محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

التصور إلى الواقع الموضوعي.

وأمّا النحو الثاني ، فهو واقع كثيراً في الخارج ، حيث إنّ أغلب العبادات الواقعة في الشريعة المقدّسة الاسلامية من هذا النحو ، منها الصلاة مثلاً ، فانّ أجزاءها بأجمعها أجزاء عبادية. وأمّا شرائطها فجملة كثيرة منها غير عبادية ، وذلك كطهارة البدن والثياب واستقبال القبلة وما شاكل ذلك ، فانّها رغم كونها شرائط للصلاة تكون توصلية وتسقط عن المكلف بدون قصد التقرب. نعم ، الطهارات الثلاث خاصّة تعبدية فلا تصح بدونه.

وأضف إلى ذلك : أنّ تقييد الصلاة بتلك القيود أيضاً لا يكون عبادياً ، فلو صلّى المكلف غافلاً عن طهارة ثوبه أو بدنه ثمّ انكشف كونه طاهراً صحّت صلاته مع أنّ المكلف غير قاصد للتقيد فضلاً عن قصد التقرب به ، فلو كان أمراً عبادياً لوقع فاسداً ، لانتفاء القربة به ، بل الأمر في التقيد بالطهارات الثلاث أيضاً كذلك ، ومن هنا لو صلّى غافلاً عن الطهارة الحدثية ثمّ بان أنّه كان واجداً لها صحّت صلاته ، مع أنّه غير قاصد لتقيدها بها فضلاً عن إتيانه بقصد القربة ، هذا ظاهر.

وأمّا النحو الثالث ، وهو ما يكون بعض أجزائه تعبدياً وبعضها الآخر توصلياً ، فهو أمر ممكن في نفسه ولا مانع منه ، إلاّ أنّا لم نجد لذلك مصداقاً في الواجبات التعبدية الأوّلية كالصلاة والصوم وما شاكلهما ، حيث إنّها واجبات تعبدية بكافّة أجزائها.

ولكن يمكن فرض وجوده في الواجبات العرضية ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ واحداً مثلاً نذر بصيغة شرعية الصلاة مع إعطاء درهم لفقير على نحو العموم المجموعي بحيث يكون المجموع بما هو المجموع واجباً ، وكان كل منهما جزء الواجب ، فعندئذ بطبيعة الحال يكون مثل هذا الواجب مركباً من جزأين :

أحدهما تعبدي وهو الصلاة. وثانيهما توصلي وهو إعطاء الدرهم. وكذلك يمكن

٥٢١

وجوب مثل هذا المركب بعهد أو يمين أو شرط في ضمن عقد أو نحو ذلك.

فالنتيجة : أنّه لا مانع من الالتزام بهذا القسم من الواجب التعبدي إذا ساعدنا الدليل عليه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الأمر المتعلق بالمركب من عدّة امور فبطبيعة الحال ينحل بحسب التحليل إلى الأمر بأجزائه وينبسط على المجموع ، فيكون كل جزء منه متعلقاً لأمر ضمني ومأموراً به بذلك الأمر الضمني ، مثلاً الأمر المتعلق بالصلاة ينحل بحسب الواقع إلى الأمر بكل جزء منها ويكون لكل منها حصّة منه المعبّر عنها بالأمر الضمني ، ومردّ ذلك إلى انحلال الأمر الاستقلالي إلى عدّة أوامر ضمنية حسب تعدد الأجزاء.

ولكن هذا الأمر الضمني الثابت للأجزاء لم يثبت لها على نحو الاطلاق ، مثلاً الأمر الضمني المتعلق بالتكبيرة لم يتعلق بها على نحو الاطلاق ، بل تعلّق بحصّة خاصّة منها وهي ما كانت ملحوقة بالقراءة ، وكذا الأمر الضمني المتعلق بالقراءة فانّه إنّما تعلّق بحصّة خاصّة منها وهي ما كانت ملحوقة بالركوع ومسبوقة بالتكبيرة ، وكذلك الحال في الركوع والسجود ونحوهما.

وعلى ضوء ذلك يترتب أنّ المكلف لا يتمكن من الاتيان بالتكبيرة مثلاً بقصد أمرها بدون قصد الاتيان بالأجزاء الباقية ، كما لا يتمكن من الاتيان بركعة مثلاً بدون قصد الاتيان ببقية الركعات ، وإن شئت قلت : إنّ الأمر الضمني المتعلق بالأجزاء يتشعب من الأمر بالكل ، وليس أمراً مستقلاً في مقابله ، ولذا لا يعقل بقاؤه مع انتفائه. ومن المعلوم أنّ الأمر المتعلق بالكل يدعو المكلف إلى الاتيان بجميع الأجزاء ، لا إلى الاتيان بجزء منها مطلقاً ولو لم يأت بالأجزاء الباقية ، هذا إذا كان الواجب مركباً من جزأين أو أزيد وكان كل جزءٍ أجنبياً عن غيره وجوداً وفي عرض الآخر.

٥٢٢

وأمّا إذا كان الواجب مركباً من الفعل الخارجي وقصد أمره الضمني ، كالتكبيرة مثلاً إذا افترضنا أنّ الشارع أمر بها مع قصد أمرها الضمني ، فلا إشكال في تحقق الواجب بكلا جزأيه وسقوط أمره إذا أتى المكلف به بقصد أمره كذلك ، أمّا الفعل الخارجي فواضح ، لفرض أنّ المكلف أتى به بقصد الامتثال ، وأمّا قصد الأمر فأيضاً كذلك ، لأنّ تحققه وسقوط أمره لا يحتاج إلى قصد امتثاله ، لفرض أنّه توصلي.

