أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

الشهادتين لا ينحصر في اللفظ المعهود ، بل لو قال : لا إله سوى الله أو غير الله أو ما عدا الله ، فهو كقوله : لا إله إلاّ الله. وكذا قوله : أحمد رسول الله ، كقوله : محمّد رسول الله الخ (١).

وراجع كلماتهم وكلمات كشف اللثام فيما لو قال أنا مؤمن أو مسلم ، هل يحكم بإسلام الكافر الأصلي أو جاحد الوحدانية ، أو أنّه يحتاج إلى التصريح بقوله دين الإسلام حقّ ، لاحتمال كون المراد بالأوّل أنا مؤمن بالنور والظلمة ، أو أنا مسلم بهما (٢).

فهذه الكلمات ونحوها تدلّ على كفاية أي عبارة تدلّ على أنّه مسلم ، ومن ذلك كلّ جملة دلّت على التوحيد بالعبادة والإقرار بأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله ، ولا يتوقّف ترتيب آثار الإسلام عليه على الاعتراف بأنّه تعالى واجب الوجود ، وأنّ واجب الوجود ينحصر فيه تعالى ، فإنّ ذلك وإن كان من أصول عقائد المسلمين إلاّ أنّه كسائر العقائد ، مثل عدم كونه تعالى جسما ، ونحو ذلك ممّا يعتبر في الإسلام ، فراجع وتأمّل.

وربما يقال : إنّ الإله بمعنى خالق تمام الموجودات ، فإذا نفي عن غيره وأثبت وجوده لزم التوحيد ، لأنّ غيره لو كان لكان مخلوقا له تعالى ، لأنّ المفروض أنّه خالق تمام الموجودات.

وفيه أوّلا : أنّه على هذا لا يحتاج إلى الحصر ، بل يكفي أن يقال إنّه تعالى موجود ، لأنّ غيره لو كان موجودا لكان مخلوقا له.

وثانيا : أنّه يلزم على ذلك أن تكون هذه الكلمة الشريفة مسوقة لقصر

__________________

(١) مسالك الافهام ١٥ : ٣٧.

(٢) كشف اللثام ١٠ : ٦٦٨.

٨١

القلب ، والمفروض أنّها مسوقة للأعمّ منه ومن قصر الأفراد لو لم نقل بكونها مسوقة لقصر الأفراد.

فالأولى أن يقال : إنّها مسوقة للردّ على الجاهلية الذين يجعلون له تعالى شريكا في العبادة ، حيث إنّ الإله إنّما هو بمعنى المعبود بحقّ ، ويكفي في التوحيد في العبادة مجرّد نفي وجود غيره وإثبات وجوده تعالى ، فيكون الأصل فيها هو قصر الأفراد أو للأعمّ من ذلك ومن قصر القلب ، وأمّا كون الإله بمعنى واجب الوجود أو الخالق لتمام الموجودات فليست هي بمعنى الإله ، لما عرفت من كونه بمعنى المعبود بحقّ. نعم ، لازم المعبود بحقّ أن يكون واجب الوجود وأن يكون خالق الكون كلّه ، وهذان اللازمان كبقية صفاته الثبوتية والسلبية لا تكون كلمة التوحيد متعرّضة لهما بنفي أو إثبات ، ولا تعرض لها لأزيد من التوحيد في العبادة وأنّه لا معبود بحقّ موجود إلاّ الله ، وهذا المقدار من الاعتراف كاف في إجراء أحكام الإسلام إذا انضمّ إليه الاعتراف بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما لم يظهر من المقرّ ما يوجب الكفر من الجهات الأخر.

فتلخّص لك : أنّا إذا التزمنا بترتيب آثار الإسلام عليه عند ما يقول دين الإسلام حقّ ، كان لازم ذلك هو ترتيب آثاره عليه عند ما يقول لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو لم يكن بصدد بيان أنّه تعالى واجب الوجود وأنّ واجب الوجود منحصر فيه ، بل يكفي فيه ما ذكرناه من حصر المعبود فيه تبارك وتعالى ، فإنّ إله كما صرّح به أهل اللغة (١) بمعنى المعبود من أله بمعنى عبد ، ولا يحتاج إلى تقدير خبر كي يقع الكلام في أنّ الخبر هو موجود أو ممكن ، وفي الحقيقة يكون هذا النفي في مثل هذه الأسماء المشتقّة متوجّها إلى الفعل المشتقّ منه ، ويكون

__________________

(١) تاج العروس ٩ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ مادّة « أله » ، مجمع البحرين ٦ : ٣٣٩ مادّة « أله ».

٨٢

ذلك الاسم المشتق بمنزلة المبتدأ الذي يكون فاعله سادّا مسدّ الخبر ، نظير ما مضروب إلاّ عمرو ، فيكون قولنا : ( لا إله إلاّ الله ) بمنزلة قولك : ( ما معبود إلاّ الله ) في كون الاسم بعده مفعولا نائبا عن الفاعل سادّا مسدّ الخبر ، فهو من هذه الجهة بمنزلة قولك : ( ما مضروب إلاّ عمرو ) في كون عمرو مفعولا نائبا عن الفاعل وسادّا مسدّ الخبر.

