أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

زائدا على التنويع بحسب مرتكب الكبيرة ، وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فإنّ قوله لا تكرم الفاسق لمّا نوّع العام إلى نوعين ، فاسق وغير فاسق ، وقد أخرج الفاسق عن عموم العام وانحصر العام في غير الفاسق ، لم يكن خروج زيد المشكوك عن حكم العموم خروجا زائدا على ما تضمّنه قوله لا تكرم الفاسق.

نعم ، على تقدير كون زيد المذكور فاسقا في الواقع يكون ذلك النوع الخارج وهو الفاسق أكثر أفرادا ممّا إذا لم يكن زيد المذكور فاسقا في الواقع ، لكن ليست هذه الزيادة زيادة في التخصيص الذي هو عبارة عن التنويع بحسب الفسق ، وإنّما هي زيادة تكوينية في أفراد النوع الخارج ، ولا ربط لهذه الزيادة التكوينية بزيادة التخصيص الذي هو عبارة عن التنويع وإلاّ لكان ارتكاب الشخص العالم لجريمة الفسق تخصيصا للعام ، ومن الواضح أنّ الارتكاب لجريمة الفسق ليس بنفسه تخصيصا للعام وإنّما الارتكاب عبارة عن إدخال النفس تحت العنوان الخارج.

وبالجملة : أنّ تحقّق الفسق واقعا ليس هو التخصيص. نعم هو محقّق للعنوان الخاصّ ، فلا يكون من كثرة التخريج وإنّما هو من كثرة الخارج ، ومن الواضح أنّه لا ربط لتكثّر الخارج تكثّرا تكوينيا بكثرة التخريج أعني التخصيص الذي هو فعل الحاكم الآمر ، وإلاّ لكان تحقّق التخصيص متوقّفا على تحقّق الفسق في الخارج على وجه لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم فسّاقهم واتّفق أنّهم الآن جميعا عدول لا فاسق فيهم ، لم يكن في البين تخصيص أصلا ، وأنّه لا يتحقّق التخصيص إلاّ بعد ارتكاب العالم جريمة الفسق ، وهذا واضح البطلان.

ومن ذلك يظهر لك اندفاع ما يقال في المقام من أنّ الموجب لتقيّد مدلول العام واقعا إن كان هو الخاصّ بما أنّه حجّة كان التمسّك بالعموم في الشبهة

١٤١

المصداقية صحيحا كالتمسّك به في الشبهة المفهومية ، وإن كان الموجب للتقيّد المزبور هو الخاص على ما هو عليه من مدلوله الواقعي وإن لم يكن حجّة فعلية ، لم يصحّ التمسّك المذكور في الشبهة المفهومية كما لم يصحّ في الشبهة المصداقية ، فإنّه قد اتّضح لك من هذا الذي حرّرناه أنّ المدار إنّما هو على مقدار حجّية الخاصّ لا على مدلوله الواقعي ، لكن في الشبهة المفهومية يكون التمسّك بأصالة العموم في محلّه لكونه نافيا للتخصيص الزائد ، بخلاف الشبهة المصداقية فإنّ التمسّك بأصالة العموم فيها لا يكون في محلّه لعدم كونه نافيا للتخصيص الزائد.

نعم ، لو كان لأصالة العموم حجّية في الشبهة بحيث إنّ المشكوك بعنوان كونه مشكوكا يكون مشمولا لدليل حجّية أصالة العموم ، على وجه يكون حجّية أصالة العموم جارية في عنوان العام مع الشكّ في التخصيص والخروج ، وجارية أيضا فيما يشكّ في كونه داخلا تحت الخاص ، لكانت نافعة في الشبهة المصداقية ، لكنّه بمراحل عن الواقع كما سيأتي (١) توضيحه فيما ننقله عن الأستاذ المحقّق العراقي فراجع وتأمّل ، فإنّ لازمه هو كون أصالة العموم متعرّضة للحكم الواقعي والحكم الظاهري معا ، ففي جريانها في طرد احتمال التخصيص يكون مفادها الحكم الواقعي كسائر الأدلّة الاجتهادية ، وفي جريانها في من هو مشكوك الفسق ، يكون مفادها الحكم الظاهري كسائر الأصول العملية.

وقد يستدلّ على جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية بما قدّمنا الاشارة إليه ، وتوضيحه : أنّه إنّما يرفع اليد عن العموم لأجل قيام الحجّة على فعلية التكليف المخالف لحكم العام ، والمفروض أنّ التكليف بحرمة إكرام

__________________

(١) في الصفحة : ١٤٨ وما بعدها.

١٤٢

الفاسق لم يكن فعليا في حقّ المشكوك فسقه ، فلا مانع من إجراء حكم العام عليه وهو وجوب الاكرام.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ المدار في عدم الأخذ بالعموم ليس على فعلية التكليف المخالف لحكم العام كي يدّعى أنّ عدم التنجّز لأجل عدم العلم بتحقّق المصداق راجع إلى عدم الفعلية كما أتعب به نفسه المستدلّ المذكور ، وإلاّ لكان عموم العام جاريا فيما لو كان حكمه تحريميا وكان حكم الخاص إيجابيا ، وسقط ذلك الايجاب لبعض المسقطات مثل الضرر أو الحرج ونحوهما.

ولعلّ هذا من موارد الخلط بين باب التزاحم وباب التعارض ، فإنّ عدم فعلية أحد التكليفين المتنافيين إنّما يسوّغ الرجوع إلى التكليف الآخر في خصوص باب التزاحم الذي لا يكون تقديم أحد الحكمين على الآخر موجبا لخروج المورد عن تحت الآخر خروجا موضوعيا ، بخلاف باب التعارض الذي يكون التقديم فيه موجبا للخروج عن تحت الآخر خروجا موضوعيا فإنّه لا مجال فيه للرجوع إلى الحكم الآخر وإن لم يكن الحكم الذي تضمّنه الدليل المقدّم فعليا كما حقّق في محلّه (١) في باب التزاحم من وجوه الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم.