وبكلمة اخرى : أنّ الواجب في مثل الفرض مركب من جزء خارجي وجزء ذهني وهو قصد الأمر ، وقد تقدّم أنّ الأمر المتعلق بالمركب ينحل إلى الأمر بكل جزء جزء منه ، وعليه فكل من الجزء الخارجي والجزء الذهني متعلق للأمر الضمني ، غايته أنّ الأمر الضمني المتعلق بالجزء الخارجي تعبدي فيحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله ، والأمر الضمني المتعلق بالجزء الذهني توصلي فلا يحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد سبق أنّه لا محذور في أن يكون الواجب مركباً من جزء تعبدي وجزء توصلي.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا مانع من أن يكون مثل الصلاة أو ما شاكلها مركباً من هذه الأجزاء الخارجية مع قصد أمرها الضمني ، وعليه فبطبيعة الحال الأمر المتعلق بها ينحل إلى الأمر بتلك الأجزاء وبقصد أمرها كذلك ، فيكون كل منها متعلقاً لأمر ضمني ، فعندئذ إذا أتى المكلف بها بقصد أمرها الضمني فقد تحقق الواجب وسقط. وقد عرفت أنّ الأمر الضمني المتعلق بقصد الأمر توصلي فلا يتوقف سقوطه على الاتيان به بقصد امتثال أمره.

ومن هنا يفترق هذا الجزء وهو قصد الأمر عن غيره من الأجزاء الخارجية ،

٥٢٣

فانّ قصد الأمر الضمني في المقام محقق لتمامية المركب فلا حالة منتظرة له بعد ذلك ، وهذا بخلاف غيره من الأجزاء الخارجية فانّه لا يمكن الاتيان بجزء بقصد أمره إلاّمع قصد الاتيان ببقية أجزاء المركب أيضاً بداعي امتثال أمره. مثلاً لا يمكن الاتيان بالتكبيرة بقصد أمرها إلاّمع قصد الاتيان ببقية أجزاء الصلاة أيضاً بداعي امتثال أمرها ، وإلاّ لكان الاتيان بها كذلك تشريعاً محرّماً ، لفرض عدم الأمر بها إلاّمرتبطة ببقية الأجزاء ثبوتاً وسقوطاً.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ توهم استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه يقوم على أساس أحد أمرين :

الأوّل : أخذ الأمر مفروض الوجود في مقام الجعل والانشاء ، ولكن قد تقدّم نقده بشكل موسّع.

الثاني : أن يكون المأخوذ في متعلقه قصد الأمر الاستقلالي ، بمعنى أن يكون الواجب مركباً من الفعل الخارجي وقصد الأمر كذلك ، وهذا غير معقول ، وذلك لأنّ الفعل الخارجي مع فرض كونه جزء الواجب لا يعقل له الأمر الاستقلالي ، ليكون الأمر متعلقاً به مع قصد ذاك الأمر له ، ضرورة أنّ الأمر المتعلق به في هذا الفرض لا يمكن إلاّ الأمر الضمني ، ففرض الأمر الاستقلالي له خلف ، يعني يلزم من فرض تركب الواجب عدمه. ولكن قد عرفت ممّا ذكرناه أنّه لا واقع موضوعي لهذا التوهم أصلاً ، حيث إنّ المأخوذ في متعلقه على ما بينّاه هو قصد الأمر الضمني المتعلق به ، ولا مانع من أن يكون الواجب مركباً منهما ، غاية ما يمكن أن يقال إنّ لازم ذلك هو أن يكون أحد الأمرين الضمنيين متأخراً عن الآخر رتبة ، فانّ الأمر الضمني المتعلق بالفعل المزبور مقدّم رتبةً عن الأمر الضمني المتعلق بقصده ، وهذا لا محذور فيه أصلاً بعد القول بالانحلال.

٥٢٤

وعلى ضوء هذا الأساس يظهر اندفاع جميع الوجوه المتقدمة :

أمّا الوجه الأوّل : فهو يبتني على أن يكون المأخوذ في متعلق الأمر هو قصد الأمر الاستقلالي ، وأمّا إذا كان المأخوذ فيه هو قصد الأمر الضمني كما هو الصحيح فلا يلزم المحذور المزبور ، وذلك لأنّ قصد الأمر الضمني في كل جزء إنّما هو متأخر عن هذا الجزء لا عن جميع الأجزاء والشرائط ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد تقدّم في مبحث الصحيح والأعم (١) أنّه لا مانع من أن يكون الواجب مركباً من جزأين طوليين ، ومن لحاظهما شيئاً واحداً وجعلهما متعلقاً لأمر واحد ، وما نحن فيه من هذا القبيل. فالنتيجة أنّ هذا الوجه ساقط على ضوء ما قدّمناه.

