أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

الخوف في قوله : ( إذا سافرت وجب القصر ) مقيّدا بالخوف في قوله : ( إذا خفت وجب القصر ). وهكذا الحال من ناحية العكس ، وحينئذ يكون الخوف قيدا في ذلك الوجوب الواحد كما أنّ السفر قيد فيه ، ومقتضى القيدية المذكورة أنّه لا يحصل الوجوب بدون السفر ، كما لا يحصل بدون الخوف ، وحينئذ لا بدّ في حصوله من اجتماعهما ، ويكون النتيجة هو العطف بالواو.

وأمّا ما تمسّكنا به في الطريق الأوّل من إطلاق نفس السفر مثلا ، وأنّه تمام الموضوع ، وأنّه يؤثّر في الوجوب بلا ضمّ الخوف إليه ، فذلك عبارة أخرى عن إطلاق الوجوب الوارد عليه ، وأنّه وإن تقيّد به إلاّ أنّه مطلق من ناحية الخوف ، وقد عرفت سقوط هذا الاطلاق. ولو سلّمنا أنّه غيره لقلنا إنّ سقوط الاطلاق بالطريق الثاني موجب لسقوطه بالطريق الأوّل ، إذ بعد ثبوت أنّ الوجوب مقيّد بالخوف مضافا إلى تقيّده بالسفر لا معنى للقول بأنّ السفر مطلق من حيث انضمام الخوف إليه ، هذا.

مضافا إلى أنّ الخوف من قوله : ( إذا خفت فقصّر ) كما يقيّد الوجوب في الجزاء من قوله : ( إذا سافرت فقصّر ) يكون أيضا مقيّدا لنفس السفر ، فإنّ أقصى ما يقوله إطلاق نفس السفر : أنا يترتّب عليّ وجوب القصر سواء وجد الخوف أو لم يوجد ، وصريح التعليق في قوله : ( إذا خفت فقصّر ) يقول إنّ الوجوب يتوقّف على الخوف ، ومن الواضح تقدّمه على إطلاق السفر.

وبالجملة : الظاهر أنّه لا ينبغي الريب في أنّ التقييد بالخوف في قوله : ( إذا خفت وجب القصر ) يكون موجبا لسقوط الإطلاق النافي لاحتمال الواو بكلا الطريقين اللذين ذكرناهما فيما مضى. وهكذا الحال من ناحية العكس ، وحينئذ تكون النتيجة هي العطف بالواو ، ويكون الاطلاق الذي تمسّكنا به لنفي احتمال

٢١

العطف بأو بحاله ، لأنّ أقصى ما في ذلك الاطلاق هو أنّ الخوف لا يقوم مقام السفر ، وهذا المعنى يجتمع مع كونه شريكا للسفر في توقّف الوجوب على كلّ منهما.

لا يقال : لم لم تقدّموا إسقاط هذا الاطلاق ، وتحكموا بأنّ شرطية السفر ليست على نحو الانحصار ، وأنّ الخوف يقوم مقام السفر ، وحينئذ يبقى إطلاق الوجوب من ناحية الخوف بحاله ، وحينئذ يكون الحاصل : أنّ إسقاط كلّ من الاطلاقين يوجب صحّة بقاء الاطلاق الآخر ، وهو معنى التزاحم.

لأنّا نقول : إنّا ولو قلنا إنّ الخوف يقوم مقام السفر ، لكنّه لا يخرج بذلك عن كونه قيدا في الوجوب ، غايته أنّه حينئذ يكون أحد القيدين على البدل ، فلا يبقى إطلاق الوجوب بالنسبة إليه بحاله ، وحينئذ يكون التقييد في مرحلة العطف بالواو ـ أعني تقييد الوجوب ـ مبقيا للاطلاق في ناحية العطف بأو ، بخلاف التقييد في مرحلة العطف بأو ، فإنّه لا يبقي الاطلاق في ناحية العطف بالواو ، بل يوجب التقييد في الجملة ولو بمقدار كون الخوف أحد القيدين.

وبتقريب أوضح : أنّ تقييد الوجوب بمفاد الواو المنتج لاعتبار الاجتماع سابق في الرتبة على التقييد بمفاد أو ، الذي يكون منتجا لعدم الانحصار وأنّه يقوم الخوف مقام السفر ، لأنّ ذلك الاطلاق مأخوذ من ناحية التمسّك باطلاق التقييد ، بمعنى أنّه بعد أن يثبت كون السفر قيدا نقول إنّ قيديته مطلقة شاملة لما إذا وجد الخوف أو انعدم ، وهكذا الحال في قيدية الخوف ، والمفروض أنّ نفس القيدية توجب اعتبار الاجتماع وتصحّح بقاء إطلاق القيدية ، فيكون إصلاح هذين الشرطيتين بكون أحد القيدين منضمّا إلى الآخر سابقا في الرتبة على إصلاحهما بكون الشرط والقيد هو أحدهما. اللهمّ إلاّ أن يقال : كما أنّ كون القيدية على نحو

٢٢

الانحصار متأخرة في الرتبة عن أصل ثبوت التقييد ، فكذلك كونها على نحو العلية التامة أيضا متأخرة عن أصل التقييد ، وحينئذ يبقى التزاحم بين هاتين الجهتين بحاله.

ومنه يعرف الحال فيما قد يقال من أنّه بعد أن ورد مثلا إذا سافرت وجب القصر وإذا خفت من العدو وجب القصر ، لا ينبغي الإشكال في ثبوت تقيّد الوجوب بكلّ منهما في الجملة ، ولكن هل هذه القيدية قيدية مطلقة ، بحيث إنّه يكون السفر مثلا قيدا في الوجوب حتّى لو وجد الخوف ، أو أنّها مختصّة بما إذا فقد الخوف؟ وعلى الأوّل يكون الاجتماع معتبرا ، وعلى الثاني لا يكون الاجتماع معتبرا ، ويكون الأثر مترتّبا على أحدهما. ولكن إطلاق التقييد يثبت لنا الأوّل ، وتكون النتيجة حينئذ هي العطف بالواو.