ولو أصلحت هذه الجهة وقيل بأنّ المراد بالفعلية والتنجّز إنّما هو بالنسبة إلى نفس حجّية الخاصّ ، فإنّ العام إنّما يرفع اليد عنه إذا قامت في بعض أفراده أو أنواعه حجّة على الخلاف ، ومن الواضح أنّ مورد الشكّ المزبور أعني زيدا

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره يشير بذلك إلى الفرق الرابع بين بابي التزاحم والتعارض المذكور في أجود التقريرات ٢ : ٤٨ ، وله قدس‌سره حاشية على ذلك مذكورة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب صفحة : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

١٤٣

المشكوك الفسق ممّا لم تتحقّق فيه الحجّة الفعلية على خلاف حكم العام ، فلا مانع حينئذ من الأخذ بالعام فيه.

وفيه : ما أشار إليه الأستاذ الأعظم قدس‌سره (١) من الاشارة إلى جوابه ، بأنّ قوله : لا تكرم الفاسق وإن لم يكن حجّة فعلية في حقّ زيد المشكوك فسقه ، إلاّ أنّ هذا القول قد أخرج الفاسق عن عموم أكرم العلماء وصار العالم الواجب الاكرام في الواقع مقيّدا بعدم الفسق أو بالعدالة ، ومع فرض تقيّد الواقع بالقيد المزبور وانحصار حجّية العام بذلك ، لا يمكن التمسّك به بالنسبة إلى ما يشكّ في كونه واجدا لذلك القيد ، وإن كان ظهور العموم بالشمول لكلّ عالم حتّى الفاسق باقيا بحاله لم ينثلم ، إلاّ أنّه لمّا كانت حجّيته مقصورة على مورد القيد لم يمكننا التمسّك به في مورد الشكّ في وجود ذلك القيد.

قلت : لا يخفى أنّ هذا الجواب وإن كان لا غبار عليه ، إلاّ أنّه يمكن الجواب عن الاستدلال المزبور بطريق آخر ، وهو أنّ عموم العام لا ريب في كونه دليلا من الأدلّة الاجتهادية ، لكن لو تحقّق الدليل المعارض له الأخصّ منه فلا ريب في أنّ تحقّق ذلك الدليل يوجب رفع اليد عنه ، ففي الشبهة البدوية وكذلك الشبهة المفهومية لمّا لم يكن الدليل على خلاف ذلك العام متحقّقا كان اللازم هو الأخذ بالعام في مواردهما ، أمّا في الشبهة الموضوعية كما في مثل لا تكرم الفاسق مع الشكّ في فسق زيد فلا ريب أنّها من موارد تحقّق الدليل على خلاف العام ، لقيام الدليل على ثبوت حرمة الاكرام بالنسبة إلى كلّ فاسق ، وحيث قد تحقّق قيام الدليل بالنسبة إلى كلّ فاسق وجب رفع اليد عن العموم في كلّ فرد من أفراد الفسّاق ، فكان العموم ساقط الحجّية بالنسبة إلى كلّ فاسق واقعي حتّى من كان من

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٣.

١٤٤

الفسّاق مجهول الفسق للمكلّف ، إذ بعد سقوط العام عن الحجّية والدليلية الاجتهادية في من هو فاسق واقعا يكون عموم العام بالنسبة إلى ما شكّ في فسقه مشكوك الحجّية غير معلوم الدليلية الاجتهادية ، لاحتمال دخول ذلك المشكوك في من هو فاسق واقعا المفروض سقوط دليلية العام وحجّيته بالنسبة إليه ، وذلك لأنّ مجهول الفسق على تقدير كونه في الواقع فاسقا يكون داخلا في من قام الدليل الاجتهادي على حرمة إكرامه ، غايته أنّه لم يكن المكلّف محرزا لكونه فاسقا ، فإنّ عدم إحرازه وإن أوجب معذوريته إلاّ أنّه لا يوجب خروجه عن كونه ممّا قام الدليل فيه على خلاف حكم العام ، بخلاف عدم الاحراز في صورة الشبهة الحكمية وفي صورة الشبهة المفهومية فإنّ ذلك أعني عدم إحرازه يخرج المورد عن كونه ممّا قام الدليل الاجتهادي فيه على خلاف حكم العام وإن كان نفس ذلك الدليل موجودا في الواقع.

وبالجملة : أنّ دليلية الدليل الاجتهادي وإن كانت منوطة بالوصول إلى المكلّف إلاّ أنّ عدم إحراز الموضوع ليس ممّا ينافي الوصول ولا يوجب سقوط الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى كلّ ما ينطبق عليه حتّى ما لم يكن الموضوع فيه محرزا وإن كان معذورا بالنسبة إليه ، وإذا كانت دليلية لا تكرم الفسّاق غير ساقطة عن زيد المشكوك على تقدير كونه فاسقا في الواقع كانت حجّية العام ودليليته بالنسبة إلى زيد المذكور غير معلومة ، لاحتمال كونه ممّا قام الدليل الفعلي على خلافه الموجب لعدم حجّيته فيه.