وأمّا الوجه الثاني : فهو أيضاً يقوم على أساس أن يكون المأخوذ في متعلق الأمر كالصلاة مثلاً هو قصد الأمر النفسي الاستقلالي ، فعندئذ لايتمكّن المكلف من الاتيان بها واجدة لتمام الأجزاء والشرائط منها قصد الأمر الاستقلالي إلاّ تشريعاً حيث لا أمر بها كذلك لفرض أنّها جزء الواجب والأمر المتعلق بالجزء لا يعقل أن يكون أمراً استقلالياً وإلاّ لزم الخلف ، بل لا بدّ أن يكون أمراً ضمنياً. وأمّا إذا افترضنا أنّ المأخوذ فيه هو قصد الأمر الضمني فلا يلزم ذلك المحذور ، لتمكن المكلف وقتئذ من الاتيان بالصلاة مع قصد أمرها الضمني ، وبذلك يتحقق المركب بكلا جزأيه.

وبكلمة اخرى : أنّ المكلف وإن لم يتمكن من الاتيان بها بداعي أمرها قبل إنشائه وفي ظرفه ، إلاّ أنّه متمكن منه كذلك في ظرف الامتثال ، وقد أشرنا أنّ المعتبر في باب التكاليف إنّما هو القدرة على امتثالها في هذا الظرف دون ظرف

__________________

(١) في ص ١٥٧.

٥٢٥

الانشاء ، فلو افترضنا أنّ المكلف غير متمكن في ظرف الانشاء ، ولكنّه متمكن في ظرف الامتثال صحّ تكليفه.

فالنتيجة : أنّ التشريع يقوم على أساس أن يكون المأخوذ في المتعلق هو داعوية الأمر النفسي الاستقلالي. وعدم القدرة يقوم على أساس أن يكون المعتبر هو القدرة على متعلقات الأحكام من حين الأمر ، وقد عرفت أنّه لا واقع موضوعي لكلا الأمرين. فإذن لا يلزم من أخذه في المتعلق [ شيء ] من المحذورين المزبورين كما هو واضح.

وأمّا الوجه الثالث : فلأ نّه أيضاً مبتنٍ على أن يكون المأخوذ في المتعلق هو قصد الأمر النفسي الاستقلالي ، فعندئذ بطبيعة الحال يلزم من فرض وجوده عدمه ، وذلك لأنّ معنى أخذ داعوية الأمر بالصلاة في متعلقه هو أنّ الصلاة جزء الواجب ، فإذا كانت جزء الواجب فلا محالة الأمر المتعلق بها ضمني لا استقلالي ، فإذن يلزم من وجوده عدمه وهو محال ، ولكن قد عرفت أنّ المأخوذ فيه إنّما هو قصد الأمر الضمني ، وعليه فلا موضوع لهذا الوجه كما هو واضح.

وأمّا الوجه الرابع : فلأ نّه يقوم على أساس أن يكون ما اخذ داعويته في متعلق الأمر كالصلاة مثلاً عين ما يدعو إليه ، فعندئذ بطبيعة الحال يلزم داعوية الأمر لداعوية نفسه.

ولكن قد ظهر من ضوء ما حققناه أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ المأخوذ في المتعلق إنّما هو داعوية الأمر الضمني ، وما يدعو إلى داعويته إنّما هو أمر ضمني آخر ، ومن الطبيعي أنّه لا مانع من أن يكون أحد أمرين متعلقاً لأمر آخر ويدعو إلى داعويته ، بداهة أنّه لا يلزم من ذلك داعوية الأمر لداعوية نفسه ، بيان ذلك : أنّ الأمر المتعلق بالصلاة مثلاً مع داعوية أمرها الضمني بطبيعة الحال ينحل ذلك الأمر إلى أمرين ضمنيين : أحدهما متعلق بذات الصلاة. والآخر متعلق

٥٢٦

بداعوية هذا الأمر ، يعني الأمر المتعلق بذات الصلاة ، ولا محذور في أن يكون الأمر الضمني يدعو إلى داعوية الأمر الضمني الآخر ، كما أنّه لا مانع من أن يكون الأمر النفسي الاستقلالي يدعو إلى داعوية الأمر النفسي الآخر كذلك. نعم ، لو كان المأخوذ فيه الأمر النفسي الاستقلالي لزم داعوية الأمر لداعوية نفسه.

قد انتهينا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة : وهي أنّه لا محذور في أخذ داعوية الأمر الضمني في متعلق الأمر النفسي الاستقلالي.

لا من ناحية التشريع لابتنائه على عدم الأمر بذات الفعل الخارجي كالصلاة مثلاً ، ولكن قد عرفت خلافه وأنّ الأمر الاستقلالي بها وإن كان منتفياً إلاّ أنّ الأمر الضمني موجود.

ولا من ناحية عدم القدرة لابتنائه على اعتبار القدرة على متعلقات التكاليف من حين الأمر وقد عرفت نقده. ولا من ناحية الخلف ، لابتنائه على أن يكون المأخوذ فيه داعوية الأمر الاستقلالي ولكن قد سبق خلافه.

ولا من ناحية داعوية الأمر لداعوية نفسه ، لابتنائه على أن يكون الأمر المتعلق بالصلاة مع داعوية أمرها عين ذلك الأمر ، ولكن قد مرّ خلافه وأنّ الأمر المتعلق بالمجموع حيث إنّه ينحل إلى أمرين ضمنيين فلا مانع من أن يكون أحد الأمرين متعلقاً للآخر ، ولا يلزم من ذلك المحذور المذكور.

