخراج من مدخول كلّ ، لا يكون التجوّز لازما ، فإنّ الاخراج من مفاد « كلّ » إنّما هو بعد دلالته التمهيدية التي عرفت شرحها فيما تقدّم (١) ، ويكون الغرض من إحضار كلّ عالم أمام السامع هو إيراد الحكم عليه في عرض إخراج زيد منهم ، كما عرفت فيما تقدّم.

وكذلك يظهر لك الحال في التقييدات المنفصلة ، فإنّه لا يتفاوت الحال فيها بين دعوى كونها راجعة إلى المدخول ، وبين كونها راجعة إلى نفس مفاد العموم ، في أنّ ذلك القيد المنفصل لا بدّ أن يكون تصرّفا في الجهة الثانية من الدلالة التصديقية المعبّر عنها بحجّية الظهور ، دون الجهة الأولى من الدلالة المذكورة المعبّر عنها بالظهور نفسه. فما ذكره في الحاشية (٢) من أنّ عدم لزوم التجوّز إنّما يتمّ إذا قلنا برجوع القيود المنفصلة إلى المدخول ، دون ما لو قلنا برجوعها إلى نفس مفاد العموم ، وأنّه بناء على الثاني كما هو المختار للمحشي لا بدّ من سلوك طريقة التفصيل بين الارادتين ، ممّا لم يتّضح وجهه ، هذا. مضافا إلى أنّ ما اعتمده من التفصيل بين الارادتين هو بعينه هو الذي اعتمده شيخنا قدس‌سره ، وليست هذه الطريقة إلاّ مأخوذة ممّا أفاده قدس‌سره في تلك المقامات المتعدّدة التي أشرنا إليها فيما تقدّم ، فراجع.

ولا يخفى أنّ التخصيص الأفرادي من القضية الحقيقية في غاية الإشكال ، فإنّ إخراج زيد مثلا من مثل قوله : ( أكرم كلّ عالم ) إن كان من جهة خارجة عن مصداقيته لطبيعة العالم ، لم يكن التخصيص أفراديا ، بل كان نوعيا ، وكان الخارج هو صاحب تلك الجهة الزائدة. وإن لم يكن إخراجه من جهة خارجة عن

__________________

(١) في الحاشية السابقة.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٠٣.

١٠٤

مصداقيته ، بل كان الخارج هو ذلك الفرد بما أنّه مصداق لطبيعة العالم ، بحيث يكون كغيره من المصاديق ، لم يكن الاخراج معقولا حينئذ ، لكونه مساويا لغيره من الأفراد في الدخول تحت طبيعة العالم ، وهو حاصل الدليل العقلي الحاكم بشمول طبيعة العالم لكلّ فرد ، أعني به ما سيأتي منه قدس‌سره (١) من أنّ الشمول في المطلق الشمولي إنّما هو بحكم العقل ، من جهة تساوي الأفراد في مصداقية طبيعة العالم.

نعم في القضية الخارجية يتصوّر الاخراج الأفرادي ، إذ ليس هو إخراج من عنوان يكون هو الموضوع ، بل إنّ الموضوع في القضية الخارجية ليس إلاّ نفس تلك الأفراد ، فلا مانع من إخراج زيد منها ، لأنّ الحكم لم يرد عليه وإنّما ورد على ما عداه من الأفراد.

قوله : مدفوع بما مرّ في بحث مقدّمة الواجب وسيجيء في بحث التعارض إن شاء الله تعالى ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره قد التزم (٣) بأنّ التخصيص الأفرادي راجع إلى التصرّف في المدخول بتقييده ولو بنحو غير زيد. كما أنّه قدس‌سره قد التزم (٤) بأنّ كلّ ما يرجع إلى المدخول من قيود لا بدّ أن يكون الطارد له هو إطلاق المدخول ، لا نفس عموم « كلّ » من قولك كلّ عالم ، وأنّ لفظة « كلّ » وإن كانت موضوعة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٤) لمزيد التوضيح راجع بحث المطلق والمشروط من أجود التقريرات ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٨.

١٠٥

للعموم والشمول لما يراد بالمدخول ، إلاّ أنّها لا تغني عن إطلاق المدخول وإجراء مقدّمات الحكمة فيه ، لأنّ ذلك بالنسبة إلى ما هو مفاد لفظ « كلّ » بمنزلة الموضوع من الحكم. وحينئذ يتوجّه السؤال بأنّه بعد فرض إجراء مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول ، المفروض كونه طاردا للتقييد الأنواعي مثل العادل ، وللتقييد الأفرادي مثل غير زيد ، يكون إدخال لفظة « كلّ » عليه لغوا صرفا. كما أنّه يتوجّه السؤال عن الوجه في تقديم العموم الذي اصطلحوا عليه بالأصولي أعني العموم المستفاد من لفظة « كلّ » على الشمول الاطلاقي.

