أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

كما في بعضها « نحن ألقينا ذلك بينهم » (١) وفي الآيات ناسخا ومنسوخا وعاما وخاصّا ، وليس هو إلاّ من قبيل تأخير البيان عن وقت الخطاب أو وقت الحاجة لحكمة هناك جرى عليها الشارع الحكيم ، كما يجري عليها العقلاء في تفاهمهم وفي بيان قوانينهم.

ويمكن القول بعدم كون ذلك من قبيل التوقّف في الظهور وأنّه لا ينعقد إلاّ بعد الفحص ، بل هو كما عرفت منعقد ، وينبغي أن يكون حجّة ، لكن احتجاج العقلاء به يتوقّف على إحراز عدم المزاحم ، وذلك لا يكون إلاّ بعد الفحص ، لأنّه لو لم يتفحّص يكون احتمال وجود المزاحم قويا على وجه لا يعتني العقلاء بأصالة العدم في نفيه والجري على طبق ما يقتضيه الظهور ، وكلّ عقلائي ، فكما أنّ الظهور عقلائي فكذلك حجّيته والأخذ به عقلائي أيضا ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأوّل أنّ موضوع البحث إنّما هو ما إذا كان الكلام المتكفّل لبيان الحكم مشتملا على أداة من أدوات الخطاب ، وأمّا ما لم يكن فيه ذلك كما إذا ورد أنّ المؤمنين يجب عليهم كذا ، فلا إشكال في عمومه للحاضر والغائب والمعدوم على نحو واحد ... الخ (٢).

قال في الكفاية : فاعلم أنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين كما صحّ تعلّقه بالموجودين أم لا؟ أو في صحّة المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة

__________________

(١) [ ورد بمضمونه عدّة أحاديث ، منها : ما رواه في علل الشرائع : ٣٩٥ / ب ١٣١ ح ١٤ ، ١٥. ومنها : ما رواه الشيخ في مبحث الخبر الواحد من العدّة في أصول الفقه ١ : ١٣٠ مرسلا عن الصادق عليه‌السلام ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٦١

للخطاب أو بنفس توجيه الكلام إليهم وعدم صحّتها ، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة ولا يخفى أنّ النزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليا وعلى الوجه الأخير لغويا الخ (١).

قلت : لكن لا يخفى أنّ النزاع الأوّل خارج عمّا نحن فيه ، فإنّ صحّة تكليف المعدوم وعدم صحّته لا دخل له بهذا العنوان وهو خطاب المشافهة ، بل الظاهر خروج الثاني أيضا عنه ، فإنّ توجيه الكلام إلى الغائب وجعله طرفا للمتكلّم في توجيه كلامه إليه وإن قلنا إنّه لا يصحّ عقلا إلاّ بعد التنزيل وبدون التنزيل لا يعقل توجيه الكلام إليه ، إلاّ أنّه خارج عن العنوان المذكور أعني خطاب المشافهة ، وحينئذ ينحصر الكلام في الثالث.

وهل المسألة لفظية صرفة أو هي عقلية صرفة أو هي صالحة للوجهين؟ الذي يظهر من شيخنا قدس‌سره هو الثالث. وقد أورد عليه في الحاشية (٢) ما أورد. ولكن ليس غرض شيخنا قدس‌سره هو مجرّد الصلاحية ، بل الغرض منه هو أنّ ذلك على نحو الترتّب والطولية ، بمعنى أنّا أوّلا نحتاج إلى إثبات أنّه يمكن عقلا خطاب المعدوم ولو بواسطة تنزيله منزلة الموجود ، وبعد إثبات إمكان ذلك عقلا ننقل الكلام إلى مرحلة لفظية وهي أنّ الألفاظ الموضوعة للخطاب مثل حرف النداء والكاف هل هي موضوعة لخصوص خطاب الموجود حقيقة أو أنّها موضوعة للأعمّ منه ومن الموجود تنزيلا ، وفائدة هذا النزاع هو أنّه على الأوّل يكون استعمال كاف الخطاب لما هو موجود تنزيلا مجازا لا يحمل عليه اللفظ إلاّ بالقرينة ، بخلاف

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٦٥.

٢٦٢

الثاني.

نعم إنّ المختار هو أنّها لمطلق الخطاب لمن هو موجود ، سواء كان موجودا حقيقة أو كان موجودا تنزيلا ، لكن كون هذا هو المختار لا يوجب الخلل في عموم النزاع ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده (١) من تصوّر الطلب الايقاعي الانشائي من دون إرجاع إلى القضية الحقيقية ، وجعل التمليك للمعدوم في الأوقاف من هذا القبيل ، ممّا لم أتوفّق لتعقّله ، بل إنّ جميع ذلك من قبيل القضايا الحقيقية التي يكون المنشأ فيها معلّقا على الوجود ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : مدفوع بأنّ حجّية الظواهر وإن كانت عامّة لغير من قصد إفهامه أيضا ، إلاّ أنّ الخطاب مختصّ بخصوص المشافهين على الفرض ، فيحتاج إسراء الحكم المتكفّل له الخطاب إلى غيرهم إلى التمسّك بالقاعدة ـ إلى قوله ـ وبالجملة إذا فرضنا اختصاص الحكم المتكفّل له الخطاب بالمشافهين ، سواء كان حجّية الظواهر مختصّة بمن قصد إفهامه أم لا ، فلا محالة نحتاج في إثبات الحكم في حقّ غيرهم إلى دليل آخر ... الخ (٢).