ولك أن تقول إنّ ذلك أيضا تكلّف ، بل إنّ لفظ الجلالة بنفسه خبر ، فكأنّ قائلا يقول إنّ الإله والمعبود هو الصنم فيقال في جوابه لا إله ولا معبود إلاّ الله ، وذلك من هذه الجهة نظير أن يقول إنسان إن ولد زيد هو هاشم وإنّ ولده أيضا هو خالد فتقول له لا ولد لزيد إلاّ هاشم ، فكان هاشم بنفسه خبرا عن الولد في جملة النفي ، كما كان بنفسه خبرا عن الولد في جملة الاثبات.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الوجه يحتاج أيضا في تصحيح النفي فيه إلى كون المنفي هو الولدية ، فيكون راجعا إلى الوجه الأوّل ، فتأمّل فإنّ ذلك لو كان النفي مسلّطا على نفس الذات ، وأمّا لو كان مسلّطا عليها باعتبار الخبر فلا إشكال فيه ، فتكون هذه الكلمة الشريفة بمنزلة قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )(١) في أنّ ما بعد « إلاّ » يكون بنفسه هو الخبر ، من دون حاجة إلى تقدير شيء ، فتأمّل.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٤٤.

٨٣

[ العام والخاصّ ]

قوله : وعلى تقدير وجود عنوان جامع بينها فإنّما هو من باب الاتّفاق ، لا من جهة دخله في الحكم ... الخ (١).

وحينئذ يتشكّل من ذلك العنوان الجامع قضية كلّية ، لكنّها في الحقيقة مجموعة قضايا شخصية لا قضية واحدة كلّية ، فهي وإن كانت عامّة صورة إلاّ أنّه لا عموم فيها أصلا.

قوله : إلاّ في مورد واحد وهو رفع الحدّ عمّن أقرّ عند أمير المؤمنين عليه‌السلام باللواط (٢) ... الخ (٣).

الظاهر أنّ هذا المورد من باب العفو لا التخصيص ، نعم مثّل لذلك في تحريرات المرحوم الشيخ محمّد علي (٤) وغيره بخصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله : نعم يمكن تشكيل القياس منها في عالم الاثبات ... الخ (٥).

إذا لم يكن للأوسط علاقة بالأكبر لا علّية ولا معلولية ولا اشتراك في المعلولية لعلّة أخرى ، لم يعقل أن يكون واسطة في الاثبات ، كما أنّه ليس بواسطة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٣.

(٢) وسائل الشيعة ٢٨ : ١٦١ / أبواب حدّ اللواط ب ٥ ح ١.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٣.

(٤) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥١٤.

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٣.

٨٤

في الثبوت. ومن ذلك تعرف أنّ هذا المثال لا بدّ أن يكون راجعا إلى القضية الحقيقية ، غاية الأمر أنّها لا تشمل الأفراد المقدّرة الوجود ، إذ ليس في البين أفراد مقدّرة الوجود ، لأنّ الجيش محصور الأفراد بما هو الموجود فعلا ويكون العلم فيه بالنتيجة موقوفا على العلم بالكبرى ، لما فرضه قدس‌سره من كونها واسطة في الاثبات ، وحينئذ لا يتمّ فيه ما أفاده بعد ذلك بقوله في القياس المؤلّف من القضايا الخارجية : لكن العلم بالنتيجة لا بدّ وأن يكون مأخوذا من دليل خارجي ، من دون توقّفه على العلم بكلّية الكبرى (١) ، لأنّا إذا فرضنا أنّ العلم بالنتيجة فيما ذكر من المثال مأخوذ من العلم بالكبرى لكونها واسطة في الاثبات ، كان العلم بالنتيجة متوقّفا على العلم بالكبرى ، فكيف يصحّ لنا أن نقول في جواب الدور بأنّ العلم بالنتيجة لا يكون متوقّفا على العلم بالكبرى.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكبرى في هذا المقام معلومة ، والنتيجة ليست موقوفة عليها ، لكنّها موقوفة على الصغرى. لكن ذلك يخرجه من الاستدلال من ناحية أخرى ، لأنّه حينئذ بمنزلة من علم بأنّ في المكان مثلا شخصا معيّنا قد وقع عليه القتل ، لكنّه لا يعرفه أنّه زيد وبعد ذلك تحقّق عنده أنّه زيد ، فإنّه حينئذ يخرج عن القياس بالمرّة ، فتأمّل.

قوله : إلاّ أنّ العلم بكلّية الكبرى مأخوذ من دليله شرعيا كان أو عقليا ، وليس له توقّف على العلم بالنتيجة أصلا ... الخ (٢).

الكبرى وإن كانت مدلولا عليها بدليلها الشرعي أو العقلي ، إلاّ أنّ العلم والجزم بصدقها موقوف على العلم بثبوت ذلك الحكم لكلّ واحد من أفراد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٨٥

موضوعها. وإن شئت فقل : إنّ العلم بالنتيجة متوقّف على العلم بكلّية الكبرى وسريان الحكم فيها إلى كلّ واحد من أفراد موضوعها ، وذلك عبارة أخرى عن كون العلم بكلّية الكبرى متوقّفا على العلم بالنتيجة ، أو أنّ العلم بكلّية الكبرى هو عين العلم بالنتيجة ، وحينئذ يكون المتعيّن في الجواب هو ما ذكروه من الفرق بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل.

