أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

خصوصية المقام. وهذا هو الوجه في كونه محلا للاتّفاق دون مفهوم المخالفة.

ثمّ بيّن الوجه في عدم إمكان رفع اليد عن المنطوق في باب مفهوم المخالفة ، ثمّ قال : إلاّ أنّ منع ظهور اللفظ في ذلك ليس بتلك المكانة من البعد. ( يعني في باب مفهوم الموافقة ، فإنّ إلغاء ظهور اللفظ في اقتضائه لمفهوم الموافقة أبعد منه في مفهوم المخالفة ) ثمّ قال :

وأمّا الثاني ( يعني ما كان المفهوم فيه أخصّ ) فيظهر الوجه في وجوب تقديم المفهوم على العموم فيه ممّا تقدّم. مضافا إلى كون المفهوم أخصّ مطلقا أيضا.

وبالجملة : فاللازم تقديم المفهوم الموافق على العموم كما عرفت ، لعدم معقولية التصرّف فيه بنفسه ، فيدور الأمر بين التصرّف في العام أو في المنطوق ، ولا ريب أنّ الأوّل أرجح. مضافا إلى ما تقدّم من أنّ اللفظ مسوق لبيانه ، فظهوره في المفهوم أولى من ظهور العام في العموم (١) ، انتهى كلامه قدس‌سره.

والظاهر من التصرّف بالمنطوق الذي منعه وأفاد أنّه تصرّف بارد هو التصرّف فيه باخراجه عن الدلالة على وجوب إكرام الخدّام الذي يكون بواسطته دالا على المفهوم ، نظير التصرّف في المنطوق في باب مفهوم المخالفة بالغاء دلالته على انحصار العلّة التي بها يكون مقتضيا للمفهوم ، الذي فرّق بينهما بأنّ التصرّف في المنطوق في باب مفهوم الموافقة أبعد منه في باب مفهوم المخالفة.

وكيف كان ، فليس المراد له قدس‌سره بالتصرّف في المنطوق هو حمله على العام وجعله موافقا له بالجمع بينهما بالتخصيص ، كي يكون العلّة في منع هذا الوجه هو ما أفاده شيخنا قدس‌سره في مقام النقل عنه بأنّ رفع اليد عن المنطوق والتصرّف فيه

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢ : ٢١٣ ـ ٢١٥.

٣٠١

مع عدم كونه معارضا للعموم بلا وجه الخ.

ثمّ إنّه سيأتي إن شاء الله تعالى (١) أنّ هذه الأمثلة لا ينحصر الأمر فيها بالتصرّف في المفهوم ابتداء من دون تصرّف في المنطوق ( بالغاء دلالته على المفهوم ) ، أو التصرّف في المنطوق بالغاء الجهة الدالّة على المفهوم ، أو التصرّف بالعام بكون المفهوم مخصّصا له كي يقال إنّه بعد إبطال الوجهين الأوّلين ينحصر الأمر بالثالث. بل هناك وجه آخر وهو الجمع بين المنطوقين ، لثبوت الاختلاف بينهما إمّا بالعموم المطلق أو العموم من وجه ، وحينئذ لا بدّ من ذكر أمثلة أخرى للمسألة لا يكون فيها تعارض بين نفس المنطوقين ابتداء كما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله : فإن كان المنطوق أخصّ مطلقا من العموم كما إذا ورد لا تكرم الفسّاق وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء ـ إلى قوله ـ وأمّا إذا كانت النسبة بين المنطوق والعموم عموما من وجه كما إذا كان المنطوق أكرم خدّام العلماء ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه ينبغي أن يكون مورد استدلال المستدلّ المتقدّم هو أنّه لا يكون تعارض بين المنطوق والعموم ، لعدم دخول المدلول الابتدائي من أحدهما في الآخر كما في مثل النهي عن قول أف للوالد مع وجوب ضرب كلّ أحد ، إذ ليس التعارض بينهما إلاّ من جهة كون وجوب الضرب دالا بمفهوم الموافقة أيضا على جواز قول أف ، وهو شامل للوالد ، وكون حرمة قول أف للوالد دالا بمفهوم الموافقة على حرمة الضرب للوالد ، فتكون المعارضة الابتدائية بين منطوق كلّ

__________________

(١) في الحاشية الآتية.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

٣٠٢

منهما مع مفهوم الآخر ، فهذا ومثله هو الذي ينبغي أن يكون مورد كلام ذلك المستدلّ.

أمّا ما يكون نفس المنطوق فيه أخصّ من نفس منطوق العام ، أو كان أعمّ منه من وجه كما في المثالين ، فينبغي أن يكون خارجا عن مورد كلام ذلك المستدلّ ، فإنّ الأمر في مثله سهل جدّا ، لأنّ قوله أكرم فسّاق خدّام العلماء أخصّ مطلقا من قوله لا تكرم الفسّاق فيقدّم عليه ، ويكون فسّاق خدّام العلماء خارجا عن عموم لا تكرم الفسّاق ، وبالملازمة التي أفادها شيخنا قدس‌سره يكون فسّاق العلماء خارجا أيضا عن عموم لا تكرم الفسّاق ، وبه ترتفع المعارضة بين منطوق العموم في قوله لا تكرم الفسّاق وبين عموم المفهوم من قوله أكرم فسّاق خدّام العلماء ، أعني وجوب إكرام العالم سواء كان فاسقا أو كان عادلا.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان بين المنطوق وبين العام عموم من وجه كما في مثل قوله أكرم خدّام العلماء وقوله لا تكرم الفسّاق ، فيتعارض المنطوقان في الخادم الفاسق ، فإن حكّمنا فيه قوله أكرم خدّام العلماء وأخرجناه من عموم لا تكرم الفسّاق ، كان لازمه خروج العالم الفاسق منه أيضا ، وكان قوله لا تكرم الفسّاق مختصّا بما عدا فسّاق خدّام العلماء وما عدا فسّاق العلماء أنفسهم ، وإن عكسنا الأمر بأن قدّمنا لا تكرم الفسّاق وأخرجنا الفاسق من خدّام العلماء عن عموم قوله أكرم خدّام العلماء ، صار قوله أكرم خدّام العلماء منحصرا بما عدا الفاسق من الخدّام ، وينحصر مفهوم الموافقة منه بما عدا الفسّاق من العلماء ، فإنّ وجوب إكرام العدول من خدّام العلماء إنّما يدلّ بمفهوم الموافقة على وجوب إكرام العدول من العلماء لا على وجوب إكرام مطلق العلماء ولو كانوا فسّاقا. نعم