هذا الكلام مبني على أنّ الحكم الوارد في ذيل خطاب يكون مختصّا بمن توجّه إليه ذلك الخطاب ، فإذا فرضنا كون الخطاب مختصّا بالحاضرين كان ذلك الحكم مختصّا بهم ، واحتجنا في إجراء ذلك الحكم في حقّ غير المخاطب إلى

__________________

(١) يعني صاحب الكفاية قدس‌سره.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٦٣

دليل الاشتراك ، سواء قلنا بمقالة المحقّق القمي (١) من اختصاص الحجّية بمن قصد إفهامه أو لم نقل ، وحينئذ لا تكون الثمرة المذكورة مبنية على مسلك المحقّق القمي قدس‌سره هذا من حيث كون التكليف الوارد في ذيل الخطاب شاملا للمعدومين ، نعم بناء على عدم اختصاص الحجّية بمن قصد إفهامه الذي هو المخاطب يمكن الغائبين التمسّك بمثل الاطلاق على أنّ هذا الحكم الذي كان متوجّها إلى أولئك المخاطبين الحاضرين لم يكن مقيّدا بالقيد الفلاني ، فنحن بعد أن نثبت بدليل الاشتراك أنّا مثلهم في الحكم ، يكون حكمنا كذلك يعني غير مقيّد بذلك القيد ، فلا نحتاج إلى تجشّم اتّحادنا معهم في الصنف إلى الدليل الخارج ، بل يكفي فيه إطلاق الخطاب المتوجّه إليهم عند كوننا مثلهم في واحدية ذلك الاطلاق ، إلاّ أنّ هذا ليس تفصيلا في الحكم وإنّما هو تفصيل في الحجّية.

والخلاصة : هي أنّ لحاظ الثمرة تارة بالقياس إلى نفس التكليف وأخرى بلحاظ الحجّية. أمّا الأوّل فقد عرفت الحال فيه ، وأمّا الثاني وهو التفصيل من حيث حجّية نفس الظهور بالنسبة إلى المعدومين ، فالظاهر أنّ الكلام في شمولها للمعدومين يكون مبنيا على النسبة بين المخاطب وبين من قصد إفهامه ، فبناء على التساوي بينهما وأنّ من كان مخاطبا هو بعينه من قصد إفهامه ، تكون الثمرة أعني حجّية الخطاب بالنسبة إلى المعدومين بناء على دخولهم في الخطاب مبنية على مسلك المحقّق القمي ، وأمّا بناء على عدم التساوي وأنّ النسبة هي العموم من وجه ، وأنّ من قصد إفهامه قد يكون أعمّ من المخاطب كما أنّ المخاطب قد يكون هو غير من قصد إفهامه ولو من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، فلا تكون الثمرة المذكورة مبنية على مسلك المحقّق القمي قدس‌سره.

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٣٩٨ و ٤٠٣ ، ٤٥١ و ٤٥٢.

٢٦٤

ولعلّ ما في الكفاية (١) من تحرير ثمرتين للمسألة : الأولى في الحجّية ، والثانية بالنسبة إلى الاحتياج إلى دليل الاشتراك ، ناظر إلى هذا الذي ذكرناه ، فراجع الكفاية وارجع إلى ما حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره بقولنا عنه قدس‌سره : وليس ظهور هذه الثمرة مبنيا على القول باختصاص حجّية الظهور بمن قصد إفهامه ، فإنّا وإن قلنا بعموم الحجّية لمن لم يقصد إفهامه ، يتأتّى النزاع في شمول خطاب المشافهة لمن لم يكن مخاطبا. وبالجملة أنّ من قصد إفهامه ليس هو عين المشافه بل بين العنوانين عموم من وجه ، انتهى.

قوله : فإنّ خطاب الغائب فضلا عن المعدوم يحتاج إلى تنزيل وعناية ، وظهور الخطابات في أنّها بلا عناية يدفع احتمالها (٢).

خروج المعدوم عن القضية الخارجية إنّما يكون لأجل كونها خارجية وإن لم تكن مشتملة على الخطاب ، وإنّما يكون أثر الخطاب فيها هو إخراج الغائب من الموجودين ، والعناية إنّما هي لادخاله ، أمّا المعدوم فهو غير داخل فيها ، ولو أعملنا العناية في إدخاله وفرضنا وجوده كانت القضية حقيقية وخرجت عن كونها خارجية.

قوله : ضرورة أنّ الخطاب مع الغائب أو المعدوم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهما منزلة الموجود ، وهذا التنزيل إنّما هو مقوّم كون القضية حقيقية لا أمر زائد يكون مدفوعا بالأصل ... الخ (٣).

أورد عليه في الحاشية بقوله : لا يخفى أنّ كون القضية حقيقية وإن كان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٧.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٦٥

يقتضي بنفسه فرض الموضوع موجودا ، أو الحكم على الموضوع المفروض وجوده ، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي في شمول الخطاب للمعدومين ، ضرورة أنّ مجرّد وجود الموضوع خارجا لا يكفي في توجيه الخطاب إليه ، بل لا بدّ فيه من فرض وجوده مجلس التخاطب والتفاته إلى الخطاب ، الخ.