والمتحصّل ممّا أفاده قدس‌سره فيما حرّره عنه في هذا الكتاب في الجواب عن ذلك : هو أنّ ما تفيده مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول هو تعلّق الحكم على الطبيعة المطلقة ، ولكن يبقى التسوية بين أفرادها راجعا إلى حكومة العقل ، وحينئذ يكون ما تفيده « كلّ » عند دخولها على تلك الطبيعة هو عين تلك الحكومة العقلية الراجعة إلى التسوية بين الأفراد ، ويكون ذلك من قبيل الدليل اللفظي الوضعي على تلك التسوية ، ويكون الاتيان بلفظة « كلّ » لأجل أنّ تفيد تلك الفائدة ، فلا يكون حينئذ ذكرها لغوا صرفا. ثمّ بعد ذلك لو تعارض العموم الأصولي مع الشمول الاطلاقي يكون الأوّل هو المقدّم ، لكن لا من جهة كونه بالوضع وذاك بمقدّمات الحكمة ، وأنّه يكون بيانا ، بل من جهة سقوط حكم العقل بالتسوية في ناحية الشمول الاطلاقي.

والظاهر من بعض كلماته قدس‌سره أنّ الوجه في ذلك هو كونه بيانا رافعا لمقدّمات الحكمة التي هي عدم البيان ، ومن البعض الآخر هو ما عرفت من أنّ الوجه في ذلك هو ارتفاع موضوع الحكم العقلي أعني التسوية بين الأفراد.

ولا يخفى أنّه لو تمّ ذلك فإنّه إنّما يتمّ في تصحيح حكومة الشمول اللفظي

١٠٦

على الشمول الاطلاقي في خصوص التخصيص الأفرادي دون الأنواعي ، فلو كان التعارض بينهما في نوع من الأنواع لم يكن وجه لتقديم الأوّل على الثاني.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذا المطلب وهذا الإشكال في نهاية الصعوبة ، وقد تعرّضنا له في مقامات متعدّدة ، منها في هذا المقام ، ومنها في باب التعادل والتراجيح (١) ومنها في باب الأوامر في مسألة الدوران في القيد بين رجوعه إلى مفاد الهيئة أو رجوعه إلى مفاد المادّة (٢). وفي أغلب هذه المواقع أنكرنا تقدّم العموم الأصولي على الاطلاق الشمولي ، لكن ذلك من جهة الاعتراف باحتياج العام الأصولي إلى إجراء مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول.

وهذه الجهة التي أفادها شيخنا قدس‌سره هنا من أنّ اطلاق المدخول وإجراء مقدّمات الحكمة فيه لا يثبت إلاّ كون المحكوم عليه هو صرف الطبيعة ، وأنّ الحكم بالتسوية بين أفرادها راجع للحكومة العقلية بالتسوية المذكورة ، قابلة للمناقشة باعتبار أنّ التسوية عبارة أخرى عن عدم بيان الخصوصية الموجبة لاخراج زيد من دون الأفراد ، وذلك موقوف على سكوته عن إخراجه مع كونه في مقام البيان. مضافا إلى أنّها إنّما تنفع في التخصيص الأنواعي ، لأنّه مع الحكم باطلاق طبيعة العالم بالنسبة إلى العادل والفاسق يبقى احتمال اختلاف الأفراد ، فيحكم العقل بالتسوية بينهما ، ويكون ذلك هو فائدة إدخال لفظة « كلّ » على طبيعة العالم.

أمّا التخصيص الأفرادي فبعد الالتزام بكونه راجعا إلى المدخول أيضا وأنّه يقيّده ولو بمثل غير زيد ففيه تأمّل ، لأنّ هذه التسوية تكون ناشئة عن إطلاق

__________________

(١) راجع حاشيته قدس‌سره على فوائد الأصول ٤ : ٧٣٠ في المجلّد الثاني عشر.

(٢) لم نجده في هذا الكتاب ، ولعلّه قدس‌سره يشير إلى ما بحثه في بعض مؤلّفاته المخطوطة.

١٠٧

الطبيعة في مقام البيان ، وأنّها لم تقيّد بمثل العادل ، ولا بمثل غير فرد معيّن من أفرادها ، وحينئذ يكون المحكوم عليه كلّ واحد من أفرادها ، ولا يكون استفادة التسوية إلاّ من نفس إطلاق المدخول في مقام البيان ، فأي فائدة حينئذ لادخال لفظة « كلّ » على ذلك المدخول ، بل بناء على ذلك يكون احتمال تقييد العالم بأنّه غير زيد موجودا حتّى مع وجود كل ، وهذا الاحتمال لا يرفعه إلاّ اطلاق المدخول ، وحينئذ يكون القول بأنّ المدخول لا يحتاج إلى إجراء مقدمات الحكمة ، وأنّ نفس دخول « كلّ » يفيد شموله لجميع أفراده بعد فرض أنّه لم يقيّده قويّا جدّا.