٣٠٣

قد عرفت (١) أنّ المستدلّ هو الشيخ قدس‌سره وأنّه لم يمثّل إلاّ بتلك الأمثلة التي ينبغي أن تكون خارجة عن مورد استدلاله.

وبالجملة : أنّ الحساب في مثل هذه الأمثلة واضح ، وينبغي أن تكون خارجة عن مورد كلام المستدلّ ، والذي ينبغي أن يكون كلامه منحصرا بمثل قولك احترم بيوت العلماء بالقياس إلى قولك أهن الفسّاق ، ومثل قولك احترم بيوت فسّاق العلماء بالقياس إلى قولك أهن الفسّاق ، ومثل قولك لا تقل لوالدك أف بالقياس إلى قولك اضرب كلّ أحد ، وللكلام على هذه الأمثلة ينبغي أن نقدّم مقدّمة هي مأخوذة ممّا أفاده شيخنا قدس‌سره فيما حكي عنه في هذا الكتاب بقوله : والسرّ فيه أنّ الحكم الثابت في المنطوق كما أنّه يثبت حكما آخر بالأولوية فكذلك نفي الحكم عن المفهوم الذي هو مقتضى العموم يكون مستلزما لنفي الحكم عن المنطوق أيضا بالأولوية ، فبالأخرة يقع التعارض بين المنطوقين الخ (٢).

وهذه المقدّمة وإن ساقها شيخنا قدس‌سره لإثبات التعارض بين المنطوقين ، إلاّ أنّه ليس التعارض بينهما فيما ذكرناه من الأمثلة ابتدائيا بل هو بواسطة المفهوم من كلّ منهما ، وفي الحقيقة يقع التعارض الابتدائي بين منطوق كلّ منهما مع مفهوم الآخر ، ويترشّح من هذا التعارض التعارض بين المنطوقين (٣) إلاّ أنّه ليس تعارضا أصليا ، بل هو متفرّع على التعارض الأصلي الواقع بين منطوق كلّ منهما مع مفهوم الآخر ، وفي الحقيقة أنّ هذا التعارض بين المنطوقين ليس في الحقيقة تعارضا

__________________

(١) في الحاشية السابقة.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) [ في الأصل هنا زيادة « المعارضة بين المنطوقين » حذفناها للمناسبة ].

٣٠٤

وتدافعا بين أنفسهما ، وإنّما بواسطة ما يؤدّي إليه كلّ منهما من لازمه الأولوي ، فتسميته حينئذ بالتعارض ليس إلاّ من باب التسامح والتساهل.

وكيف كان ، نقول في بيان هذه المقدّمة بعونه تبارك وتعالى :

إنّ محصّل طريق الأولوية هو أنّ ثبوت الحكم في ناحية المفهوم يكون أولى من ثبوته في ناحية المنطوق ، ولازم ذلك هو أنّه لو انتفى الحكم من ناحية المفهوم كان انتفاؤه من ناحية المنطوق بطريق أولى ، فإنّ وجوب احترام بيوت العلماء فيما ذكرناه من المثال ، أعني قوله احترم بيوت العلماء ، حيث إنّه يلزمه بطريق الأولوية وجوب احترام العلماء أنفسهم ، كان عدم وجوب احترام العلماء أنفسهم ملازما بطريق الأولوية لعدم وجوب احترام بيوتهم ، وحيث قد فرضنا أنّ منطوق العام كان معارضا مع مفهوم احترم بيوت العلماء الذي هو وجوب احترام العلماء أنفسهم ، فكان العام يقتضي عدم احترام فسّاق العلماء ، وقد عرفت أنّ ذلك أعني نفي الحكم عن فسّاق العلماء ملازم لنفيه عن بيوتهم ، فصار الحكم العام ملازما لرفع الحكم في ناحية المنطوق ، ويكون ذلك اللازم هو مفهوم العام المفروض كونه مخالفا للحكم في ناحية المنطوق ، فوجوب إهانة الفاسق الذي هو منطوق العام لمّا كان رافعا لوجوب احترام العالم الفاسق المفروض كون ارتفاعه موجبا لرفع وجوب احترام بيته بطريق الأولوية ، صار الحاصل أنّ وجوب إهانة الفاسق يكون موجبا لعدم احترام بيته بطريق الأولوية ، إذ كما أنّ ثبوت الحكم الذي هو وجوب الاحترام في الأضعف الذي هو بيوت العلماء يلزمه ثبوته في الأقوى أعني العلماء أنفسهم بطريق الأولوية ، فكذلك نفي ذلك الحكم في الأقوى يوجب نفيه في الأضعف بطريق الأولوية ، فكل عام نفرضه معارضا للمفهوم الذي هو بطريق الأولوية ، لا بدّ أن يكون له مفهوم أولوي يكون بذلك