هذا الكلام حقّ لا غبار عليه. ولكن لا يخفى أنّه بعد فرض كون الحكم في القضية المشتملة على الخطاب مختصّا بالمخاطب ، وإن شئت فقل إنّ الحكم بعد فرض كونه متوجّها إلى المخاطب ، لا يعقل الجمع بين كونه عاما للمعدومين كما هو مقتضى كون القضية حقيقية ، وبين كون الخطاب مختصّا بالحاضرين مجلس الخطاب ، بل لا يعقل الجمع أيضا بين عموم الحكم للغائبين وبين كون الخطاب مختصّا بالحاضرين مجلس الخطاب الملتفتين إليه.

وحينئذ لا بدّ لنا في تصحيح ذلك من أن نقول : إنّ معنى فرض وجود الموضوع في القضية الحقيقية الخطابية هو فرض وجوده حاضرا مجلس الخطاب ملتفتا إليه. ولكن لا يخفى أنّ هذا الفرض فرض تصوّري ، ومرجعه إلى التنزيل بأن ينزّل المعدوم منزلة الموجود ويخاطبه خطاب الحاضر ، ومن الواضح أنّ ذلك وإن صحّ إلاّ أنّه لا دخل له بالفرض المستفاد من القضية الحقيقية مثل قوله أيّها المكلّفون ، فإنّ مرجع ذلك إلى القضية الشرطية ، وهي كلّما لو وجد وكان مكلّفا ، وهذا وحده لا يكفي في الخطاب ، إلاّ بأن نقول إنّه ينادي كلّ من لو وجد وكان مكلّفا ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى التنزيل فلاحظ.

والذي يهوّن الخطب أنّ هذا إنّما هو في القضايا الحقيقية المشتملة على خطاب المواجهة ، وهي منحصرة فيما يكون بلسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بلسان أحد الأئمّة عليهم‌السلام وهي قليلة جدّا ، بل لا يكاد يوجد في تلك الأحاديث ما هو قضية

٢٦٦

حقيقية مشتملة على الخطاب الخاصّ ، بل إنّ ما صدر عنهم عليهم‌السلام فيما اشتمل على الخطاب كلّه من قبيل الخطابات الخاصّة بالسائل ونحوه ممّا وجّهوا إليه الكلام ، ويكون ثبوت ذلك من قبيل القضايا الخارجية التي يعلم أنّ الحكم فيها ليس بمختصّ بالمخاطب.

وإن شئت فقل : إنّ ذلك من باب كون الحكم عاما لكلّ أحد ، مع فرض كون الكلام المفيد ذلك الحكم متوجّها إلى طرف خاصّ وهو السائل ، ولا تكون حجّية الظهور مختصّة بخصوص من وجّه إليه ذلك الكلام ، أمّا قضايا الأحكام الخطابية الواردة في الكتاب الكريم فليس الخطاب فيها خطاب مواجهة ، بل هو نحو آخر لا يفرق فيه بين الموجود والمعدوم والحاضر والغائب والملتفت والغافل ، ذلك خطاب بنحو آخر نظير الخطاب بقوله تعالى : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ )(١) وقولهم : ( بَلى )(٢) فإنّ الظاهر أنّه ليس مبنيا على تنزيل المعدوم منزلة الموجود. نعم ربما كان الخطاب في الكتاب الكريم مختصّا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل آية صلاة الخوف (٣) ، فلا بدّ في مثل ذلك من الاعتماد على دليل الاشتراك ونحوه في تسرية الحكم إلى غير المخاطب.

وبالجملة : لا أرى التكلّم في هذه المسألة إلاّ تطويلا بلا طائل ، سوى تسويد الأوراق ، لأنّ القضية الحقيقية المشتملة على الخطاب إن كانت واقعة في الروايات فقد عرفت ندرتها بل عدمها ، ولو سلّم وجودها كأن يقول عليه‌السلام إن شككت أيّها المكلّف فابن على الأكثر ، فهي من قبيل الخطاب في كتب المصنّفين في أنّه لا يقصد به الخطاب مع شخص خاصّ ، وإن كانت في الآيات فقد عرفت

__________________

(١ و ٢) الأعراف ٧ : ١٧٢.

(٣) النساء ٤ : ١٠٤.

٢٦٧

أنّ خطابه تعالى ليس بخطاب مواجهة.

قوله في الحاشية المشار إليها : فالصحيح في تقريب عدم اختصاص الخطاب بالحاضرين مجلس التخاطب ، هو أنّ أدوات الخطاب حسبما ندركه من مفاهيمها عند استعمالاتها غير موضوعة للخطاب الحقيقي وإنّما وضعت للخطاب الانشائي وإظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداع من الدواعي ، فلا مانع من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضه منزلة الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقية ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الغائب وكذلك المعدوم إن نزّلناه منزلة الحاضر الملتفت صحّ خطابه الحقيقي فضلا عن مجرّد الخطاب الانشائي المدّعى كونه من مجرّد إظهار توجيه الكلام نحوه. وإن لم نتصرّف هذا التصرّف ولم ننزّل ذلك الغائب أو المعدوم منزلة الحاضر الملتفت ، لم يصحّ لنا إظهار توجيه الكلام نحوه فضلا عن خطابه الحقيقي ، فإنّ خطاب المعدوم بل الغائب ولو بنحو الخطاب الايقاعي مع بقاء المعدوم والغائب على ما هو عليه من الغيبة أو الانعدام غير معقول.