وليس المراد من قولنا لم يقيّده هو التمسّك بالاطلاق الموقوف على مقدّمات الحكمة ، بل المراد منه مجرّد عدم ذكر القيد وإن لم يكن في مقام البيان ، فيكون ذلك نظير قولنا إنّ القائل ( رأيت أسدا ) إذا لم ينصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي كان هو المراد ، وفيه تأمّل ، إذ لا يكون ذلك خارجا عن عدم البيان في مقدّمات الحكمة ، هذا.

ولكن هذا الوجه لا يمكن الالتزام به في قبال احتمال التقييد الأنواعي ، لأنّ مجرّد إرادة كلّ فرد من المدخول في مثل قولنا : ( كلّ عالم ) لا تعيّن لنا أنّ المدخول هو طبيعة العالم غير مقيّد بالعدالة إلاّ بعد إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول نفسه ، إذ ليس مفاد « كلّ » إلاّ كلّ فرد من أفراد ما يراد بالمدخول ، ومع الشكّ في أنّ المراد بالعالم هو خصوص العالم العادل ، أو هو مطلق العالم سواء كان عادلا أو غير عادل ، كيف يمكننا سحب هذا الحكم إلى كلّ فرد من أفراد العالم حتّى غير العادل منهم ، بعد فرض أنّه لا تعرض للفظ « كلّ » لبيان الأنواع ، وإنّما شأنها الشمول لكلّ واحد من الأفراد الداخلة تحت ما أراده المتكلّم من لفظ

١٠٨

المدخول.

ومن أقوى الشواهد على ذلك هو أنّه لو قيّد هذا العموم بقيد العدالة ، فقيل أكرم كلّ عالم عادل ، يكون العادل مربوطا بنفس المدخول ، ويكون هادما لظهوره المنعقد لو لا هذا القيد ، أعني بذلك ظهوره في إطلاق طبيعة العالم ، وأنّه لا فرق فيه بين العادل وغيره. ولا يدفعه ما في الحاشية بقوله : فهو يندفع بأنّ أداة العموم إنّما تدلّ بالوضع على سعة مدخولها ولحاظه على نحو اللاّبشرط القسمي الخ (١). وكيف تكون الأداة دافعة لما لو كان موجودا لكان متصرّفا في نفس المدخول ، من دون أن يكون متصرّفا في مفاد الأداة من الشمول ، وإن كان لازم تقييد المدخول هو ضيق دائرة ذلك الشمول. اللهمّ إلاّ إنّ يقال إنّ مفاد الأداة يغني عن مفاد الاطلاق في المدخول الذي هو التسوية بين الأنواع ، لا أنّه يكون نافيا له ابتداء كي يقال إنّه لو توجّه القيد فلا يكون توجّهه إلاّ إلى المدخول ، لا إلى نفس مفاد أداة الشمول ، فتأمّل.

وحاصل الإشكال : أوّلا أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان دلالة المطلق على التسوية بين نوعيه وضعية ، لا تحتاج إلاّ إلى أصالة عدم التقييد من باب أصالة عدم القرينة ، أمّا على ما هو التحقيق من الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة ، فلا تكون إضافة « كل » إلى طبيعة العالم مفيدة للشمول إلى الجميع حتّى الفسّاق إلاّ مع إجراء مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول ، وإلاّ كان العالم من هذه الناحية مجملا مردّدا بين خصوص العادل أو هو مطلق العالم وإن لم يكن عادلا ، وحينئذ لا تكون إضافة « كلّ » إلى هذا المجمل مفيدة للشمول للفرد الفاسق.

وثانيا : أنّ إضافة « كلّ » إنّما تفيد طرد الاحتمال الذي يكون مربوطا بها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٩٢.

١٠٩

وهو التخصيص الأفرادي ، دون التقييد الأنواعي المفروض كونه غير مربوط بها.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أشكلنا به على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ الالتزام بكون التخصيص الأفرادي راجعا إلى المدخول ، يوجب الالتزام بأنّ طرد احتماله يكون حينئذ باطلاق المدخول ، وحينئذ يعود الإشكال ، يمكن الجواب عنه بأنّ التخصيص الأفرادي وإن رجع إلى المدخول لو كان موجودا ، ولكن في صورة عدم وجوده لا نحتاج في نفيه إلى التمسّك بمقدّمات الحكمة ، بل يكفي في ثبوت العموم الأفرادي وتسرية الحكم إلى كلّ فرد حكم العقل بالتسوية بين الأفراد ، وهذا الحكم العقلي لتقدّمه رتبة على إثبات مقدّمات الحكمة يكون مقدّما عليها ، وحينئذ ينفتح المجال لادخال لفظ « كلّ » ولا يكون ذكرها لغوا. وبعد أن صحّ قولنا أكرم كلّ عالم ، وحصل بيدنا هذا العموم اللفظي الأفرادي ، يكون مقدّما على الشمول الاطلاقي لو كان أفراديا.

