محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

وهذا بخلاف أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما ، فانّ الإشارة إلى المعنى ليست ممّا لا بدّ منه في مرحلة الاستعمال ، بيان ذلك : أنّه إن اريد بالاشارة استعمال اللفظ في المعنى ودلالته عليه ، كما قد تستعمل في ذلك في مثل قولنا : قد أشرنا إليه فيما تقدّم ، أو فلان أشار إلى أمر فلاني في كلامه أو كتابه ، فهذه الاشارة يشترك فيها جميع الألفاظ ، فلا اختصاص لها بأسماء الاشارة وما يلحق بها.

وإن اريد بها أمر زائد على الاستعمال ، فلا بدّ من أخذه في الموضوع له ، ضرورة أنّه ليس كلحاظ المعنى ممّا لا بدّ منه في مقام الاستعمال ، بمعنى أنّه ليس شيئاً يقتضيه طبع الاستعمال بحيث لا يمكن الاستعمال بدونه ، فلا بدّ من أخذه قيداً في المعنى الموضوع له ، وإلاّ فالاستعمال بدونه بمكان من الامكان.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما وضعت للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجاً عند الاشارة والتخاطب لا مطلقاً ، فلا يمكن إبراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران بالاشارة والتخاطب ، فكل متكلم تعهد في نفسه بأ نّه متى ما قصد تفهيم معانيها أن يتكلم بها مقترنة بهذين الأمرين ، فكملة ( هذا ) أو ( ذاك ) لا تدل على معناها وهو المفرد المذكر إلاّبمعونة الاشارة الخارجية ، كالإشارة باليد كما هي الغالب أو بالرأس أو بالعين ، وضمير الخطاب لا يبرز معناه إلاّمقترناً بالخطاب الخارجي.

ومن هنا لا يفهم شيء من كلمة ( هذا ) مثلاً عند إطلاقها مجردة عن أيّة إشارة خارجية ، وعلى ذلك جرت سيرة أهل المحاورة في مقام التفهيم والتفهم ، وصريح الوجدان ومراجعة سائر اللغات أقوى شاهد على ما ذكرناه.

ثمّ لا يخفى أنّ مثل كلمة ( هذا ) أو ( هو ) إنّما وضعت لواقع المفرد المذكر أعني به كل مفهوم كلّي أو جزئي لا يكون مؤنثاً ، لا لمفهومه ، وإلاّ فلازمه أن يكون لفظ هذا مرادفاً مع مفهوم المفرد المذكر ، مع أنّه خلاف الضرورة والوجدان ،

١٠١

وعلى ذلك فيكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً ، وقس عليهما غيرهما من أسماء الاشارة والضمائر.

الأمر الخامس

استعمال اللفظ في المعنى المجازي

اختلفوا في أنّ ملاك صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وما يناسب الموضوع له ، هل هو بالطبع أو بالوضع ، أعني ترخيص الواضع في الاستعمال لوجود علقة من العلائق؟ وجهان بل قولان :

فذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى الأوّل ، بدعوى أنّ ملاك صحّة ذلك الاستعمال قبول الطبع له وكونه حسناً عند العرف ، فأيّ استعمال مجازي كان حسناً عندهم وقبله الطبع السليم فهو صحيح وإن فرض أنّ الواضع لم يأذن فيه ، بل وإن منع عنه ، وكل استعمال لم يقبله الطبع فهو غير صحيح وإن أذن الواضع فيه ، فاطلاق لفظ القمر على حسن الوجه واستعماله فيه صحيح وإن فرض أنّ الواضع لم يأذن فيه بل منع عنه ، هذا.

وذهب المشهور إلى الثاني ، وأنّ ملاك صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي إذن الواضع وترخيصه ، سواء كان ممّا يقبله الطبع أم لا.

وعلى الجملة : فعلى القول الأوّل تدور صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وعدم صحّته مدار حسنه طبعاً وعرفاً وعدم حسنه كذلك ، سواء أكان هناك إذن نوعي من الواضع أيضاً أم لم يكن. وعلى القول الثاني تدور مدار الوضع

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣.

١٠٢

النوعي وجوداً وعدماً ، كان حسناً عند الطبع والعرف أيضاً أم لم يكن.

التحقيق في المقام أن يقال : إنّ البحث عن ذلك يبتني على إثبات أمرين :

الأوّل : وجود الاستعمالات المجازية في الألفاظ المتداولة بين العرف.

الثاني : انحصار الواضع بشخص واحد أو جماعة وإلاّ فلا مجال لهذا البحث ، فانّا إذا التزمنا بأنّ كل مستعمل واضع حسب تعهّده ، فهو لم يتعهد إلاّبارادة المعنى الموضوع له عند عدم القرينة على الخلاف ، وأمّا مع وجود القرينة فلا مانع من الاستعمال ، وحيث لم يثبت كلا الأمرين فلا موضوع لهذا البحث.