وإن شئت فقل : إنّ الخطاب ليس له درجتان إيقاعي وحقيقي ، بل ليس هو إلاّ حقيقة واحدة ، وأنّ العناية والتنزيل لا يكون إلاّ في المخاطب كما هو الشأن في جميع الحروف فإنّه لا يتصوّر فيها الاستعارة وإنّما يكون ذلك في المعاني الاسمية ، ونحن وإن قدّمنا في توجيه كون المسألة عقلية وكونها لفظية أنّه بعد الفراغ من إمكان توجيه الخطاب مع المعدوم بتنزيله منزلة الموجود الحاضر يقع الكلام في أنّ مفاد كاف الخطاب هل هو الحاضر الحقيقي أو هو الحاضر ولو تنزيلا ، إلاّ أنّ ذلك من مجرّد التوجيه للنزاع اللفظي بعد الفراغ عن إصلاح المسألة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٦٨.

٢٦٨

من ناحية الحكم العقلي ، لا أنّ معنى ذلك هو أنّا نقول بعد التنزيل المذكور أنّ الخطاب يكون مجازا ، بل إنّا لا نقول إلاّ بكونه حقيقة لكن بعد التنزيل المذكور ، ومحصّل ذلك أنّا نختار القول بالحقيقة لا أنّا ننفي النزاع من أصله.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّ كاف الخطاب تستدعي الحضور والمواجهة فشمولها للغائب يحتاج إلى عناية بتنزيله منزلة الحاضر ، فلو خلّينا نحن وظاهر كاف الخطاب لكان مقتضاه الاختصاص بالحاضر ، لكن لمّا حصل القطع لنا بأنّ الغائبين عن الحضور في المسجد داخلون في الخطاب كان علينا أن نلتزم فيهم العناية المذكورة ، وأمّا المعدومون فلمّا فرضنا كونهم داخلين في القضية الحقيقية وأنّها تشملهم قطعا ، صار حالهم حال الغائبين في كوننا ملتجئين إلى أن نلتزم فيهم العناية المذكورة كما ذكره المحشّي بقوله : هذا مضافا ـ إلى قوله ـ على ما هو لازم كون القضية حقيقية ، وحينئذ فأي فرق بين ما ذكره هذا المحشّي بقوله : فالصحيح الخ ، وبين ما أفاده شيخنا قدس‌سره وأي إيراد له على شيخنا قدس‌سره.

قوله في الحاشية المزبورة : هذا كلّه على تقدير كون الخطابات القرآنية خطابا من الله تبارك وتعالى بلسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمّته ... الخ (١).

إن كان المراد من كون الخطاب منه تعالى بلسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه تعالى هو المنشئ للخطاب لكنّه بلسان رسوله نظير خطابه لموسى من الشجرة بإيجاد الكلام فيها ، فذلك لا يخرجه عن كونه خطابا منه تعالى ، فلا يكون داخلا في خطاب المواجهة. وإن كان المراد أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المنشئ للخطاب لكنّه بعنوان التبليغ عنه تعالى ، لزمه أن يكون الخطاب من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا من كلامه تعالى.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٦٨.

٢٦٩

قوله في الحاشية المشار إليها : وأمّا إذا قلنا بأنّها نزلت عليه قبل قراءته صلى‌الله‌عليه‌وآله فبما أنّ المفروض أنّه لم يكن حال نزولها من يتوجّه إليه الخطاب حقيقة ... الخ (١).

لعلّ الغرض من قوله يكون النزاع ـ إلى قوله ـ باطلا من أصله ، أنّ الخطاب حينئذ يخرج عن محلّ النزاع ، فإنّ محلّ النزاع هو خطاب المواجهة وهذا خارج عنه. وإن كان المراد أنّ الخطاب الحقيقي لا يتصوّر لأنّ الجميع غائبون حال نزول الآية ، ففيه ما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّ جميع ما في الحاشية المزبورة من التفصيل بين الخطاب الانشائي والخطاب الحقيقي كلّه هو مطلب الكفاية (٢) ، وقد عرفت أنّ نفس الخطاب الذي هو مفاد الكاف لا يكون إلاّ حقيقة واحدة. وهكذا الحال في مفاد النداء الذي [ هو ] طلب الاقبال من المقابل ، ومرجع ذلك كلّه إلى توجيه الكلام نحو المقابل ، وهو لا يعقل إلاّ مع الوجود القابل لذلك حقيقة أو تنزيلا من دون أن يكون عناية أو تنزيل في ناحية الخطاب نفسه أو مفاد النداء نفسه أو في نفس توجيه الكلام ، بل إنّ هذه الأمور كلّها ليست إلاّ حقيقة واحدة إيجادية فعلية ، وإنّما تكون العناية والتنزيل فيما تقع عليه ، وهذا هو أحد الموارد التي يقال فيها إنّه لا يتصوّر الاستعارة بل ولا التجوّز في الحروف والأدوات ، وإنّما يتصوّر ذلك في مدخولاتها ومتعلّقاتها ، وإليه ينظر من قال إنّ الاستعارة فيها تكون بالتبع لمدخولاتها ، وفي الحقيقة لا استعارة فيها أصلا ولا تجوّز فيها ولا إعمال عناية ، كلّ ذلك أجنبي عن مفادها الذي هو مجرّد إيجاد معناها وإيقاع مفادها.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٦٨.

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٨ ـ ٢٣٠.

