محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

ونستنتج ممّا ذكرناه حول القولين في وضع المشتق عدّة امور :

الأوّل : أنّ الوضع للمتلبس أو الأعم غير مبتنٍ على القول بالبساطة والتركيب في المفاهيم الاشتقاقية.

الثاني : أنّ تصوير الجامع على كلا القولين : البساطة والتركيب ممكن بأحد الوجهين المتقدمين.

الثالث : أنّ المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم ، وذلك بوجوه : ١ ـ التبادر.

٢ ـ صحّة السلب بالتقريب المتقدم. ٣ ـ ارتكاز التضاد بين المشتقين المتضادين في المبدأ.

الرابع : أنّ قوله عزّ من قائل : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) دلّ على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة الإلهية أبداً.

______________________________________________________

طرفي النقيض ، وذلك لأنّ دلالة الآية المباركة على الحكم المذكور مبنية على وجوه ثلاثة :

الأوّل : مناسبة الحكم والموضوع ، فانّها تقتضي بقاء الحكم أبداً.

الثاني : الاتيان بصيغة المضارع وهي كلمة « لا ينال » وعدم توقيتها بوقت خاص ، فهي على هذا تدل على بقاء الحكم واستمرارها حتّى بعد زوال التلبس.

الثالث : ما ورد من نظائره في الشريعة المقدسة ، فانّه يدل على أنّ بقاء هذا الحكم في الآية المباركة وعدم زواله بزوال المبدأ أولى. ومن الواضح أنّ شيئاً من هذه الوجوه الثلاثة لا تجري فيما ذكره من الجواب ، بل المتفاهم العرفي كما عرفت من الأمثلة التي ذكرها هو أنّ الحكم يدور مدار العنوان حدوثاً وبقاءً على عكس المتفاهم من الآية الكريمة.

على أنّ النذر تابع لقصد الناذر في الكيفية والكمّية ، وأجنبي عن دلالة اللفظ وظهوره في شيء.

٣٠١

الخامس : أنّه لا ثمرة تترتب على النزاع في وضع المشتق.

هل المشتق بسيط أم مركّب؟

إنّ المفاهيم الاشتقاقية هل هي بسيطة أو أنّها مركبة؟ قولان في المسألة :

المشهور بين المتأخرين هو بساطتها ، منهم السيِّد الشريف (١) والمحقق الدواني (٢) قدس‌سره وخالف فيه جماعة ، منهم صاحب شرح المطالع (٣) فذهب إلى التركيب ، حيث قال في مقام تعريف الفكر : بأ نّه ترتيب امور معلومة لتحصيل أمر مجهول.

وأورد عليه : بأ نّه يصح تعريف الشيء بالخاصّة وبالفصل وحده ، ولا يجب أن يكون التعريف دوماً بالحد أو بالرسم التام ، بل كما يمكن أن يكون به يمكن أن يكون بالحد أو الرسم الناقص ، فيقال : الإنسان ضاحك أو ناطق ، وعليه فلايكون تعريف الفكر بهذا تعريفاً جامعاً لخروج تعريف الشيء بالحد أو الرسم الناقص عنه ، لعدم ترتيب امور معلومة فيه ، بل التعريف حينئذ بأمر واحد.

وأجاب عنه : بأنّ الخاصة أو الفصل وإن كانت في بداية الأمر وبالنظر السطحي أمراً واحداً ، إلاّ أنّها في الواقع وبالنظر الدقي تنحل إلى أمرين : ذاتٍ ومبدأ ، فالناطق ينحل إلى ذاتٍ ونطق ، وكذا الضاحك ، فلا يكون هنا ترتيب أمرٍ واحد ، بل ترتيب امور معلومة عند النفس لتحصيل شيء مجهول.

وأشكل عليه المحقق الشريف في الهامش : بأ نّه لايمكن أخذ الشيء في مفهوم المشتق ، وذلك لأنّ المأخوذ فيه إن كان مفهوم الشيء فيلزم دخول العرض العام في الفصل وهو محال ، وإن كان مصداقه فيلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) شرح المطالع : ١١.

٣٠٢

الضرورية ، مثلاً جملة الانسان ضاحك قضيّة ممكنة ، فإذا انحلت إلى قولنا :

الإنسان انسان له الضحك ، صارت قضيّة ضرورية ، لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وهو خلف.

ومن مجموع ذلك يستبين أنّ مركز النزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل والواقع ، لا بحسب الإدراك والتصور ، وذلك لأنّ البساطة الإدراكية تجتمع مع تركب المفهوم حقيقةً ، ضرورة أنّ المتفاهم في مرحلة التصور من كل لفظ مفرد عند الاطلاق معنىً بسيط ، سواء أكان في الواقع أيضاً بسيطاً ، أم كان مركباً ، وهذا بلا فرق بين المشتقات وغيرها من الألفاظ. إذن لا معنى لأن يجعل مركز البحث البساطة والتركيب بحسب التصور والادراك ، ومن هنا سلّم شارح المطالع البساطة اللحاظية ، إلاّ أنّه قال : بحسب التحليل ينحل إلى شيئين :

ذاتٍ متصفةٍ بالمبدأ.