أمّا عدم ثبوت الأمر الأوّل ، فلإمكان أن نلتزم بما نسب إلى السكاكي من أنّ اللفظ يستعمل دائماً في المعنى الموضوع له ، غاية الأمر أنّ التطبيق قد يكون مبتنياً على التنزيل والادعاء ، بمعنى أنّ المستعمل ينزّل شيئاً منزلة المعنى الحقيقي ويعتبره هو فيستعمل اللفظ فيه فيكون الاستعمال حقيقياً ، ولا بعد فيما نسب إليه ، فان فيه المبالغة في الكلام الجارية على طبق مقتضى الحال ، وهذا بخلاف مسلك القوم ، فانّه لا مبالغة فيه ، إذ لا فرق حينئذ بين قولنا : زيد قمر ، وقولنا : زيد حسن الوجه ، أو بين قولنا : زيد أسد ، وقولنا : زيد شجاع ، مع أنّ مراجعة الوجدان تشهد على خلاف ذلك ، ووجود الفارق بين الكلامين.

ونظير ذلك ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أن كلمة ( لا ) في مثل قوله عليه‌السلام « لا صلاة لجار المسجد إلاّفي المسجد » إنّما استعمل في نفي الحقيقة لكنّه على نحو الادعاء والمبالغة ، لا في نفي الصفة أو الكمال ، وإلاّ فلا دلالة في الجملة على المبالغة (١).

وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه أنّ المبالغة ليست من أفراد الكذب ولا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩.

١٠٣

مانع منها فيما إذا اقتضتها الحال (١).

وقد تلخص من ذلك : أنّ ما نسب إلى السكاكي من إنكار المجاز في الكلمة ، وأنّ جميع الاستعمالات بشتّى أنواعها وأشكالها استعمالات حقيقية ، أقرب إلى الحق.

وعلى ذلك لا يبقى مجال لهذا البحث ، فان موضوعه الاستعمال المجازي ، والمفروض أنّه لا مجاز في الكلمة حتى يقع البحث في أن صحّته متوقفة على الاذن أو على الطبع ، بل المجاز حينئذ إنّما هو في الاسناد والتطبيق ، وبعد التصرف في الاسناد وتنزيل المعنى المجازي بمنزلة المعنى الحقيقي واعتباره فرداً منه ادعاءً ، فالاستعمال استعمال في المعنى الحقيقي لا محالة.

وأمّا عدم ثبوت الأمر الثاني ، فلما حققناه سابقاً في مبحث الوضع (٢) من أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة ولا سيما على مسلكنا من أنّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني ، فانّه على هذا كان كل مستعمل واضعاً حقيقة فلا يختص الواضع بشخص دون شخص ، وعليه فنقول : إنّ الواضع كما تعهد بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى خاص دون أن يأتي بأيّة قرينة ، كذلك قد تعهد بذكر ذلك اللفظ عند إرادة معنى آخر ، ولكن مع نصب قرينة تدل عليها ، غاية الأمر أنّ الوضع على الأوّل شخصي وعلى الثاني نوعي ، وتسميته بذلك بملاحظة أنّ العلائق والقرائن غير منحصرة بواحدة.

وعلى الجملة : فالتعهد والالتزام كما هما موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني الحقيقية ، كذلك موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني المجازية ، فكل متكلم كما

__________________

(١) مصباح الفقاهة ١ : ٣٩٤.

(٢) في ص ٣٩ وما بعدها.

١٠٤

تعهّد بأ نّه متى ما قصد تفهيم معنى خاص يتكلم بلفظ مخصوص مجرداً عن القرينة ، كذلك تعهد بأ نّه متى ما قصد تفهيم معنى مناسب للمعنى الموضوع له يتكلم بذلك اللفظ مصحوباً بالقرينة ليكون المجموع مبرزاً له.

وقد تلخص من ذلك : أنّ عدم انحصار الواضع بشخص أو جماعة لا يدع مجالاً وموضوعاً للبحث المذكور ، فانّه مبتن على أن يكون الواضع من أهل كل لغة شخصاً خاصاً أو جماعة معيّنين ، ليقال إنّ جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي هل هو منوط بإذنه أم لا؟ وأمّا إذا لم يكن الواضع منحصراً بشخص أو جماعة وكان كل مستعمل واضعاً فلا مجال له أصلاً.

الأمر السادس

[ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو ... ]

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه لا شبهة في صحّة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل : ضرب مثلاً فعل ماض ، أو صنفه كما إذا قيل : زيد في ضرب زيد فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول ، أو مثله كضرب في المثال فيما إذا قصد ، وقد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك وحسنه إنّما كان بالطبع لا بالوضع وإلاّ كانت المهملات موضوعة لذلك ، لصحّة الإطلاق كذلك فيها ، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى ، وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه كما إذا قيل : زيد لفظ واريد منه شخص نفسه ، ففي صحّته بدون تأويل نظر (١).

توضيح ذلك : أنّ العلاقة الخارجية بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي

__________________

(١). كفاية الاصول : ١٤.