٢٧٠

ولا بأس بنقل ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذه المسألة ، إذ لعلّه أوضح في اندفاع الإشكال الذي حرّره في هذه الحاشية ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه قدس‌سره : وأمّا الجهة الرابعة فتفصيل الكلام فيها : هو أنّ القضية المتضمّنة للحكم إن كانت خارجية ، فالحقّ هو القول بعدم الشمول ، وإن كانت قضية حقيقية فالحقّ هو القول بالشمول ، فإنّ القول بعدم الشمول إن كان راجعا إلى كون القضية الحقيقية قضية خارجية فلا يخفى ما فيه من الخلف ، وإن لم يكن راجعا إلى ذلك بل كان راجعا إلى دعوى عدم شمول القضية الحقيقية المشتملة على أدوات الخطاب لمن يكون خارجا عن مجلس الخطاب ، ففيه أنّ هذه الدعوى إن كانت في مقام الثبوت فلا يخفى ما فيها ، حيث إنّ مرجع كلّ تكليف يتوجّه إلى شخص لا بدّ أن يكون في مقام الثبوت متوجّها إليه بعنوان الخطاب ، غايته أنّه يكون معلّقا على تقدير وجوده لا أنّه يكون حدوث التكليف والخطاب عند وجوده ليكون مرجع التكاليف إلى الاخبار بأنّه يوجد له التكليف عند وجوده ، وإن كانت هذه الدعوى في مقام الاثبات بأن يقال إنّ مقتضى وضع أداة الخطاب هو انحصاره بالموجود ، ففيه : أنّ ذلك مسلّم إلاّ أنّه لا ريب في إمكان توجّه الخطاب إلى من لا يكون قابلا له كالجماد والمعدوم ، بعد تنزيله منزلة القابل له ، والقضية الحقيقية بنفسها متضمّنة لهذا التنزيل حيث إنّها تتضمّن فرض وجود الموضوع وإجراء الحكم عليه على تقدير وجوده ، فلا مانع من شمول الخطاب له ، بل إنّ مقتضى هذا الذي تتضمّنه القضية هو ظهورها في الشمول ، ويكون عدم الشمول محتاجا إلى المخرج ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

ولا يخفى أنّ المراد من إجراء الحكم عليه على تقدير وجوده هو إجراء الحكم الخطابي ، إذ أنّ كلّ حكم خصوصا ما يكون تكليفيا يتضمّن الخطاب ، فإذا

٢٧١

كان هناك فرض وجود الموضوع فهو عبارة أخرى عن فرض وجود المخاطب القابل للخطاب.

قوله : وأمّا بناء على كونه حقيقة كما هو الصحيح فلا يكون هناك معنى آخر حقيقي أو مجازي للعام أريد من الضمير حتّى يلزم الاستخدام في الكلام (١).

لا يخفى أنّ مراد شيخنا قدس‌سره هو أنّ كون العام حقيقة أو مجازا عند ورود التخصيص عليه من الخارج أو ممّا احتف به إنّما يرتكز على أنّه عند التخصيص هل يكون التخصيص معنى جديدا للعام أو أنّه ليس بذاك ، بل إنّ العام سواء طرأه التخصيص أو لم يطرأه ، لم يستعمل إلاّ في أصل معناه الذي هو العموم والشمول للجميع ، وإنّما يكون التصرّف عند التخصيص فيما هو محطّ الحكم من ذلك العام الذي أحضرناه أمام السامع بواسطة اللفظ الموضوع ، وأنّ المحكوم عليه هو بعض أفراد ذلك العام لا تمامها ، وبناء على ذلك لا يكون الضمير راجعا إلاّ إلى نفس ذلك العام ، ويكون التصرّف في الجملة المشتملة على الضمير في ناحية المحكوم عليه فيها الذي هو الضمير ، وأنّ المراد هو بعض أفراده ، فلا فرق بين أن يقول وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ ، وبين أن يقول وبعولة المطلّقات أحقّ بردّ تلك المطلّقات ، فكما أنّ الثاني لا يوجب الخروج بالمطلّقات عن عمومها وإنّما يوجب تضيّق المحكوم عليه من ذلك العام ، فكذلك الأوّل المشتمل على الضمير العائد على المطلّقات على عمومها.

واللازم في هذا المقام مراجعة ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (٢)

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٥٢.

٢٧٢

وعندي ما حرّره المرحوم الشيخ موسى من الدورة السابقة ، والتحريران متّفقان على بيان الايراد بالنحو الذي احتملنا هنا ، غير أنّ المرحوم الشيخ موسى لم يجعل ذلك إلاّ وجها واحدا.

ومن ذلك يظهر لك الجواب عمّا في الحاشية الأولى على ص ٤٩٣ (١) من الطبعة الجديدة والحاشية على ص ٤٩٥ (٢) ، وهاك ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام وهذا نصّه : وينبغي تحرير هذا البحث في جهات من الكلام :

الأولى : أنّ هذا النزاع إنّما يتوجّه على القول بأنّ التخصيص موجب للتجوّز في العام ، أمّا على القول بأنّه لا يوجب تجوّزا فلا وقع لهذا النزاع ، لأنّ اختصاص الحكم في قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَ )(٣) بالرجعيات لا يوجب كون المراد بالضمير هو خصوص الرجعيات كي يكون الأمر دائرا بين تخصيص المرجع أو بقائه على عمومه مع اختصاص الضمير ببعض أفراده الذي هو محصّل الاستخدام ، بل يبقى حينئذ كلّ من الضمير ومرجعه على ما هو عليه من الاستعمال في عموم المطلّقات ، وأقصى ما في البين هو أن يكون الحكم في ناحية الضمير مختصّا بخصوص قسم من العام.