ولكن مع ذلك كلّه فالأولى أن يقال : إنّ التصرّف في مثل هذا القول ـ أعني أكرم كلّ عالم ـ تارة يكون بنحو التقييد بمثل عادل ، وهذا ينفيه إطلاق نفس المدخول باجراء مقدّمات الحكمة فيه. وأخرى يكون بنحو الاستثناء والاخراج بإلاّ ونحوها ، وهذا إنّما يكون في قبال الشمول المستفاد من إضافة « كلّ » إلى لفظة العالم ، سواء كان الاخراج أفراديا مثل إلاّ زيدا ، أو كان أنواعيا مثل إلاّ الفسّاق. والظاهر أنّه لا فرق في هذا الشمول الذي يكون هذا الاخراج في قباله بين كونه بدليا مثل قولك أكرم عالما أو أيّ عالم شئت إلاّ زيدا أو إلاّ الفاسق ، لما عرفت من اشتمال العموم البدلي على الشمول لكلّ فرد في ناحية البدلية ، أو كون الشمول إطلاقيا كما في مثل أكرم العالم إلاّ زيدا أو إلاّ الفاسق ، فإنّ العالم في مثل هذا القول يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في نفس الطبيعة باعتبار عدم

١١٠

تقييدها بالعدالة ، وبعد فرض كون المحكوم عليه من هذه الطبيعة ليس هو صرف الطبيعة لتكون القضية طبيعية ، كما أنّه ليس هو الطبيعة من حيث الوجود في ضمن فرد معيّن ، إذ لا عهد في البين ، ولا الطبيعة من حيث الوجود في ضمن فرد غير معيّن كما هو الحال في النكرة ، نحكم بأنّ المراد هو الطبيعة من حيث تمام الأفراد ، لأنّه لو كان المراد منها هو البعض لبيّنه ، ولمّا لم يبيّن علمنا أنّ المراد هو تمام الأفراد ، فيكون هذا الشمول مستفادا من الاطلاق في ناحية الأفراد ، وإجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في نفس الأفراد بعد إجرائها في ناحية نفس الطبيعة ، وأنّها لم تكن مقيّدة بقيد خاصّ ، فلا يكون هذا الشمول لتمام الأفراد مستفادا من حكم العقل بالتسوية وعدم التفاوت بينها ، بل هو مستفاد من مقدّمات الحكمة أيضا في ناحية الأفراد ، ولأجل ذلك يقدّم عليه العموم اللفظي الأصولي.

ومن ذلك يظهر لك الحال في العموم اللفظي الشمولي مثل أكرم كلّ عالم ، فإنّه أيضا مشتمل على هاتين المرحلتين ، أعني مرحلة نفي التقييد في ناحية المدخول بمثل العادل ، ومرحلة نفي الاخراج بمثل إلاّ زيدا أو إلاّ الفاسق. أمّا المرحلة الأولى فإنّما تكون باجراء مقدّمات الحكمة في المدخول ، وحينئذ يكون « كلّ » لعموم ما أريد بالمدخول. وأمّا المرحلة الثانية فإنّما تكون باضافة لفظ [ كل ] إليه ، فإنّ هذا الذي أفادته اضافة لفظة « كلّ » إلى المدخول من الشمول لكلّ فرد من أفراده يكون نافيا لاحتمال الاخراج من تلك الأفراد ، سواء كان أفراديا أو كان أنواعيا بمثل إلاّ زيدا أو إلاّ الفسّاق ، على وجه لو ألحق به مثل هذا الاخراج لكان هذا الاخراج في ابتداء الأمر تصرّفا في نفس الشمول لا في المدخول. وإن كان بعد التصرّف في الشمول يكون موجبا لتقيّد المدخول قهرا ، فلا يكون هذا

١١١

الذي ذكرناه منافيا لما سيأتي في محلّه (١) إن شاء الله تعالى من أنّ الاستثناء يوجب تقيّد المصب على وجه يمنع من التمسّك به في الشبهات المصداقية.

وبالجملة : أنّ الاخراج يكون تصرّفا في نفس الشمول ابتداء وإن كان موجبا لتقيّد المدخول قهرا ، وهو عكس التقييد فإنّه يكون تصرّفا في نفس المدخول ابتداء وإن كان موجبا لضيق دائرة الشمول قهرا.

ثمّ إنّ هذا التصرّف في نفس الشمول لا يوجب التجوّز ، أمّا في المتّصل فلما عرفت (٢) من انحفاظ الارادة التمهيدية التي عليها المدار في الحقيقة والمجاز ، وأنّ أقصى ما في هذا التصرّف هو إسقاط الظهور في الشمول. وأمّا في المنفصل فلما عرفت من أنّه لا يصادم الظهور فضلا عن الدلالة التمهيدية ، وإنّما يصادم حجّية الظهور ، فلا يوجب إلاّ رفع اليد عن الحجّية فيما قام عليه الدليل الخاصّ.