٣٠٥

المفهوم الأولوي معارضا للمنطوق ، ويستحيل أن يوجد لنا عام معارض بمنطوقه للمفهوم الأولوي من دليل آخر من دون أن يكون لذلك العام مفهوم أولوي به يكون معارضا لمنطوق ذلك الدليل ، لأنّه برفعه لذلك الحكم الثابت في مورد المفهوم الذي هو الأقوى ، يلزمه رفع ذلك الحكم الثابت في مورد المنطوق الذي هو الأضعف بطريق الأولوية ، وبناء على ذلك يكون منطوق كلّ من الدليلين معارضا لمفهوم الآخر ابتداء ، وعن هذا التعارض يترشّح المعارضة بين المنطوقين ، وبعد إصلاح التعارض الأصلي الواقع بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر ترتفع المعارضة الفرعية الواقعة بين المنطوقين قهرا.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول بعونه تعالى : إنّ التعارض الابتدائي الواقع بين منطوق كلّ من القضيتين ومفهوم الأخرى لا بدّ في علاجه من ملاحظة النسبة بين المتعارضين في كلّ من الطرفين ، فربما كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق في كلّ من الطرفين بحيث يكون منطوق هذه القضية أخصّ من مفهوم الأخرى ، كما أنّ مفهومها أيضا أخصّ من منطوق الأخرى ، كما يرى ذلك في مثل قولك لا تقل أف لوالدك بالقياس إلى قولك اضرب كلّ أحد ، فإنّ منطوق الأولى وهو حرمة الأف للوالد أخصّ من مفهوم الثانية وهو جواز قول الأف لكلّ أحد ، كما أنّ مفهوم الأولى وهو حرمة ضرب الوالد أخصّ مطلقا من منطوق الثانية وهو وجوب ضرب كلّ أحد ، فيكون الوالد خارجا عن كلّ من منطوق الثانية ومفهومها ، غايته أنّ خروجه عن منطوقها بواسطة مفهوم الأولى ، وعن مفهومها بواسطة منطوق الأولى ، هذا فيما لو كان الدليل المقابل للقضية التي هي ذات مفهوم الموافقة أعمّ منها.

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كان الدليل الآخر أخصّ من ذات مفهوم

٣٠٦

الموافقة كما لو قال أكرم بيوت العلماء وقال لا تكرم النحويين ، كان الأمر بالعكس ، فيقدّم الأخص على ذات المفهوم ، إلاّ أنّ أحد المثالين عين الآخر ، لأنّ كلاّ من القضيتين ذات مفهوم موافقة وأحدهما أخصّ مطلقا من الآخر.

وربما كان التعارض بالعموم من وجه من الطرفين كما في مثل احترم بيوت العلماء بالقياس إلى قوله اهن الفسّاق ولا تحترمهم ، فإنّ مفهوم الأولى هو وجوب احترام العلماء ومفهوم الثانية حرمة احترام بيوت الفاسقين ، ولا ريب في أنّ النسبة بين منطوق الأولى ومفهوم الثانية هي العموم من وجه ، والتعارض في بيت العالم الفاسق ، كما أنّ النسبة بين مفهوم الأولى ومنطوق الثانية هي العموم من وجه أيضا ، والتعارض في العالم الفاسق ، فإمّا أن نقدّم الأولى بكلا جهتي المعارضة منها على الثانية أو العكس ، ولا يمكن التفكيك بأن نقدّم منطوق الأولى على مفهوم الثانية ونلتزم بوجوب احترام بيت العالم الفاسق مع تقديم منطوق الثانية على مفهوم الأولى ، فنلتزم بحرمة إكرام العالم الفاسق ووجوب إهانته ، لما في ذلك من التناقض الذي عرفته في المقدّمة.

وربما كان التعارض بالعموم المطلق من أحد الطرفين وبالعموم من وجه من الطرف الآخر ، كما ترى ذلك في مثل قولك احترم بيوت فسّاق العلماء بالقياس إلى قوله اهن الفسّاق ، فإنّ مفهوم الأولى هو وجوب احترام العلماء وإن كانوا فسّاقا ، ومفهوم الثانية هو حرمة احترام بيوت الفاسقين وإن كانوا علماء ، ولا ريب أنّ منطوق الأولى معارض لمفهوم الثانية ، لكنّه أخصّ منه مطلقا ، فإنّ حرمة [ احترام ] بيوت فسّاق العلماء أخصّ مطلقا من حرمة احترام بيوت الفسّاق أعمّ من كونهم علماء أو جهّالا ، لكن منطوق الثانية وهو حرمة احترام الفاسق عالما كان أو غيره أعمّ من وجه من مفهوم الأولى وهو وجوب احترام العالم فاسقا كان

٣٠٧

أو غيره. واللازم هو تقديم منطوق الأولى على مفهوم الثانية ، وبه ترتفع المعارضة الثانية ، وإلاّ لزم التناقض الذي تقدّمت الإشارة إليه.