الجهة الثانية : أنّه لو سلّمنا كون التخصيص موجبا للتجوّز فلا يكون اختصاص الحكم في قوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَ ) موجبا لاختصاص الضمير والتجوّز فيه ، لأنّ التخصيص الحاصل في ناحية المحمول لا يكون موجبا له في ناحية الموضوع ، كما في مثل أكرم العلماء فإنّ اختصاص الإكرام بالأحياء لا يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ١ ) : ٣٧٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٧٣.

(٣) البقرة ٢ : ٢٢٨.

٢٧٣

موجبا للتجوّز في ناحية الموضوع باخراج الأموات منه ، انتهى ما أردت نقله.

قال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عن شيخنا قدس‌سره في الدورة السابقة ، بعد أن حرّر النزاع وأنّه مبني على كون العام مجازا بعد التخصيص وأوضح ذلك ، قال : وبعبارة أخرى لو قلنا بأنّ تخصيص العام بقيد يلزم أن يكون العام مستعملا في المقيّد ، فمع فرض اختصاص حقّ الرجوع بالرجعيات يلزم أن يكون المطلقات مستعملا في الرجعيات وإلاّ يلزم الاستخدام.

وأمّا لو قلنا بأنّ تخصيصه لا يوجب أن يكون العام مستعملا في الخاص بل في نفس معناه ، ولا يلزم من التخصيص إلاّ تضيّق دائرة المصب كتقييد المطلق بناء على ما أوضحناه ، فلا دوران بين الاستخدام والتخصيص ، لأنّ اختصاص حكم الرجوع بالرجعيات لا يلزم أن يكون الضمير مستعملا في غير معناه ، بأن لا يكون مطابقا لمرجعه ، لأنّ الضمير راجع بالمطلقات بنفس معناها من دون استخدام ، ومجرّد العلم باختصاص أحد حكمي العام بخصوصية لا يوجب إمّا تصرّفا في العام باستعماله في الخاص ، وإمّا تصرّفا في ضميره الراجع إليه ، لأنّ هذه العبارة هي ما إذا انضمّ القيد المعلوم من الخارج بالضمير لفظا وقيل : وبعولتهنّ إذا كنّ رجعيات زوجهنّ أحقّ بردهنّ.

وبالجملة : العلم بأنّ أحد الحكمين في العام مخصوص لا يوجب أن يكون حكمه الآخر مخصوصا أو موجبا للتصرّف في الضمير الراجع إليه ، نعم لو كان من قبيل جاء زيد وهو يتكلّم ، مع العلم بأنّ المتكلّم زيد بن عمرو ، فلا بدّ من أحد التصرّفين ، إمّا باختصاص زيد بزيد بن عمرو حتّى يطابق الضمير المرجع ، وإمّا باستخدام في الضمير وجعل المجيء لزيد بن بكر ، والمفروض أنّ اختصاص الحكم الوارد بعد الضمير بالرجعيات لا يوجب ـ إذا كان المطلّقات بمعناه قبل

٢٧٤

التخصيص ـ أن يكون الضمير راجعا إلى غير مرجعه إلى غير ما هو ظاهر في المرجعية ، فأصل النزاع إنّما يصحّ من القائلين بالمجازية ، وتبعهم المتأخرون في تحرير النزاع هكذا من دون ابتناء ، وهذا عجيب ، انتهى.

أمّا المرحوم الشيخ محمّد علي (١) فعبارته موجودة مطبوعة فراجعها ، وهي أصرح من هذا الذي نقلناه عن المرحوم الشيخ موسى ، غير أنّ المرحوم الشيخ موسى اقتصر على وجه واحد ولم يذكر لنفي الاستخدام وجهين كما ذكره المرحوم الشيخ محمّد علي. ولعلّ الفرق بين الوجهين هو أنّ الوجه الأوّل راجع إلى أنّ التخصيص في ناحية الضمير نفسه ، وهو لا يوجب المغايرة لمرجعه ، والثاني راجع إلى أنّ الضمير لا تخصيص في ناحيته وإنّما كان التخصيص في ناحية الحكم المحمول عليه ، فلو سلّمنا أنّ التخصيص يوجب المغايرة لم يكن ذلك موجبا للاستخدام أيضا ، لأنّ هذا التخصيص لم يقع في ناحية الضمير وإنّما وقع في ناحية الحكم المحمول عليه ، وهذا الوجه الفارق بين الوجهين هو المستفاد ممّا تقدّم نقله ممّا حرّرناه عنه قدس‌سره.

أمّا الذي حرّرته عنه قدس‌سره فقد عرفته فيما نقلناه ، ولكنّي كنت في وقته ضربت عليه وحرّرت الجهة الأولى والثانية على نحو ما هو محرّر في هذا الكتاب ، ولا أعرف الوجه في ضربي عليه ، مع أنّه موافق لما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي والمرحوم الشيخ موسى في الدورة السابقة ، ولعلّ المنشأ في الاختلاف في هذه التحارير هو الاختلاف فيما فهمناه ممّا صدر عنه قدس‌سره. هذا ما كنت حرّرته سابقا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ مراد شيخنا قدس‌سره بالايراد الأوّل أنّ الاستخدام منوط بأن يكون لمرجع الضمير معنيان حقيقي ومجازي ، ويكون الضمير ملائما

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٥٢ ـ ٥٥٣.