فإنّه يمكن الجواب عنه أيضا بأنّ الثابت إنّما هو التقييد في الجملة ، ويبقى الترديد بين كونه على نحو الانحصار وكونه على نحو العلّية التامّة (١) ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وحينئذ يكون ما أفاده شيخنا قدس‌سره من وقوع التزاحم بين الاطلاقين بحاله.

والخلاصة : هي أنّ مثل قولنا : ( إن سافرت فقصّر ) له إطلاقان : الأوّل : كون قيدية السفر مطلقة ، وهذه تنتج نفي مفاد أو ، ويكون بمنزلة قولنا إنّ السفر لا يقوم مقامه شيء في إيجاب التقصير. الثاني : كون تأثيره في إيجاب التقصير مطلقا لا يتوقّف على انضمام شيء آخر إليه ، وهذه تنتج نفي مفاد الواو ، ويكون بمنزلة قولنا إنّ السفر لا يحتاج إلى انضمام شيء في إيجاب التقصير. ولا تنافي بين هذين الاطلاقين بالنسبة إلى هذه القضية لو خليت وحدها ، ويكون حاصلهما

__________________

(١) [ في الأصل : العلّية المنحصرة ، والصحيح ما أثبتناه ].

٢٣

حينئذ هو أنّ السفر يؤثّر في وجوب التقصير ، وأنّه لا يقوم مقامه شيء في هذا الأثر ، ولا يحتاج في ترتّب هذا الأثر عليه إلى ضمّ ضميمة. وهذا التفصيل بعينه جار في قولنا إن خفت من العدو فقصّر ، فإنّه يكون حاصله أنّ خوف العدو يؤثّر في وجوب التقصير ، وأنّه لا يقوم مقامه شيء في هذا الأثر ، ولا يحتاج في ترتّب هذا الأثر عليه إلى ضميمة.

وكما أنّ كلا من هذين الاطلاقين يجتمع مع الآخر في الجملة الواحدة ، فكذلك يجتمع مع الاطلاق في الجملة الأخرى ، فإنّ قولنا إنّ السفر يؤثّر في وجوب التقصير ولا يقوم مقامه الخوف في ترتّب وجوب القصر يجتمع مع قولنا إنّ الخوف يؤثّر في وجوب التقصير ولا يقوم مقامه السفر في ترتّب وجوب القصر ، لامكان صحّة كلّ من هذين القولين ، لجواز أن يكون تأثيرهما في وجوب التقصير مقيّدا بالاجتماع. وهكذا الحال في قولنا إنّ السفر يؤثّر في وجوب التقصير ولا يحتاج في ذلك إلى ضمّ الخوف إليه ، فإنّه يجتمع مع قولنا إنّ الخوف يؤثّر في وجوب التقصير ولا يحتاج في ذلك إلى ضمّ السفر إليه ، لامكان صحّة كلّ من هذين القولين ، لجواز أن يكون تأثير كلّ منهما في وجوب التقصير على البدل ، وأن يكون كلّ منهما قائما في ذلك مقام الآخر.

ومن ذلك يظهر لك أنّه إذا قيّدنا الاطلاق النافي لمفاد « أو » بقي الاطلاق النافي لمفاد الواو بحاله ، وهكذا الحال فيما لو قيّدنا الاطلاق النافي لمفاد الواو ، فإنّ الاطلاق النافي لمفاد « أو » يبقى بحاله. كما أنّا لو أبقينا الاطلاق النافي لمفاد « أو » في الجملتين لزمنا التقييد في الاطلاق النافي لمفاد الواو في الجملتين. ولو أبقينا الاطلاق النافي لمفاد الواو فيهما ، لزمنا التقييد في الاطلاق النافي لمفاد « أو » فيهما ، فلو كان الاطلاق النافي لمفاد الواو متقدّما رتبة على الاطلاق النافي لمفاد

٢٤

« أو » صدّقناه من الجملتين ، ولزمنا التقييد في الاطلاق النافي لمفاد « أو » فيهما ، وهكذا الحال من طرف العكس.

أمّا لو كان كلّ من الاطلاقين في رتبة الآخر وقع التزاحم بين الاطلاقين من هذه الجملة مع الاطلاقين من الجملة الأخرى ، إذ لا يمكننا الاحتفاظ بالاطلاقين في كلّ من الجملتين. وكما لا يمكننا الاحتفاظ بالاطلاقين من الجملتين ، فكذلك لا يمكننا الاحتفاظ بالاطلاقين من جملة وأحد الاطلاقين من جملة أخرى ، إذ لا يصحّ الجمع بين كون السفر مؤثّرا ولا يقوم مقامه الخوف ولا نحتاج إلى ضمّ الخوف ، وبين قولنا إنّ الخوف لا يقوم مقامه السفر ، لأنّ هذا القول إن نزّلناه على كون الخوف هو العلّة الوحيدة كان منافيا للجملة الأولى ، وإن نزّلناه على كون الخوف أحد الجزءين كان منافيا للجملة الثانية ، وهكذا فيما لو قابلناهما مع قولنا إنّ الخوف لا يحتاج إلى ضميمة.