١٠٥

إذا كانت مقتضية لارتباط اللفظ بالمعنى المجازي ولحسن الاستعمال بالطبع ، كانت العلاقة الذاتية بين اللفظ وما استعمل فيه ـ فانّه من سنخ اللفظ وفرده ـ مقتضية له لا محالة ، فانّ الذاتية أقوى بمراتب من العلاقة الخارجية الموجودة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، واستشهد على أنّ هذه الاستعمالات طبعية لا وضعية ، بصحة ذلك الإطلاق في الألفاظ المهملة أيضاً مع أنّه لا وضع فيها أصلاً ، فهذا يكشف قطعياً عن أنّه بالطبع لا بالوضع.

أقول : تحقيق الكلام في هذا المقام : هو أنّ ما أفاده قدس‌سره يبتني على أمرين :

الأوّل : إثبات أنّ الواضع شخص واحد أو جماعة معيّنون ، إذ لو كان كل مستعمل واضعاً لم يستبعد وجود الوضع في المهملات أيضاً ، فانّه كما تعهد باستعمال الألفاظ في معانيها ، كذلك قد تعهد بأ نّه متى ما أراد تفهيم نوع اللفظ أو صنفه أو مثله يبرزها به ، ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك الوضع والتعهد في الألفاظ المهملة أيضاً ، فانّه لا يوجب خروجها عن الاهمال إلى البيان ، وذلك لأنّ إهمالها باعتبار أنّها لم توضع لافادة المعاني ، وهذا لا ينافي ثبوت الوضع فيها لافادة نفسها.

الثاني : إثبات أنّ هذه الإطلاقات من قبيل الاستعمال ، فانّه إذا لم يكن كذلك لم يبق مجال للبحث عن أنّه بالوضع أو بالطبع.

والصحيح هو أنّها ليست من قبيل الاستعمال في شيء ، بيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة وهي : أنّ المعاني لمّا كانت بأنفسها ممّا لا يمكن إبرازها في الخارج وإحضارها في الأذهان من دون واسطة ، ضرورة أنّه في جميع موارد الحاجة لا يمكن إراءة شخص معنى أو صورته أو ما يشبهه ، فان كل ذلك لا يفي بالمحسوسات فضلاً عن المعقولات والممتنعات ، فلا محالة نحتاج إلى واسطة بها

١٠٦

تبرز المعاني وتحضر في الأذهان ، وتلك الواسطة منحصرة بالألفاظ ، فانّ بها تبرز المعاني للتعهد بذكرها عند إرادة تفهيمها في موارد الحاجة ، وهذا بخلاف نفس الألفاظ ، فانّها بأنفسها قابلة لأن تحضر في الأذهان من دون أيّة واسطة خارجية ، فلا حاجة إلى إبرازها وإحضارها فيها إلى آلة بها تبرز وتحضر ، ضرورة أنّها لو لم تحضر بنفسها في الذهن واحتيج في إحضارها فيه إلى آلة اخرى ، فتلك الآلة إمّا أن تكون لفظاً أو غير لفظ.

أمّا غير اللفظ ، فقد عرفت أنّه غير واف في إبراز المقصود في جميع موارد الحاجة ، وأمّا اللفظ ، فلأنا ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ ونقول إنّه إمّا أن يحضر في الذهن بنفسه أو لا يحضر ، وعلى الأوّل فلا فرق بين لفظ دون لفظ بالضرورة ، وعلى الثاني فان احتاج إلى لفظ آخر ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ وهكذا فيذهب إلى غير النهاية ، وأمّا المعنى فهو يحضر فيه بتوسط اللفظ ، فالحاضر أوّلاً في الذهن هو اللفظ وبتبعه يحضر المعنى ، فكل سامع للفظ الصادر من المتكلم ينتقل إلى اللفظ أوّلاً وإلى المعنى ثانياً وبتبعه.

فعلى ضوء ذلك نقول : قد ظهر أنّ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو نوعه أو صنفه أو مثله ليس من قبيل استعمال اللفظ في المعنى لا بالوضع النوعي ولا بالوضع الشخصي ، والوجه فيه هو أنّ الوضع مقدمة للاستعمال وإبراز المقاصد ولولاه لاختلت أنظمة الحياة كلّها من المادية والمعنوية ، فتنظيمها وتنسيقها بشتى ألوانها وأشكالها متوقف على الوضع ، فانّ المعاني النفسانية التي تتعلق بها الأغراض المادية أو المعنوية لايمكن إبرازها وإحضارها في الأذهان إلاّبالجعل والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة تفهيم تلك المعاني ، ولذلك السبب فالوضع يصبح ضرورياً.

ومن هنا يتبيّن لك أنّ ما لا يحتاج إبرازه وإحضاره في الأذهان إلى واسطة

١٠٧

بل يمكن إحضاره فيها بنفسه عند تعلق الغرض به فلا حاجة إلى الوضع فيه أصلاً بل هو لغو وعبث.

وحيث إنّ اللفظ بنفسه قابل لأن يحضر في ذهن المخاطب بلا واسطة أيّ شيء فالوضع فيه لغو محض لا محالة ، وهذا بيان إجمالي لجميع الأقسام المذكورة.

وإليك بيان تفصيلي بالقياس إلى كل واحد منها :

أقول : أمّا القسم الأوّل منها : وهو ما إذا اطلق اللفظ واريد به شخصه كما إذا قيل : زيد ثلاثي واريد به شخص ذلك اللفظ ، فليس هو من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء ، وذلك لأن لازمه اتحاد الدال والمدلول ذاتاً وحقيقةً ، إذ شخص هذا اللفظ دال وهو بعينه مدلول ، وهذا غير معقول.