ولعلّ هذا هو الذي أراده شيخنا قدس‌سره من أنّ العلم بكلّية الكبرى متوقّف على قيام الدليل عليها ، فإنّ ذلك الدليل لمّا أوجب العلم بكلّية الكبرى فقد أوجب بعين ذلك العلم بما اندرج تحتها من الجزئيات ومن جملتها النتيجة ، غايته أنّه إجمالي لا تفصيلي.

وبالجملة : أنّا لا يحصل لنا الجزم والتصديق بالنتيجة إلاّ بعد الجزم والتصديق بكلّية الكبرى ، ولا يمكننا الجزم والتصديق بكلّية الكبرى إلاّ بعد الجزم والتصديق بثبوت الحكم فيها لكلّ واحد من أفراد موضوعها ومن جملتها الأصغر ، والدليل الشرعي ـ مثلا ـ الدالّ على كلّية الكبرى إنّما يوجب لنا العلم بكلّية الكبرى ، وبعد العلم بكلّية الكبرى الذي هو عبارة عن التصديق بثبوت الحكم لكلّ واحد من أفراد موضوعها ومن جملتها الأصغر ، يكون الانتقال إلى النتيجة. فالدور أو تحصيل الحاصل بحاله ، وينحصر الجواب عنه بما ذكروه من الاجمال والتفصيل ، فراجع وتأمّل.

وقد شرحنا ذلك في مبحث التبادر ، وبيّنا فساده وذلك في ذي القعدة ١٣٨١ فراجع (١).

__________________

(١) [ لم يتقدّم منه قدس‌سره بحث التبادر ، ولعلّه قدس‌سره بحثه في مجلس درسه ].

٨٦

قوله : بداهة أنّ البدلية تنافي العموم ، فإنّ متعلّق الحكم ليس إلاّ فردا واحدا فقط أعني الفرد المنتشر ، نعم إنّ البدلية عامّة فالعموم إنّما هو فيها لا في الحكم ، والدالّ على هذا القسم من العموم هو إطلاق المتعلّق غالبا ، فيكون هذا القسم في الحقيقة من أفراد المطلق لا العام ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وفي عدّ البدلي من أقسام العموم الذي هو بمعنى الشمول مسامحة واضحة ، وإلاّ فليس فيه شمول أصلا ، بل إنّ معناه ينافي الشمول. ووجه تلك المسامحة هو أنّ البدلية فيه بمعنى كون كلّ واحد منها صالحا لانطباق موضوع الحكم عليه على البدل شاملة لجميع الأفراد ، فيكون الشمول فيه لجميع الأفراد باعتبار البدلية المذكورة ، وأنّها ـ أعني البدلية المذكورة ـ شاملة لجميع الأفراد ، لا أنّ الحكم الوارد عليه يكون واردا على جميع الأفراد ، لأنّ ذلك تدافع وتهافت بحت ، انتهى.

وقال المرحوم الشيخ محمّد علي : وتسمية العموم البدلي بالعموم مع أنّ العموم بمعنى الشمول والبدلية تنافي الشمول لا يخلو عن مسامحة (٢).

وقال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه : ثمّ إنّ اطلاق العموم على العموم البدلي مسامحة ، لأنّ بين كون المفهوم شاملا لجزئياته وكون أحد جزئياته موضوعا للحكم تناقض ، فاطلاق العموم عليه بلحاظ أنّ أحد الأفراد الذي هو الموضوع للحكم يمكن أن يكون هذا أو ذاك أو آخر.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ جلّ غرض شيخنا قدس‌سره هو أنّ العموم البدلي ليس في الحقيقة من أقسام العموم بمعنى كون الحكم شاملا لجميع أفراد الموضوع ، وأنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥١٤.

٨٧

وجه المسامحة في إطلاق العموم عليه هو عموم البدلية لجميع أفراد الموضوع ، أمّا أنّ العموم البدلي من أقسام المطلق فذلك لم يتعرّض له شيخنا قدس‌سره فيما عرفته ممّا نقلنا. ولو فرضنا تعرّضه له فلا بأس به ، إذ لا مانع من الحكم بكونه من أقسام المطلق ولو باعتبار كون الغالب في العموم البدلي هو استفادته من المطلق ، وإن كان قد يستفاد أيضا من الدليل اللفظي الموضوع للبدلية ، مثل لفظ أيّ ومثل النكرة المنوّنة ، ونحو ذلك.