والحاصل : أنّ الالتزام بكون الخوف مؤثّرا سواء كان على نحو لا يقوم مقامه السفر ، أو كان على نحو لا يحتاج إلى ضمّ السفر ، أو كان على كلا النحوين ، لا يجتمع مع الاحتفاظ بالاطلاقين من ناحية السفر ، لأنّ كون الخوف مؤثّرا ـ مثلا ـ إن كان تأثيره على نحو يقوم مقام السفر نافى الاطلاق الأوّل من ناحية السفر. وإن كان تأثيره على نحو يكون ضميمة إلى السفر نافى الاطلاق الثاني من ناحية السفر ، وهكذا الحال من ناحية العكس.

وعلى كلّ حال ، فإنّه قد ظهر لك من جميع ما تقدّم : أنّ رفع التعارض بين الاطلاقين إنّما يتمّ لو كان أحد الاطلاقين في طول الآخر. ومن ذلك يظهر أنّ الأثر إنّما يترتّب على طولية الاطلاقين ، لا على طولية التقييدين.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا معارضة بين مفهوم كلّ منهما ومنطوق الأخرى ،

٢٥

لامكان تصديق قوله : إذا لم تسافر فلا تقصّر وقوله : إذا خفت فقصّر. فيصدق المفهوم لأنّ الشرط هو انضمام السفر إلى الخوف ، وإذ لا سفر فلا تقصير. ويصدق قوله : إذا خفت فقصّر ، لأنّ الخوف جزء موضوع وجوب التقصير. كما أنّه لا تعارض بين المفهومين وهما إذا لم تسافر فلا تقصّر وإذا لم تخف فلا تقصر ، لأنّ كلا من السفر والخوف إذا كان جزء الموضوع كان الحكم منتفيا عند انتفاء كلّ منهما.

والخلاصة : هي أنّ التعارض والتنافي إنّما هو في دعوى كلّ من الشرطين أنّه لا عدل له ولا ضميمة مع فرض كونه مؤثّرا ، فتأثير كلّ منهما في وجوب التقصير لا يجتمع مع كون كلّ منهما لا يقوم مقام الآخر ولا يعتبر انضمامه اليه. وإن شئت فقل : إنّه بعد فرض كون كلّ منهما مؤثّرا في وجوب التقصير لا بدّ من الالتزام بكون أحدهما يقوم مقام الآخر ، أو بكون أحدهما ضميمة للآخر ، فلاحظ.

ثمّ إنّ في المقام شيئا آخر ربما كان هو المنشأ في وجوب التوقّف الذي أفاده شيخنا قدس‌سره ، وهو أنّ مثل قوله : ( إذا سافرت وجب عليك تقصير الصلاة ) وإن كان باصطلاح المنطقيين من القضايا الشرطية المهملة ، حيث إنّ سور الشرطية المتّصلة هو كلّما ونحوه ، إلاّ أنّها كلّية بحسب المتفاهم من القضايا الشرطية الواردة في بيان الأحكام الشرعية ، لأنّها أحكام قانونية كلّية ، وحينئذ يكون قوله : ( إذا سافرت وجب القصر ) بمنزلة قوله : كلّما سافرت وجب القصر. ثمّ ننقل الكلام إلى الحكم في ناحية الجزاء ، وهو قوله وجب القصر ، فنقول : هل المراد منه الأعمّ من جهة الحدوث والبقاء ليكون محصّله كلّما سافرت كان الوجوب متحقّقا ، سواء كان حادثا بحدوث السفر أو كان حدوثه سابقا على حدوث السفر

٢٦

بواسطة شرط آخر اقتضى حدوث وجوب القصر ، وبقي ذلك الشرط مستمرّا إلى حين السفر ، أو أنّ المراد هو جهة الحدوث ليكون المعنى كلّما حدث السفر يحدث الوجوب بحدوثه. والظاهر من أمثال هذه القضايا هو الثاني ، خصوصا فيما لو كان الوجوب مستفادا من الهيئة ، بأن يكون الجزاء بلفظ فقصّر.

وحينئذ نقول بعونه تعالى : إنّ حاصل القضية هو أنّه كلّما حدث السفر فقد حدث وجوب القصر بحدوثه ، والمستفاد من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ السفر هو الشرط الوحيد في حدوث الوجوب ، فتكون القضية من هذه الجهة دالّة على انحصار الشرط ، إذ لو كان هناك شرط آخر وهو الخوف ويحدث الوجوب بحدوثه ، وكان قد سبق السفر بالحدوث ، لم تصدق هذه الكلّية ، وهي كلّما حدث السفر يحدث الوجوب بحدوثه ، لأنّه في الصورة المفروضة لا يكون الوجوب حادثا بحدوث السفر ، بل يكون حدوثه سابقا على حدوث السفر.

الأمر الثاني : أنّ السفر هو تمام ما يعتبر في وجوب القصر ، على وجه لا يحتاج ترتّب وجوب القصر على السفر إلى عطف مثل الخوف عليه بالواو ، إذ لو كان كذلك بحيث إنّه كان الشرط في وجوب القصر هو السفر مع خوف العدو لم تصدق الكلّية المزبورة ، وهي أنّه كلّما حدث السفر حدث وجوب القصر ، إذ ربما حدث السفر وحده فلا يكون الوجوب المذكور حادثا بحدوثه.