وقد أجاب عن ذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ الدال والمدلول في المقام وإن كانا متحدين حقيقة إلاّ أنّه يكفي تعددهما اعتباراً ، ولا يلزم أن يكون الدال والمدلول متعددين ذاتاً ، وبما أن هنا حيثيتين واقعيتين وهما حيثية صدور اللفظ عن لافظه وحيثية أنّ شخصه متعلق إرادته ، فهو من الحيثية الاولى دال ومن الحيثية الثانية مدلول فلا يتحد الدال والمدلول من جميع الجهات.

ويردّه : أنّ هذه الدلالة ـ أي دلالة اللفظ على أنّه مراد ومقصود ـ وإن كانت موجودة هنا إلاّ أنّها أجنبية عن دلالة اللفظ على المعنى رأساً ، بل هي دلالة عقلية سائرة في جميع الأفعال الاختيارية ، فان كل فعل صادر بالاختيار يدل على أنّه مراد لا محالة ، بداهة لزوم سبق الارادة على الفعل الاختياري في تمام الموارد ، فهذه الدلالة من دلالة المعلول على علته وهي أجنبية عن دلالة الألفاظ على معانيها بالكلية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤.

١٠٨

ومن هنا قد أجاب شيخنا المحقق قدس‌سره عن الاشكال بجواب آخر وإليك نصّه : التحقيق أنّ المفهومين المتضائفين ليسا متقابلين مطلقاً بل التقابل في قسم خاص من التضائف ، وهو ما إذا كان بين المتضائفين تعاند وتناف في الوجود ، كالعلية والمعلولية والابوّة والبنوّة ممّا قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد ، لا في مثل العالمية والمعلومية والمحبية والمحبوبية ، فانّهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى ، والحاكي والمحكي والدال والمدلول كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني ، حيث لا برهان على امتناع حكاية الشيء عن نفسه كما قال عليه‌السلام : « يا من دلّ على ذاته بذاته » وقال عليه‌السلام : « أنت دللتني عليك » (١).

ولكن لا يمكن المساعدة عليه أيضاً ، وذلك لأنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ التقابل في قسم خاص من التضائف لا في مطلق المتضائفين وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه أجنبي عن محل كلامنا هنا بالكلية ، فانّه في دلالة اللفظ على المعنى وهي قسم خاص من الدلالة التي لا يمكن أن تجتمع في شيء واحد ، لما بيّناه من أنّ حقيقة تلك الدلالة عبارة عن وجود اللفظ وحضوره في ذهن المخاطب أوّلاً وحضور المعنى ووجوده فيه بتبعه ثانياً ، فكل مخاطب بل كل سامع عند سماع اللفظ ينتقل إلى اللفظ أوّلاً وإلى المعنى ثانياً ، فحضور اللفظ علّة لحضور المعنى ، ومن البيّن الواضح أنّ ذلك لا يعقل في شيء واحد ، بداهة أنّ العلية تقتضي الاثنينية والتعدد فلا يعقل علية حضور الشيء في الذهن لحضور نفسه ، هذا بالقياس إلى المخاطب والسامع.

وأمّا بالقياس إلى المتكلم والمستعمل ، فحقيقة الاستعمال إمّا هي عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى فكأ نّه لم يلق إلى المخاطب إلاّ المعنى ولا ينظر إلاّ إليه كما

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٦٥.

١٠٩

هو المشهور فيما بينهم ، أو عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى ومبرزاً له كما هو الصحيح. فعلى التقديرين لا يعقل استعمال الشيء في نفسه ، ضرورة استحالة فناء الشيء في نفسه وجعل الشيء علامة لنفسه ، فانّهما لا يعقلان إلاّبين شيئين متغايرين في الوجود.

وقد تلخّص من ذلك : أنّ اتحاد الدال والمدلول في الدلالة اللفظية غير معقول.

ومن هنا يظهر أنّ قياس المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته قياس مع الفارق ، فان سنخ تلك الدلالة غير سنخ هذه الدلالة ، إذ أنّها بمعنى ظهور ذاته بذاته وتجلّي ذاته لذاته ، بل ظهور جميع الكائنات بشتى ألوانها وأشكالها من الماديات والمجردات بذاته تعالى ، وهذا بخلاف الدلالة هنا فانّها بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء آخر.

فعلى ضوء ذلك يظهر أنّ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه لا يكون من قبيل الاستعمال في شيء ، فانّ المتكلم بقوله : زيد ثلاثي مثلاً لم يقصد إلاّ إحضار شخص ذلك اللفظ في ذهن المخاطب وهو بنفسه قابل للحضور فيه ومعه لا حاجة إلى الواسطة كما مرّ آنفاً (١).