ولو قيل إنّ مفهوم الأولى هو وجوب احترام العالم الفاسق ، وأمّا العادل فهو خارج عن كلّ من المنطوق والمفهوم ، فليس ببعيد كلّ البعد ، فإنّ منطوق الأولى هو وجوب احترام بيوت فسّاق العلماء ، ومفهومها الأوّلي هو احترام نفس ذوي البيوت المذكورين وهم فسّاق العلماء ، وهو أخصّ مطلقا من منطوق الثانية الذي هو حرمة احترام الفسّاق ، إذ لا دخل لبيوت فسّاق العلماء بنفس العدول من العلماء ، وحينئذ يكون الحال في هذا المثال هو بعينه في المثال الأوّل ، أعني قولك لا تقل أف لوالدك بالقياس إلى قوله اضرب كلّ أحد.

نعم ، بعد ثبوت هذا المفهوم وهو وجوب احترام فسّاق العلماء ، يلزمه ثبوت وجوب إكرام العدول بطريق الأولوية ، لكن هذا الحكم الثالث لا يدخل في المعارضة مع منطوق الثانية ، بل الذي يدخل في المعارضة المذكورة هو الحكم الثاني الذي هو لازم الحكم الأوّل الذي هو منطوق الأولى ، كما أنّ لقوله احترم بيوت فسّاق العلماء مفهوما آخر وهو احترام بيوت العدول منهم ، لا دخل له بمعارضة العموم.

ومن ذلك يظهر لك أنّ منطوق العام إذا كان معارضا لمفهوم الأولوية من دليل آخر لا بدّ أن يكون مفهوم ذلك العام معارضا لمنطوق ذلك الدليل ، وتكون المعارضة على وتيرة واحدة ، فإن كانت بين منطوق العام ومفهوم ذلك الدليل من قبيل العموم والخصوص المطلق ، كانت كذلك بين مفهوم العام ومنطوق الدليل المذكور ، وكذلك المعارضة بالعموم من وجه ، بل إنّ ذلك جار في مورد التعارض بالتباين كما تراه في وجوب احترام بيوت النحويين بالقياس إلى قوله

٣٠٨

اهن النحويين ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ الدليلين اللذين يكون منطوق كلّ منهما معارضا لمفهوم الموافقة المستفاد من الآخر بطريق الأولوية لا بدّ أن يشتمل المنطوق في كلّ منهما على موضوع يكون هو المنشأ في التعارض المذكور ، كما ترى في قولك لا تقل لوالدك أف بالقياس إلى قولك اضرب كلّ أحد ، فإنّ الأوّل مشتمل على الوالد والثاني مشتمل على كلّ أحد ، والأوّل أخصّ من الثاني ، وكما في قولك احترم بيوت فسّاق العلماء بالقياس إلى قولك اهن الفسّاق ، فإنّ الأوّل مشتمل على فسّاق العلماء المحكوم عليهم باحترام بيوتهم ، والثاني مشتمل على الفسّاق المحكوم عليهم بالاهانة ، والأوّل أخصّ مطلقا من الثاني ، وكما في قولك احترم بيوت العلماء بالقياس إلى قولك اهن الفسّاق ، فإنّ الأوّل مشتمل على العلماء المحكوم عليهم باحترام بيوتهم والثاني مشتمل على الفسّاق ، وبين الأوّل والثاني عموم من وجه ، فكأنّ العلماء في قولك احترم بيوت العلماء قد حكم عليهم بحكمين طوليين ، الأوّل هو وجوب احترام بيوتهم ، والثاني هو وجوب احترام أنفسهم ، كما أنّ الفسّاق في قولك أهن الفسّاق قد حكم عليهم بحكمين طوليين ، الأوّل هو إهانة أنفسهم ، الثاني عدم احترام بيوتهم ، ويكون الحكم الأوّل من الدليل الأوّل معارضا للحكم الثاني من الدليل الثاني ، بمعنى أن الدليل الأوّل باعتبار حكمه الأوّل يكون معارضا للدليل الثاني باعتبار حكمه الثاني ، كما أنّ الدليل الأوّل باعتبار حكمه الثاني يكون معارضا للدليل الثاني باعتبار حكمه الأوّل.

ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره في قوله إنّ المعارضة بين المنطوقين. ومنشأ هذه المعارضة هو أنّ موضوع الحكمين في الدليل الأوّل هو العلماء ، وموضوعهما في الدليل الثاني هو الفسّاق ، وبينهما عموم من وجه ، فلا تكون

٣٠٩

المعارضة في كلّ من الطرفين إلاّ من سنخ المعارضة بين الموضوعين إمّا على نحو العموم من وجه كما في هذا المثال ، أو على نحو العموم المطلق كما في المثالين السابقين ، ويستحيل حينئذ كون المعارضة من أحد الطرفين على نحو العموم المطلق ومن الطرف الآخر على نحو العموم من وجه.

ثمّ لا يخفى أنّه ربما كان الدليل المقابل لمفهوم الموافقة أخصّ مطلقا كما لو قال احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله أهن فسّاق العلماء ، فبناء على ما ذكرناه يكون مفهوم احترم فسّاق خدّام العلماء هو احترام العلماء سواء كانوا فسّاقا أو عدولا ، وهو أعمّ مطلقا من منطوق قوله أهن فسّاق العلماء ، كما أنّ منطوقه أعمّ أيضا مطلقا من مفهوم قوله أهن فسّاق العلماء ، لأنّ مفهومه هو عدم وجوب احترام الفسّاق من خدّام العلماء الفسّاق ، ولا ريب أنّ قوله احترم فسّاق خدّام العلماء سواء كانوا عدولا أو فسّاقا أعمّ مطلقا من عدم احترام الفاسق من خدّام العلماء الفسّاق ، فيقدّم الخاصّ على العام.