وممّا يؤكّد ذلك : تصدّي المحقق الشريف لاقامة البرهان على البساطة : بأنّ الالتزام بالتركيب يستلزم أحد المحذورين المتقدمين ، وظاهر أنّ إثبات البساطة اللحاظية لايحتاج إلى مؤونة استدلال واقامة برهان ، فانّ المرجع الوحيد لاثباتها فهم أهل العرف أو اللغة ، ولا إشكال في أنّهم يفهمون من المشتق معنىً واحداً كما يفهمون من غيره من الألفاظ المفردة ذلك.

ومن الغريب ما صدر عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره حيث قال ما لفظه هذا : ارشاد ، لا يخفى أنّ معنى البساطة ـ بحسب المفهوم ـ وحدته إدراكاً وتصوراً بحيث لايتصور عند تصوره إلاّشيء واحد لا شيئان ، وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين ، كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما. وبالجملة لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة المعنى وبساطة المفهوم كما لا يخفى ، وإلى ذلك يرجع

٣٠٣

الاجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد ، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتاً ، فالعقل بالتعمل يحلّل النوع ويفصّله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمراً واحداً إدراكاً ، وشيئاً فارداً تصوراً ، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق (١).

وجه الغرابة : هو ما عرفت من أنّ ما يصلح لأن يكون مورد البحث والنزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل العقلي ، لا بحسب الإدراك والتصور ، ضرورة أنّ البساطة اللحاظية لاتصلح لأن تكون محوراً للبحث ومركزاً لتصادم الأدلة والبراهين العقلية ، بل لا تقع تحت أيّ بحث علمي كما لا يخفى. وقد أشرنا آنفاً أنّ المرجع في إثباتها فهم العرف ، لأنّ واقعها انطباع صورة علمية واحدة في مرآة الذهن ، سواء أكانت قابلة للانحلال في الواقع ـ كمفهوم الإنسان ونحوه ـ أم لم تكن. فمناط البساطة اللحاظية وحدة المفهوم إدراكاً ، بل وحدة المفهوم في مرحلة التصور في كل مفهوم ومدلول للفظ واحد ممّا لم يقع لأحدٍ فيه شك وريب.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بالنتيجة من القائلين بالتركيب لا البساطة.

وكيف كان ، فالمشهور بين الفلاسفة والمتأخرين من الاصوليين منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بساطة المفاهيم الاشتقاقية ، وقد أصرّوا على أنّه لا فرق بينها وبين المبادئ حقيقةً وذاتاً ، وإنّما الفرق بينهما بالاعتبار ولحاظ الشيء مرّةً لا بشرط ، وبشرط لا مرّة اخرى ، خلافاً لجماعة منهم شيخنا المحقق

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٩٧.

٣٠٤

( قدس‌سره ) (١) وصاحب شرح المطالع (٢) فذهبوا إلى التركيب.

ويجب علينا أوّلاً تحقيق الأمر في أنّ المفاهيم الاشتقاقية بسيطة أو مركّبة؟

ثمّ على تقدير التركيب فهل هي مركبة من مفهوم الشيء والمبدأ أو من واقعه؟

فنقول : الصحيح هو أنّها مركبة لا بسيطة ، وتركّبها إنّما هو لأخذ مفهوم الشيء فيها ، فلنا دعويان :

الاولى : أنّ مفاهيم المشتقات مركبة وغير بسيطة.

الثانية : أنّها مركبة من مفهوم الشيء ، لا من مصداقه.

وأمّا دعوى أنّها مركبة من المبدأ ومصداق الشيء والذات فهي باطلة جزماً ، وذلك لاستلزامها أن يكون المشتق من متكثر المعنى ، فانّ الذوات متباينة بالضرورة ، فإذا قلنا : زيد قائم ، والجدار قائم ، والصلاة قائمة فالذات المأخوذة في كل واحدة من هذه الجمل مباينة للذات المأخوذة في غيرها ، فإذا كان المأخوذ في مفهوم المشتق هو واقع الذات لتكثر مفهوم القائم لا محالة ، فلا مناص من أن يكون الوضع عاماً والموضوع له خاصّاً ، وهذا مخالف للفهم العرفي يقيناً ، وقد قدّمنا سابقاً (٣) أنّ المشتقات كالجوامد وضعت لمعنى عام ، فيكون الموضوع له فيها كالوضع عاماً ، فلا تكون من متكثر المعنى ، كما أنّ الجوامد لم تكن معانيها متكثرة.

وعليه فالأمر دائر بين بساطة المفاهيم الاشتقاقية ، وأخذ مفهوم الشيء

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢١٦ وما بعدها.

(٢) شرح المطالع : ١١.

(٣) في ص ٢٦٣ ولاحظ ص ٩١ أيضاً.