فقد تلخّص لك من جميع ما قدّمناه : أنّ الاخراج مطلقا سواء كان أنواعيا أو كان أفراديا إنّما يكون في قبال الشمول ، سواء كان الشمول بدليا أو كان مجموعيا أو كان استغراقيا ، وسواء كان وضعيا أو كان إطلاقيا. نعم ، إنّه بعد مصادمته الشمول وإسقاط أصل الظهور فيه أو إسقاط حجّية الظهور فيه يكون موجبا لتقيّد المدخول تقيّدا قهريا ، أمّا التقييد بمثل عادل فهو إنّما يكون واردا ابتداء على إطلاق المدخول ، والمتكفّل لطرد الاحتمال الأوّل هو ما دلّ على الشمول من إطلاق أو وضع ، والمتكفّل لطرد الاحتمال الثاني هو إجراء مقدّمات الحكمة في نفس المدخول.

__________________

(١) لاحظ الحاشية الآتية في الصفحة : ١٣٩ وما بعدها.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٩٥ وما بعدها.

١١٢

أمّا لو ألحق العام المذكور بمثل ( غير زيد ) بأن قال أكرم كلّ عالم غير زيد ، فذلك ليس من قبيل التوصيف لطبيعة العالم ، وإنّما هو إخراج واستثناء ، لكون لفظ « غير » في هذا المقام استثنائية لا وصفية ، فلا توجب التصرّف في المدخول ، وإنّما هي تصرّف في نفس مفاد كلّ من العموم والشمول. ولو سلّمنا كونها وصفا فليست هي وصفا للعالم ، وإنّما هي وصف لكلّ عالم ، فتكون تصرّفا في مفاد « كلّ » لا في مدخولها.

وعلى أي حال ، لا يكون إطلاق المدخول متكفّلا بنفي هذا الاحتمال ، وإنّما يكون المتكفّل له هو مفاد « كلّ » من العموم لو قلنا إنّها للاستثناء ، أو إطلاق لفظ « كلّ » إن التزمنا بهذا الوجه البعيد أعني كونها وصفا للفظة كل ، وحينئذ يكون حالها حال الاطلاق الأحوالي الطارئ على كلّ واحد من كونه قائما أو قاعدا ، ونحو ذلك ممّا يكون المرجع فيه هو إطلاق « كل » لا إطلاق مدخولها ، فتأمّل ، هذا.

ولكن بعد هذا كلّه فللتأمّل مجال في تقديم عموم مثل ( أهن كلّ فاسق ) الذي هو وضعي على عموم ( أكرم العالم ) الذي هو إطلاقي ، لأنّ الذي يطرده العموم الوضعي في لفظة ( كلّ فاسق ) إنّما هو احتمال الاخراج والاستثناء لبعض الأفراد أو لبعض الأصناف ، أمّا لو احتملنا أنّ الفاسق في قوله ( أهن كلّ فاسق ) كان مقيّدا بالجاهل فلا يكون المتكفّل لطرد هذا الاحتمال هو لفظة كل ، بل يكون المتكفّل له هو إطلاق مدخولها وهو الفاسق. كما أنّ احتمال تقيّد العالم في قوله ( أكرم العالم ) بالعادل إنّما يطرده إطلاق العالم ، وحينئذ يكون التدافع بين الاطلاقين نفسهما ، لا بين العموم الوضعي في كلّ فاسق والاطلاقي في أكرم العالم ، فلا يتّجه تقديم أحدهما على الآخر ، ويكون الحاصل أنّ ما يكون طارده

١١٣

هو لفظ كلّ ، أعني الاخراج والتخصيص في الدليل المقابل المفروض كونه إطلاقيا يكون مفاد « كلّ » مقدّما عليه ، وما يكون منه من قبيل التقييد للمدخول لا يكون تقديم « كلّ » عليه لمجرّد كونه وضعيا متّجها. وتمام الكلام في محلّه من باب التعارض (١) إن شاء الله تعالى.

والظاهر أنّ جميع موارد تعارض العموم من وجه ممّا يكون الشمول في أحدهما وضعيا وفي الآخر إطلاقيا من قبيل القسم الأوّل ، لأنّ فرض المعارضة بينهما إنّما تكون بالنفي والاثبات ، الذي لا يكون التقديم إلاّ بنحو الاخراج لا بنحو التقييد ، هذا.