ومن هذا التقرير يظهر لتقريب المنع من التمسّك بالعموم وجه آخر هو قريب من هذا الوجه أو من سنخه ، وهو أنّ إعمال الأدلّة الاجتهادية إنّما هو لاستكشاف الحكم الكلّي الوارد على العناوين الكلّية ، أمّا انطباق تلك العناوين

١٤٥

الكلّية على موضوعاتها الخارجية فليس هو من إعمال الأدلّة الاجتهادية ، وإنّما يرجع في ذلك إلى الوظائف المقرّرة المعبّر عنها بالأصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية ، وقد حقّق أنّ إعمالها في مواردها ليس من وظيفة المجتهد الذي شغله استنباط الحكم الفرعي من دليله الاجتهادي.

وسواء قلنا إنّ إعمال الوظائف المقرّرة للشبهات الموضوعية من أشغال المستنبط أو لم نقل ، فلا ريب لنا في أنّ إزالة الشكّ في مورد الشبهة الموضوعية ليس بواقع في مرتبة إعمال الدليل الاجتهادي.

وبالجملة : بعد أن ورد أكرم العلماء وورد لا تكرم الفاسق منهم ، تمّت الأدلّة الاجتهادية في كلّ من الحكمين ، وتحقّق استنباط الحكم الواقعي في كلّ منهما ، فإن بقيت في البين شبهة وكانت حكمية أو مفهومية كان ذلك هو مورد إعمال الأدلّة الاجتهادية ، فإن عجزت الأدلّة الاجتهادية عن إزالتها تعيّن الرجوع إلى الأصول العملية.

وإن لم تكن تلك الشبهة الباقية حكمية ولا مفهومية بل كانت مصداقية كما تقدّم مثالها ، لم تكن تلك الشبهة ممّا يمكن الرجوع فيها إلى الدليلين المزبورين أعني لا تكرم الفسّاق أو أكرم العلماء.

وذلك لما عرفت من عدم تكفّلهما لازالة هذه الشبهة ، وأنّهما لا تعرّض لهما لأزيد من إثبات الحكم الواقعي على العنوان الكلّي ، وهو حسب الفرض معلوم واضح لا ريب فيه ، وإنّما وقع الشكّ في المرتبة المتأخّرة عنه أعني وقع الشكّ في تحقّق ذلك الموضوع الذي حكم عليه بالحرمة ، ولا دخل لذلك بما تكفّله الدليل الاجتهادي ، فيكون كلّ من دليل العام ودليل الخاصّ عاجزا عن إزالة ذلك الشكّ.

١٤٦

هذا إن أريد بالتمسّك بالعموم في زيد المذكور إدخاله في العموم بما أنّه مشكوك الفسق ، وإن أريد بالتمسّك المذكور إدخاله في العموم بما أنّه عالم مع بقاء جهة الشكّ المذكور وعدم التعرّض لحكمها ولا لازالتها فهذا أيضا غير ممكن ، إذ مع بقاء الشكّ المزبور ، ومع احتمال دخوله في الدليل الذي أوجب سقوط العموم بمقدار ما يشمله واقعا ، لا يمكن الحكم عليه بدخوله تحت العموم المزبور.

لكن لا يخفى أنّ هذا التقريب وسابقه يتوقّفان على ما تقدّم ذكره من سقوط حجّية العموم بالنسبة إلى من كان فاسقا واقعا. فالعمدة والأساس في عدم جواز التمسّك بالعموم هي هذه الجهة ، وهي على الظاهر لاينبغي الريب فيها ، فلا ينبغي الإشكال في المسألة.

بل يمكن أن يقال : إنّ الحجر الأساسي لعدم إمكان التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية هو ما قدّمناه (١) من عدم كون خروج مورد الشبهة تخصيصا زائدا ، ولولاه لأمكن أن يقال إنّ مجرّد انحصار حجّية العام في الفاسق الواقعي لا يوجب سقوطها عن مورد الشكّ المفروض عدم إحراز كونه فاسقا واقعا ، فإنّ حاله من هذه الجهة حال مرتكب الصغيرة في الشبهة المفهومية ، ومجرّد أنّ أصالة العموم لا يمكن أن تكون مزيلة للشكّ في الشبهة المصداقية ، لا يكون فارقا بين الشبهتين ، فإنّ الشكّ في الشبهة المفهومية أيضا كذلك ، لأنّ الشكّ في أنّ الفاسق هل يشمل مرتكب الصغيرة لا يمكن [ إزالته ] بعموم لا تكرم الفاسق ولا بعموم أكرم كلّ عالم ، إلاّ أنّ هذا الشكّ لمّا كان سببا في الشكّ في أنّ عموم أكرم كلّ عالم هل خرج منه مرتكب الصغيرة كما خرج منه مرتكب الكبيرة أو أنّه لم يخرج منه

__________________

(١) في الصفحة : ١٤١.

١٤٧

إلاّ مرتكب الكبيرة ، كانت أصالة العموم جارية في هذا الشكّ المسبّب عن الشكّ الأوّل ، لكون هذا الشكّ شكّا في التخصيص الزائد على ما علم من التخصيص بمرتكب الكبيرة ، وهذا بخلاف الشكّ في الشبهة الموضوعية فإنّ الشكّ في أنّ زيدا فاسق أو ليس بفاسق لا يتولّد [ منه ] إلاّ الشكّ في أنّ زيدا واجب الاكرام أو غير واجب الاكرام ، من دون أن يكون موجبا للشكّ في التخصيص الزائد ، فإنّ زيدا سواء كان فاسقا أو كان غير فاسق ، وسواء كان واجب الاكرام واقعا أو كان غير واجب الاكرام ، لا يكون موجبا لتخصيص في ناحية العام زائد على ما خرج بقوله لا تكرم الفاسق.