٢٧٥

للمجازي ، فإن أبقينا المرجع على أصالة الحقيقة ، وقلنا إنّ المراد به معناه الحقيقي ، كان الضمير مخالفا لمرجعه وهو الاستخدام ، وإن خرجنا بالمرجع عن أصالة الحقيقة وقلنا إنّ المراد به المعنى المجازي ، كان الضمير مطابقا لمرجعه ولم يكن في البين استخدام. والمفروض أنّ المرجع فيما نحن فيه هو العام أعني المطلّقات ، وهو لا يستعمل إلاّ في العام ، وفي مقام التخصيص أيضا لا يستعمل إلاّ في العام ، غايته يكون مركب الحكم بعض ذلك العام ، فالضمير في قوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَ )(١) لو كان المراد به بعض المطلّقات وهنّ الرجعيات لا يكون راجعا إلاّ إلى المطلّقات السابقة ، حتّى لو كانت السابقة مختصّة بالرجعيات ، فعلى أيّ حال كان الضمير مخالفا لمرجعه ، سواء كان الحكم في الأوّل مختصّا بخصوص الرجعيات أو كان شاملا لجميع المطلّقات ، وحينئذ لا تكون أصالة العموم مزاحمة بأصالة عدم الاستخدام ، لتحقّق الاستخدام على كلّ من إبقاء العام على عمومه أو تخصيصه بخصوص الرجعيات.

وأمّا إيراده الثاني فكأنّه وارد على أصل المدّعى وهو جريان أصالة عدم الاستخدام حتّى في مثل :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

للعلم بالمراد في نفس الضمير ، وإنّما كان الشكّ في كيفية إرادته ، وأصالة عدم الاستخدام التي من قبيل أصالة الظهور إنّما تجري في الشكّ في المراد لا في الشكّ في كيفية إرادته.

وأمّا إيراده الثالث فمرجعه إلى إنكار كون المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات بل هو عبارة عن نفس المطلّقات ، فكأنّه قال والمطلّقات بعولتهنّ أحقّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٨.

٢٧٦

بردهنّ ، أو بعولة المطلّقات أحقّ بردهنّ ، لكن في مقام الحكم عليه كان ذلك الحكم وهو الأحقّية بالردّ واردا على بعض تلك المطلّقات ، وذلك البعض هو الرجعيات ، فهو مثل قوله كلّ عالم يجب إكرامه إذا كان السامع عالما بأنّ وجوب الإكرام مختصّ بالعالم العادل أو أنّه لا يشمل الفاسق ، أو قام الدليل الخارجي على خروج الفاسق. وعلى أي حال ، يمكنك أن تقول إنّ عقد الوضع شامل لكلّ عالم ، وإنّما حكمنا بخروج الفاسق من جهة عقد الحمل.

ولا يخفى أنّه بعد شرح ما أفاده شيخنا قدس‌سره بهذا الشرح ، يتّضح لك أنّه لا يرد عليه شيء ممّا في الحواشي ، ولا يحتاج إلى الأجوبة التي حرّرناها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأوّل أنّ لزوم الاستخدام في ناحية الضمير ... الخ (١).

قد يقال إنّ ما أفيد في هذا الوجه الأوّل إنّما يتمّ لو كان المقابل لأصالة عدم الاستخدام في الضمير هو أصالة الحقيقة في المرجع أعني المطلّقات ، فيقال إنّه يمكن القول بعدم كون الضمير مخالفا لمرجعه مع بقاء لفظ المطلّقات على الحقيقة وعدم التجوّز ، وذلك بالتقريب الذي تقدّم (٢) في توجيه كون العام بعد التخصيص على الحقيقة ، أمّا لو كان المقابل للاستخدام هو أصالة الظهور في ناحية المرجع الذي هو المطلّقات فلا يمكن القول بامكان الجمع بين عدم الاستخدام وبقاء العام الذي هو المطلّقات على حجّية ظهوره من إرادة الجمع.

والحاصل : أنّ المقابلة إنّما هي بين أصالة عدم الاستخدام وأصالة العموم الذي هو عبارة عن حجّية الظهور في ناحية العام ، وهذا ممّا لا يمكن الجمع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٠.

(٢) في أجود التقريرات ٢ : ٣٠٣.

٢٧٧

بينهما.

وفيه : ما لا يخفى ، لامكان الجمع بين عدم الاستخدام وبين حجّية ظهور العام ، وذلك لما حقّق في محلّه (١) من أنّ خروج البائنات عن قوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَ )(٢) لا يوجب استعماله في خصوص الرجعيات.

وأمّا ما أفيد بالثاني (٣) فهو مسلّم ، وصاحب الكفاية (٤) يقرّره ، لأنّ أصالة عدم الاستخدام إنّما هي من الأصول اللفظية التي يكون إجراؤها منحصرا في موارد الشكّ في الارادة لا في موارد الشكّ في كيفيتها بعد العلم بتحقّقها. وهكذا الحال في الثالث الذي عبّر عنه في الكفاية بقوله : أو إلى تمامه مع التوسّع في الاسناد (٥) ، فإنّه أيضا من الأصول التي لا تجري إلاّ عند الشكّ في الارادة.