أمّا بناء على ما أفاده شيخنا قدس‌سره في قوله احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله لا تكرم الفسّاق من أنّه لا بدّ أن يقدّم المفهوم على منطوق العموم وإن كان بينهما عموم من وجه ، وأفاد في توجيه ذلك في الطبعة الجديدة بقوله : والوجه في ذلك أنّه لا يمكن التصرّف في المفهوم نفسه من دون التصرّف في المنطوق على ما مرّ بيانه ، كما أنّه لا يمكن التصرّف ـ في مفروض الكلام ـ في المنطوق لكونه أخصّ ، فينحصر الأمر بالتصرّف في العموم ، وإبقاء المفهوم على عمومه الخ (١) فإنّه يلزمه في هذا المثال أعني قوله احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله أهن فسّاق العلماء أن يقول إنّ مفهوم قوله احترم فسّاق خدّام

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

٣١٠

العلماء لا يمكن التصرّف فيه بدون التصرّف في المنطوق ، والمفروض أنّ هذا المنطوق لا يمكن التصرّف فيه ، إذ لا نسبة بين هذا المنطوق وبين قوله أهن فسّاق العلماء كي يتصرّف في أحدهما بالحمل على الآخر ، فيتعيّن حينئذ بقاء المفهوم على عمومه وسقوط قوله أهن فسّاق العلماء بالمرّة ، ففي مثل هذا المثال وإن حصلت معارضة ثانوية ترشّحية بين المنطوقين إلاّ أنّه لا يمكن الجمع بينهما في الدلالة كما صنعه في قوله احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله أهن الفسّاق من جعل منطوق الأوّل مخصّصا لمنطوق الثاني لكونه أخصّ منه مطلقا ، بخلاف هذا المثال لما عرفت من عدم التناسب فيه بين المنطوقين.

والذي تلخّص فيما سلكناه في هذه الدورة (١) : أنّ المدار في التقديم على ملاحظة النسبة بين المنطوق والدليل الآخر ، فإن كان الأوّل هو الأخصّ كان هو المقدّم بمنطوقه ومفهومه ، وإن كان بينهما عموم من وجه لم يكن في البين ما يوجب تقديم المنطوق ولا مفهومه وكان الحال فيه حال باقي المتعارضين من وجه ، وحينئذ فيكون محصّل الكلام هو ما في الكفاية (٢) من الاتّفاق على كون مفهوم الموافقة مخصّصا للعام ، يعني أنّه لا يضرّ في أخصّيته الموجبة لتقدّمه كونه مفهوما لا منطوقا.

وهذا جار حتّى لو لم يكن المنطوق معارضا ابتداء للدليل الخارجي كما في مثل احترم بيوت العلماء بالنسبة إلى مثل لا تحترم الفسّاق ، فالأوّل دالّ على وجوب احترام العالم بالمفهوم واحترام بيته بالمنطوق ، والثاني بالعكس بمعنى أنّه يدلّ على عدم احترام الفاسق بالمنطوق وعدم احترام بيته بالمفهوم ، فيقع

__________________

(١) ١٤ / ربيع الثاني سنة ١٣٧٨ [ منه قدس‌سره ].

(٢) كفاية الأصول : ٢٣٣.

٣١١

التعارض بين احترام العالم واحترام الفاسق ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

ولو كان في البين ما هو أخصّ مطلقا كان هو المقدّم كما لو قال احترم بيت العالم الفاسق الدالّ بالمفهوم على وجوب احترام نفس العالم الفاسق ، في قبال قوله لا تحترم الفاسق الدالّ بالمفهوم على عدم وجوب احترام بيت الفاسق ، فإنّ العالم الفاسق حينئذ هو وبيته خارجان عن عموم الفاسق هو وبيته ، ولو كان مفاد الثاني هو قوله لا تحترم العالم الفاسق ، كانت النسبة بينه وبين الأوّل هي التباين ، وهكذا الحال في البواقي.

وبالجملة : لم يظهر للبحث عن التخصيص بمفهوم الموافقة أثر يميّزه عن سائر التخصيصات. وإن شئت فقل : لم يظهر أثر لمفهوم الموافقة يوجب تقديمه على معارضه غير ما هو المعروف من كون الخاصّ مقدّما على العام ، ومن التساقط عند التباين أو عند العموم من وجه ، فلاحظ (١).

__________________

(١) [ وجدنا هنا ورقة مرفقة ارتأينا إدراجها في الهامش وهي : ]

النسبة بين المفهوم والعموم عموم من وجه :

أكرم خدّام العلماء ، مفهومه يجب إكرام العالم ، في قبال العموم القائل لا تكرم الفسّاق ، فيتعارضان في العالم الفاسق.

النسبة بينهما عموم مطلق ، يعني أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من العام :

أكرم خدّام العالم الفاسق ، مفهومه يجب إكرام العالم الفاسق ، في قبال لا تكرم الفسّاق.

ويمكن أن يقال : : إنّ طريق الأولوية جار في العالم العادل ، بل في الخادم العادل ، وحينئذ يكون المفهوم هو وجوب إكرام العالم مطلقا ، وبينه وبين العام عموم من وجه. قال : وبالجملة فاللازم تقديم المفهوم الموافق على العموم كما عرفت ، لعدم معقولية

٣١٢

__________________

التصرّف فيه بنفسه ، فيدور الأمر بين التصرّف في العام أو في المنطوق ، ولا ريب أنّ الأوّل أرجح [ مطارح الأنظار ٢ : ٢١٤ ، ٢١٥ ].