وإذا تمّ الأمران المذكوران في قولك كلّما حدث السفر فقد حدث بحدوثه وجوب القصر ، كان محصّل ذلك هو أنّ هذه القضية كما تأبى من أن يكون الخوف شرطا في وجوب القصر قائما مقام السفر ، فكذلك تأبى من أن يكون الخوف المذكور ضميمة إلى السفر في لزوم حدوث الوجوب لحدوثه ، والأوّل

٢٧

طارد لاحتمال عطفه عليه بلفظ أو ، والثاني طارد لاحتمال عطفه عليه بالواو ، فلو ورد مع ذلك مثل قولك إذا خفت العدو فقصر ، كان المتحصّل منها عين ما هو المتحصّل من قضية إذا سافرت فقصّر. وحينئذ يقع التعارض بينهما ، وينحصر الأمر في الجمع بينهما باسقاط اقتضائهما الأمر الأوّل أو إسقاط اقتضائهما الأمر الثاني ، وحيث إنّه لا مرجّح لأحد الوجهين على الآخر كان اللازم هو التوقّف كما أفاده شيخنا قدس‌سره ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ إرجاع مثل ( إذا سافرت فقصر ) إلى قولنا كلّما سافرت وجب القصر ، بمعنى كلّما حدث السفر حدث وجوب القصر ، إخراج للقضية الحكمية المتضمّنة لجعل الحكم مقيّدا بالشرط ومترتّبا عليه ونازلا منه منزلة المعلول من علّته إلى قضية شرطية متّصلة لزومية ، لا يكون الحاكم فيها متعرّضا إلاّ لمحض التلازم الكلّي بين المقدّم والتالي التي لا يفرق فيها بين كون المقدّم علّة للتالي أو معلولا له أو معلولين لعلّة ثالثة.

وعلى كلّ حال ، أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه فلا يخرج الحكم في ناحية الجزاء عن كونه مقيّدا بالشرط ، على وجه يكون حصول الجزاء متوقّفا على حصول الشرط ، ومع فرض وحدة الحكم الذي في ناحية الجزاء في كلّ من الشرطيتين يكون الحكم في كلّ منهما مقيّدا بالشرط في الأخرى ، كما أنّه مقيّد بالشرط المذكور فيها ، وبعد ثبوت كون ذلك الحكم الواحد مقيّدا بهما يكون ذلك التقييد قاضيا بأنّ السفر مثلا قيد في الوجوب ، وأنّه متوقّف عليه ولو عند وجود الخوف. وهكذا الحال بالنسبة إلى الخوف ، فيكون التقييد المذكور حينئذ قاضيا باسقاط الأمر الثاني المتقدّم الذي هو عبارة عن الاستقلال ، دون الأمر الأوّل وهو

٢٨

الانحصار ، على تأمّل في ذلك مرّت الاشارة إليه (١) من أنّ أصل ثبوت تقييد الحكم في ناحية الجزاء لا يثبت إلاّ التقييد في الجملة ، ويبقى الترديد بين كونه على نحو العلّية التامّة أو على نحو الانحصار بحاله ، وهما معا في رتبة واحدة ، فلا وجه لتقديم أحد التصرفين على الآخر.

هذا كلّه فيما تقتضيه صناعة الاطلاق والتقييد ، ولكن ربما كان الظهور العرفي في بعض القضايا على خلاف ذلك ، كما في مثل إذا بلت انتقض وضوءك ، وإذا نمت انتقض وضوءك ، فإنّ الانتقاض وإن كان حكما شرعيا وهو مقيّد بالنوم مرّة وبالبول أخرى ، فيكون حاله حال وجوب القصر مثلا ، إلاّ أنّ الظاهر العرفي من ذلك هو أنّ المتكلّم بمثل هذه القضايا ناظر إلى أمر موجود محقّق ، وهو الطهارة من الحدث ، وأنّه يرتفع وينتقض بالبول وينتقض بالنوم ، فيكون كلّ منهما سببا لذلك الانتقاض. وكذلك الحال فيما لو أشرت إلى شيء طاهر من الخبث وقلت إنّ هذا إن لاقى البول تنجّس وإن لاقى الدم تنجّس.

والحاصل : أنّ مثل هذه القضايا تكون في مقام تعداد الأسباب ، ويكون المتحصّل من مجموعها هو أنّ كلّ واحد سبب مستقل ، فيكون من قبيل تعدّد الأسباب والمسبّب واحد ، فيكون السبب هو القدر الجامع إن كان هناك جامع عرفي ، وإن لم يكن كان السبب هو أحدها على البدل وإن رجع ذلك عقلا إلى كون المؤثّر هو القدر الجامع ، فيكون وزان هذه القضايا الشرعية وزان القضايا العادية في مقام الإخبار بالأسباب العادية ، مثل قولك مشيرا إلى ماء بارد إنّك إن وضعته في الشمس ذهبت برودته وإن قرّبته إلى النار ذهبت برودته.

وإن شئت فقل : إنّا نعلم من الخارج أنّه ليس الاجتماع معتبرا في هذه

__________________

(١) في الصفحة : ٢٢ ـ ٢٣.