وإن شئت قلت : إنّ هذا المركب يمتاز عن بقية المركبات في نقطتين :

الاولى : أنّ الاتيان بجزء في بقية المركبات لا يمكن بداعي أمره الضمني إلاّ في ضمن الاتيان بالمجموع وإلاّ لكان تشريعاً محرّماً. وأمّا الاتيان به في هذا المركب بقصد أمره الضمني فلا مانع منه ، بل هو موجب لسقوط الأمر عنه ، لفرض أنّ المركب تحقق به بكلا جزأيه ، ولا يتوقف تحقق جزئه الآخر ـ وهو قصد الأمر ـ على قصد امتثال أمره ، لما عرفت من أنّ الأمر المتعلق به توصلي

٥٢٧

ولا معنى لكونه تعبدياً.

الثانية : أنّ الأوامر الضمنية في بقية المركبات أوامر عرضية فلا يكون شيء منها في طول الآخر ، وأمّا في هذا المركب فهي أوامر طولية ، فانّ الأمر الضمني المتعلق بذات الصلاة مثلاً في مرتبة متقدمة بالاضافة إلى الأمر الضمني المتعلق به ، وهو في طوله وفي مرتبة متأخرة عنه ، ولذا جعله داعياً إلى الصلاة.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّه لا مانع من أخذ قصد الأمر في متعلقه في مقام الثبوت. وأمّا في مقام الاثبات فان كان هنا دليل يدلّنا على أخذه فيه فهو وإلاّ فمقتضى الاطلاق عدم أخذه وكون الواجب توصلياً.

فالنتيجة في نهاية الشوط : عدم تمامية الدعوى الاولى وهي استحالة تقييد الواجب بقصد أمره.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، فالكلام فيها يقع في موردين :

الأوّل : أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد هل هو من تقابل العدم والملكة أو من تقابل التضاد؟

الثاني : على فرض أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، فهل استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق أم لا؟

أمّا المورد الأوّل : فقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وفرّع على ذلك أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق وبالعكس. ومن هنا فرّق قدس‌سره بين الحالات والانقسامات

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٦.

٥٢٨

الأوّلية التي تعرض على الموضوع أو المتعلق ، وبين الحالات والانقسامات الثانوية التي تعرض عليه بملاحظة تعلّق الحكم به وقال : إنّ الاطلاق والتقييد إنّما يتصوران بالاضافة إلى الانقسامات والقيود الأوّلية ، ولا يتصوران بالاضافة إلى الانقسامات والقيود الثانوية ، حيث إنّ التقييد بها مستحيل ، فإذا استحال التقييد استحال الاطلاق أيضاً. ومن تلك القيود الثانوية قصد الأمر ، وحيث إنّ تقييد الواجب به مستحيل فاطلاقه كذلك.

ولكن الصحيح هو التفصيل بين مقامي الاثبات والثبوت.

أمّا في مقام الاثبات ، فلا ينبغي الشك في أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، وذلك لأنّ الاطلاق في هذا المقام عبارة عن عدم التقييد بالاضافة إلى ما هو قابل له ، كما إذا فرض أنّ المتكلم في مقام البيان وهو متمكن من الاتيان بالقيد ومع ذلك لم يأت به فعندئذ تحقق إطلاق لكلامه ، ومن الطبيعي أنّ مردّ هذا الاطلاق

ليس إلاّ إلى عدم بيان المتكلم القيد ، فالاطلاق في هذا المقام ليس أمراً وجودياً ، بل هو أمر عدمي.

وهذا بخلاف التقييد ، فانّه أمر وجودي وعبارة عن خصوصية زائدة في الموضوع أو المتعلق. وعلى الجملة : فالمتكلم إذا كان في مقام البيان فان نصب قرينةً على اعتبار خصوصية زائدة فيه فلا إطلاق لكلامه من هذه الناحية ، وإن لم ينصب قرينةً على اعتبارها فله إطلاق ولا مانع من التمسك به. ومنه يستكشف الاطلاق في مقام الثبوت ، ومن الواضح أنّ الاطلاق بهذا المعنى أمر عدمي ، كما أنّ التقييد المقابل له أمر وجودي.

فالنتيجة : أنّ استحالة التقييد في هذا المقام تستلزم استحالة الاطلاق وبالعكس.

٥٢٩

وأمّا في مقام الثبوت ، فالصحيح أنّ المقابلة بينهما مقابلة الضدّين لا العدم والمَلكة ، وذلك لأنّ الاطلاق في هذا المقام عبارة عن رفض القيود والخصوصيات ولحاظ عدم دخل شيء منها في الموضوع أو المتعلق ، والتقييد عبارة عن لحاظ دخل خصوصية من الخصوصيات في الموضوع أو المتعلق ، ومن الطبيعي أنّ كلاً من الاطلاق والتقييد بهذا المعنى أمر وجودي.

بيان ذلك : أنّ الخصوصيات والانقسامات الطارئة على الموضوع أو المتعلق ـ سواء أكانت تلك الخصوصيات من الخصوصيات النوعية أو الصنفية أو الشخصية ـ فلا تخلو من أن يكون لها دخل في الحكم والغرض أو لا يكون لها دخل فيه أصلاً ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل بطبيعة الحال يتصور المولى الموضوع أو المتعلق مع تلك الخصوصية التي لها دخل فيه ، وهذا هو معنى التقييد. وعلى الثاني فلا محالة يتصور الموضوع أو المتعلق مع لحاظ عدم خصوصية من هذه الخصوصيات ورفضها تماماً ، وهذا هو معنى الاطلاق ، ومن الطبيعي أنّ النسبة بين اللحاظ الأوّل واللحاظ الثاني نسبة التضاد ، فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد من جهة واحدة.