وإن شئت فقل : إنّ البدلية كالشمول تارة تستفاد من اللفظ الموضوع لذلك ، وأخرى تستفاد من الاطلاق ، غير أنّ الأكثر في البدلية هو استفادتها من الاطلاق. والحاصل : أنّ الشمول من أقسام العموم ، سواء كان بدلالة اللفظ أو كان بدلالة الاطلاق ومقدّمات الحكمة. كما أنّ البدلية من أقسام الاطلاق ، سواء كانت بدلالة اللفظ أو كانت بدلالة الاطلاق ومقدّمات الحكمة. ومن ذلك تعرف أنّ تغيير قوله : والدالّ على هذا القسم من العموم هو إطلاق المتعلّق غالبا ، فيكون هذا القسم في الحقيقة من أفراد المطلق لا العام ، إلى قوله في الطبعة الجديدة : ويؤيّد ما ذكرناه أنّ هذا القسم من العموم يستفاد غالبا من إطلاق المتعلّق ، فيكون بذلك مندرجا في المطلق دون العام (١) ، ليس كما ينبغي ، لأنّا لو سلّمنا أنّ شيخنا قدس‌سره جعل البدلية من أقسام الاطلاق كما نقله عنه في الطبعة الأولى ، فمراده بذلك هو أنّ البدلية عبارة أخرى عن الاطلاق ، وأنّ الاطلاق تارة يكون بمقتضى الوضع وأخرى يكون من مقدّمات الحكمة ، ولم يجعل غلبة استفادته من الاطلاق الثابت من مقدّمات الحكمة دليلا على كون مطلق العموم البدلي من أقسام الاطلاق الثابت من مقدّمات الحكمة ، كي يتوجّه عليه ما في الحاشية من أنّ العموم البدلي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٥.

٨٨

قد يستفاد من الدليل اللفظي وقد يستفاد من الاطلاق ، وغلبة استفادته من الاطلاق لا توجب جعله من أقسام المطلق ، فراجع وتأمّل.

نعم ، يرد على شيخنا قدس‌سره أنّ هذه المسامحة بعينها جارية في العموم المجموعي ، إذ لا تعدّد فيه ولا عموم ولا شمول ، بل بعد لحاظ مجموع الأفراد موضوعا واحدا ، وإيراد حكم واحد على مجموعها ، يكون حال تلك الأفراد حال أجزاء المركّب ، ولا يكون في البين إلاّ حكم واحد ، ويكون حال العموم المجموعي حال المركّب الارتباطي كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (١).

قوله في الحاشية : الظاهر أنّ نظر شيخنا قدس‌سره في وجه المنع إلى ما ذكره جملة من المحقّقين ... الخ (٢).

ومنهم صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) فإنّه ذكر ذلك في مبحث المطلق والمقيّد. إلاّ أنّه من الواضح أنّه ليس نظر شيخنا في المنع المذكور إلاّ إلى ما صرّح به من أنّ أداة التعريف وأداة الجمع واردان معا على نفس المادّة في عرض واحد ، وهذا هو الذي أوجب بطلان القول بأنّ اللام إشارة إلى تعريف الجمع ، ليكون اللازم تعيّن المرتبة الأخيرة.

قوله في الحاشية المزبورة : وأمّا دعوى كون هيئة الجمع المعرّف باللام موضوعة لافادة العموم ، فهي مدفوعة بأنّ وضع الهيئة لذلك يستلزم أن يكون استعمال الجمع المعرّف باللام في موارد العهد الذكري ... الخ (٤).

كيف يرد النقض المذكور مع فرض كون الدعوى إنّما هي فيما إذا لم يكن

__________________

(١) ستأتي إشارة إلى المطلب في الصفحة : ٩١.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٩٧.

(٣) كفاية الأصول : ٢٤٥.

(٤) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٩٧.

٨٩

في البين عهد كما صرّح به بقوله : بل هي مستندة إلى دلالة هذه الهيئة بنفسها على العموم فيما إذا لم يكن عهد الخ (١). نعم ، ربما يتوجّه على شيخنا قدس‌سره أنّ لازمه هو كون الجمع المعرّف مشتركا لفظيا بين العهد والعموم ، وهو بعيد غايته.

والأولى أن يقال : إنّ هذا الاستظهار ليس المدرك فيه هو الوضع ، بل هو التفاهم العرفي إذا لم تقم قرينة على إرادة جماعة خاصّة وإن لم يكن في البين وضع خاصّ.

قوله : ثمّ لا يخفى أنّه لا منافاة بين ما اخترناه ... الخ (٢).

الظاهر أنّ المنافاة واضحة ، فإنّه بعد الالتزام بأنّ اللام إشارة إلى المرتبة العليا كيف يمكن أن يدّعى الانحلال إلى الأفراد. ولا يمكن إصلاحه بما تضمّنه قوله في الحاشية : لأنّ صيغة الجمع في ظرف الاستعمال وإن كانت مستعملة في معنى واحد باستعمال واحد ، إلاّ أنّ ذلك المعنى إنّما يؤخذ فانيا ومرآة للحاظ الأفراد ، والحكم على كلّ فرد منها بخصوصه الخ ، فإنّه بعد الاعتراف بأنّ موضوع الحكم هو الجمع ، كيف يمكن أن يقال : إنّه لوحظ الجمع مرآة للافراد؟ وهل يمكن لحاظ العنوان مرآة إلاّ إذا كان قابلا للحمل عليه ، والمفروض أنّ الجمع لا يحمل على المفرد.

نعم ، هناك مطلب آخر وهو أنّ نفس صيغة الجمع لا تقتضي المجموعية ، ولأجل ذلك صرّح ابن مالك في شرحه (٣) بأنّ الجمع موضوع للآحاد المجتمعة دالّ عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف ، بخلاف اسم الجمع فإنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ( الهامش ) : ٢٩٨.

(٣) لم نعثر عليه ، لكن هذا المعنى ورد في حاشية الصبان على شرح الاشموني للألفية ١ : ٣٨.