٢٩

الأسباب حتّى الأسباب الشرعية ، لأنّا نعلم من الخارج أنّ انتقاض الوضوء بالبول لا يتوقّف على انضمام النوم إليه ، فلا يكون تعدّد هذه القضايا إلاّ في مقام بيان تعدّد السبب ولا يحتمل فيها أنّها لبيان جزء السبب. ولو احتمل فيها ذلك كان حالها حال القضايا التي يكون الجزاء فيها تكليفيا ، مثل إذا سافرت فقصر وإذا خفت العدو فقصر ، في احتمال كلّ من الطريقتين ، فيكون مقتضى صناعة الاطلاق والتقييد هو ما عرفت من تقييد التكليف بكلّ من القيدين ، ومقتضاه اعتبار الاجتماع على ما عرفت تفصيله ، وقد عرفت ما فيه من التأمّل الذي مرّت الاشارة إليه فتأمّل ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هاتين الجهتين من العموم المتقدّم وإن كانا معا في رتبة واحدة ، لكن بعد فرض أنّه لا بدّ من رفع اليد عن إحدى الجهتين ، يكون المتعيّن هو رفع اليد عن الجهة الأولى ، وذلك لأنّ محصّل رفع اليد عن العموم من الجهة الأولى هو أن نقول : إنّ قوله كلّما سافرت حدث وجوب القصر ، يخرج منه ما لو تقدّمه الخوف ، وهذا المقدار من الاخراج لا بأس به ، بخلاف ما لو رفعنا اليد عن الجهة الثانية ، لأنّ محصّل ذلك هو أن نقول : كلّما حدث السفر حدث وجوب القصر إلاّ إذا كان قد حدث السفر مجرّدا من الخوف فإنّه لا يحدث الوجوب عند حدوثه. ولا ريب أنّ اخراج هذه الصورة ـ أعني صورة انفراد السفر وحصوله مجرّدا عن الخوف ـ وبقاء العموم على صورة اجتماعه مع الخوف لا يكون إلاّ من قبيل تخصيص الأكثر البالغ حدّ الاستهجان ، ومن هذه الجهة يكون التصرّف الأوّل في مقام المزاحمة مقدّما على التصرّف الثاني ، هذا.

مضافا إلى أنّ التصرّف الأوّل لا يوجب سقوط الوجوب بالمرّة ، وإنّما أقصى ما فيه هو أن يكون موجبا لسقوط الجهة الزائدة على وجود الوجوب وهي

٣٠

جهة حدوثه ، بخلاف التصرّف الثاني. ولعلّ لأجل ذلك ما تراه من مساعدة الارتكاز والذوق العرفي على الذهاب لأوّل وهلة إلى التصرّف الأوّل. والمسألة محلّ تأمّل وإشكال.

ولا يخفى أنّ الوجه الأوّل ـ وهو ترجيح الجمع بمفاد أو على مفاد الواو بكون لازم الثاني تخصيص الأكثر بخلاف الأوّل ـ وإن كان متينا ، إلاّ أنّه إنّما يجري في خصوص هذا المثال الذي يكون موارد الانفراد فيه أكثر من موارد الاجتماع ، أمّا ما يكون فيه موارد الاجتماع هو الأكثر فلا يتأتّى فيه الوجه المذكور ، نعم يتأتّى فيه الوجه الثاني ، وهو كون التصرّف في الحدوث أسهل بحسب الذوق العرفي ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وعليه فيمكن أن يقال : إنّ كلا من القضيتين حيث إنّها صريحة في ترتّب التالي على المقدّم ... الخ (١).

لا يخفى أنّ كلّ غرض شيخنا قدس‌سره في هذه المسألة هو أنّه بعد ثبوت التدافع بين القضيتين لا يمكن الاحتفاظ بكلتا جهتي الاطلاق في كلّ واحدة من القضيتين ، أعني الاطلاق النافي للعطف بأو والاطلاق النافي للعطف بالواو ، فالاحتفاظ بالاطلاق النافي في كلا القضيتين للعطف بالواو يحتّم علينا التقييد في كلّ منهما بلفظ أو ، وكذلك الاحتفاظ بالاطلاق النافي للعطف بأو في كلّ منهما يحتّم علينا التقييد بلفظ الواو في كلّ منهما ، وحينئذ يكون الاطلاقان متزاحمين ، فإنّ كلّ واحدة من هاتين القضيتين إنّما تكون معارضة للقضية الأخرى مع الاحتفاظ بكلا جهتي الاطلاق فيهما ، ولا يرتفع التعارض بينهما إلاّ برفع اليد عن إحدى جهتي الاطلاق في كلا القضيتين ، بمعنى أنّ الاطلاق من الجهة الأولى في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٠ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٣١

هذه القضية يزاحمه الاطلاق فيها من الجهة الثانية ، وهكذا الحال في القضية الأخرى يكون فيها أيضا عين ذلك التزاحم. وليس المراد أنّ الاطلاق من الجهة الأولى في هذه القضية مزاحم أو معارض للإطلاق من الجهة الأولى في القضية الأخرى.

وحينئذ لا يتّجه ما أورده عليه في الحاشية على ص ٤٢٤ من الطبعة الجديدة (١) من عدم المزاحمة بين جهتي الاطلاق وبتعيّن الجهة الأولى لرفع اليد عنها ، بتقريب أنّ التعارض بين القضيتين إنّما هو من ناحية الجهة الأولى من إطلاقيهما دون الجهة الثانية ، وإن كان رفع اليد عن الجهة الثانية يكون رافعا لذلك التعارض ، إلاّ أنّه بلا موجب ، بل هو من قبيل الجمع التبرّعي. وذلك لأنّ هذا الايراد إنّما يتوجّه لو كان التعارض منصبّا ابتداء إلى الجهة الأولى في القضيتين ليتعيّن إصلاحه برفع اليد عنهما ، ويكون حينئذ رفع اليد عن الجهة الثانية من الاطلاق بلا موجب. لكنّك قد عرفت أنّ التدافع بين القضيتين والتعارض بينهما إنّما يكون مع الاحتفاظ بكلا جهتي الاطلاق ، ودواء هذا التعارض هو رفع اليد عن إطلاقهما من إحدى الجهتين ، وإذ لا مرجّح لإحدى الجهتين على الأخرى وجب التوقّف.

وينبغي أن يعلم أنّ المستفاد ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله (٢) في قبال هذا التوقّف احتمالات ثلاثة :

الأوّل : تعيّن الجهة الثانية للاحتفاظ بها وتعيّن الجهة الأولى للاسقاط ، بدعوى أنّ دلالة الجملة الشرطية على كون الشرط علّة تامّة أقوى من دلالتها على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٦١.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

٣٢

الانحصار. وأجاب عنه بمنع الأقوائية ، لكونهما معا إطلاقيين.