وإن شئت فقل : إنّ الغرض لا يخلو من أن يقوم بالطبيعي الجامع بين كافّة خصوصياته ، أو يقوم بحصّة خاصّة منه ولا ثالث بينهما ، فعلى الأوّل لا بدّ من لحاظه على نحو الاطلاق والسريان رافضاً عنه جميع القيود والخصوصيات الطارئة عليه أثناء وجوده وتخصصه. وعلى الثاني لا بدّ من لحاظ تلك الحصّة الخاصّة ولا يعقل لهما ثالث ، فانّ مردّ الثالث ـ وهو لحاظه بلا رفض الخصوصيات وبلا لحاظ خصوصية خاصّة ـ إلى الاهمال في الواقعيات ، ومن الطبيعي أنّ الاهمال فيها من المولى الملتفت مستحيل ، وعليه فالموضوع أو المتعلق في الواقع إمّا مطلق أو مقيّد ، هذا من ناحية.

٥٣٠

ومن ناحية اخرى : أنّ الاطلاق والتقييد على ضوء هذا البيان أمران وجوديان ، فإذن بطبيعة الحال كانت العلاقة بينهما علاقة الضدّين.

وأمّا المورد الثاني : وهو ما إذا سلّمنا أنّ المقابلة بين الاطلاق والتقييد مقابلة العدم والملكة لا الضدّين ، وافترضنا أنّ التقييد في محل الكلام مستحيل لتمامية الوجوه المتقدمة أو بعضها ، فهل تستلزم استحالة التقييد استحالة الاطلاق أم لا؟ قولان.

قد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) القول الأوّل بدعوى أنّ لازم كون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، اعتبار كون المورد قابلاً للتقييد ، فما لم يكن قابلاً له لم يكن قابلاً للاطلاق أيضاً.

ولكن الصحيح هو أنّ استحالة التقييد بشيء في مرحلة الثبوت تستلزم ضرورة الاطلاق فيها أو ضرورة التقييد بخلافه. فلنا دعويان :

الاولى : بطلان ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

الثانية : صحّة ما قلناه.

أمّا الدعوى الاولى : فهي خاطئة نقضاً وحلاً.

أمّا نقضاً فبعدّة موارد :

منها : أنّ الانسان جاهل بحقيقة ذات الواجب تعالى ولايتمكن من الاحاطة بكنه ذاته سبحانه حتّى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب ، فإذا كان علم الانسان بذاته تعالى مستحيلاً لكان جهله بها ضرورياً مع أنّ التقابل بين الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة ، فلو كانت

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٦.

٥٣١

استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر لزم استحالة الجهل في مفروض المقام ، مع أنّه ضروري وجداناً.

ومنها : أنّ الانسان يستحيل أن يكون قادراً على الطيران في السماء مع أنّ عجزه عنه ضروري وليس بمستحيل ، فلو كانت استحالة أحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر لكانت استحالة القدرة في مفروض المثال تستلزم استحالة العجز ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

ومنها : أنّ كل أحد يستطيع مثلاً حفظ صفحة أو أكثر من أيّ كتاب شاء وأراد ، ولكنّه لايستطيع حفظ جميع الكتب بشتّى أنواعها وفنونها ، بل لايستطيع حفظ مجلّدات البحار مثلاً أجمع ، وهذا لا يستلزم خروجه عن القابلية بتاتاً ، وأ نّه لايستطيع حفظ صفحة واحدة أيضاً ببيان أنّ استحالة أحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر ، بداهة أنّ استطاعته لحفظ صفحة واحدة ضرورية.

وأمّا حلاً : فلأنّ قابلية المحل المعتبرة في التقابل المذكور لا يلزم أن تكون شخصية في جزئيات مواردها ، بل يجوز أن تكون صنفية أو نوعية أو جنسية ، ومن هنا ذكر الفلاسفة (١) أنّ القابلية المعتبرة بين الأعدام والملكات ليست القابلية الشخصية بخصوصها في كل مورد ، بل الأعم منها ومن القابلية الصنفية والنوعية والجنسية حسب اختلاف الموارد والمقامات ، فلا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكة على موردٍ أن يكون ذلك المورد بخصوصه قابلاً للاتصاف بالوجود أي الملكة ، بل كما يكفي ذلك يكفي في صدقه عليه أن يكون صنف هذا الفرد أو نوعه أو جنسه قابلاً للاتصاف بالوجود وإن لم يكن شخص هذا الفرد

__________________

(١) الأسفار ٢ : ١١٦.

٥٣٢

قابلاً للاتصاف به.

ويتّضح ذلك ببيان الأمثلة المتقدمة ، فانّ الانسان قابل للاتصاف بالعلم والمعرفة ، ولكن قد يستحيل اتصافه به في خصوص موردٍ لأجل خصوصية فيه ، وذلك كالعلم بذات الواجب تعالى حيث يستحيل اتصاف الانسان به مع أنّ صدق العدم ـ وهو الجهل ـ عليه ضروري ، ومن الطبيعي أنّ هذا ليس إلاّ من ناحية أنّ القابلية المعتبرة في الأعدام والملكات ليست خصوص القابلية الشخصية.