٣٠٥

فيها ، والصحيح هو الثاني. وقبل التكلم في ذلك ينبغي لنا بيان ما هو المراد من الذات المأخوذة في المشتقات؟

فنقول : المراد منها ذات مبهمة في غاية الإبهام ، ومعرّاة عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها ، فهي لمكان إبهامها واندماجها قابلة للحمل على الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد ، بل هي مبهمة من جهة أنّها عين المبدأ أو غيره ، ومن هنا يصدق المشتق على الجوهر والعرض والأمر الاعتباري والانتزاعي والزمان ، وما فوقه من الواجب تعالى وغيره على وتيرةٍ واحدة ، من دون لحاظ عناية في شيء منها ، فهي كالموصولات في جهة الابهام فكما أنّها مبهمة من جميع الجهات إلاّمن ناحية صلتها ، ولذا سميت بالمبهمات ، فكذلك هذه.

ومن هنا يصحّ التعبير عنها بـ « ما » و « من » الموصولتين ، أو بكلمة « الذي » على اختلاف الموضوعات ، باعتبار كونها من ذوي العقول أو من غيرها ، فإذا قيل « العالم » فلا يراد منه إلاّمن ثبت له صفة العلم ، وإذا قيل « الماشي » فلا يراد منه إلاّمن له صفة المشي ، أو ما له صفة المشي وهكذا ...

إذا عرفت هذا فأقول : يدل على تركب المعنى الاشتقاقي بالمعنى الذي أوضحناه :

الوجدان والبرهان.

أمّا الوجدان : فلأجل أنّ المتبادر عرفاً من المشتق عند إطلاقه هو الذات المتلبسة بالمبدأ على نحو الابهام والاندماج ، مثلاً عند إطلاق لفظ « ضارب » تمثّل في النفس ذات مبهمة متلبسة بالضرب ، وهكذا ... وهذا المعنى وجداني لا ريب فيه.

وأمّا البرهان : فلما سنذكره من أنّه لا يمكن تصحيح حمل المشتق على الذات إلاّ بأخذ مفهوم الشيء فيه ، لأنّ المبدأ مغاير معها ذاتاً وعيناً ، ولا يمكن تصحيح

٣٠٦

حمله عليها بوجه ، لمكان المغايرة بينهما حقيقةً وخارجاً. ومجرّد اعتباره لا بشرط لا يوجب اتحاده معها ، ولا يقلبه عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة ، لأنّ المغايرة لم تكن اعتبارية لتنتفي باعتبار آخر على ما سيأتي بيانه تفصيلاً.

ومع هذا ، قد استدلّ القائلون بالبساطة بوجوه :

الأوّل : ما عن المحقق الشريف (١) من أنّ الذات لو كانت مأخوذةً في المشتقات فلا يخلو الحال إمّا أن يكون الملحوظ حال الوضع مفهوم الذات أو مصداقها.

فان كان الأوّل ، لزم دخول العرض العام في الفصل كالناطق مثلاً وهو محال ، لأنّ الشيء عرض عام فيستحيل أن يكون مقوّماً للجوهر النوعي ، لأنّ مقوّمه ذاتي له ، والعرض العام خارج عنه.

وإن كان الثاني ، لزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضرورية ، فانّ جملة :

الإنسان ضاحك ، قضيّة ممكنة ، إذ الضحك بما له من المعنى ممكن الثبوت للانسان ، فلو كان الانسان الذي هو مصداق الشيء مأخوذاً فيه ، لكان صدقه على الانسان ضرورياً لا محالة ، لأنّه من ثبوت الشيء لنفسه.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وجماعة من الفلاسفة المتأخرين منهم السبزواري في حاشيته على منظومته (٣) : أنّ الناطق فصل مشهوري ، وليس بفصل حقيقي ليكون مقوّماً للجوهر النوعي ، وذلك لتعذر معرفة حقائق الأشياء وفصولها الحقيقية ، وعدم إمكان وصول أحد إليها ما عدا الباري ( عزّ وجلّ ) ومن هنا وضعوا مكانه ما هو لازمه وخاصته ليشيروا به إليه ، فالناطق ليس بفصل حقيقي للانسان ، بل هو فصل مشهوري وضع مكانه.

__________________

(١) هامش شرح المطالع : ١١.

(٢) كفاية الاصول : ٥٢.

(٣) شرح المنظومة ( المنطق ) : ٣٥.

٣٠٧

والوجه فيه : هو أنّ النطق المأخوذ في مفهوم الناطق إن اريد به النطق الظاهري الذي هو خاصة من خواص الانسان فهو كيف مسموع ، فلا يعقل أن يكون مقوّماً للجوهر النوعي. وإن اريد به الإدراك الباطني ـ أعني إدراك الكليات ـ فهو كيف نفساني وعرض من أعراض الانسان أيضاً ، فكيف يكون مقوّماً له ، فانّ العرض إنّما يعرض الشيء بعد تقوّمه بذاته وذاتياته ، وتحصّله بفصله.