ولا يخفى أنّ هذه الاقوائية لو سلمت فإنّما نسلّمها إذا تحقّق التزاحم ، وقد عرفت أن لا تزاحم وأنّ كلّ واحد من الشرطين يكون قيدا في الوجوب. وهذه الاقوائية هي التي دعت صاحب الكفاية قدس‌سره لأن يقول : ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثاني (١) على ما تقدّم (٢) شرحه ، وقد عرفت أيضا ما فيه.

الثاني : ممّا يعيّن الاحتفاظ بالجهة الثانية ويعيّن الجهة الأولى للاسقاط هو دعوى كون إسقاط العطف بالواو يوجب سقوط الاطلاق من جهة العطف بأو ، بخلاف العكس. وأجاب عنه بما أجاب به في الواجب المشروط.

ولا يخفى أنّه بناء على ما ذكرناه لا يكون العطف بالواو موجبا لسقوط الاطلاق في ناحية العطف بأو ، لما عرفت من أنّ التقييد بالواو يوجب احتفاظ الاطلاق من ناحية التقييد بلفظ أو ، كما أنّ التقييد بلفظ ( أو ) يوجب الاحتفاظ بالاطلاق من ناحية الواو.

الثالث : أنّ التصرّف بالجهة الاطلاقية في مقابل الواو مقدّم رتبة على التصرّف في مقابل أو ، وجعل هذا التقدّم الرتبي دليلا على أنّ المقدّم هو إسقاط الاطلاق في مقابل الواو ، على العكس ممّا يقتضيه الوجهان السابقان. وأجاب عنه بأنّ التقدّم الرتبي لا أثر له في العلم الاجمالي.

وهو محلّ تأمّل ، لأنّ اختلاف الرتبة مؤثّر على العلم الإجمالي حتّى في باب التكاليف كما أفاده قدس‌سره (٣) في النجاسة المردّدة بين الماء والتراب المنحصرين

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٠١.

(٢) في هامش الصفحة : ٩ ـ ١٠.

(٣) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣٣

مع فرض عدم الأثر لنجاسة التراب إلاّ التيمّم. ومع الغض عن ذلك نقول فيما نحن فيه : إنّه بعد تسليم اختلاف الرتبة يرتفع العلم الاجمالي ، لأنّ منشأه التزاحم بين الإطلاقين ، ومع فرض كون أحدهما مقدّما رتبة على الآخر يكون السابق في الرتبة بلا مزاحم.

وعلى كلّ حال ، أنّ الذي يظهر من هذا الكتاب في طبعته الأولى (١) والثانية (٢) وممّا حرّرته عنه قدس‌سره هو الاستدلال بهذا التقدّم الرتبي على تعيّن التصرّف بمفاد لفظ أو. ولا يخفى ما فيه ، فإنّ هذا التوهّم لو تمّ لكان الأولى أن يكون دليلا على تعيّن التصرّف بمفاد الواو دون التصرّف بما هو مفاد لفظ أو.

لكنّه قدس‌سره قد نظر في ذلك حسبما يستفاد من مجموع ما هو محرّر عنه إلى أنّ هذين الاطلاقين لمّا تزاحما ، وكان الاطلاق النافي للعطف بالواو سابقا في الرتبة على الاطلاق النافي للعطف بأو ، وحينئذ يكون ذلك الاطلاق في رتبته بلا مزاحم فيبقى بحاله ، وإذا انتهت النوبة إلى الاطلاق الثاني الواقع في الدرجة الثانية والرتبة اللاحقة يكون هو الساقط ، لتحقّق مزاحمه في الرتبة السابقة.

وبهذا البيان لا يمكن الجواب عنه بأنّ العلم الاجمالي لا يؤثّر فيه اختلاف الرتبة ، فإنّ هذا العلم الاجمالي بسقوط أحد الاطلاقين إنّما هو ناش عن هذا التزاحم ، وبعد فرض علاجه بما عرفت من اختلاف الرتبة لا معنى للجواب عنه بالعلم الاجمالي.

نعم ، عمدة الجواب هو ما عرفت ممّا حرّرناه من أنّ الرتبة الأولى هي مرتبة تقييد الوجوب بكلّ من القيدين ، وبعد تحقّق التقييد ينتقل الكلام إلى أنّ القيدية

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٢.

٣٤

مطلقة أو مقيّدة ، ولا بدّ حينئذ من الالتزام باطلاقها الذي هو عبارة عن عدم قيام أحدهما مقام الآخر بعد ثبوت كون كلّ منهما قيدا. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الثابت في المرتبة الأولى أعني تقييد الحكم في ناحية الجزاء إنّما هو التقييد في الجملة ، ويبقى الكلام في إطلاق القيدية فلا يقوم أحدهما مقام الآخر ، وفي تمامية العلّة فلا يحتاج أحدهما إلى انضمام الآخر ، وحينئذ يكون ما أفاده شيخنا قدس‌سره من وقوع التزاحم بين الاطلاقين باقيا بحاله.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس‌سره لم يذكر حسبما حرّرته عنه وحسبما حرّره عنه في هذا الكتاب إلاّ الوجه الأوّل والوجه الثالث وجعلهما دليلا على التصرّف بما هو مفاد العطف بلفظ أو ، ولم يتعرّض للوجه الثاني الذي نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي. وقد أفاد حسبما حرّرته عنه أنّه في الدورة السابقة بنى على ترجيح التصرّف بمفاد لفظ ( أو ) استنادا إلى الوجهين المزبورين ، أعني قوّة ظهور الجملة في تمامية العلّة ، وكون الاطلاق النافي للعطف بالواو متقدّما في الرتبة على الاطلاق النافي للعطف بأو.