وكذلك الحال في المثال الثاني ، فانّ اتصاف الانسان بالعجز عن الطيران إلى السماء بلحاظ قابليته في نفسه للاتصاف بالقدرة ، لا بلحاظ إمكان اتصافه بها في خصوص هذا المورد ، وقد عرفت أنّه يكفي في صدق العدم القابلية النوعية ، وهي موجودة في مفروض المثال.

وهكذا الحال في المثال الثالث ، فانّ استطاعة كل أحد لحفظ صفحة أو أكثر وعدم استطاعته لحفظ جميع مجلّدات البحار مثلاً لايوجب خروجه عن القابلية النوعية أو الجنسية.

وقد تحصّل من ذلك بوضوح : أنّه لا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكة على موردٍ قابلية ذلك المورد بشخصه للاتصاف بتلك الملكة ، بل يكفي في ذلك قابلية صنفه أو نوعه أو جنسه للاتصاف بها.

فالنتيجة : انّه لا ملازمة بين الأعدام والملكات في الامكان والاستحالة.

ولعل ما أوقع شيخنا الاستاذ قدس‌سره في هذا الوهم ما هو المشهور في الألسنة من اعتبار قابلية المحل للوجود في التقابل المزبور ، ومن هنا لا يصح إطلاق العمى على الجدار مثلاً لعدم كونه قابلاً للاتصاف بالبصر ، وكذا لا يصح إطلاق الجاهل أو العاجز عليه ، لعدم القابلية الشخصية في تمام جزئيات

٥٣٣

مواردها.

ولكن قد عرفت خلافه. وأمّا عدم صحّة الاطلاق في هذه الأمثلة من ناحية فقدان القابلية بتمام أشكالها.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّ استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه ، فلأنّ الاهمال في الواقعيات مستحيل ، وذلك لأنّ الغرض الداعي إلى جعل الحكم واعتباره لا يخلو من أن يقوم بالطبيعي الجامع بين خصوصيّاته من دون مدخلية شيء منها فيه ، أو يقوم بحصّة خاصّة منه ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل لا محالة يلاحظه المولى في مقام جعل الحكم واعتباره على نحو الاطلاق. وعلى الثاني لا محالة يلاحظ تلك الحصّة الخاصّة منه فحسب ، وعلى كلا التقديرين فالاهمال في الواقع غير معقول فالحكم على الأوّل مطلق ، وعلى الثاني مقيّد.

ولا فرق في ذلك بين الانقسامات الأوّلية والثانوية ، بداهة أنّ المولى الملتفت إلى انقسام الصلاة مع قصد الأمر وبدونه خارجاً وفي الواقع ، بطبيعة الحال إمّا أن يعتبرها في ذمّة المكلف على نحو الاطلاق ، أو يعتبرها مقيّدةً بقصد الأمر أو مقيّدةً بعدم قصده ، ولا يتصور رابع ، لأنّ مردّ الرابع إلى الاهمال بالاضافة إلى هذه الخصوصيات وهو غير معقول ، كيف حيث إنّ مرجعه إلى عدم علم المولى بمتعلق حكمه أو موضوعه من حيث السعة والضيق وتردّده في ذلك ، ومن الطبيعي أنّ تردّده فيه يستلزم تردّده في نفس حكمه وهو من الحاكم غير معقول ، وعندئذ إذا افترضنا استحالة تقييدها بقصد الأمر فبطبيعة الحال تعيّن أحد الأمرين الآخرين هما : الاطلاق أو التقييد بخلافه ، وإذا فرضنا أنّ التقييد بخلافه أيضاً مستحيل كما هو كذلك ، حيث إنّ الغرض من الأمر هو كونه داعياً فلا معنى لتقييد المأمور به بعدم كونه داعياً ، فلا محالة يتعيّن الاطلاق.

٥٣٤

وعلى الجملة : فلازم ما أفاده قدس‌سره ـ من أنّ استحالة التقييد في موردٍ تستلزم استحالة الاطلاق فيه ـ إهمال الواقع وأ نّه لا يكون مقيداً به ولا يكون مطلقاً ، وقد عرفت أنّ مرجع هذا إلى عدم علم الحاكم بحدود موضوع حكمه أو متعلقه من حيث السعة والضيق وهو غير معقول ، وعليه حيث استحال تقييد المأمور به كالصلاة مثلاً بقصد الأمر على مختاره قدس‌سره للوجوه المتقدمة من ناحية ، واستحال تقييده بعدم قصده من ناحية اخرى حيث إنّه على خلاف الغرض من الأمر ، فالاطلاق ضروري يعني أنّ المأمور به هو الطبيعي الجامع بلا دخل لقصد الأمر فيه وجوداً وعدماً.

ولا فرق في ذلك بين قيود الموضوع وقيود المتعلق ، وكذا لا فرق بين القيودات الأوّلية والقيودات الثانوية ، ضرورة أنّ الاهمال كما لا يعقل بالاضافة إلى القيودات الأوّلية كذلك لا يعقل بالاضافة إلى القيودات الثانوية ، فانّ الحكم المجعول من قبل المولى الملتفت إلى تلك القيودات لا يخلو من أن يكون مطلقاً باطلاق موضوعه أو متعلقه بالاضافة إليها ، يعني لا دخل لشيء منها فيه ، أو يكون مقيداً بها ولا ثالث في البين ، وعليه فإذا افترضنا استحالة التقييد بقيدٍ فلا محالة أحد الأمرين ضروري : إمّا الاطلاق أو التقييد بغيره ، لاستحالة الاهمال في الواقع.