٩٠

موضوع لمجموع الآحاد دال عليها دلالة المفرد على جملة أجزاء مسمّاة ، فصيغة الجمع وإن كانت موضوعة للجماعة إلاّ أنّ دلالتها عليها من قبيل تكرار الآحاد بالعطف ، فلا تكون المجموعية مأخوذة فيها ليكون عمومها عموما مجموعيا. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الجمع لمّا كان موضوعا للآحاد المجتمعة كان الحكم الوارد على تلك الآحاد حكما واحدا وإن أخذت تلك الآحاد بمنزلة تكرار الواحد بالعطف ، وحينئذ يكون العموم فيه مجموعيا أيضا. ولا فرق بينه وبين اسم الجمع من هذه الناحية ـ أعني ناحية كيفية تعلّق الحكم ـ وإن كان بينهما فرق من ناحية نفس الموضوع له ، فتأمّل.

قوله : وبالجملة لو كان مدخول أداة العموم هو الجمع ، بحيث كان مرتبة إفادة الجمع سابقة على مرتبة إفادة العموم ، لكان مفاد الأداة حينئذ هو تعميم الجموع لا الأفراد ، فلا يكون للجمع المعرّف باللام دلالة على العموم المجموعي فضلا عن الاستغراقي (١).

بل يكون العموم في ناحية الجماعات ، وهو غير ما هو المطلوب من عموم الافراد ، فإنّ عموم الجماعات خارج عن العموم الاستغراقي والعموم المجموعي ، فتأمّل.

قوله : بل الأداة وهيئة الجمع كلاهما يردان على المادّة في عرض واحد ، فلا يكون التعميم حينئذ إلاّ بالاضافة إلى كلّ فرد فرد ... الخ (٢).

لكن يبقى الكلام في فائدة الجمع ، فإنّ الشمول لو كان حاصلا من الأداة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٩١

وصار الحاصل هو الشمول لكلّ فرد ، كانت صيغة الجمع حينئذ ملغاة.

وبالجملة : إن كانت الأداة هي للاستغراق كان محتاجا إلى إثبات وضعها للعموم في قبال وضعها لتعريف الجنس أو الآحاد ، وكان ذلك موجبا لالغاء مفاد صيغة الجمع. وإن لم تكن الأداة للعموم ، بل كانت لمحض التعريف كما هو ظاهر المستدلّ ، كان الحكم باستفادة العموم منه بلا دليل. مضافا إلى أنّ العموم للآحادي يوجب إلغاء الجميعية.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مفاد اللام ليس هو إلاّ الاشارة إلى الطبيعة ، لكن المشار إليه وهو الطبيعة تارة يكون مأخوذا من حيث نفسه ، لا من حيث وجوده في ضمن الأفراد ، وحينئذ تكون القضية طبيعية وتكون خارجة عمّا نحن فيه وأخرى تكون مأخوذة من حيث الانطباق على فرد معيّن ، وهي لام العهد الخارجي أو الذهني ، وهي أيضا خارجة عمّا نحن فيه. وتارة تكون مأخوذة من حيث الانطباق على الأفراد من دون تصريح بالجميع أو البعض ، وهي حينئذ إن كانت واردة في مقام البيان حملت على جميع الأفراد ، مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) ، وإن أخذت من حيث الانطباق على جميع الأفراد وجب إيراد المدخول بصيغة الجمع ، لتكون صيغة الجمع إشارة إلى أنّ المراد بتلك الأفراد التي لوحظ انطباق الطبيعة عليها هو تمام الأفراد ، لأنّ ذلك هو مقتضى الجمع بين اللام الدالّة على إرادة الطبيعة من حيث الأفراد ، وبين صيغة الجمع الدالّة على إرادة الجمع من تلك الطبيعة المحمول على أقصى مراتبه ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّه قد جرى متعارف أهل اللسان على أنّهم عند ما يريدون

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٩٢

الاشارة إلى الطبيعة من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد ـ بمعنى كون المراد هو كلّ واحد من الأفراد ـ على أن يوردوا تلك الطبيعة بصيغة الجمع ، فيكون ذلك من قبيل المواضعة فيما بينهم على أنّ الجمع المحلّى باللام يكون للعموم الشمولي.

قوله : إنّ لفظة كلّ مثلا هو الذي وقع موضوعا للحكم. وقوله في الجواب عن هذا الاستدلال : قلت إنّ لفظة كلّ وإن كانت لا تصدق على كلّ واحد واحد ، إلاّ أنّها إنّما تؤخذ في الموضوع مرآة لسراية الحكم إلى كلّ واحد واحد (١).

ملخّص الاستدلال : هو أنّ موضوع الحكم هو كلّ عالم ، وحينئذ يكون ذلك الحكم واردا على مصداق ذلك الموضوع ، وليس مصداق كلّ عالم إلاّ تمام الأفراد ، فيكون الحكم واردا على تمام الأفراد ، وحينئذ يكون العموم مجموعيا ويكون لحاظ الاستقلال والانحلال هو المحتاج إلى عناية زائدة.