ولكن ما ذكرناه من كون الاخراج من الشمول الذي هو مفاد « كلّ » وإضافتها إلى طبيعة العالم ، وأنّه لا يوجب تجوّزا فيه لانحفاظ الارادة التمهيدية قابل المنع ، لأنّ ذلك ـ أعني انحفاظ الارادة التمهيدية ـ إنّما ينفع في منع التجوّز فيما يكون من التصرّفات راجعا إلى نفس المادّة المدخولة. أمّا مع فرض كون التصرّف راجعا إلى مفاد كل ، فمنع استلزامه للتجوّز محلّ تأمّل. وتوجيه ذلك بكون التصرّف في المدخول لكن بلحاظ كونه موردا للشمول ، في قبال كون الشمول واردا على المادّة بلحاظ كونها مقيّدة بالعادل مثلا ، ولازمه أنّه عند عدم ذكر القيد يكون النافي لاحتماله هو الشمول المستفاد من لفظ كلّ ، لا مقدّمات الحكمة في المدخول ليتوجّه الإشكال في تحكيمه على الشمول الاطلاقي ، وإن كان وجيها في الجملة ، وهو مأخوذ ممّا أفيد في تقييد المادّة في قبال تقييد الوجوب الذي هو مفاد الهيئة ، كما حقّق في محلّه في الواجب المشروط (٢) ، إلاّ أنّه

__________________

(١) راجع حاشيته قدس‌سره على فوائد الأصول ٤ : ٧٣٠ في المجلّد الثاني عشر.

(٢) راجع بحث المطلق والمشروط في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٢ وما بعدها.

١١٤

مع ذلك لا يخلو عن تأمّل ، ولعلّه خلاف فرض رجوع القيد إلى مفاد « كلّ » ابتداء.

وعلى كل حال ، الأولى أن يقال : إنّ هذه التصرّفات سواء كانت بطريق التقييد أو كانت بطريق الاخراج ، سواء كان المخرج عنوانا خاصا بأن كان التخصيص أنواعيا ، أو كان فردا خاصّا بأن كان التخصيص أفراديا لو تصوّرناه في القضايا الحقيقية ، كلّها راجعة إلى مفاد المدخول أعني نفس الطبيعة ، سواء كانت مجرّدة من لفظة [ كل ] أو كانت مدخولة لها ، لكن الحكم بالعموم عند عدمها تارة يكون لأجل الاطلاق ومقدّمات الحكمة ، أو لأجل تساوي الأفراد في الدخول تحت الطبيعة ، وذلك عند كونها مجرّدة من لفظة كل. وأخرى يكون لأجل دخول لفظة « كل » على تلك الطبيعة ، فإنّه بدلالته اللفظية يكون حاكما بعدم التخصيص الأنواعي والأفرادي ، وذلك عند وقوعها مدخولة لكل ، وبذلك يقدّم على ما يعارضه من المطلق الشمولي ، الذي لا يكون شموله لمورد المعارضة إلاّ بالاطلاق ومقدّمات الحكمة ، أو بحكم العقل بتساوي الأفراد في الدخول تحت الطبيعة. أمّا في الأوّل فلكونه بيانا ورافعا لموضوع عدم البيان ، وأمّا في الثاني فلكونه موجبا لرفع التساوي بين الأفراد. وأساس ذلك كلّه أنّ الشمول في لفظة « كل » لا يتوقّف على جريان مقدّمات الحكمة في المدخول ، بل يكفي فيه مجرّد عدم التقييد في المدخول ، وأنّ الشمول في إضافة « كل » كما يطرد احتمال الاخراج فكذلك يطرد احتمال التقييد ، وأنّ كلا من التقييد والاخراج يكون راجعا إلى مادّة المدخول ، لا أنّ الأوّل راجع إلى المادّة والثاني راجع إلى ما تفيده إضافة لفظة « كل » إليها من الشمول ، وأنّ رجوع هذه الجهات إلى المادّة لا ينحصر نفي احتمالها بالاطلاق ، بل تكون لفظة « كل » كافية في نفي احتمالها ، وإنّما ينحصر

١١٥

نفي احتمالها بالاطلاق إذا لم تكن لفظة « كل » موجودة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وحينئذ فيكون المخصّص كاشفا عن أنّ مدلول العام لم يكن بتمام المراد ، بل له قيد آخر أيضا ، فيكون المخصّص مقيّدا لاطلاق العام لا موجبا لمجازيته (١).

لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو بعد فرض تسليم الوضع للمركّبات الذي هو عبارة عن دعوى أنّ المركّب من لفظ « كل » ومدخولها للعموم ، وحينئذ يكون الجواب بأنّ الدليل المنفصل يكون مقيّدا للمدخول غير ملائم لأصل الدعوى ، لأنّ هذا التقييد الطارئ على المدخول إنّما يؤثّر في عالم المفردات ، دون ما هو المدّعى من وضع المجموع المركّب من تلك المفردات.