وممّا يدل على هذا : أنّهم جعلوا الناهق فصلاً للحمار ، والصاهل فصلاً للفرس ، وكلاهما كيف مسموع ، فلا يعقل أن يقوّم الجوهر النوعي به. ومن هنا ربّما يجعلون لازمين وخاصتين مكان فصل واحد ، فيقولون : الحيوان حساس متحرك بالارادة ، فانّ الحساس والمتحرك بالارادة خاصتان للحيوان ، وليستا بفصلين له ، ضرورة أنّ الشيء الواحد لا يعقل أن يتقوّم بفصلين ، فانّ كل فصل مقوّم للنوع وذاتي له ، فلا يعقل اجتماعهما في شيء واحد.

وعليه فلا يلزم من أخذ الشيء في المشتق دخول العرض العام في الفصل ، بل يلزم منه دخوله في الخاصة ، ولا محذور فيه ، إذ قد يتقيد العرض العام بقيد فيكون خاصّة.

فما أفاده السيِّد الشريف من استلزام أخذ مفهوم الشيء في المفهوم الاشتقاقي دخول العرض في الفصل غير تام بوجه ، هذا.

وقد أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره بأنّ الناطق بمعنى التكلم أو إدراك الكلّيات وإن كان من لوازم الانسان وعوارضه ، إلاّ أنّه بمعنى صاحب النفس الناطقة فصل حقيقي ، فيلزم من أخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتق دخول العرض العام في الفصل (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٢.

٣٠٨

وغير خفي أنّ هذا من غرائب ما صدر منه ، فان صاحب النفس الناطقة هو الانسان وهو نوع لا فصل. إذن لا مناص من الالتزام بكون الناطق فصلاً مشهورياً وضع مكان الفصل الحقيقي لتعذر معرفته غالباً بل دائماً.

وأغرب منه ما أفاده قدس‌سره من أنّ الشيء ليس من العرض العام في شيء ، بل هو جنس الأجناس وجهة مشتركة بين الجميع (١).

وذكر في وجه هذا : أنّ العرض العام ما كان خاصةً للجنس القريب أو البعيد كالماشي والتحيز ، والشيئية تعرض لكل ماهية من الماهيات وتنطبق عليها ، فهي جهة مشتركة بين جميعها ، وليس وراءها أمر آخر يكون ذلك الأمر هو الجهة المشتركة وجنس الأجناس لتكون الشيئية عارضة عليه وخاصّة له ، كما هو شأن العرض العام. وعلى هذا فاللازم من أخذ مفهوم الشيء في المشتق دخول الجنس في الفصل لا دخول العرض العام فيه.

بل قال قدس‌سره ولم يظهر لنا بعد وجه تعبير المحقق الشريف عنه بالعرض العام وإن ارتضاه كل من تأخر عنه ، ومن البيّن كما يستحيل دخول العرض العام في الفصل كذلك يستحيل دخول الجنس فيه ، لأن لكل واحد من الجنس والفصل ماهية تباين ماهية الآخر ذاتاً وحدّاً ، فلا يكون أحدهما ذاتياً للآخر ، فالحيوان ليس ذاتياً للناطق وبالعكس ، بل هو لازم أعم بالاضافة إليه وذاك لازم أخص ، وعليه فيلزم من دخول الجنس في الفصل انقلاب الفصل إلى النوع وهو محال.

فقد أصبحت النتيجة : أنّ خروج مفهوم الشيء عن مفهوم المشتق أمر ضروري ، سواء أقلنا بأنّ الشيء عرض عام أو جنس ، وسواء أكان الناطق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٢.

٣٠٩

فصلاً حقيقياً أم مشهورياً ، فانّ دخول الجنس في اللازم كدخوله في الفصل الحقيقي محال. هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره.

ولكنّه غريب ، فانّ الشيء لا يعقل أن يكون جنساً عالياً للأشياء جميعاً من الواجب والممكن والممتنع ، فانّه وإن كان صادقاً على الجميع حتّى على الممتنعات فيقال : اجتماع النقيضين شيء مستحيل ، وشريك الباري ( عزّ وجلّ ) شيء ممتنع وهكذا ... إلاّ أنّ صدقه ليس صدقاً ذاتياً ليقال إنّه جنس عالٍ له ، بداهة استحالة الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة والماهيات المنتزعة والامور الاعتبارية ، بل لا يعقل الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة بأنفسها. مع أنّه كيف يعقل أن يكون الشيء جامعاً ماهوياً بين ذاته تعالى وبين غيره.

وعلى الجملة : أنّ صدق مفهوم الشيء على الواجب والممتنع والممكن على نسق واحد ، فلا فرق بين أن يقال : الله شيء ، وبين أن يقال : زيد شيء ، وشريك الباري شيء ، وحيث إنّه لا يعقل أن يكون صدقه على الجميع ذاتياً فلا محالة يكون عرضياً.