وملخّص الجواب : أنّ الاستدلال مشتمل على الخلط بين موضوع الحكم وبين ما هو آلة في تسرية الحكم إلى ما هو مصداق موضوعه ، فإنّ الموضوع إنّما هو طبيعة العالم ، ويكون إيراد لفظ « كلّ » عليه ليكون آلة في تسرية ذلك الحكم إلى كلّ واحد من مصاديقه ، فليس مصداق ذلك الموضوع إلاّ نفس أفراد العالم لا مصداق كلّ عالم ليكون منحصرا في تمام الأفراد ، ليكون الحكم واردا على تمام الأفراد ، فتأمّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٩٣

قوله : وأمّا النكرة في سياق النفي أو النهي فاستفادة السالبة الكلّية منها وإن كانت ممّا لا ينكر ، إلاّ أنّ السلب فيهما أيضا متعلّق بكلّ واحد واحد من الأفراد ، وانتفاء الحكم عن مجموع الأفراد إنّما هو لازم انتفائه عن الجميع ، لا أنّه بنفسه مدلول للكلام (١).

تقدّم في أوائل النواهي أنّ الذي هو المطلوب بالنهي يكون ضدّ ما هو المطلوب بالأمر ، فإنّ المطلوب بالأمر هو إفاضة الوجود على الطبيعة واخراجها من العدم ، ولازم ذلك هو الاكتفاء بأوّل وجودها ، والمطلوب بالنهي هو المنع من إفاضة الوجود عليها وإخراجها عن العدم ، ولازم ذلك هو حصول عصيان ذلك النهي بتمامه بأوّل وجودها ، وسقوط النهي بذلك العصيان ، وعدم التمكّن من إطاعته بعد ذلك لتحقّق المنهي عنه. وهذا المعنى وإن لم يكن من قبيل العام المجموعي اصطلاحا ، إذ ليس في البين أفراد متعدّدة قد تعلّق الطلب بتركها تركا واحدا منبسطا على تمام الأفراد ، إلاّ أنّه مساو للعموم المجموعي في النتيجة ، وهو حصول العصيان بأوّل وجود الطبيعة ، وسقوط النهي بذلك وعدم قابليته للتبعيض بالاطاعة والعصيان.

ولكن تقدّم أيضا أنّ هناك قرينة عامّة توجب كون المطلوب بالنهي هو ترك كلّ واحد من أفراد الطبيعة ، وتلك القرينة العامّة هي المفسدة القائمة بالطبيعة الموجبة لتحقّق المبغوضية بالنسبة إلى كلّ فرد من أفرادها الطولية والعرضية ، وبواسطة تلك القرينة العامّة يكون العموم في باب النواهي عموما افراديا انحلاليا ، فراجع البحث المشار إليه وما علّقناه هناك (٢) وتأمّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) راجع أجود التقريرات ٢ : ١٢٠ وما بعدها ، وراجع أيضا حاشية المصنّف قدس‌سره في المجلّد الرابع من هذا الكتاب الصفحة : ٣ وما بعدها.

٩٤

قوله : الأوّل أنّ العام المخصّص وإن لم يرد منه العموم بالارادة الجدّية ، لكنّه مراد منه بالارادة الاستعمالية دائما ... الخ (١).

لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره قسّم الدلالة إلى ثلاثة أقسام :

الأولى : الدلالة التصوّرية ، وهي عبارة عن مجرّد خطور المعنى بالبال بمجرّد خطور اللفظ ، من جهة الأنس الناشئ عن الوضع أو كثرة الاستعمال.

الثانية : التصديقية ، وهي عبارة عن الدلالة على أنّ المتكلّم أراد بذلك اللفظ ذلك المعنى ، بحيث إنّه يمكن نسبة ذلك المعنى المتحصّل من الكلام إلى المتكلّم بطريق القول ، وهذه هي مركز الظهور.

الثالثة من الدلالة : الدلالة التصديقية أيضا ، وهي في الرتبة بعد الثانية ، ومرجعها إلى الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك المعنى الذي فرضنا نسبته إليه بطريق القول.

وهذه الأخيرة هي مركز حجّية ذلك الظهور ، والقرائن المنفصلة تتصرّف في هذه الدلالة الأخيرة ، وتوجب رفع اليد عن حجّية ذلك الظهور مع بقاء الظهور بحاله ، بخلاف القرائن المتّصلة فإنّها تتصرّف في الدلالة الثانية التي هي مركز الظهور ، فإنّ انضمام تلك القرائن إلى الكلام يوجب سقوط ظهوره في معناه الأصلي ، وعدم صحّة نسبته إليه بطريق القول.

وشيخنا قدس‌سره قد ذكر هذا التفصيل في مقامات كثيرة ، منها في أوائل التعادل والتراجيح في كيفية الجمع بين الخاصّ والعام (٢) ، ومنها في أوائل حجّية الظهور

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٩ ـ ٣٠١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٨٤.

٩٥

من باب الأمارات (١) ، ومنها في باب المطلق والمقيّد كما في الطبعة الجديدة من هذا الكتاب ص ٥٣٠ وفي الطبعة القديمة ص ٤٠٦ (٢) ، فراجع هذه الموارد فإنّه قد تعرّض فيها بنحو أوضح وأصرح وأجلى.

وعلى كلّ حال ، فالظاهر ممّا ذكره المحشي في الحاشية (٣) من الدلالتين التصديقيتين أنّه راجع إلى ما أفاده شيخنا من الدلالتين التصديقيتين المذكورتين ، فالأولى التي جعل عليها المدار في الحقيقة والمجاز هي الأولى من الدلالتين اللتين ذكرهما شيخنا قدس‌سره ، والثانية هي الثانية منهما.