وممّا يشهد بعدم جواز التمسّك المذكور هو عدم التفوّه به في المتعارضين المقدّم أحدهما على الآخر سندا أو دلالة كما في العامين من وجه مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فإنّه بعد التعارض في العالم الفاسق لو قدّم أحد الدليلين على الآخر لكونه أقوى سندا أو دلالة ، بأن قدّمنا دليل الوجوب على دليل الحرمة وحكمنا بوجوب إكرام العالم الفاسق ، لو حصل لنا شخص معلوم الفسق مشكوك العلمية ، لكان اللازم على القول بجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية هو الحكم بحرمة إكرامه استنادا إلى عدم تنجّز حجّية أكرم العالم فيه ، بل لو حكمنا بالتخيير وقلنا بأنّه ابتدائي ، واخترنا في مورد الاجتماع دليل الوجوب مثلا ، لكان اللازم عليه ما تقدّم فيما لو قدّمنا دليل الوجوب لكونه أقوى ، فتأمّل.

ومن جملة ما يتمسّك به لجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ما حرّرته عن درس بعض أجلّة العصر وحاصله : أنّ محصّل العموم هو الحكم على كلّ فرد من أفراد المدخول ، ومحصّل حجّيته هو الحكم بلزوم تصديقه وسدّ

١٤٨

أبواب احتمال عدم مطابقته للواقع ، وعدم مطابقته للواقع تارة يكون من جهة خروج بعض الأصناف عنه مثل الفاسق ، وأخرى يكون من جهة انطباق ذلك الوصف وهو الفاسق على جملة من أفراده بعد فرض دلالة الدليل على خروج الوصف المزبور.

فيكون الحاصل حينئذ أنّ تصديقه يكون من جهتين : الأولى أنّه لم يخرج عنه بعض الأصناف مثل الفاسق. والجهة الأخرى أنّه بعد فرض خروج الفاسق عنه نحتمل صدق قوله أكرم كلّ عالم ولو باعتبار احتمال كون الكلّ عدولا ، غايته أنّه بالنسبة إلى من علم فسقهم يسقط الحكم بتصديقه ، لكن بالنسبة إلى من لم يعلم فسقه لا يسقط الحكم بتصديقه ، فإنّه وإن سقط من الجهة الأولى أعني جهة عدم خروج الفاسق ، لكن لمّا أمكن الحكم بتصديقه من الجهة الثانية وهو جهة أنّه عادل ليس بفاسق ، فلا مانع حينئذ من جريان وجوب تصديق العموم في الفرد المزبور ولو باعتبار سدّ باب احتمال فسقه ليكون صدق قوله أكرم كلّ عالم عليه صحيحا مطابقا للواقع.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ أصالة العموم أو حجّية العموم أو حجّية الدليل المتضمّن للحكم العام ( ما شئت فعبّر ) لا تعرّض لها لأزيد من نفي احتمال التخصيص ، فإن كان خروج ذلك الفرد المشكوك فسقه تخصيصا زائدا كان العام حجّة فيه وإلاّ فلا. وأمّا احتمال كون صدق العام عليه مطابقا للواقع بأن لا يكون فاسقا في الواقع ، فلا تعرض للعموم ولا لحجّيته لاثبات هذا الاحتمال ، ولا لطرد احتمال مقابله أعني احتمال كون صدقه عليه غير مطابق للواقع ، بأن يكون المشكوك المذكور فاسقا في الواقع ، فإنّ دليل أصالة العموم ليس إلاّ بناء العقلاء الممضى أو عدم المردوع عنه من جانب الشارع ، ومن الواضح أنّ أقصى ما عندنا

١٤٩

من بناء العقلاء في ذلك إنّما هو البناء على أنّ عنوان العام أعني العالم هو تمام مراد المتكلّم ، بمعنى أنّه تمام موضوع الحكم ، وأنّه لا دخل لقيد آخر فيه مثل العدالة وعدم الفسق ، ومن الواضح أنّ ذلك لا تعرّض له لأزيد من طرد احتمال التخصيص ، ولا تعرّض له لطرد احتمال كون مورد الشكّ فاسقا في الواقع كي يكون مفاده لزوم التصديق من هذه الجهة ، ولو كان للعموم أو لحجّيته تعرّض لهذا الاحتمال لكان العام حجّة في المشكوك المزبور حتّى فيما لو كان المخصّص متّصلا ، فإنّ هذه الجهة على تقدير تعرّض العموم لها لا دخل لها بنفي احتمال التخصيص ، حيث إنّ العام في حدّ نفسه لو خلّي وطبعه يكون حينئذ دالا على كلا الجهتين ، وباتّصال إلاّ الفسّاق به لا يكون مسقطا إلاّ لظهوره في الجهة الأولى ، أعني نفي احتمال التخصيص بغير الفسّاق ، ويبقى ظهوره في الصدق على المشكوك باقيا بحاله من جهة احتمال مطابقته للواقع ، بأن لا يكون المشكوك المذكور فاسقا في الواقع ، فيلزم الحكم بتصديقه من هذه الجهة ، وإن سقط الحكم بتصديقه من الجهة الأولى أعني احتمال خروج الفسّاق منه لسقوط ظهوره من هذه الجهة ، فإنّ سقوط الظهور وعدم انعقاده من هذه الجهة لا ينافي بقاء ظهوره من تلك الجهة.

والحاصل : أنّ عنوان العلماء في قوله أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم صادق على المشكوك ، ويحتمل أنّ صدقه عليه مطابق للواقع ولو بواسطة احتمال أنّه ليس بفاسق ، فيجري في حقّه دليل التصديق.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العموم في المتّصل ليس هو مجرّد العلماء بل العلماء غير الفسّاق ، وهذا العنوان لمّا لم يحرز انطباقه على المشكوك المزبور لم يمكن أن يجري فيه دليل التصديق.