ومراده كما صرّح به من التصرّف بالمنطوق هو التصرّف فيه باخراجه عن الدلالة على وجوب إكرام الخدّام الذي كان هو السبب في المفهوم ، وهذا هو الذي قال عنه إنّه تصرّف بارد [ مطارح الأنظار ٢ : ٢١٤ ، ٢١٥ ].

مثال شيخنا قدس‌سره :

أكرم فسّاق خدّام العلماء ، مفهومه أكرم العلماء. العام لا تكرم الفسّاق. وبين المفهوم والعام عموم من وجه.

فالشيخ جعل المقابلة بين المفهوم والعموم ، فتارة يكون بينهما عموم من وجه ، وأخرى يكون الأوّل أخصّ مطلقا من الثاني.

وشيخنا قدس‌سره جعل المقابلة بين المنطوق والعموم ، فتارة يكون بينهما عموم من وجه وأخرى يكون الأوّل أخصّ من الثاني.

مثال الأوّل :

أكرم خدّام العلماء ، مفهومه أكرم العلماء ، في قبال العام لا تكرم الفسّاق.

مثال الثاني :

أكرم فسّاق خدّام العلماء ، مفهومه أكرم العلماء ، في قبال العام لا تكرم الفسّاق.

ويمكن أن يقال : : إنّ مفهومه أكرم العلماء الفسّاق ، ولو توسّعنا لكان المفهوم هو وجوب إكرام العالم مطلقا وخادمه العادل كما عرفته في المثال عن الشيخ قدس‌سره.

والأولى أن يقال : إنّ محطّ الحكم هم الفسّاق خادما وعالما ، والأوّل بالمنطوق والثاني بالمفهوم. ثمّ هناك انتقال آخر من الفاسق من كلّ منهما إلى العادل ، ومركز المعارضة هو الأوّل وهو أخصّ من العام.

مثال عدم التعارض بين العام والمنطوق مع العموم من وجه بين المفهوم والعام :

٣١٣

قوله : كما إذا ورد لا تكرم الفسّاق وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء ، فيقدّم المفهوم على العموم ولو كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه ، والمفروض تقدّم المنطوق لأخصّيته على العموم ، فيكون المقام من إحدى صور تقدّم أحد العمومين على الآخر لمرجّح فيه ، كما إذا لزم من تخصيص أحدهما بقاؤه بلا مورد دون الآخر فيقدّم عليه (١).

قد عرفت فيما تقدّم (٢) أنّ هذا المثال خارج ، لأنّ منطوق القضية الثانية وهي أكرم فسّاق خدّام العلماء أخصّ مطلقا من منطوق القضية الأولى وهي لا تكرم الفسّاق ، وبعد خروج الخادم الفاسق عن قوله لا تكرم الفسّاق يلزمنا الحكم بخروج العالم الفاسق منه بطريق أولى ، وبذلك ترتفع المعارضة بين هذا القول وبين مفهوم القضية الثانية الذي هو أكرم العلماء ، بمعنى أنّ منطوق القضية الثانية لكونه أخصّ من منطوق القضية الأولى لا يدع مجالا لمنطوق القضية الأولى أن يعارض مفهوم القضية الثانية ، فإنّ التعارض بين المنطوقين والجمع بينهما سابق في الرتبة على التعارض بين منطوق الأولى ومفهوم الثانية.

__________________

احترم بيوت العلماء ، مفهومه احترم العلماء في قبال العام لا تحترم الفسّاق.

مثال كون المفهوم أخصّ مطلقا من العام : احترم بيوت فسّاق العلماء ، مفهومه احترم فسّاق العلماء في قبال العام ، لا تحترم الفسّاق.

مثال آخر :

لا تقل لوالدك أف ، مفهومه لا تضرب والدك ، في قبال العام اضرب كلّ أحد.

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الصفحة : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

٣١٤

وليس التعارض بين منطوق الأولى ومفهوم الثانية من قبيل التعارض بين دليلين مستقلّين ، وأنّ منطوق الثانية كدليل ثالث يكون موجبا لانقلاب النسبة في أحد المتعارضين ، لما هو واضح من عدم استقلال المفهوم ، بل لو قلنا إنّه من ذلك القبيل وقلنا باستقلال المفهوم بالمعارضة لم يكن ذلك من قبيل كون الثالث موجبا لانقلاب النسبة ، بل إنّه موجب لخروج منطوق العام المعارض للمفهوم عن المعارضة وموجب لاختصاصه بما عدا مورد معارضته للمفهوم. ولو أبدلنا قوله قدس‌سره وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء بما تقدّم من قولنا احترم بيوت فسّاق العلماء ، كان مفهومه كما عرفت هو وجوب احترام فسّاق العلماء ، وهو أخصّ مطلقا من منطوق العام وهو حرمة إكرام الفسّاق ووجوب إهانتهم.

قوله : وأمّا المفهوم بالمساواة بقسميه فيعلم حكمه ممّا ذكر ، فإنّه إذا كانت النسبة بين المنطوق وما له العموم عموما مطلقا فيقدّم المفهوم عليه مطلقا ، ولو كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، وأمّا إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه فيأتي فيه التفصيل المتقدّم ... الخ (١).

الظاهر ممّا شرحناه فيما تقدّم (٢) من مفهوم المساواة ، وهو إلغاء الخصوص والأخذ بعموم العلّة ، أو هو مورد قولهم إنّ الخاصّ قد ذكر من باب المثال ، هو كون الحكم عامّا كبرويا كسائر العمومات الكبروية ، وحينئذ فيجري على معارضه ما يجري على ما يكون معارضا للعمومات ، من كون المعارضة بينهما تارة بالعموم المطلق وأخرى بالعموم من وجه ، ولا خصوصية في خصوص هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : ٢٩١ ، ٢٩٨.