وإلى ذلك أشار شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره بقوله : من أنّه إذا استحال التقييد وجب الاطلاق (١).

نعم ، الاهمال في مقام الاثبات والدلالة أمر معقول ، وذلك لأنّ المولى إذا كان في مقام البيان فان نصب قرينةً على التقييد دلّ كلامه على ذلك ، وإن لم

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٦٠.

٥٣٥

ينصب قرينةً على ذلك دلّ على الاطلاق. وأمّا إذا لم يكن في مقام البيان وكان في مقام الاهمال والاجمال ، إمّا لأجل مصلحة فيه أو لوجود مانع ، لم يدل كلامه لا على الاطلاق ولا على التقييد وأصبح مهملاً ، فلا يمكن التمسك به.

ولعل من هذا القبيل قوله تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (١) فانّ الآية الكريمة تشير إلى وجوب القصر عند تحقق الضرب في الأرض ، ولكنّها أهملت التعرض لمقدار الضرب وتحديده بحدوده الخاصّة ، فتكون مهملةً من هذه الناحية فلا يمكن التمسك باطلاقها.

وأمثلة ذلك كثيرة في الآيات والروايات ، إلاّ أنّ الاطلاق والتقييد في مقام الاثبات خارج عن محل البحث هنا ، حيث إنّه في الاطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت والواقع كما عرفت.

وقد تحصّل من ذلك عدّة نقاط :

الاولى : أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل الضدّين لا العدم والملكة كما اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

الثانية : أنّنا لو افترضنا أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا التضاد ، إلاّ أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق خاطئ ، وذلك لأنّها تقوم على أساس اعتبار القابلية الشخصية في العدم والملكة ، ولكن قد عرفت أنّ القابلية المعتبرة أعم من أن تكون شخصية أو صنفية أو نوعية أو جنسية.

الثالثة : أنّ استحالة التقييد بشيء تستلزم ضرورة الاطلاق أو التقييد بغيره ، لاستحالة الاهمال في الواقع. هذا تمام الكلام في إمكان أخذ قصد الأمر

__________________

(١) النساء ٤ : ١٠١.

٥٣٦

في متعلقه وعدم امكانه.

يبقى الكلام في بقية الدواعي القربية كقصد المحبوبية أو قصد المصلحة أو الاتيان بالعبادة بداعي أنّ الله ( سبحانه وتعالى ) أهلاً لها ، أو غير ذلك ، فهل يمكن اعتبار تلك الدواعي في متعلق الأمر أم لا؟ وعلى تقدير الامكان فهل يجوز التمسك بالاطلاق لاثبات عدم اعتبارها أو لا يجوز؟

فالبحث هنا يقع في مقامين :

الأوّل : في إمكان أخذها في متعلق الأمر وعدم إمكانه.

الثاني : في جواز التمسك بالاطلاق وعدم جوازه.

أمّا المقام الأوّل : فذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى أنّ أخذ تلك الدواعي في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الامكان ، إلاّ أنّا نعلم قطعاً بعدم أخذها في العبادات ، وذلك لأنّ تلك الدواعي لو كانت مأخوذة في متعلق الأمر لم تصحّ العبادة بدون قصدها وإن كان قاصداً لامتثال الأمر ، مع أنّه لا شبهة في صحّتها إذا اتي بها بداعي أمرها من دون الالتفات إلى أحد هذه الدواعي فضلاً عن قصدها ، وهذا كاشف قطعي عن عدم اعتبارها. فالنتيجة أنّ الدواعي القربية بكافّة أصنافها لم تؤخذ في متعلق الأمر ، غاية الأمر عدم أخذ بعضها من ناحية الاستحالة ، وبعضها الآخر من ناحية وجود القطع الخارجي.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره وذلك لأنّ ما ذكره من صحّة العبادة مع قصد أمرها وبدون قصد تلك الدواعي لا يكشف إلاّعن عدم اعتبارها بالخصوص. وأمّا اعتبار الجامع بين الجميع وهو إضافة العمل إليه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٤.

٥٣٧

تعالى فهو بمكان من الامكان. ولا دليل فيما ذكره قدس‌سره على عدم اعتباره فلعل صحّة العبادة المأتي بها بداعي أمرها إنّما هي من ناحية تحقق الجامع القربي به.

بكلمة واضحة : أنّنا لو افترضنا أنّ تقييد العبادة بقصد الأمر مستحيل ، وافترضنا أيضاً اليقين الخارجي بعدم تقييدها ببقية الدواعي القربية أيضاً ، ولكنّه لا مانع من تقييدها بالجامع لا من الناحية الاولى لما عرفت من أنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، ولا مانع من تعلّق التكليف به ، وعليه فعدم إمكان تقييد العبادة بخصوص قصد الأمر لايستلزم عدم إمكان تقييدها بالجامع بينه وبين غيره من الدواعي ، لعدم الملازمة بينهما أصلاً ، ولا من الناحية الثانية ، لعدم القطع الخارجي بعدم اعتباره أيضاً. فإذن لا مانع من أخذ الجامع القربي بين هذه الدواعي في العبادة.