فما أفاده قدس‌سره من أنّ الشيء جنس لما تحته من الأجناس العالية ، لا نعقل له معنىً محصّلاً ، لأنّه إن أراد بالجنس معناه المصطلح عليه ، فهو غير معقول ، وإن أراد به معنىً آخر فلا نعقله ، ضرورة أنّ الشيء إمّا جنس أو عرض عام فلا ثالث.

ودعوى أنّه جنس لما تحته من المقولات الواقعية التي هي أجناس عاليات دون غيرها مدفوعة.

أوّلاً : بأنّ صدق الشيء بما له المفهوم على الجميع على حد سواء ، وليس صدقه على المقولات ذاتياً ، وعلى غيرها عرضياً.

وثانياً : أنّ الشيء لا يمكن أن يكون جنساً للمقولات الحقيقية ، لاستحالة

٣١٠

جامع حقيقي بينها ، بل قد برهن في محلّه أنّ الجامع الحقيقي لا يعقل بين المقولات التسع العرضية فضلاً عن الجامع بين جميع المقولات.

فتحصّل : أنّ مفهوم الشيء يستحيل أن يكون جنساً تندرج تحته الأجناس العالية.

فالتحقيق : أنّ مفهوم الشيء مفهوم عام مبهم معرىً عن كل خصوصية من الخصوصيات ، كمفهوم الأمر والذات ، ويصدق على الأشياء جميعاً صدقاً عرضياً ، فيكون من العرض العام لا من العرض المقابل للجوهر ، فانّه لا يصدق على وجود الواجب تعالى ولا على غيره من الاعتبارات والانتزاعات ونحوهما. ومن الواضح أنّ الشيء بما له من المفهوم يصدق على الجميع على نسق واحد.

ثمّ إنّ مرادنا من العارض هنا ما هو خارج عن ذات الشيء ومحمول عليه ، فهذا هو الضابط للعرض العام والخاص ، والعموم والخصوص يختلفان بالاضافة ، فالماشي عرض عام باعتبار وإضافة ، وخاص باعتبار آخر وإضافة اخرى وهكذا ...

وعلى ضوء هذا الضابط يظهر بطلان ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الضابط للعرض العام ، وهو ما كان خاصةً للجنس القريب أو البعيد كالماشي والتحيز مثلاً (١) وذلك لعدم الشاهد والبرهان عليه ، بل الشاهد والبرهان على خلافه كما مرّ ، ولذا ذكروا أنّ الوجود من عوارض الماهية ، بمعنى أنّه خارج عن حيطة ذاتها ومحمول عليها ، فما ذكره السيِّد الشريف وغيره من أنّ الشيء عرض عام هو الصحيح.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّه على تقدير أخذ مصداق الشيء في المشتق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٢.

٣١١

لزم انقلاب مادة الامكان إلى الضرورة ، فيردّه :

أوّلاً : أنّ المأخوذ ليس واقع الشيء ومصداقه ، بل مفهومه كما عرفت.

وثانياً : على تقدير تسليم أنّ المأخوذ مصداقه ، إلاّ أنّه لا يوجب الانقلاب كما توهمه ، لما سيجيء بيانه تفصيلاً إن شاء الله تعالى ، بل عدم أخذه من جهة محذور آخر قد تقدّم بيانه (١).

الثاني : ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره من أنّه لو اخذ مفهوم الشيء في المشتقات يلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضرورية ، فان قولنا : الانسان ضاحك أو كاتب ، من القضايا الممكنة ، نظراً إلى أنّ كلاً من ثبوت الضحك أو الكتابة وعدمه ممكن للانسان ، فلو كان معنى الكاتب أو الضاحك شيء له الكتابة أو الضحك فالقضيّة ضرورية ، باعتبار أنّ صدق الشيء بما هو على جميع الأشياء ضروري ، فلو كان الشيء مأخوذاً في المشتق لزم الانقلاب (٢).

والجواب عنه ما ذكره صاحب الكفاية (٣) وشيخنا الاستاذ (٤) قدس‌سرهما وتوضيحه :

أنّ الشيء تارةً يلاحظ مطلقاً ولا بشرط ، واخرى يلاحظ مقيداً بقيد ، وذلك القيد إمّا أن يكون مبايناً للانسان أو مساوياً له أو عاماً أو خاصاً.

فان لوحظ على النحو الأوّل ، فثبوته وإن كان للانسان وغيره ضرورياً إلاّ أنّه خارج عن الفرض.

__________________

(١) في ص ٣٠٥.

(٢) الفصول الغرويّة : ٦١.

(٣) كفاية الاصول : ٥٢.

(٤) أجود التقريرات ١ : ١٠٥ وما بعدها.

٣١٢

وإن لوحظ على النحو الثاني ، فان كان القيد الملحوظ فيه أمراً مبايناً للانسان امتنع ثبوته له ، كما إذا لوحظ الشيء مقيداً بالطيران إلى السماء مثلاً أو ما شابه ذلك ، فانّه بهذا القيد يستحيل صدقه عليه فالامتناع حينئذ ضروري.