نعم ، إنّ الظاهر ممّا حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي وما حرّرته عنه قدس‌سره هو أنّه بناء على الوضع للمركّبات لو التزمنا بالتجوّز لم يكن ذلك موجبا لسقوط ظهور اللفظ في الباقي ، لأنّ التجوّز إنّما كان باعتبار عدم دلالة اللفظ على خروج ما خرج لا باعتبار دلالته على الباقي ، وأنّ دلالته على الباقي لم تكن مربوطة بدلالته على الخارج المفروض زوالها. قال المرحوم الشيخ محمّد علي بعد التعرّض لوضع المركّبات زائدا على وضع المفردات ، وأنّ دعوى المجازية لا تستقيم إلاّ بذلك ما هذا لفظه : وحينئذ نقول لو سلّمنا هذه الدعوى الفاسدة فغاية ما يلزم من التخصيص هو خروج بعض أفراد الموضوع له عن العموم ، ولكن خروج بعض الافراد لا يقتضي عدم دلالة العام على الأفراد الباقية ، إذ دلالة العام على الأفراد ليست على وجه الارتباطية (٢) ، إلى آخر ما حرّره. وهو عين ما حرّر

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٢٢.

١١٦

عنه في هذا الكتاب في الفصل الآتي (١) ، فراجعها وتأمّل.

قوله : ربما يقال بأنّ العلم الاجمالي بحرمة اكرام زيد العالم أو الجاهل موجب لترك اكرامهما ... الخ (٢).

لا يقال : إنّ زيدا العالم يكون من قبيل الدوران بين المحذورين ، لأنّه إن كان هو المراد بقوله لا تكرم زيدا ، كان محرّم الاكرام. وإن كان المراد بقوله لا يكرم زيد ، هو زيد الجاهل كان زيد العالم واجب الاكرام ، فلا يكون التحريم في حقّه منجّزا ، لكونه من الدوران بين المحذورين. وإذا لم يكن التحريم قابلا للتنجّز في زيد العالم ، لم يكن العلم الاجمالي المردّد بين حرمة إكرامه وحرمة إكرام زيد الجاهل منجّزا ، لعدم قابلية العلم الاجمالي للتنجيز إذا كان الحكم المعلوم غير قابل للتنجّز في أحد طرفيه.

لأنّا نقول : أقصى ما يقتضيه تردّد زيد العالم بين المحذورين هو عدم لزوم أحدهما في حقّه ، وذلك لا ينافي تنجّز التحريم في حقّه ولزوم ترك إكرامه من جهة وقوعه طرفا لعلم إجمالي آخر ، وهو العلم بحرمة الاكرام المردّدة بينه وبين زيد الجاهل ، غايته أنّه لا يكون الوجوب منجّزا في حقّه ، لأنّه ليس بمقرون بالعلم الاجمالي. نعم ، هو ـ أعني وجوب إكرام زيد العالم ـ لازم لأحد طرفي العلم الاجمالي بالتحريم ، وذلك الطرف هو ما لو كان المحرّم الاكرام هو زيدا الجاهل ، بخلاف ما لو كان المحرّم هو زيدا العالم ، فإنّه لا وجوب في البين ، فلا يكون الوجوب حينئذ إلاّ احتمالا بدويا ، فتجري فيه البراءة ويكون اللازم هو اجتناب إكرام كلا الطرفين.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٠ ـ ٣١١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣١٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١١٧

ونظير هذه المسألة ما لو قال اعط زكاتك لكلّ فقير ، ثمّ قال لا تعط زكاتك لزيد ، وكان زيد المذكور مردّدا بين كونه غنيا أو كونه فقيرا ، فإن كان غنيا لم يكن ذلك من باب التخصيص ، وإن كان فقيرا كان من باب التخصيص ، فهل تجري أصالة العموم ويحكم بلازمها من كون زيد المذكور غنيا ، ولازم ذلك أن لا يجوز دفع باقي الحقوق إليه ، أو أنّ أصالة العموم لا تجري ويبقى زيد بحاله من كونه مشكوك الغنى والفقر؟ والشبهة في هذا الفرع مصداقية لكن ليس فيها علم إجمالي منجّز ، بخلاف الشبهة في الفرع السابق فإنّها مفهومية ، وفيها علم إجمالي منجّز ، وفي كلا الفرعين لا بدّ من كون الخاص منفصلا.

أمّا لو كانت الشبهة في الفرع السابق مصداقية بأن يكون قد أخرج زيدا العالم ، فإن تردّد مصداقا بين عالمين كان من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية في المخصّص المردّدة بين المتباينين ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى (١). وإن تردّد مصداقا بين عالم وجاهل كان من الشبهة المصداقية في ناحية العام ، ولا يجوز التمسّك فيه بالعموم بلا كلام ، فتأمّل.

فقد تلخّص : أنّه إذا قال أكرم العلماء ، ثمّ قال لا تكرم زيدا ، وحصل التردّد في زيد ، فتارة يكون زيد المذكور مردّدا بين عالمين ، وأخرى يكون مردّدا بين عالم وجاهل ، وكلّ منهما تارة يكون على نحو الشبهة الحكمية وأخرى على نحو الشبهة الموضوعية ، فتكون الصور أربعا :

الأولى : ما يكون مردّدا بين عالمين والشبهة حكمية ، بأن يكون لنا من العلماء شخصان مسمّيان بزيد ، وقد تردّد زيد المذكور بينهما. وهذه هي الشبهة

__________________

(١) في الحاشية الآتية في الصفحة : ١٣٩ وما بعدها.