١٥٠

لكن هذا التوجيه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّ للعموم جهتين من التصديق ، والذي سقط باتّصال المخصّص به هو الجهة الأولى دون الجهة الثانية ، فيلزم على هذا أن يكون العام باقيا بحاله من حيث الجهة الثانية وإن سقط ظهوره من حيث الجهة الأولى ، فتأمّل.

والعمدة هو الجواب الأوّل ، وهو أنّ العام لا تعرّض له ولا لدليل حجّيته لأزيد من نفي الجهة الأولى ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّه ذكر استدلال الكفاية (١) على المنع من جواز التمسّك المذكور بما حاصله : أنّ الخاصّ أوجب تنويع العام وانحصرت حجّيته في نوع خاص وهو ما عدا الفسّاق ، فلا يمكن التمسّك بحجّيته في مورد الشكّ المذكور للشكّ في حجّيته فيه. وأجاب عنه بمثل ما نقلناه عنه من عدم الاطلاق في سقوط الحجّية ، وأنّه إنّما سقطت الحجّية من الجهة الأولى أعني عدم التخصيص ، وذلك لا يوجب سقوطها من الجهة الأخرى أعني لزوم تصديقه والحكم بمطابقته للواقع ولو من جهة سدّ باب عدم الفسق والبناء على مطابقته للواقع من جهة احتمال أنّ ذلك المورد ليس بفاسق. وقد عرفت ما فيه من عدم تعرّض العام لأزيد من الجهة الأولى ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّه بنى على عدم جواز التمسّك بالعموم في مورد الشكّ المذكور ، وبرهن عليه بما حاصله : أنّه إنّما جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية بتعدّد المرتبة ، وأنّ مرتبة الأحكام الظاهرية لمّا كانت متأخرة عن مرتبة الأحكام الواقعية لأخذ الجهل بالأحكام الواقعية في موضوع الأحكام الظاهرية جاز اجتماع المتنافيين منهما لاختلاف المرتبة ، ثمّ بيّن أنّ بعض الأحكام الظاهرية ربما يكون

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢١.

١٥١

متأخرا عن بعضها باعتبار كون ذلك البعض المتأخر مأخوذا في موضوعه الشكّ في المتقدّم ، وأفاد أنّ ذلك مثل الأحكام المأخوذة من الأصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنّها لمّا كان موضوعها هو الشكّ في الأحكام الظاهرية المأخوذة عن الأدلّة الاجتهادية كانت متأخرة عن الأحكام الظاهرية المذكورة ، لعين البرهان في تأخر الأحكام الظاهرية المأخوذة عن الأدلّة الاجتهادية عن الأحكام الواقعية ، وأفاد أنّ الحكم الثابت بدليل العام من الأحكام الظاهرية المأخوذ في موضوعها عدم العلم بالحكم الواقعي ، كما أنّ الحكم الثابت بدليل لا تكرم الفاسق على تقدير كون مورد الشكّ فاسقا في الواقع من هذا السنخ من الأحكام الظاهرية ، أعني أنّه متأخر عن الحكم الواقعي برتبة واحدة ، فيكون واقعا في رتبة الحكم الظاهري الثابت له بدليل أكرم العلماء ، فإذا أجرينا حكم العام في مورد الشكّ المزبور كان ذلك من الأحكام الظاهرية ، ومع ذلك أنّا نحتمل كونه من مصاديق الخاص واقعا ، فنحتمل أنّ حكمه هو عدم وجوب الاكرام أو حرمته ، وحيث إنّ هذا الحكم الآتي من ناحية الخاصّ أيضا ظاهري مأخذه الأدلّة الاجتهادية ، وهو في رتبة واحدة مع الحكم الظاهري الثابت بدليل أكرم العلماء ، فينتهي الأمر بالأخرة إلى احتمال وجود المتناقضين وهما في مرتبة واحدة ، وذلك محال كاجتماع المتناقضين.

وفيه : أوّلا : المناقشة في المبنى وهو تصحيح الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية باختلاف المرتبة كما حقّق في محلّه (١) من عدم الحقيقة للأحكام الظاهرية ، وأنّها ليست إلاّ طرقا في صورة الأحكام لا أنّها أحكام حقيقية.

__________________

(١) راجع حاشيتي المصنّف قدس‌سره على فوائد الأصول ٣ : ١١٢ و ١١٨ ـ ١١٩ في المجلّد السادس.

١٥٢

وثانيا : أنّ هذا الإشكال بعينه جار في موارد الشبهة البدوية في التخصيص وموارد الشبهة المفهومية في المنفصل المردّد بين الأقل والأكثر ، لاحتمال كون مورد الشكّ محكوما بحكم الخاصّ مع فرض كونه محكوما بحكم العام ، بل إنّ ذلك جار في المخصّص المتّصل ، لاحتمال كون المورد محكوما بحكم العام ، مع احتمال كونه محكوما بحكم الخاصّ بمعنى أنّه على تقدير كونه محكوما بحكم العام يحتمل أن يكون محكوما بحكم الخاصّ ، فيكون من قبيل احتمال اجتماع المتنافيين في رتبة واحدة.

وقد أوردت عليه بالشبهة البدوية وأجاب كما حرّرته عنه : بأنّ أصالة عدم التخصيص نافية للاحتمال الثاني وهو كون المورد محكوما بحكم الخاصّ.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ أصالة عدم التخصيص عبارة أخرى عن حجّية العام ، فإن كانت حجّية العام نافعة في مورد الشبهة البدوية فلم لا تنفع في مورد الشبهة المصداقية.