وإن كان القيد أمراً مساوياً له ، فهو إمّا أن يكون ممكن الثبوت له أو ثبوته ضروري. فعلى الأوّل القضيّة ممكنة كقولنا : الانسان ضاحك أو متعجب أو كاتب ، وعلى الثاني ضرورية كقولنا : الانسان متكلم أو ناطق.

وإن كان عامّاً فثبوته له دائماً ضروري كقولنا : الانسان حيوان أو ماشٍ أو جوهر وما شاكله.

وإن كان خاصّاً فثبوت الانسان له ضروري على عكس المقام ، كقولنا :

زيد انسان ، العربي انسان ، العجمي انسان وهكذا ... وهذا ـ أي ثبوت الانسان للأخص منه ـ إنّما يكون ضرورياً إذا لوحظ الانسان لا بشرط ، وأمّا إذا لوحظ بشرط شيء من العلم أو الكتابة أو ما شاكل ذلك فلا يكون ثبوته لزيد أو نحوه ضرورياً ، بل هو ممكن وإن كان ثبوته لمن هو متصف بهذا الشيء فعلاً ضرورياً ، والسر في جميع هذا ، هو أنّ المحمول ليس ذات المقيد بما هي ، بل المقيد بما هو مقيد على نحو خروج القيد ودخول التقيد.

وعلى هذا الضوء يتبين : أنّ ثبوت مفهوم الشيء بما هو ومطلقاً لما صدق عليه وإن كان ضرورياً ، إلاّ أنّه لا يستلزم أن يكون ثبوته مقيداً بقيدٍ ما وبشرط شيء أيضاً كذلك ، لما عرفت من اختلاف القيود وجوباً وإمكاناً وامتناعاً.

فما أفاده المحقق صاحب الفصول قدس‌سره من لزوم الانقلاب في صورة أخذ مفهوم الشيء في المشتق غير صحيح ، بل إنّه حسب التحليل لا يرجع إلى معنىً معقول أصلاً.

٣١٣

ومن مجموع ما ذكرناه يستبين : أنّه لا وجه لدعوى الانقلاب ، حتّى لو كان المأخوذ فيه مصداق الشيء وواقعه ، وذلك لأنّ قضيّة الانسان كاتب مثلاً ، وإن انحلت على هذا إلى قضيّة الانسان إنسان له الكتابة ، إلاّ أنّ المحمول فيها ليس هو الانسان وحده ، ليكون ثبوته للانسان من قبيل ثبوت الشيء لنفسه الذي هو ضروري ، بل المحمول هو الانسان المقيد بالكتابة ، ومن المعلوم أنّ ثبوته بهذا الوصف لا يكون ضرورياً.

ودعوى انحلال القضيّة على هذا إلى قضيّتين : إحداهما ضرورية ، والاخرى ممكنة ، مدفوعة بأ نّا لا نسلّم الانحلال ، وذلك لأنّه إن اريد بالانحلال انحلال عقد الوضع إلى قضيّة فعلية أو ممكنة على النزاع بين الشيخ الرئيس والفارابي (١) فهو جارٍ في جميع القضايا فلا يختص ببعض دون بعض ، وإن اريد به الانحلال الحقيقي بأن يدعى أنّ قضيّة الإنسان كاتب مثلاً تنحل حقيقة إلى قضيّتين مزبورتين ، ففيه أنّا لا نعقل له معنىً محصّلاً.

نعم ، المحمول منحل إلى أمرين ، وهذا ليس من انحلال القضيّة إلى قضيّتين في شيء ، إلاّ أن يقال إنّ مرادهم من انحلال القضيّة ذلك ، فلو كان كذلك فلا بأس بهذا الانحلال ، ولا محذور فيه ، وإنّما المحذور هو انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة ، وقد عرفت أنّ تركب المشتق لا يستلزمه.

فتلخص : أنّه لا محذور في أخذ مصداق الشيء في المشتق إلاّما ذكرناه.

وكيف كان ، فالأمر ظاهر فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك كما عن شيخنا المحقق قدس‌سره (٢) وغيره.

__________________

(١) شرح المطالع : ١٢٨.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٢١٦ وما بعدها.

٣١٤

الثالث : ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ أخذ مفهوم الشيء في المفاهيم الاشتقاقية يستلزم تكرّر الموضوع في قضيّة زيد قائم ، الإنسان كاتب وما شاكلهما ، والتكرر خلاف الوجدان والمتفاهم عرفاً من المشتقات عند استعمالاتها في الكلام (١).

ولايخفى أنّه قد سبق (٢) أنّ المأخوذ فيها شيء مبهم معرىً عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ به ، ولا تعيّن له إلاّبالانطباق على ذوات معيّنة في الخارج ، كزيد وعمرو ونحوهما. وعليه فلا يلزم التكرار في مثل قولنا :

زيد قائم ، والانسان كاتب ونحوهما ، بداهة أنّه لا فرق بين جملة : الإنسان كاتب ، وجملة : الانسان شيء له الكتابة ، فكما لا تكرار في الجملة الثانية فكذلك في الاولى على التركيب ، فانّ التكرار إعادة عين ما ذكر أوّلاً مرّة ثانية ، وهو منتفٍ هنا.