وقد يشكل على هذا بأنّ لازم ذلك تركب القضية الواقعية من جزأين ، فانّ القضيّة اللفظية تحكي بموضوعها ومحمولها ونسبتها عن القضيّة الواقعية ، وحيث قد فرض أنّه لا موضوع في المقام للقضيّة الواقعية في قبال القضيّة اللفظية ، فليس هناك بحسب الفرض غير المحمول والنسبة ، مع أنّ تحقق النسبة بدون الطرفين محال ، هذا.

__________________

(١) في ص ١٠٧.

١١٠

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بما ملخصه مع أدنى توضيح : هو أنّ الاشكال المزبور مبتن على أن يكون الموضوع في القضيّة الحقيقية يحتاج في وجوده وحضوره في الأذهان إلى واسطة كاللفظ بالإضافة إلى المعنى ، فانّه واسطة لوجوده وحضوره وليس نفسه بموضوع للقضيّة ، بل هو لفظ الموضوع وحاك عنه ، فموضوعية اللفظ لها إنّما هي باعتبار أنّه الواسطة لإحضار ما هو موضوع فيها حقيقة ، نعم هو موضوع في القضيّة اللفظية.

وأمّا إذا فرض أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقية لا يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة ، بل كان حاله حال بقية الأفعال الخارجية والموجودات الفعلية ، فلا يلزم محذور تركب القضيّة من جزأين ، ومقامنا من هذا القبيل ، فانّ الموضوع في مثل قولنا : زيد ثلاثي ، إذا اريد به شخصه ، شخص ذلك اللفظ الذي هو من الكيف المسموع لا أنّه لفظه ، ومن البيّن الواضح أنّ اللفظ لا يحتاج في وجوده في الذهن إلى أيّة واسطة لامكان إيجاده على ما هو عليه وإثبات المحمول له ، وعليه فالقضيّة مركبة من أجزاء ثلاثة : الموضوع وهو ذات اللفظ وشخصه ، والمحمول وهو ثلاثي ، مع النسبة بينهما.

وبتعبير آخر : أنّ كون الشيء موضوعاً في القضيّة باعتبار أنّ المحمول ثابت له ، فقد يكون المحمول ثابتاً لما يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة كالمعنى كما هو الحال في القضايا المتعارفة ، وقد يكون ثابتاً لما لا يحتاج في وجوده إلى الواسطة كاللفظ ، ولمّا كان الموضوع في المقام شخص اللفظ من جهة أنّ المحمول ثابت له ، فانّه سنخ حكم محمول عليه دون المعنى فلا يلزم المحذور المزبور ، فان لزومه هنا مبتن على أن لا يكون الموضوع هو نفس اللفظ ، وأمّا إذا فرض أنّه

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥.

١١١

الموضوع في القضيّة والحكم ثابت له فلا محذور أصلاً.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا اطلق اللفظ واريد منه نوعه كما إذا قيل : زيد لفظ أو ثلاثي ، واريد به طبيعي ذلك اللفظ فليس من قبيل الاستعمال أيضاً ، بل هو من قبيل إحضار الطبيعي في ذهن المخاطب باراءة فرده ، فالمتكلم بذلك اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى أفراده ، فأوجد المتكلم في ذهن المخاطب أمرين ، أحدهما : شخص اللفظ الصادر منه. والثاني : طبيعي ذاك اللفظ الجامع بينه وبين غيره ، ولما لم يمكن إيجاده على ما هو عليه في الخارج إلاّ بايجاد فرده فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء ، فان وجوده عين وجود فرده في الخارج وإيجاده عين إيجاد فرده ، وعليه فلا يعقل أن يجعل وجود الفرد فانياً في وجوده أو مبرزاً له وعلامة عليه ، فان كل ذلك لا يعقل إلاّ بين وجودين خارجاً والمفروض أنّه لا اثنينية في المقام ، فلا يمكن أن يكون وجود الفرد واسطة لاحضار الطبيعي في الأذهان ، فانّ الواسطة تقتضي التعدد في الوجود ولا تعدد هنا فيه أصلاً.

وقد تلخص من ذلك : أنّ ملاك الاستعمال لا يكون موجوداً في أمثال المقام ، بل لا يعقل الاستعمال كما عرفت. فحال المقام حال ما إذا أشار أحد إلى حية فقال سامّة ، فانّه قد أوجد في ذهن المخاطب باشارته هذه أمرين أحدهما :

شخص هذه الحية ، والثاني : الطبيعي الجامع بينها وبين غيرها ، فحكم على الطبيعي بسنخ حكم يسري إلى أفراده ، فمقامنا من هذا القبيل بعينه.

وعلى الجملة : حيث إنّ إيجاد الطبيعي على ما هو عليه في الخارج أو الذهن بلا وساطة شيء بمكان من الامكان فلا يحتاج تفهيمه إلى دال ومبرز له.

وأمّا القسم الثالث والرابع : وهما ما إذا اطلق اللفظ واريد منه صنفه أو مثله ، فقد يتوهم أنّهما من قبيل الاستعمال ، بل لعل ذلك مشهور بينهم ولا سيما

١١٢

في القسم الرابع.