مضافا إلى أنّا لو سلّمنا أنّ أصالة عدم التخصيص أصل مستقلّ برأسه في قبال أصالة العموم فهي غير نافعة في طرد الاحتمال الثاني إلاّ تعبّدا ، وذلك لا يوجب القطع بعدمه ، فأصالة عدم التخصيص لا ترفع الاحتمال الوجداني ، فلا تنفع في دفع إشكال احتمال اجتماع المتنافيين.

وثالثا : أنّا لو أسقطنا عموم العام لم يخرج مورد الشكّ المزبور عن كونه محلا لاجتماع المتنافيين لبقاء احتمال كونه محكوما بحكم العام ، مع أنّه على تقدير كونه محكوما بذلك يحتمل أيضا كونه محكوما بحكم الخاصّ ، فكان احتمال اجتماع المتنافيين الذي فرّ منه باسقاط العام باقيا بحاله بعد الاسقاط المزبور.

١٥٣

ورابعا : أنّه لا معنى للفرار من اجتماع المتنافيين باقتراح طرد أحدهما بلا موجب ، بل إنّ الفرار من اجتماعهما إنّما يكون بسدّ باب الدليل على كلّ منهما أو سدّ باب دليل أحدهما ، فكان اللازم هنا أن نسدّ باب كون المورد محكوما بحكم العام بأن نقول إنّ دليل العام لا يشمله ، ونعمل الحيلة في وجه عدم شموله له ، لا أنّا نسلّم شمول الدليل له ونسلّم أيضا احتمال كونه محكوما بحكم الخاصّ ثمّ نقترح على حكم العام بالارتفاع دفعا لاحتمال اجتماع المتنافيين ، فإنّ هذا ليس بأولى بأن نقول يلزمنا أن نقطع بأنّ المورد ليس محكوما بحكم الخاصّ دفعا لاحتمال اجتماع المتنافيين.

وخامسا : أنّ الأحكام الظاهرية على تقدير كونها أحكاما حقيقية لمّا كانت منوطة بالحجة الفعلية كان تحقّقها تابعا لتحقّق الحجّية بالعلم بها ووصولها إلى المكلّف ، فإن تحقّقت الحجّية ووصلت تلك الحجّة إلى المكلّف كان الحكم الظاهري الناشئ عنها مقطوعا به ، وإن لم تتحقّق الحجّية كان الحكم الناشئ عنها مقطوع العدم. وحينئذ نقول إن فرضنا أنّ الحجّة الفعلية في المقام أعني مورد الشكّ المزبور هي عموم العام دون دليل الخاصّ كما هو المفروض ، كان الحكم الظاهري الناشئ عن حجّية العام مقطوعا به. وأمّا الحكم الظاهري الناشئ عن حجّية الخاصّ فلا يكون إلاّ مقطوع العدم.

وبالجملة : الحكم الظاهري لا يكون له وجود واقعي كي يكون قابلا لتعلّق الظنّ والشكّ به بل هو تابع للعلم بالحجّية ، فلا يكون إلاّ مقطوع الوجود أو مقطوع العدم كنفس الحجّية ، فلا محصّل لكون المورد من قبيل احتمال اجتماع المتناقضين ، فإنّا على تقدير كون المورد محكوما فعلا بحكم العام وإن كنّا نحتمل أن يكون مشمولا لدليل الخاصّ ، لكن هذا الاحتمال لا يولّد لنا احتمال كونه

١٥٤

محكوما بالحكم الظاهري الآتي من حجّية الخاص ، إذ المفروض أنّا نقطع بأنّ الخاصّ ليس بحجّة فيه ، ولازم ذلك أن نقطع بعدم كونه محكوما بالحكم الظاهري الآتي من حجّية الخاص.

نعم إنّ احتمال كونه فاسقا في الواقع يولّد لنا احتمال كونه محكوما بالحكم الواقعي الذي حكاه الخاص ، وأين هذا الحكم الواقعي الذي حكاه الدليل الخاص من الحكم الظاهري الآتي من حجّية الخاصّ المفروض حصول القطع بعدمها.

فإن قلت : إنّا نحتمل دخوله فيما حكاه الخاصّ ، وحيث إنّ حكاية الخاصّ محكومة ظاهرا بلزوم التصديق فنحن نحتمل دخوله تحت ذلك الحكم الظاهري أعني لزوم التصديق.

قلت : إنّ احتمال دخوله في المحكي لا يلازم احتمال دخوله في دليل التصديق ، لأنّ دخوله في دليل التصديق يتوقّف على إحراز كونه محكيا بذلك الدليل والمفروض أنّا نشكّ في دخوله في الحكاية وذلك يوجب القطع بعدم دخوله في دليل التصديق للقطع بعدم حصول ما يتوقّف عليه وهو إحراز دخوله في الحكاية ، وهذا هو ما ذكرناه من توقّف الحكم الظاهري على إحراز الحجّية المفروض عدم إحرازها في المقام ، لعدم علم المكلّف بانطباقها على مورد الشكّ المزبور ، فتأمّل.

هذا كلّه فيما يتعلّق بما استفدته منه في الدرس ، ثمّ بعد ذلك طبعت مقالته قدس‌سره ، والذي يتلخّص ممّا أفاده فيها (١) هو أنّ الاستدلال على عدم صحّة التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية يكون بوجوه :

الأوّل : أنّ الخاصّ يوجب تقيّد العام ومع الشكّ في حصول القيد لا يمكن

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٤٤٠ ـ ٤٤٤.

١٥٥

التمسّك بالعموم. وهذا الوجه أبطله بالمنع من إفادة التخصيص تقييد العموم ، وأنّه لا يفيد إلاّ إخراج بعض الأفراد فيكون حاله حال موت بعضهم.