نعم ، إنّما يلزم ذلك لو كان المأخوذ في المشتقات مصداق الشيء وواقعه ، ولكنّك عرفت أنّه غير مأخوذ فيه ، فالمأخوذ هو مفهوم الشيء على نحو الابهام والاندماج ، وعليه فلا تكرار.

الرابع : ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٣) من أنّا لو سلّمنا إمكان أخذ الشيء في المبدأ الاشتقاقي إلاّ أنّه لم يقع في الخارج ، وذلك لأنّ الواضع في مقام وضع لفظ لمعنى لا بدّ له من ملاحظة فائدة مترتبة عليه ، وإلاّ كان الوضع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٤.

(٢) في ص ٣٠٦.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٩٩.

٣١٥

لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم ، والفائدة المترقبة من أخذ مفهوم الذات في المشتق هي توهم عدم صحّة حمله على الذات بدونه ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فانّ الملاك المصحح للحمل هو اعتبار المبدأ في المشتق لا بشرط على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإذن يصبح أخذ مفهوم الشيء والذات فيه لغواً محضاً.

ولا يخفى أنّ أخذ الذات في المشتق ممّا لا بدّ منه ، لاحتياج حمل العرض على موضوعه إلى ذلك ، لما سنذكره (١) إن شاء الله تعالى من أنّ وجود العرض في الخارج مباين لوجود الجوهر فيه ، وإن كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، إلاّ أنّهما لايكونان متحدين خارجاً ليصح حمل أحدهما على الآخر ، وملاك صحّة الحمل كما ذكرناه غير مرّة الاتحاد في الوجود ، وهو منتفٍ بين العرض وموضوعه ، ومجرد اعتبار العرض لا بشرط لا يوجب اتحاده معه ، فانّه لا ينقلب الشيء عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة ، فانّ المغايرة ليست بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر غيره ، ومن الظاهر أنّ وجود العرض غير وجود الجوهر في نفسه ، ولا يتحد معه باعتبار لا بشرط.

الخامس : ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) أيضاً : وهو أنّه يلزم من أخذ الذات في المشتق أخذ النسبة فيه أيضاً ، إذ المفروض أنّ المبدأ مأخوذ فيه ، فيلزم حينئذ اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض واحد ، إحداهما في تمام القضيّة والاخرى في المحمول فقط ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به أصلاً. على أنّ لازم ذلك أن تكون المشتقات مبنية لاشتمالها على المعنى الحرفي وهو النسبة.

ولا يخفى ما فيه ، أمّا ما ذكره قدس‌سره أوّلاً من لزوم اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض واحد ، فيردّه : أنّ ذلك لو صحّ فانّما يلزم فيما لو كان المأخوذ فيه ذات خاصّة ، مع أنّه لا يلزم على هذا أيضاً ، لأنّ النسبة في طرف المحمول لم تلحظ بنفسها وباستقلالها لتكون نسبة تامّة خبرية في عرض

__________________

(١) في ص ٣١٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٠٠.

٣١٦

النسبة في تمام القضيّة ، بل هي نسبة تقييدية مغفول عنها في الكلام ، وإنّما تصير تامّة خبرية في صورة الانحلال وهي خلاف الفرض ، ولا مانع من اشتمال الكلام الواحد على نسبة تقييدية ونسبة تامّة خبرية ، فلو كان هذا محذوراً لم يختص ذلك بالمشتقات بل يعم كثيراً من القضايا والجملات كما لا يخفى.

هذا كلّه على تقدير أن يكون المأخوذ في مفهوم المشتق مصداق الشيء ، ولكن عرفت أنّ الأمر ليس كذلك ، بل المأخوذ فيه هو ذات مبهمة معراة عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها ، وعليه فلا موضوع لما أفاده قدس‌سره.

وأمّا ما ذكره ( قدس‌سره ) ثانياً فهو غريب ، وذلك لأنّ مجرد المشابهة للحروف لا يوجب البناء ، وإنّما الموجب له هو مشابهة خاصّة ، وهي فيما إذا شابه الاسم من الحروف حسب وضعه كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ، فانّها حسب وضعها بما لها من المادة والهيئة تشبه الحروف. وأمّا ما كان من الأسماء مشتملاً على النسبة بهيئته فقط دون مادته كالمشتقات ، فهو ليس كذلك وأنّ هذه المشابهة لا توجب البناء.

أو فقل : إنّ مادة المشتقات وضعت لمعنى حدثي مستقل بوضع على حدة ، فهي لا تشابه الحروف أصلاً ، وأمّا هيئاتها باعتبار اشتمالها على النسب وإن كان تشابه الحروف إلاّ أنّها لا توجب البناء.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين أنّ شيئاً من هذه الوجوه لا يتم ، فيتعين حينئذ القول بالتركيب ، بل أصبح هذا ضرورياً.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ذكر أنّ وجود العرض في حد نفسه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٨.