وقول شيخنا قدس‌سره المحكي في هذا التحرير : وإنّما أريد الرجعيات بدال آخر أعني به عقد الحمل الدالّ على كون الزوج أحقّ بردّ زوجته (٦) ، لا يرد عليه ما في الحاشية من أنّه ليس الدال هو عقد الحكم ، وأنّ الدلالة منحصرة بالدليل الخارجي ، إذ يمكن الجواب عنه بأنّ هذه الدلالة مستفادة من عقد الحمل باعتبار اشتماله على القابلية للردّ ، وأنّ الزوج أحقّ بذلك الردّ ، بخلاف البائنة إذ ليست قابلة للردّ ليتفرّع عليه أنّ الزوج أحقّ بذلك الردّ ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) لعلّ المراد به الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : ٩٥ و ٩٧.

(٢) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٣) [ في الأصل : بالثالث ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٤ و ٥) كفاية الأصول : ٢٣٣.

(٦) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٧٨

ويمكن المناقشة فيما أفاده من إخراج المقام عمّا هو محتمل القرينية ، فإنّ اختصاص الضمير قابل للاعتماد عليه ، فيوجب سقوط أصالة الظهور في ناحية [ العام ] لا أنّه يوجب قلبه إلى الظهور في التخصيص ، فلاحظ.

وحاصل ما أفاده بقوله في الوجه الثاني : إن قلت الخ (١) هو عدم إمكان الاعتماد في المقام على أصالة عدم الاستخدام لنرتّب لازمها وهو عدم بقاء العام على حاله ، بل يلزمنا حينئذ أن نقول إنّ المراد به هو خصوص الرجعيات ، فيكون ذلك نظير ما لو علمنا بأنّ زيدا لا يجب إكرامه ولكن شككنا في أنّه عالم أو لا ، فنقول باجراء أصالة عموم أكرم العلماء ليثبت بذلك أنّ زيدا المذكور ليس بعالم ، إذ لو كان عالما لكان ذلك العموم مخصّصا ، وقد تقدّم (٢) البحث عن ذلك وأنّ أصالة الظهور لا تجري في هذه المقامات لعدم كون الشكّ في الارادة.

لا يقال : إنّا لو قلنا بذلك لم تخرج المسألة عن المعارضة ، إذ كما أنّ لازم عدم الاستخدام هو كون المراد من المطلّقات هو خصوص الرجعيات ، فكذلك لازم أصالة العموم في المطلّقات هو الاستخدام فيقع التعارض بين الأصلين باعتبار لازمهما.

لأنّا نقول : إنّ ذلك لا يخلو من الإشكال ، فكأنّه لأجل ذلك عدل شيخنا عن هذا الجواب إلى ما أفاده من الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، فلاحظ.

والذي يقع في النظر القاصر هو أنّ كون الضمير مخالفا لمرجعه هو خلاف الأصل فيه ، ولسنا نريد من إجراء أصالة عدم المخالفة إثبات مراده من ذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧١.

(٢) في الصفحة : ١٢١ وما بعدها.

٢٧٩

الضمير ، بل إنّا نقول إنّ المتكلّم بمثل هذه الآية الشريفة بعد العلم بأنّ المراد من ذوات الردّ هو خصوص الرجعيات لا بدّ له من ارتكاب خلاف الأصل. إمّا في المطلّقات بارادة بعضهنّ ، وإمّا في الضمير بارجاعه إلى خلاف ما أريد من مرجعه ، ونحن حيث لم نعلم بذلك الأصل الذي ارتكب المتكلّم خلافه بعد فرض علمنا أنّ المراد بالضمير هو خصوص الرجعيات ، يتساوى الاحتمالان عندنا ، فلا يمكننا الحكم على ذلك المتكلّم بأنّه ارتكب خلاف الأصل في العام ، كما لا يمكننا الحكم عليه بأنّه ارتكب خلاف الأصل في الضمير ، فلا طريق لنا إلى إثبات إرادة العموم من المرجع وتكون الجملة مجملة حينئذ ، ويكون الحال فيما نحن فيه كما هو الحال فيما لو قال المولى لعبده أكرم العلماء ثمّ عقّبه بجملة تردّد ذلك العبد في مفادها هل هو حرمة إكرام الفاسق منهم ، ليكون على خلاف أصالة العموم في العلماء ، أو أنّ مفادها هو حرمة إكرام الجهّال من الناس ليكون على خلاف أصالة العموم في مثل أوامر الإحسان مع الناس ، أو لا أقل من كونه على خلاف أصالة عدم حرمة إكرام الجهّال.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة فيما أفاده (١) من الفرق بين الأصول اللفظية وبين الأصول العملية ، بأنّه بعد الطولية لا ينبغي الإشكال في السقوط فيما إذا لم يكن محلّ للأثر السابق في كلّ من الأصول اللفظية والأصول العملية. نعم بعد فرض العرضية بين الآثار كما في مثل نجاسة الماء الذي أريق فإنّ لها آثارا وهي حرمة شربه وفساد الوضوء به ونجاسة ملاقيه ، وهذه كلّها لاحقة لنجاسة الماء من دون كون أحدها أثرا للأثر الآخر ، وحينئذ عند إراقته يسقط الأثر الأوّل وهو حرمة الشرب ، إذ لا موضوع له ، ويبقى الأثران وهما بطلان الوضوء من ذلك الماء قبل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٢.

٢٨٠