١١٨

المفهومية المردّدة بين المتباينين ، وقد تقدّم منه قدس‌سره (١) عدم جواز التمسّك بالعموم فيها ولزوم الرجوع في ذلك إلى الأصول العملية ، والأصل في مثل ذلك هو التخيير ، لأنّه من الدوران بين المحذورين في كلّ من الطرفين. وهل يلزمه إكرام أحدهما وترك الآخر مخيّرا فرارا عن المخالفة القطعية في ترك كلّ منهما وفي إكرام كلّ منهما ، أم يجوز له ذلك؟ محلّ تأمّل وإشكال ، وإن كان الظاهر هو تعيّن الأوّل أعني التبعيض. هذا لو كان مفاد التخصيص هو الحرمة ، ولو كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب لزم الاحتياط باكرامهما معا ، للعلم الاجمالي بوجوب إكرام أحدهما.

الصورة الثانية : ما يكون مردّدا بين عالمين والشبهة مصداقية ـ وهو ما نذكره فيما سيأتي من مثال الشبهة المصداقية المردّدة بين المتباينين ـ بأن لا يكون لنا إلاّ زيد واحد هو عالم ، لكن لبعض العوارض اشتبه بشخصين عالمين لم نعلم أنّ أيّهما هو المسمّى بزيد. وسيأتي إن شاء الله تعالى (٢) أنّه لا يجوز الرجوع إلى العام في مثل ذلك ، لا للعلم الاجمالي بتنجّز التحريم في كلّ منهما ، لأنّه لا يتأتّى فيما لو كان مفاد التخصيص هو مجرّد عدم الوجوب. ولا لتعارض أصالة العموم في كلّ منهما ، لأنّه لا يتأتّى فيما لو كان قد مات أحدهما ، بل لأنّ هذه الشبهة بنفسها مسقطة للعموم ، كما تسقطه لو كانت مصداقية مردّدة بين الأقلّ والأكثر.

ثمّ بعد الفراغ عن عدم جريان العموم فيها لا بدّ من الرجوع إلى الأصول العملية ، وهي التخيير لو كان مفاد الدليل هو التحريم ، والاحتياط باكرامهما لو كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب ، على حذو ما تقدّم في الصورة الأولى.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣١٥.

(٢) في الحاشية الآتية في الصفحة : ١٣٩ وما بعدها.

١١٩

الصورة الثالثة : ما يكون مردّدا بين عالم وجاهل والشبهة مفهومية ، بأن يكون من سمّي بزيد شخصين أحدهما المعيّن عالم والآخر جاهل ، ولم يعلم المراد به منهما. وهذه الصورة تقدّم الكلام فيها منه قدس‌سره (١) وأفاد أنّه يجري العموم في حقّ العالم منهما ويوجب انحلال العلم الاجمالي. ولا يخفى أنّ العلم الاجمالي بحرمة إكرام أحدهما إنّما يكون إذا كان مفاد دليل التخصيص هو الحرمة ، أمّا إذا كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب فلا يكون في البين علم إجمالي ، ويجري العموم حينئذ في حقّ العالم بلا كلام ، لكونه بالنسبة إليه من قبيل الشكّ في التخصيص ، مع عدم تحقّق العلم الاجمالي الذي قد تخيّل أنّه مزاحم للعام.

الصورة الرابعة : ما يكون أيضا مردّدا بين عالم وجاهل لكن تكون الشبهة مصداقية ، بأن لا يكون لنا إلاّ شخص واحد معيّن مسمّى بزيد وكان عالما ، وهو المراد بقوله لا تكرم زيدا ، لكن لبعض العوارض اشتبه بشخص جاهل ، بحيث إنّهما حضرا أمامنا ولم نعرف أنّ أيّهما هو زيد المذكور. وفي هذه الصورة لا ريب في سقوط العموم في كلّ من الشخصين المزبورين ، وبعد الرجوع إلى الأصول العملية يكون كلّ منهما غير محتمل الوجوب ، لكن إن كان مفاد الدليل الخاص هو التحريم وجب الاجتناب عنهما ، للعلم الاجمالي بحرمة إكرام أحدهما. وإن لم يكن مفاده إلاّ مجرّد عدم الوجوب فلا أثر للشبهة أصلا. هذا إذا كان المراد بقوله لا تكرم زيدا ، هو زيدا العالم وحصل الاشتباه المذكور.

وإن كان المراد منه هو زيدا الجاهل واشتبه زيد المذكور ببعض أفراد العلماء اشتباها خارجيا ، بحيث لم نعرف أنّ أيّهما هو زيد المذكور ، فلا ريب في

__________________

(١) في الأمر الأوّل من أجود التقريرات ٢ : ٣١٨.

١٢٠