الثاني : أنّ الخاصّ يوجب انحصار حجّية العام في غير مورده ، ومع الشكّ يكون حجّية العام في ذلك المورد مشكوكة فلا يصحّ التمسّك. وأجاب عنه : بأنّ انحصار الحجّية إنّما هو في الشبهة الحكمية ، يعني أنّ العام بالنسبة إلى أصل المسألة أعني مسألة التخصيص من حيث الشبهة الحكمية وأنّه هل في البين تخصيص أو لا ، تكون حجّيته منحصرة فيما عدا خروج الخاصّ ، أمّا من حيث الشبهة الموضوعية وأنّ ما هو مشكوك الفسق هل هو فاسق فيكون خارجا عن العموم أو أنّه ليس بفاسق فيكون باقيا تحت العموم ، فهذا المقدار من الحجّية لا يكون مقصورا ، وتقريبه ما مرّ من أنّ أصالة العموم تفيد أنّ مؤدّاها مطابق للواقع سواء كان من جهة الشكّ في أصل الاخراج أو كان من جهة الشكّ في انطباق الخارج على هذا الفرد وعدم انطباقه.

الثالث : أنّ حجّية العام بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية المصداقية تكون في طول حجّيته في الشبهة الحكمية ولا يمكن الجمع بينهما في عبارة واحدة. وهذا الوجه كأنّه إشكال على ما أجاب به عن الاستدلال الثاني لا أنّه وجه مستقلّ. وعلى كلّ حال أنّه قدس‌سره قد أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله : أنّه لا مانع من الجمع بينهما في جعل واحد ، غير أنّ المجعول وهو الحجّية وتتميم الكشف يكون بعض موارده سابقا في الرتبة على البعض الآخر ، ونظّر ذلك بمسألة حجّية الإخبار مع الواسطة.

الرابع : هو دعوى قصور حجّية العام التي هي عبارة عن تتميم الكشف عن الشبهة المصداقية ، لأنّ الجهل الذي تتكفّل الحجّية لازالته هو الجهل الذي يكون

١٥٦

مختصّا بالمكلّف دون ما يكون منه مشتركا بينه وبين المتكلّم. ( قلت : وبعبارة أخرى أوضح وأبعد من سوء الأدب ، أنّ الشارع بما أنّه شارع ليس من وظيفته إزالة الجهل الناشئ عن الشبهات الموضوعية ). وأجاب عنه بأنّه يمكن للشارع أن يجعل لهذا الجهل أمارة ، وحينئذ لا مانع من جعل أصالة العموم أمارة في هذه المرتبة من الشكّ كما أنّها أمارة في المرتبة السابقة منه أعني الشبهة الحكمية على ما مرّ منه في الوجه الثالث.

الوجه الخامس : وهو الذي قد اختاره في المقالة ( وإن كان عند ما كنت أحضر درسه (١) قد اختار ما قدّمنا نقله ) وعلى كلّ حال أنّ محصّل هذا الوجه الذي قد اختاره هو دعوى قصور الظهور التصديقي الذي هو عبارة عن كون الألفاظ كاشفة عن المرادات ، فإنّ الظهور إنّما يتأتّى في الموارد التي يكون الآمر ملتفتا إلى ما يتعلّق به مراده منها ، أمّا ما يكون خارجا عن علمه فلا يعقل أن يكون المتكلّم قاصدا بكلامه كشفه وإبرازه. ثمّ ذكر أنّ هذا الوجه هو الذي يريده صاحب الكفاية قدس‌سره فقال بعد توضيحه الوجه المذكور : ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان ، ومرجع هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المرام بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه مشتبها فيه ، فلا يكون الظهور حينئذ تصديقيا كي يكون واجدا لشرائط الحجّية ، لا إلى منع شمول دليل الحجّية للظهور من حيث كونه أمارة لتعيين الموضوع كما توهّم ، كيف ومع الاغماض عمّا ذكرنا لا قصور في جعل المولى هذا الظهور أيضا من الأمارات على تعيين الموضوعات كسائر الأمارات المجعولة منه حتّى بالنسبة إلى ما هو بنفسه جاهل بوجوده كما هو ظاهر واضح ، وحينئذ العمدة في وجه المنع هو الذي أشرنا (٢)

__________________

(١) في سنين ما بين الأربعين والثلاثين بعد الثلاثمائة والألف [ منه قدس‌سره ].

(٢) مقالات الأصول ١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

١٥٧

انتهى ما أردت نقله من عبارة المقالة. ولا يخفى أنّ عبارة الكفاية (١) والحاشية على المكاسب (٢) بعيدة عن هذا الوجه بمراحل.

ثمّ لا يخفى أنّ من يدّعي صحّة التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية لا يدّعي أنّ قول القائل أكرم كل عالم ـ المفروض أنّه قائل أيضا لا تكرم فسّاق العلماء ـ يكون كاشفا عن أنّه أراد به كلّ عالم حتّى العالم الفاسق الذي كان المتكلّم جاهلا بفسقه أو كان شاكّا في فسقه بحيث كان المتكلّم نفسه محتملا لكونه خارجا عن مراده ، ومع ذلك نقول إنّ قوله المذكور كاشف عن إرادته له.