قال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه في الدورة السابقة ما هذا لفظه : فيرجع الأمر بالأخرة إلى تقييد أحد الاطلاقين ، إمّا الاطلاق الذي هو في مقابل العطف بالواو ، وإمّا الاطلاق الذي في مقابل العطف بأو ، ففي مورد دوران أحد التقييدين يكون التقييد بأو أظهر ، وذلك لأنّ القضية ظاهرة بل كالنصّ بأنّ الجزاء مستند إلى الشرط ومترتّب عليه ، وليس غيره دخيلا في الترتّب ، أي ظاهر في أنّ كلّ واحد ليس جزء العلّة ، وليس الكلام بهذه المرتبة من الظهور في انحصار الترتّب بكلّ واحد.

وبعبارة أخرى : وإن كانت استفادة السببية المستقلّة وكذا الانحصار كليهما

٣٥

بالاطلاق ، إلاّ أنّ تقييد السببية المستقلّة وصرفه عمّا هو عليه وإرجاعه إلى أنّه جزء السبب يحتاج إلى مئونة زائدة وقرينة خارجية غير ورود دليل الشرط الآخر ، بخلاف تقييد الانحصار ، فإنّ نفس تعدّد الشرط يكفي لبيان العطف بأو وأنّه ليس السبب منحصرا.

وبعبارة واضحة : بناء على أخذ الاطلاق المقابل للعطف بالواو لم يتصرّف في أصل السبب الذي هو مفاد كلّ قضية شرطية ، بخلاف العكس فإنّه رفع اليد عن ظهور السببية التامّة ، ولا شبهة أنّ الانحصار إنّما هو في طول الاستناد لا في عرضه ، لأنّ بعد ظهور الشرطية في استناد الجزاء إلى الشرط المذكور فيها لا إليه وإلى غيره بالاشتراك ، يصحّ أن يقال في ظهورها بانحصار السبب بهذا الشرط ، لا أنّه أو غير سبب ، فالتصرّف فيما هو في طول إطلاق ومتأخر عن غيره رتبة أولى من التصرّف فيما هو المقدّم رتبة ، انتهى ما وجدته فيما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في الدورة السابقة.

ومن الغريب أنّه في هذه الدورة الأخيرة لم يذكر عنه سوى هذه العبارة بطولها ، ولم يذكر عنه أنّه قد عدل عن ذلك الترجيح إلى هذا التوقّف الذي بنى عليه قدس‌سره في هذه الدورة الأخيرة. ومن هذه العبارة يظهر لك اختلاف آخر ، وهو أنّ ظاهر هذه العبارة هو أنّ مرجع الوجه الأوّل إلى دعوى الأظهرية ، والذي يظهر من هذا الكتاب وممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي وممّا حرّرته عنه قدس‌سره هو الاستناد في الوجه الأوّل إلى دعوى كون الاستناد إلى الشرط وأنّه يستقلّ في ذلك في الجملة ولو في بعض الموارد قدرا متيقّنا ، فراجع ما حرّرناه عنه قدس‌سره في هذا المقام وما علّقناه عليه وتأمّل.

٣٦

قوله قدس‌سره في الكفاية : الأمر الثالث ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الظاهر من كلامه قدس‌سره أنّه أخذ تعدّد الأسباب مسلّما فلا تداخل فيها. وكأنّ جلّ غرضه قدس‌سره هو نفي تداخل المسبّبات ، ولأجل ذلك قال : فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرّف فيه الخ ، فإنّ الوجه الأوّل راجع إلى دعوى وحدة الوجوب ، لأنّ الشرطية لا دلالة لها على الحدوث عند الحدوث. والثاني راجع إلى أنّ الوجوب وإن تعدّد وكان متعلّقه متعدّدا بواسطة تعدّد السبب ، إلاّ أنّه يمكن تحقّق الامتثال لكلا الوجوبين بفعل واحد. والثالث راجع إلى دعوى التأكّد.

ومن الواضح أنّ كلّ واحد من هذه الوجوه راجع إلى دعوى الاتّحاد في المسبّب ولو في مقام الامتثال كما في الوجه الثاني ، وحينئذ فلا مورد لمسألة كون الأسباب الشرعية معرّفات ، ولا للتفصيل بين اتّحاد الجنس وعدمه ، لأنّ ذلك إنّما هو في مقام دعوى اتّحاد السبب.

كما أنّ قوله قدس‌سره إن قلت : وجه ذلك هو لزوم التصرّف في ظهور الجملة الشرطية لعدم امكان الأخذ بظهورها حيث إنّ قضيته اجتماع الحكمين في الوضوء في المثال الخ (٢) إنّما يكون متوجّها لاثبات اتّحاد السبب ، أعني أنّ الأولى بهذا الاعتراض أن يكون مسوقا لاثبات التداخل من حيث السبب ، وإنكار دلالة الجملة الشرطية على أنّ كلّ شرط يكون موجبا لحدوث وجوب عند حدوثه ، لأنّ ذلك موجب لتوارد الوجوب وتعدّده على طبيعة واحدة ، فدفعا لهذا الإشكال نقول إنّه لا بدّ من تداخل الأسباب.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٠٢.

(٢) كفاية الأصول : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٣٧

نعم ، يمكن أن يتوجّه هذا الاعتراض على عدم التداخل في المسبّبات ، بأن يكون المتحصّل منه هو أنّا بعد الفراغ عن تعدّد الأسباب وعدم التداخل فيها لا بدّ لنا من الالتزام بأحد هذه الأمور الثلاثة ، أعني إخراج القضية عن الدلالة على الحدوث وجعلها لمجرّد الثبوت عند الثبوت ، أو جعل الفعل الواحد المنطبق عليه العنوانان كافيا في مقام الامتثال ، أو جعل ما يحدث بالشرط الثاني هو التأكّد.