أمّا ما اشتمل عليه الكفاية (٤) من الدلالة القانونية أو الدلالة الاستعمالية ، فإن كان راجعا إلى الدلالة الأولى من هاتين الدلالتين كما هو غير بعيد فنعم الوفاق ، ولا يتوجّه عليه حينئذ ما أورده عليه شيخنا قدس‌سره ، بل يكون ما أفاده في بيان عدم لزوم التجوّز في المخصّص المنفصل هو عين ما أفاده شيخنا قدس‌سره. وكذلك المخصّص المتّصل فإنّ ما أفاده هنا من عدم التجوّز فيه إنّما كان نظره إلى نفس أداة العموم مثل لفظ كلّ ، وأمّا بالنسبة إلى المدخول فلا يكون إلاّ من قبيل التقييد ، الذي صرّح في مبحث المطلق والمقيّد بأنّه لا تجوز فيه بقوله : لإمكان إرادة معنى لفظه منه وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال ... نعم لو أريد من لفظه المعنى المقيّد كان مجازا مطلقا ، كان التقييد بمتّصل أو منفصل (٥).

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٥٥ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٠٠ وما بعدها.

(٤) كفاية الأصول : ٢١٨.

(٥) كفاية الأصول : ٢٤٧.

٩٦

وأنت خبير بأنّ هذا هو عين ما أفاده شيخنا قدس‌سره ، وإلاّ كان اللازم هو بيان تصوّر تلك المرتبة من الدلالة التصديقية ومعقوليتها في قبال الدلالة التصوّرية وفي قبال الدلالتين اللتين ذكرهما شيخنا قدس‌سره للدلالة التصديقية ، هذا كلّه فيما يعود إلى المخصّص المنفصل.

وأمّا المخصّص المتّصل فالذي أظنّ أنّه لا مندوحة لنا في إثبات بقاء اللفظ العام على حقيقته وعدم استعماله في الخاصّ ، إلاّ الدلالة التي نقلها شيخنا قدس‌سره (١) في الدليل الثاني وسمّاها دلالة تمهيدية ، وهي عبارة عن إحضار المعنى العام في ذهن السامع ليورد الحكم على بعض أفراده ، بحيث يكون القيد مثل العادل في قولنا أكرم كلّ عالم عادل ، قرينة على أنّ مورد الحكم بوجوب الاكرام هو خصوص العادل من ذلك المعنى العام الذي أحضره في ذهن السامع.

ولعلّ الكثير من كلمات شيخنا قدس‌سره هنا في بيان عدم التجوّز في المدخول في التخصيص المتّصل ناظر إلى هذه الدلالة التمهيدية ، فإنّ تلك الكلمات لا تنطبق إلاّ عليها ، وإن شئت فلاحظ ما حكاه عنه في الكتاب بقوله : أمّا في المدخول فلأنّه لم يستعمل إلاّ في نفس الطبيعة المهملة التي وضع اللفظ بازائها ، وأمّا القيد فقد استفيد من دالّ آخر من باب تعدّد الدالّ والمدلول في فرض التخصيص بالمتّصل (٢).

ويظهر لك من ذلك أنّ الارادة التمهيدية لا ترجع إلى الوجه الأوّل ، وأنّها مختصّة بخصوص توجيه عدم التجوّز في المخصّص المتّصل ، فلا وجه لما علّقه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٩٧

في الحاشية (١) من رجوع الوجه الثاني إلى الوجه الأوّل واختصاص مورده بخصوص المخصّص المنفصل ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ القائل بهذه الدلالة التمهيدية هو المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس‌سره في غرره ، قال في مقام بيان أنّ العام المخصّص لا يكون مجازا ما هذا لفظه : لأنّ التخصيص إن كان متّصلا فإن كان من قبيل القيود والأوصاف فهو تضييق لدائرة الموضوع ، وإن كان من قبيل الاستثناء فهو إمّا إخراج عن الموضوع قبل الحكم ، وإمّا إخراج عن الحكم ، فيستكشف أنّ شمول العام له من باب التوطئة والإرادة الصورية الانشائية لا الجدّية ، وعلى كلّ حال ، ليس حمل العام على باقي الأفراد تجوّزا فيه ، بل ظهوره انعقد واستقرّ في الباقي من أوّل الأمر. وإن كان التخصيص منفصلا فالظاهر أنّه يكشف عن عدم كون الخاصّ مرادا في اللبّ ، مع استعمال لفظ العام في عمومه في مرحلة الاستعمال بأحد الوجهين اللذين ذكرا في المتّصل (٢).

ولقد كنت قبل هذا أوضحت هذه الارادة التمهيدية بما كنت أتخيّل الانفراد فيه ، ولا بأس بنقل ذلك التحرير بلفظه ، وهو أنّه بعد الفراغ عن عدم وضع للمركّبات على حدة ، وأنّ الوضع إنّما هو للمفردات ، وأنّ المدار في الحقيقة والمجاز على المفردات ، يعني على إعمالها في معانيها دون ما يستفاد من حاصل الجملة ، أنّ لنا في الجمل التركيبية المسوقة للافادة سواء كانت إنشائية أو كانت خبرية مقامين : الأوّل مقام إعمال المفردات في معانيها ، والثاني : مقام الحكم على ما هو مورد الحكم من تلك المفردات. والمقام الأوّل هو الذي يكون مورد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٠٢.