وتوهم أنّ لازم ذلك هو أن يكون الاتيان بذات الصلاة مثلاً بداعي أمرها تشريعاً ومحرّماً ، لفرض أنّ الأمر قد تعلّق بها مع قصد ذلك الجامع ولا يتعلّق بذات الصلاة وحدها ، مع أنّه لا شبهة في صحّة الاتيان بها بداعي أمرها ، ومن الطبيعي أنّ ذلك يكشف عن تعلّق الأمر بذاتها لا بها مع قصد التقرب ، وعليه فكيف يحتمل أخذ الجامع القربي فيها ، خاطئ جداً لما تقدّم بشكل موسّع في ضمن البحوث السابقة (١) من أنّ الاتيان بالعبادة بداعي أمرها لا يستدعي تعلّق الأمر النفسي الاستقلالي بذاتها ، بل يمكن الاتيان بها بداعي أمرها الضمني ، والمفروض أنّ الأمر الضمني موجود. فإذن لا تشريع في البين أصلاً.

ولشيخنا الاستاذ قدس‌سره في المقام كلام : وهو أنّ الدواعي القربية حيث

__________________

(١) في ص ٥٢٣.

٥٣٨

كانت بأجمعها في عرض واحد ، وأنّ الجامع بين الجميع هو كون العمل لله تعالى كما يستفاد من قوله عليه‌السلام : « وكان عمله بنيّة صالحة يقصد بها ربّه » (١) فلا يمكن أخذها في المأمور به ، وذلك لأنّ الداعي أيّاً منها فرض فهو في مرتبة سابقة على الارادة المحرّكة للعمل ، فإذا كان كذلك استحال كونه في عرض العمل الصادر عن الارادة التكوينية ، فانّ المفروض سبقه على الارادة حيث إنّ الارادة تنبعث منه ، والعمل متأخر عن الارادة على الفرض ، فإذا لم يمكن وقوع الداعي في حيّز الارادة التكوينية فلا يمكن وقوعه في حيّز الارادة التشريعية أيضاً ، بداهة أنّ متعلق الارادة التشريعية هو بعينه ما يوجده العبد في الخارج وتتعلق به إرادته التكوينية ، فلو لم يمكن تعلّق الارادة التكوينية بشيء لم يمكن تعلّق الارادة التشريعية به أيضاً.

أو فقل : إنّ الداعي حيث كان علّةً لحدوث الارادة التكوينية في نفس المكلف كان مقدّماً عليها رتبةً وهي متأخرة عنه كذلك ، فلو افترضنا أنّ الارادة تتعلق به لزم كونها مقدمةً عليه رتبة ، ومردّ هذا إلى تقدّم الشيء على نفسه وهو محال ، فإذا لم يمكن أخذ كل واحد من تلك الدواعي في المأمور به لم يمكن أخذ الجامع بينها فيه بعين البيان المذكور (٢).

ولنأخذ بالمناقشة عليه أوّلاً بالنقض. وثانياً بالحل.

أمّا الأوّل : فلو تمّ ما أفاده قدس‌سره من عدم إمكان تعلّق الارادة التشريعية والتكوينية بداعٍ من الدواعي القربية ، لكان ذلك موجباً لعدم إمكان تعلقهما به بمتمم الجعل وبالأمر الثاني أيضاً ، مع أنّه قدس‌سره قد التزم بامكان أخذه بالأمر الثاني ، والسبب في ذلك : هو ما عرفت من أنّ الداعي

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٦٨ / ٣ ( بتفاوت ).

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٦٣.

٥٣٩

عبارة عمّا تنبعث الارادة منه في نفس المكلف للقيام بالعمل ، وعليه فبطبيعة الحال تكون الارادة متأخرةً عنه. فإذن كيف يعقل أن تتعلق الارادة به كما تتعلق بالفعل الخارجي ، ومن الواضح أنّه لا فرق في استحالة أخذه في متعلق الارادة بين أن يكون بالأمر الأوّل أو بالأمر الثاني.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما أفاده قدس‌سره إنّما يتم في الارادة الشخصية ، حيث إنّها لا يعقل أن تتعلق بما تنبعث منه ، بداهة استحالة تعلّق الارادة الناشئة عن داعٍ بذلك الداعي ، لتأخرها عنه رتبةً فكيف تتقدّم عليه كذلك.

أو فقل : إنّ هذه الارادة معلولة لذلك الداعي فكيف يعقل أن تتقدّم عليه وتتعلّق به. وأمّا تعلّق فرد آخر من الارادة به غير الفرد الناشئ منه فلا استحالة فيه أصلاً. وما نحن فيه من هذا القبيل ، وذلك لأنّ الواجب فيه مركب على الفرض من فعل خارجي كالصلاة مثلاً وفعل نفساني كأحد الدواعي القربية ، حيث إنّه فعل اختياري للنفس يصدر منها باختيارها وإرادتها وبلا واسطة إحدى قواها كقصد الاقامة وما شاكله ، وقد تقدّم تفصيل ذلك بصورة موسّعة في ضمن البحوث السابقة (١) هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا سابقاً بشكل مفصّل (٢) أنّ الملاك في كون الفعل اختيارياً ، ما كان مسبوقاً باعمال القدرة والاختيار ، سواء أكان من الأفعال الخارجية أم كان من الأفعال النفسانية.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ الاختيار المتعلق بالفعل الخارجي كالصلاة مثلاً غير الاختيار المتعلق بالفعل النفساني ، فانّ تعدد الفعل بطبيعة الحال يستلزم تعدّد الاختيار وإعمال القدرة ، فلا يعقل تعلّق اختيار واحد

__________________

(١) في ص ٥٢٣.

(٢) في ص ٤٠٣.

٥٤٠