٣١٥

العموم المساواتي عن غيره من العمومات ، ولا دخل له بمعارضة الدليل مع المفهوم.

ولعلّه لأجل هذه الجهة أسقط المرحوم الشيخ محمّد علي هذه الجملة فيما حرّره عنه قدس‌سره ، مع أنّه قال في طليعة المبحث ما هذا لفظه : والمقصود في المقام هو بيان صورة تعارض العام مع المفهوم الموافق ( ويعني به طريق الأولوية ) والمساوي الذي هو منصوص العلّة ، وتعارض العام مع المفهوم المخالف ، فنقول أمّا تعارض العام مع المفهوم الموافق الخ ، ثمّ بعد فراغه من الكلام عليه قال : وأمّا المفهوم المخالف الخ (١). ولم يذكر الحكم في تعارض العام مع مفهوم المساواة ، فإمّا أن يكون ذلك قد سقط من قلمه ، أو أنّ شيخنا قدس‌سره لم يتعرّض [ له ] كما أنّ المرحوم الشيخ موسى لم يتعرّض له أيضا.

وعلى كلّ حال أنّ الظاهر أنّ مفهوم المساواة خارج عن مبحث هذه المعارضات ، بل صرّح المرحوم الشيخ محمّد علي قبل هذا كلّه بأنّهم لم يصطلحوا عليه بالمفهوم (٢).

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ مفهوم الموافقة بطريق المساواة المأخوذ من العلّة المنصوصة ونحوها هو بمنزلة الكبرى ، وأنّ الخصوصية فيه ملغاة ، فدائما تكون المعارضة بين العام وتلك الكبرى ، فإن كان مفاد الكبرى أخصّ من العموم قدّمت عليه بلا كلام ، وكذلك الحال لو كان الأمر بالعكس فإنّه يقدّم عليها ، ولو كان بينهما عموم من وجه لزم إعمال قواعد المعارضة في ذلك وهو واضح ، ولا دخل له بالتفاصيل المتقدّمة في مفهوم الموافقة بطريق الأولوية.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٥٥.

٣١٦

نعم ، لو كان الدليل الأجنبي معارضا لنفس المورد كأن يقال الخمر حرام للاسكار ، واستفدنا منه العلّة المنصوصة التي يدور الحكم مدارها وجودا وعدما على وجه يكون الاسكار واسطة في العروض بحيث يكون موضوع الحكم هو المسكر ، فكان ذلك بمنزلة الصغرى والكبرى ، وهي أنّ الخمر مسكر وكل مسكر حرام ، ثمّ بعد هذا يقال الخمر ليست محرّمة ، فهذا القول الثاني وإن كان أخصّ من تلك الكبرى الكلّية ، لكنّه لأجل معارضته مع المورد الذي وردت فيه الكلّية المذكورة يعامل معه معاملة المباين. ومنه قولهم إنّ العام نصّ في مورده ، فما كان دالا على نفي الحكم العام عن مورده يعامل معه معاملة المباين ، وذلك أمر آخر غير ما نحن فيه من كون ذلك الدليل معارضا للمنطوق.

وبالجملة : أنّ الحاق مفهوم المساواة بما نحن فيه من مفهوم الأولوية مبني على كون المورد من قبيل المنطوق ، وتوسعة الحكم إلى كلّ ما وجدت فيه العلّة من قبيل المفهوم الناشئ عن الملازمة العقلية بين الحكمين على وجه يمتنع عقلا التفكيك بينهما ، لاستحالة التفكيك بين معلولي العلّة الواحدة ، بناء على أنّ العلّة من قبيل الواسطة في الثبوت ، غايته أنّها مطّردة ومنعكسة ، فيكون الحكم دائرا معها وجودا وعدما ، ويكون ما دلّ على نفي الحكم في ناحية المفهوم موجبا لنفي الحكم في ناحية المنطوق ، فمثل قوله يحلّ شرب النبيذ يكون معارضا لحرمة شرب الخمر المعلّلة بالاسكار على نحو الواسطة في الثبوت.

ولكن شيخنا قدس‌سره فيما تقدّم قد حصر العلّة المطردة المنعكسة بالواسطة بالعروض ، فقال : والثاني ( يعني ما كان المفهوم فيه بالمساواة ) يتحقّق في منصوص العلّة ، ونعني به ما كان العلّة المذكورة فيه واسطة في العروض لثبوت الحكم للموضوع المذكور في القضية ، بأن يكون الموضوع الحقيقي هو العنوان

٣١٧

المذكور في التعليل ، ويكون ثبوته للموضوع المذكور من جهة الانطباق كما في قضية لا تشرب الخمر فإنّه مسكر ، فإنّه ظاهر في أنّ موضوع الحرمة هو المسكر ، وحرمة الخمر من جهة انطباقه عليه ، فيسري الحكم حينئذ إلى كلّ مسكر ، ولا يكون للخمر خصوصية في ذلك.

وأمّا إذا كان المذكور في العلّة واسطة في الثبوت ، وداعيا لجعل الحكم على موضوعه ، من دون أن يكون هو الموضوع في الحقيقة كما في قضية لا تشرب الخمر لاسكاره ، فلا يسري الحكم إلى غير المورد ، لاحتمال خصوصية في إسكار الخمر غير موجودة في غيره. وقد يتحقّق المفهوم بالمساواة في غير منصوص العلّة فيما إذا أحرز مناط الحكم من الخارج يقينا فيحكم بسراية الحكم إلى كلّ مورد وجد فيه المناط ، وهذا القسم نادر التحقّق الخ (١).