قوله قدس‌سره في هذا المبحث : قلت انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتّصافه بوجوبين ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الوجه الثاني لا يتمّ ، لأنّ التركّب اتّحادي والقائلون بالجواز لا يقولون به ، مع أنّه قدس‌سره (٢) قائل بالامتناع ، فكيف يصحّ عنده هذا الجواب.

أمّا الوجه الأوّل فكأنّه راجع إلى أنّ الانطباق على الفرد جهة تعليلية لكونه متّصفا بالوجوب لا جهة تقييدية ، وهو لو صحّ فلا يتأتّى في مثل المثال أعني الاكرام بالضيافة ، لوضوح أنّ ذلك ليس من قبيل الجهات التعليلية. وبالجملة : أنّ انطباق عنوان الواجب على الفرد لا يعقل كونه جهة تعليلية لاتّصافه بالوجوب ، وإنّما ذلك من الجهات التقييدية ، ويكون عروض الوجوب على ذلك الفرد بواسطة كون الكلّي المنطبق عليه متّصفا بالوجوب ، فهو من الواسطة في العروض لا الواسطة في الثبوت ، وإنّما الذي يكون واسطة في الثبوت بمعنى أنّه علّة في تعلّق الايجاب بالشيء هو المصالح والمفاسد التي تكون علّة لتشريع الأحكام فتأمّل ، أو الشرائط التي جعل التكليف على تقدير وجودها مثل كون الدلوك علّة لوجوب الصلاة ، بمعنى تحقّق الوجوب عند تحقّق الدلوك لا أنّه علّة له حقيقة ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٠٣.

(٢) كفاية الأصول : ١٥٨.

٣٨

فتأمّل.

قوله : إنّ مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في تداخل الأسباب وعدمه ... الخ (١).

هذا إذا كان معنى التداخل في المسبّبات هو الاكتفاء بفعل واحد مع فرض تعدّد العنوان ، أمّا لو كان بمعنى التأكّد فالظاهر أنّ المرجع في مقام الشكّ فيه هو البراءة ، كمسألة الشكّ في تداخل الأسباب. وأمّا ما في الحاشية على الطبعة الجديدة (٢) فيما يعود إلى الأحكام الوضعية ، فقد كفانا ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي مئونة الجواب عنها ، فراجع وتأمّل.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس‌سره : وأمّا باب الوضعيات فربما يختلف الأصل فيه ، مثلا لو شكّ في اقتضاء العيب للخيار زائدا على ما اقتضاه بيع الحيوان أو المجلس ، فمقتضى الأصل وإن كان عدم ثبوت خيار العيب ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ مقتضى الأصل بقاء الخيار بعد الثلاثة أيّام ، فتأمّل جيّدا (٣).

أمّا الذي حرّرته عنه قدس‌سره فهو ما يلي : وأمّا في الأحكام الوضعية عند اجتماع الأسباب المتعدّدة ، كما في صورة اجتماع الأسباب المتعدّدة للخيار لو حصل الشكّ في تعدّد الخيارات ووحدتها وفرض ارتفاع أحد الأسباب ، فربما كان مقتضى الأصل هو استصحاب الخيار لو لم يكن هناك جهة تمنع من ذلك ، ككونه من قبيل الشكّ في المقتضي كما لو انقضى المجلس ، أو كونه من قبيل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٦٤.

(٣) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٩٠ ـ ٤٩١.

٣٩

استصحاب الكلّي وغير ذلك من الموانع. وبالجملة : أنّ مسألة التداخل في باب الوضعيات يختلف الحال فيها باعتبار كون الأصل فيها هو الاستصحاب أو غيره من الأصول العملية ، انتهى.

والحاصل : أنّ الظاهر أنّ شيخنا قدس‌سره في هذا المقام لم يكن بصدد بيان المرجع في الأحكام الوضعية عند الشكّ في التداخل ، ومع ذلك فقد حرّر عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ما يفيد أنّ الشكّ في التداخل فيها إن كان في ناحية الأسباب كان المرجع هو الأصل النافي ، وإن كان في ناحية المسبّبات كان المرجع هو الأصل المثبت ، وهو الذي ذكره المحشي. فلا إيراد يتوجّه إلاّ على الاجمال الذي حرّره عنه قدس‌سره بقوله : فليس لجريان الأصل في مواردها ضابط كلّي الخ (١).

ونظير هذا الاجمال ما اشتمل عليه تحرير المرحوم الشيخ موسى بقوله : وأمّا لو كان في باب الوضع فيختلف المقامات ، فقد يقتضي الأصل نظير البراءة كما في منزوحات البئر ، وقد يقتضي نظير الاشتغال كما في أسباب الخيار ، انتهى.

قوله : فنقول إنّ العلّة يطلق تارة ويراد منها الملاك الداعي إلى الجعل أو الحكم المجعول ... الخ (٢).

الذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام أنّ علل الأحكام على نحوين : أحدهما ما يكون علّة التشريع أو علّة الحكم المشرّع ، ويعبّر عنها بحكمة التشريع ، وهي ما تضمّنته جملة من الأخبار الواردة في حكم الأحكام ، كما تضمّنه كتاب علل الشرائع من الروايات. النحو الآخر ما يكون من قبيل موضوع الحكم ، أعني ما جعل الحكم على تقدير وجوده ، سواء كان بلسان القضية الشرطية أو كان بلسان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٠