وكيف كان ، فالصحيح هو أنّ حال هذين القسمين حال القسمين الأوّلين من دون فرق بينهما أصلاً ، وبيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة : وهي أنّا قد ذكرنا فيما تقدّم (١) أنّ الحروف والأدوات موضوعة لتضييقات المفاهيم الاسمية وتقييدها بقيود خارجة عن حريم ذواتها ، فانّ الغرض قد يتعلق بتفهيم طبيعي المعنى الاسمي على إطلاقه وسعته ، وقد يتعلق بتفهيم حصّة خاصة منه ، وقد ذكرنا أنّ الدال على الحصّة ليس إلاّ الحروف أو ما يحذو حذوها.

وإن شئت فقل : إنّ الموجود الذهني ليس كالموجود الخارجي ، فانّه مطلقاً من أيّ مقولة كان لا ينطبق على أمر آخر وراء نفسه ، وهذا بخلاف المفهوم الذهني فانّه بالقياس إلى الخارج عن افق الذهن قابل لأن ينطبق على عدّة حصص ، ولكن الغرض يتعلق بتفهيم حصّة خاصة والدال عليه كما مرّ هو الحرف أو ما يشبهه.

وعلى ضوء ذلك فنقول : إنّ المتكلم كما إذا قصد تفهيم حصّة خاصة من المعنى يجعل مبرزه الحرف أو ما يقوم مقامه ، كذلك إذا قصد تفهيم حصّة خاصة من اللفظ يجعل مبرزه ذلك ، فالحرف كما يدل على تضييق المعنى وتخصيصه بخصوصية ما ، كذلك يدل على تضييق اللفظ وتقييده بقيود ما ، فانّ الغرض كما قد يتعلق بايجاد طبيعي اللفظ على ما هو عليه من الاطلاق والسعة يتعلق بتفهيم حصّة خاصة من ذلك الطبيعي كالصنف أو المثل ، فالمبرز لذلك ليس إلاّ الحرف أو ما يشبهه ، بداهة أنّه لا فرق في إفادة الحروف التضييق بين الألفاظ والمعاني ، فكلمة ( في ) في قولنا : زيد في ضرب زيد فاعل ، تدل على تخصص

__________________

(١) في ص ٨٣.

١١٣

طبيعي لفظ زيد بخصوصية ما من الصنف أو المثل ، كما أنّها في قولنا : الصلاة في المسجد حكمها كذا ، تدل على أنّ المراد من الصلاة ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد ، بل خصوص حصّة منها.

وعلى الجملة : فلا فرق بين قولنا : الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في الدار ، وقولنا : زيد في ضرب زيد فاعل ، فكلمة ( في ) كما تدل في المثال الأوّل على أنّ المراد من الصلاة ما يقع منه في المسجد ، كذلك تدل في المثال الثاني على أنّ المراد من لفظ زيد ليس هو الطبيعة المطلقة ، بل حصّة خاصة منه من المثل أو الصنف.

ومن هنا يظهر لك ملاك القول بأنّ هذين القسمين ليسا من قبيل الاستعمال أيضاً ، لما مرّ من إمكان إيجاد اللفظ بنفسه وإحضاره في ذهن المخاطب بلا وساطة شيء ، فإذا تعلّق الغرض بتقييده بخصوصية ما يجعل الدال عليه الحرف أو ما يحذو حذوه ، مثلاً لو قال أحد : زيد في ضرب زيد فاعل ، فقد أوجد طبيعي لفظ زيد وأحضره بنفسه في ذهن المخاطب ، وقد دلّ على تقييده بخصوصية ما من المثل أو الصنف بكلمة ( في ) فأين هنا استعمال لفظ في مثله أو صنفه.

فالنتيجة أنّ شيئاً من الاطلاقات المتقدمة ليس من قبيل الاستعمال ، بل هو من قبيل إيجاد ما يمكن إرادة شخصه مرّة ، ونوعه اخرى ، وصنفه ثالثة ، ومثله رابعة.

ثمّ إنّه لا يخفى : أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في آخر كلامه في هذا المقام بقوله : وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك ، ممّا كان الحكم في القضيّة لا يكاد يعم شخص اللفظ كما في مثل : ضرب فعل ماض ، غريب منه ، وذلك لأنّ الفعل الماضي أو غيره إنّما لا يقع مبتدأ إذا استعمل في معناه الموضوع له واريد منه ذلك لا مطلقاً حتّى فيما إذا لم يستعمل فيه ولم يرد

١١٤

معناه ، وحيث إنّ فيما نحن فيه لم يرد معناه ، بل اريد به لفظه لا بما له من المعنى ، فلا مانع من وقوعه مبتدأ ولا يخرج بذلك عن كونه فعلاً ماضياً ، غاية ما في الباب أنّه لم يستعمل في معناه ، وهذا لا يوجب خروجه عن ذلك ، وهذا نظير قولنا : ضرب وضع في لغة العرب للدلالة على وقوع الضرب في الماضي ، فهل يتوهم أحد أنّه لا يشمل نفسه لأنّه مبتدأ.