(٢) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٢١٢ ـ ٢١٣.

٩٨

الحقيقة والمجاز ، والمقام الثاني هو الذي يكون موردا للتخصيص أو التقييد. مثلا لو قال المولى أكرم كلّ عالم عادل ، كان كلّ واحد من هذه المفردات مستعملا في حاق معناه الحقيقي ، وإن كان حاصل الجملة هو أنّ المحكوم عليه بوجوب الاكرام هو خصوص من كان عادلا من العلماء دون الفاسق منهم.

وبيان ذلك : أنّ لفظ « كلّ » إنّما هي حقيقة في الشمول لكلّ فرد ممّا هو مورد الحكم ، ومن الواضح أنّها لم تستعمل إلاّ في ذلك المعنى. وأمّا لفظ عالم فإنّما هي حقيقة في من تلبس بالعلم ، وإن شئت فقل : إنّها حقيقة في طبيعة العالم ، ومن الواضح أنّها لم تستعمل إلاّ في تلك الطبيعة ، بمعنى أنّ القائل أكرم كلّ عالم يكون قد أحضر طبيعة العالم في ذهن السامع بواسطة إيراده لهذه اللفظة ، فهو لم يرد بلفظ عالم في قوله : ( أكرم كلّ عالم ) إلاّ تلك الطبيعة ، غايته أنّه بلحاظ إيراد الحكم بوجوب الاكرام عليها لم يورد الحكم المذكور على نفس تلك الطبيعة الصالحة للانقسام إلى العادل والفاسق ، بل إنّما أورد حكمه على خصوص من كان منهم متّصفا بالعدالة. والقرينة على هذا التصرّف الراجع إلى كيفية إيراد الحكم هو توصيفه العالم بالعادل ، فليس توصيفه العالم بالعادل قرينة على أنّ مراده بلفظ العالم حينما ألقاه إلى المخاطب بقوله : ( أكرم كلّ عالم ) هو خصوص العادل من طبيعة العالم ، ليكون موجبا لاستعمال لفظ العالم في خصوص صنف منه ، بل إنّما هي قرينة على أنّ الذي حكم عليه بالاكرام هو خصوص هذا الصنف من طبيعة العالم التي ألقاها إلى السامع بقوله كلّ عالم.

وبالجملة : أنّ لفظ « عالم » لا يستعمل إلاّ في حاق معناه الحقيقي ، وكون الحكم على كلّ فرد منه كما هو مفاد إضافة لفظ « كلّ » إليه ، وأنّ المحكوم عليه من تلك الأفراد هو خصوص هذا الصنف أعني العادل ونحو ذلك من الخصوصيات ،

٩٩

كلّها راجعة إلى بيان كيفية الحكم على طبيعة العالم التي أحضرها للسامع بقوله عالم ، وليس شيء من تلك الخصوصيات راجعا إلى مقام إرادة معنى العالم من لفظ عالم ، ولا يكون شيء منها موجبا لأنّ لفظ العالم استعمل في خصوص المتخصّص بتلك الخصوصية من باب تعدّد الدالّ ووحدة المدلول ، كما يقال إنّ لفظ « يرمي » قرينة على أنّه أراد بالأسد الرجل الشجاع ، ليكون هذا المعنى ـ وهو الرجل الشجاع ـ مستفادا من مجموع اللفظين أعني لفظ أسد ولفظ يرمي.

بل يمكن أن يقال : إنّه لو كان المراد من لفظ « عالم » في قولنا : ( أكرم كلّ عالم عادل ) هو خصوص العادل بحيث كانت لفظة « عالم » مستعملة في هذا المثال في خصوص ذلك الصنف الخاصّ لكان توصيفه بالعادل لغوا. وهكذا الحال في الاستثناء ، إذ لو كان المراد من العالم في قوله : أكرم العالم إلاّ زيدا ـ مثلا ـ هو خصوص من عدا زيد ، لكان قوله : « إلاّ زيدا » لغوا لدخول مفاده تحت لفظ العالم.

ثمّ لا يخفى أنّ قولنا إنّ التوصيف بالعادل إنّما هو مسوق لبيان أنّ المحكوم عليه من طبيعة العالم هو خصوص العادل ، ليس راجعا إلى دعوى أنّ التوصيف قبل الحكم ، أو أنّ استثناء الفاسق إخراج من العالم قبل الحكم ، بل مرادنا إنّما هو أنّ هذه الخصوصيات من توصيف أو استثناء أو غير ذلك كلّها راجعة إلى الطبيعة المحكوم عليها ، لكنّها لاحقة لها في مقام الحكم عليها ، فلا يكون التوصيف إلاّ باعتبار الحكم ، ولا يكون الاستثناء إلاّ من الحكم.

وإن شئت فقل : إنّ هيئة التوصيف توجب قصر الحكم على موردها ، بمعنى أنّها آلة تقصر الحكم على موردها. وهكذا الحال في أداة الاستثناء فإنّها توجب عدم سراية الحكم إلى مدخولها ، وقولنا مسوقة لبيان كذا ، لا يخلو من

١٠٠