وظاهره أنّ العلّة بمعنى الواسطة في الثبوت التي يكون الحكم فيها ساريا إلى كلّ ما وجدت فيه العلّة على وجه تكون مطردة ومنعكسة منحصرة في هذا القسم الأخير الذي أفاد أنّه نادر التحقّق الذي سمّاه بتنقيح المناط القطعي ، وأنّ ما يكون مطردا ومنعكسا من العلّة فإنّما هو الواسطة في العروض التي لا يكون الحكم فيها واردا إلاّ على العنوان الكلّي ، وأنّ المورد لا خصوصية له وإنّما يكون ذكره من باب الموردية أو من باب المثال ، ومن الواضح أنّ هذا النحو أعني ما كان من قبيل الواسطة في العروض لا تكون المعارضة فيه إلاّ واقعة مع ذلك الحكم الكبروي القابل للتخصيص ، فلو قيل إنّ النبيذ حلال لم يكن ذلك إلاّ من قبيل التخصيص للحكم الكبروي المستفاد من قوله لا تشرب الخمر فإنّه مسكر ، وهو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٩ ـ ٣٨١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣١٨

كلّ مسكر حرام ، وهذا التخصيص لا مانع منه ولا يكون مصادما لحرمة شرب الخمر.

نعم ، لو كان ذلك الدليل نافيا للحكم عن المورد المذكور مثل أن يقول إنّ الخمر حلال ، لعومل معه معاملة التباين ، فإنّ هذا القول وإن [ كان ] أخصّ من الحكم الكبروي أعني كلّ مسكر حرام ، إلاّ أنّه لمّا كان رافعا للحكم عن مورد ذلك الحكم الكبروي ، كان من قبيل تخصيص المورد وإخراجه عن الحكم العام الوارد فيه ، وقد حقّق في محلّه أنّه يعامل معه معاملة التباين ، لا من جهة التلازم ونحوه ، بل من جهة كون العام نصّا في مورده.

بل فيما نحن [ فيه ] زيادة على مجرّد الموردية ، وهي أنّ قوله لا تشرب الخمر لأنّه مسكر مشتمل على التصريح بحرمة شرب الخمر ، فيكون ما دلّ على حلّيته مصادما لهذا التصريح ، بخلاف مجرّد الموردية فإنّه إنّما يكون في مثل أن يسأل السائل عن حكم شرب الخمر ، فيقال له في الجواب إنّ كلّ مسكر حرام من دون أن يصرّح بقوله إنّ شرب الخمر حرام لأنّه مسكر وكلّ مسكر حرام ، فإنّ التصريح بذلك أقوى دلالة على حكم الخمر من كونه من مجرّد الموردية.

وعلى كلّ حال أنّ هذا وأمثاله لا يدخل في باب المفاهيم ، بل من قبيل العمومات الكبروية كما صرّح به المرحوم الشيخ محمّد علي فيما تقدّم من قوله إنّهم لم يصطلحوا عليه (١) ، ومن الواضح أنّ ذلك كلّه لا ينطبق على ما يكون الانتقال فيه من حكم على موضوع إلى حكم آخر على موضوع آخر لأجل اشتراكهما في العلّة ، فإنّ هذا لو وجد هو الذي ينبغي أن يسمّى بمفهوم المساواة ، وهو من باب المفاهيم الناشئة عن التلازم العقلي بين الحكمين ، لاشتراكهما في

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٥٥ ، وقد تقدّم في الصفحة : ٣١٦.

٣١٩

العلّة ، لا من باب الحكم الكبروي اللاحق للعنوان الكلّي المنطبق على كلّ من الموردين ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّه إذا كانت النسبة بين المنطوق وما له العموم عموما مطلقا ... الخ (١).

مثاله أن يقول : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، بالقياس إلى قوله : كلّ مائع حلال ، فإنّ قوله : لا تشرب الخمر ، أخصّ مطلقا من قوله كلّ مائع حلال ، ومفهوم قوله لا تشرب الخمر وهو حرمة ما عدا الخمر من المسكرات حتّى مثل الحشيشة والأفيون بينه وبين قوله كلّ مائع حلال عموم من وجه ، لاجتماعهما في النبيذ ، وانفراد الأوّل في مثل الخل وانفراد الثاني في الجامد من المسكرات كالحشيشة ، ولا يمكن رفع اليد عن المنطوق ، أعني حرمة شرب الخمر ، لكونه أخصّ من العموم ، كما أنّه لا يمكن تقديم العموم على المفهوم لأنّه موجب بالملازمة لرفع اليد عن المنطوق ، وهو محصّل قوله : إنّه لا يمكن التصرّف في المفهوم بدون التصرّف في المنطوق (٢) ، وحينئذ يتعيّن رفع اليد عن العموم في مورد معارضته مع المفهوم.

ومثال ما كان بين المنطوق والعموم عموم من وجه هو قوله احترم خادم العالم لتعلّقه بالعالم ، بالقياس إلى قوله لا تكرم الفاسق سواء كان خادم العالم أو غيره ، فإنّ مفهوم الأوّل هو احترام كلّ ما يتعلّق بالعالم من ولده وزوجته وبيته ، وبين المنطوق والعام عموم من وجه ، يجتمعان في الخادم الفاسق ، كما أنّ بين العام والمفهوم عموما من وجه أيضا ، يجتمعان في ولده الفاسق ، وينفرد العام في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ ( مع اختلاف يسير ).

٣٢٠