الأمر السابع :

أقسام الدلالة

لا شبهة في أنّ الله ( تعالى شأنه ) فضّل الانسان على سائر مخلوقاته بنعمة عظيمة وهي نعمة البيان بمقتضى قوله عزّ من قائل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) وذلك لحكمة تنظيم الحياة المادية والمعنوية ، فان مدنيّة الانسان بالطبع تستدعي ضرورة الحاجة إلى البيان لابراز المقاصد خارجاً لئلاّ تختل نظم الحياة ، فالقدرة على البيان ممّا أودعه الله تعالى في الانسان.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الدلالة على أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : الدلالة التصورية، وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ، وهي لا تتوقف على شيء ولا تكون معلولة لأمر ما عدا العلم بالوضع ، فهي تابعة له وليس لعدم القرينة دخل فيها أصلاً ، فالعالم بوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص ينتقل إليه من سماعه ، ولو فرض أنّ المتكلم نصب قرينة على عدم إرادته ، بل ولو فرض صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن اصطكاك

__________________

(١) الرّحمن ٥٥ : ٣ ـ ٤.

١١٥

حجر بحجر آخر وهكذا ، وعلى الجملة : فالدلالة التصورية بعد العلم بالوضع أمر قهري خارج عن الاختيار.

القسم الثاني : الدلالة التفهيمية المعبّر عنها بالدلالة التصديقية أيضاً، لأجل تصديق المخاطب المتكلم بأ نّه أراد تفهيم المعنى للغير ، وهي عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه ، وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز أنّه في مقام التفهيم ولم ينصب قرينة متصلة على الخلاف ، بل لم يأت في الكلام بما يصلح للقرينية ، فانّه يهدم الظهور ويوجب الاجمال لا محالة ، فلو لم يكن في ذلك المقام فلا ظهور ولا دلالة على الارادة التفهيمية أصلاً ، كما أنّ وجود القرينة المتصلة مانع عن الظهور التصديقي. وعلى الجملة فهذه الدلالة تتقوّم بكون المتكلم في مقام التفهيم وبعدم وجود قرينة متصلة في الكلام.

القسم الثالث : الدلالة التصديقية، وهي دلالة اللفظ على أنّ الارادة الجدية على طبق الارادة الاستعمالية ، وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء إلاّ أنّها تتوقف زائداً على ما مرّ على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف ، وإلاّ فلا يكون الظهور كاشفاً عن الارادة الجدية في مقام الثبوت ، فان وجود القرينة المنفصلة مانع عن حجيته. والحاصل : أنّ بناء العقلاء قد استقرّ على أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية ما لم تقم قرينة على عدم التطابق.

وبعد ذلك نقول : قد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ الدلالة الوضعية هل هي الدلالة التصوّرية أو أنّها الدلالة التصديقية؟ فالمعروف والمشهور بينهم هو الأوّل ، بتقريب أنّ الانتقال إلى المعنى عند تصور اللفظ لا بدّ أن يستند إلى سبب ، وذلك السبب إمّا الوضع أو القرينة ، وحيث إنّ الثاني منتف لفرض خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ فيتعين الأوّل. وذهب جماعة من

١١٦

المحققين إلى الثاني ، أي إلى انحصار الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية.

التحقيق حسب ما يقتضيه النظر الدقيق : هو القول الثاني ، والوجه فيه أمّا بناءً على ما سلكناه في باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهد والالتزام فواضح ، ضرورة أنّه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالاًّ على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار ، بل ولو صدر عن اصطكاك حجر بآخر وهكذا ، فانّ هذا غير اختياري فلا يعقل أن يكون طرفاً للتعهد والالتزام ، وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته.

سواء كانت الإرادة تفهيمية محضة أم جدية أيضاً ، فانّه أمر اختياري فيكون متعلقاً للالتزام والتعهد.

وعلى الجملة : قد ذكرنا سابقاً (١) أنّ اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية لازم حتمي للقول بكون الوضع بمعنى التعهد والالتزام. وأمّا الدلالة التصورية وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ، فهي غير مستندة إلى الوضع ، بل هي من جهة الانس الحاصل من كثرة الاستعمال أو من أمر آخر ، ومن ثمة كانت هذه الدلالة موجودة حتّى مع تصريح الواضع باختصاص العلقة الوضعية بما ذكرناه.

بل إنّ الأمر كذلك حتّى على ما سلكه القوم في مسألة الوضع من أنّه أمر اعتباري ، فانّ الأمر الاعتباري يتبع الغرض الداعي إليه في السعة والضيق ، فالزائد على ذلك لغو محض ، ولما كان الغرض الباعث للواضع على الوضع قصد تفهيم المعنى من اللفظ وجعله آلة لاحضار معناه في الذهن عند إرادة تفهيمه ، فلا موجب لجعل العلقة الوضعية واعتبارها على الإطلاق ، حتّى في اللفظ

__________________

(١) في ص ٤٨.

١١٧

الصادر عن لافظ غير شاعر كالنائم والمجنون ونحوهما ، فان اعتباره في أمثال هذه الموارد من اللغو الظاهر.

وإن شئت فقل : حيث إنّ الغرض الباعث على الوضع هو إبراز المقاصد والأغراض خارجاً ، فلا محالة لا يزيد سعة الوضع عن سعة ذلك الغرض ، فانّه أمر جعلي واختياره بيد الجاعل ، فله تقييده بما شاء من القيود إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، وبما أنّ الغرض في المقام قصد التفهيم فلا محالة تختص العلقة الوضعية بصورة إرادة التفهيم.