بل من يدّعي الصحّة يقول إنّ المدار في ذلك على علم السامع وجهله وشكّه ، ففي صورة يعلم بفسق الشخص يحكم بخروجه عن كلّ عالم ، وأنّ المتكلّم لا يريده لقوله لا تكرم الفاسق منهم ، وفي صورة يعلم بعدالته يحكم ببقائه تحت العام وأنّ المتكلّم يريده بقوله كلّ عالم ، وفي صورة يشكّ في فسقه وعدالته يتمسّك بظهور عالم في كونه شاملا له ، لكن لا بعنوان كونه مشكوك الفسق ، بل بعنوان كونه عالما ، وأنّ المتكلّم قد قصده بقوله كلّ عالم لأنّه عالم بالوجدان ، فالظهور فيه منعقد ، والدلالة التصديقية حاصلة ، فيلزم الأخذ بها لو لا وجود قوله لا تكرم الفاسق ، فإذا قلنا إنّ قوله لا تكرم الفاسق منهم إنّما تكون مقدّمة على العام لا بمدلولها الواقعي بل بما يحصل منها من حجّة فعلية ، والمفروض أنّها ليست بحجّة فعلا في هذا المشكوك ، فكان العام حجّة فيه بلا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢١.

(٢) لعلّ المراد بها الحاشية على قول الشيخ قدس‌سره : فإن لم يحصل له بنى على أصالة عدم المخالفة / ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

١٥٨

مزاحم ، فيؤخذ فيه بمقتضى العموم من كون المتكلّم قد أراد هذا الشخص ، بل ربما نستكشف من ذلك أنّ ذلك الشخص في نظر المتكلّم ليس بفاسق لأجل خصوصية في ذلك المتكلّم من كونه حكيما عالما ، أمّا لو كان المتكلّم عاديا فينسد فيه هذا الاستكشاف ، لكن علينا أن نأخذ بمقتضى ظهور كلامه في أنّه يريد كلّ عالم حتّى هذا الشخص المشكوك عندنا ، وليس احتمالنا كون المتكلّم جاهلا بفسقه أو كونه شاكّا في ذلك بمؤثّر علينا في لزوم أخذنا بمقتضى ظاهر كلامه من كونه مريدا لذلك الشخص ، لأنّ ذلك تضليل أو تضييع جاء من قبله ونحن غير مسئولين عنه ، أمّا صورة قطع المتكلّم بالعدالة مع كونه فاسقا في الواقع فواضح بل لا أثر له ، لأنّا بعد اطّلاعنا على ذلك يلزمنا الجري على مقتضى ما نعلمه لا على ما كان المتكلّم يعتقده ، وأمّا صورة شكّه فكان عليه بناء على هذه الطريقة أعني حجّية العموم مع الشكّ المصداقي أن يبيّن للمكلّفين ذلك ويعرّفهم بأنّي شاكّ في عدالة هذا الشخص وفسقه ، بل يمكن القول بأنّه لا يجب عليه البيان بل عليه إلقاء القوانين الكلّية على طبق ما جرت به طريقة التفاهم العقلائية ، وهم عليهم أن يعملوا بتلك القوانين على حسب القواعد في باب الظواهر العقلائية.

والحاصل : أنّ علم المتكلّم وجهله وشكّه في عدالة الشخص الخاصّ وفسقه لا دخل له بظهور كلامه وانعقاد ذلك الظهور الكاشف عن الارادة ، والذي يؤثّر ويترتّب عليه العمل هو علم السامع وجهله وشكّه بعد فرض وجود مثل قوله إلاّ الفسّاق أو لا تكرم فسّاق العلماء ، وأنّ مقدار تقدّم هذه الجملة الثانية على الأولى أيّ مقدار من حيث إسقاط الحجّية بعد فرض انعقاد الظهور في الأولى وبقائه بحاله ، وأنّه ليس الساقط إلاّ حجّيته ولزوم العمل به.

تتمّة تاريخية للبحث : وهي أنّي قبل أن يصل أستاذنا المرحوم المحقّق

١٥٩

العراقي إلى هذه المباحث كنت استعرت منه بعض أجزاء المقالة في هذه المباحث فاستنسختها ، وكان الذي اعتمد عليه من تقريبات صحّة التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية هو ذلك الوجه الأوّل الذي كان مرجعه إلى تكفّل أصالة العموم بسدّ الجهتين ، أعني الشبهة الحكمية والشبهة المصداقية ، ثمّ بعد الفراغ من تقريبه وتشييد أركانه قال ما نصّه :

نعم ، قصارى ما يرد على مثل هذا التقريب هو دعوى اختصاص دليل وجوب التصديق بالغاء احتمال المخالفة من حيث الشبهة الحكمية ، دون احتماله من حيث الشبهة الموضوعية كما هو الظاهر من التقرير المنسوب إلى شيخنا العلاّمة قدس‌سره (١) ولا أقل من الشكّ فيه فيقتصر على المتيقّن ، لعدم إطلاق في دليل حجّيته لكونه لبّيا ، ولازم ذلك حينئذ هو عدم جواز التمسّك حتّى في المخصّص اللبّي. ثمّ بعد هذا قال : ولكن لا يخفى أنّ ذلك إنّما يتمّ لو لا دعوى العلاّمة الأستاذ أعلى الله مقامه في كفايته (٢) من دعوى السيرة على التمسّك به فيها ، إذ مثل هذه السيرة يكشف عن تكفّل أصالة الظهور من حيث الشبهة الموضوعية أيضا ، وبعد ذلك لا يبقى مجال الفرق بين اللفظي واللبّي بتقريب تقطيع الظهور في الحجّية في الأوّل دون الأخير.

نعم ، بينهما فرق من جهة أخرى ربما يكون هو الموجب لاختصاص السيرة بخصوص اللبّي أو لا أقل من الشكّ في استقرارها في غيره أيضا ، وهو أنّ في مورد المخصّص اللفظي كان الفرد المشكوك على فرض كونه فاسقا واقعا تحت الحجّة على الخلاف ، لشمول لفظ الفسّاق الذي هو الحجّة على الأفراد

__________________

(١) مطارح الأنظار ٢ : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٢.

١٦٠