ودعوى مصادمة حصر الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية للبداهة ، من جهة أنّ الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ضروري مدفوعة بما عرفت من أنّ ذلك الانتقال إنّما هو من ناحية الانس الحاصل من كثرة الاستعمال أو نحو ذلك لا من ناحية الوضع ، فالانتقال عادي لا وضعي.

فالنتيجة هي انحصار الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية على جميع المسالك والآراء في تفسير حقيقة الوضع ، من دون فرق في المسألة بين رأينا وسائر الآراء.

نعم ، الفرق بينهما في نقطة واحدة وهي أنّ ذلك الانحصار حتمي على القول بالتعهد دون غيره من الأقوال.

ولا يخفى أنّ مراد العلمين المحقق الطوسي قدس‌سره والشيخ الرئيس ممّا حكي عنهما من أنّ الدلالة تتبع الارادة ، هو ما ذكرناه من أنّ العلقة الوضعية مختصّة بصورة إرادة تفهيم المعنى ، وليس مرادهما من ذلك أخذ الارادة التفهمية في المعنى الموضوع له ، لكي يرد عليه ما اورد ، فالألفاظ من جهة وضعها تدل

١١٨

على إرادة اللافظ بها تفهيم معانيها كما هو صريح كلامهما في بحث الدلالات (١) وعليه فلا وجه لما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من حمل الدلالة في كلامهما على الدلالة التصديقية غير الوضعية ، فانّ تبعيتها للارادة في الواقع ونفس الأمر واضحة ، فلا مجال للكلام فيها أصلاً.

ومن هنا يظهر فساد ما أورده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره على حصر الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية بوجوه ثلاثة وإليك نصّه :

لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بازاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها :

______________________________________________________

(١) قال العلاّمة الطوسي قدس‌سره : دلالة اللفظ لمّا كانت وضعية كانت متعلقة بارادةالمتلفظ الجارية على قانون الوضع ، فما يتلفظ به ويراد منه معنى ما ويفهم عنه ذلك المعنى يقال له إنّه دال على ذلك المعنى ، وما سوى ذلك المعنى ممّا لا تتعلق به إرادة المتلفظ وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه بحسب تلك اللغة أو لغة اخرى أو بارادة اخرى يصلح لأن يدل عليه ، فلا يقال له إنّه دال عليه ، انتهى شرح منطق الاشارات ، مبحث تعريف المفرد والمركب [ ص ٣٢ ].

قال ابن سينا (١) : الدلالة الوضعية تتعلق بارادة اللافظ الجارية على قانون الوضع حتّى أنّه لو اطلق واريد منه معنى وفهم منه لقيل إنّه دال عليه ، وإن فهم غيره فلا يقال إنّه دال عليه ، وإن كان ذلك الغير بحسب تلك اللغة أو غيرها أو بارادة اخرى يصلح لأن يدل عليه ... ـ إلى أن قال ـ والمقصود هي الوضعية وهي كون اللفظ بحيث يفهم منه عند سماعه أو تخيله بتوسط الوضع معنى هو مراد اللافظ ، انتهى. شرح حكمة الاشراق ، باب الدلالات الثلاث [ ص ٣٦ ].

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ العبارة المنقولة عن شرح حكمة الاشراق إنّما هي لقطب الدين الشيرازي ].

١١٩

١ ـ لما عرفت من أنّ قصد المعنى على أنحائها من مقوّمات الإستعمال فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.

٢ ـ هذا مضافاً إلى ضرورة صحّة الحمل والاسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف ، مع أنّه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صحّ بدونه ، بداهة أنّ المحمول على زيد في ( زيد قائم ) والمسند إليه في ( ضرب زيد ) مثلاً هو نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان.

٣ ـ مع أنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عاماً ، والموضوع له خاصاً ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فانّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الارادة فيه كما لا يخفى ، وهكذا الحال في طرف الموضوع (١) ، انتهى.

والجواب عن جميع هذه الوجوه : بكلمة واحدة ، وهي أنّ تلك الوجوه بأجمعها مبتنية على أخذ الارادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها ، وقد تقدّم أنّ الارادة لم تؤخذ فيها ، وأنّ الانحصار المذكور غير مبتن على ذلك ، بل هي مأخوذة في العلقة الوضعية ، فالعلقة مختصّة بصورة خاصة وهي ما إذا أراد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦.

(٢) وأورد بعض الأعاظم (قدس) على ما قرره بعض بحثه على انحصار الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية ايراداً رابعاً وملخصه: هو أن الانحصار يستلزم أن يكون اللفظ موضوعاً لمعني مركب من معنى اسمي ومعني حرفي، كما إذا قيّد المعنى الاسمي بارادة المتكلم على كيفية دخول التقيد وخروج القيد، وهذا مخالف لطريقه الوضع المستفادة من الاستقراء فانه بحسبه لم يوجد في أيّة لغة لفظ واحد موضوع لمعنى

١٢٠