٣١٧

عين وجوده لموضوعه ، بمعنى أنّ العرض غير موجود بوجودين : أحدهما لنفسه.

والآخر لموضوعه ، بل وجوده النفسي عين وجوده الرابطي ، فوجوده في الخارج هو الرابط بين موضوعاته.

وعليه فحيث إنّ للعرض حيثيتين واقعيتين : إحداهما وجوده في نفسه.

والاخرى وجوده لموضوعه ، فقد يلاحظ بما أنّه شيء من الأشياء ، وأنّ له وجوداً بحياله واستقلاله في مقابل وجود الجوهر كذلك ، فهو بهذا الاعتبار عرض مباين لموضوعه وغير محمول عليه. وقد يلاحظ على واقعه بلا مؤونة اخرى ، وأنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فهو بهذا الاعتبار عرضي ومشتق ، وقابل للحمل على موضوعه ، ومتحد معه حيث إنّه من شؤونه وأطواره فانّ شأن الشيء لا يباينه.

ويردّه أوّلاً : أنّ هذا الفرق ليس فارقاً بين المشتق ومبدئه ، بل هو فارق بين المصدر واسم المصدر ، وذلك لأنّ العرض كالعلم مثلاً كما عرفت أنّه متحيث بحيثيتين واقعيتين : حيثية وجوده في حد نفسه ، وحيثية وجوده لغيره ، فيمكن أن يلاحظ مرّةً بإحداهما وهي أنّه شيء من الأشياء ، وأنّ له وجوداً في نفسه في مقابل وجود الجوهر ، وبهذا الاعتبار يعبّر عنه باسم المصدر.

ويمكن أن يلاحظ مرّةً ثانيةً بالحيثية الاخرى ، وهي أنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، وأ نّه من أطواره وعوارضه ، وبهذا الاعتبار يعبّر عنه بالمصدر ، إذ قد اعتبر فيه نسبته إلى فاعلٍ ما ، دون اسم المصدر.

وإن شئت قلت : إنّ اسم المصدر وضع للدلالة على الوجود المحمولي في قبال العدم كذلك ، والمصدر وضع للدلالة على الوجود النعتي في قبال العدم النعتي ، هذا بحسب المعنى.

٣١٨

وأمّا بحسب الصيغة ففي اللغة العربية قلّما يحصل التغاير بين الصيغتين ، بل الغالب أن يعبّر عنهما بصيغة واحدة كالضرب مثلاً ، فانّه يراد به تارةً المعنى المصدري واخرى ذات الحدث ، فهما مشتركان في صيغة واحدة. وأمّا في اللغة الفارسية ففي الغالب أنّ لكل واحد منهما صيغة مخصوصة فيقال : كُتك وزدن ، گردش وگرديدن ، آزمايش وآزمودن ، إلى غير ذلك.

ومن ذلك يتبيّن : أنّ المصدر أو اسم المصدر لايصلح أن يكون مبدأً للمشتقات ، لاشتمال كل واحد منهما على خصوصية زائدة ، والمبدأ الساري فيها لفظاً ومعنىً لا بدّ أن يكون معرىً عن كل خصوصية من الخصوصيات حتّى لحاظه بأحد النحوين المذكورين ، مثلاً المبدأ في كلمة « ضرب » هو عبارة عن الضاد والراء والباء وهو مبدأ لجميع المشتقات منها المصدر واسم المصدر.

أو فقل : إنّ المبدأ كالهيولى الاولى ، فكما أنّها عارية عن كل خصوصية من الخصوصيات وإلاّ فلا تقبل أيّة صورة ترد عليها ، ولا تكون مادة لجميع الأشياء فكذلك المبدأ ، وهذا بخلاف المصدر أو اسم المصدر ، فانّ كل واحد منهما مشتمل على خصوصية زائدة على نفس الحدث المشترك بينهما.

فالنتيجة : أنّ الفرق المذكور ليس فارقاً بين المبادئ والمشتقات ، بل هو فارق بين المصدر واسم المصدر.

وثانياً : لا ريب في أنّ وجود العرض يباين وجود الجوهر خارجاً ، وإن كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، إلاّ أنّه ليس بمعنى أنّ وجوده وجود موضوعه ، بل هو غيره حقيقة وواقعاً ، وليست هذه المغايرة والمباينة بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر.

وعليه فكيف يقال : العرض إن لوحظ لا بشرط وعلى ما هو في الواقع وأنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه وأ نّه طور من أطواره وشأن من شؤونه ومرتبة من وجوده فهو متحد معه ، وإن لوحظ بشرط لا وعلى حياله واستقلاله

٣١٩

وأ نّه شيء من الأشياء فهو مغاير له ، فان كل ذلك لايصحح اتحاده مع موضوعه وجوداً وحقيقة ، ضرورة أنّ مجرد اعتباره لا بشرط وكونه من أطوار وجود موضوعه وشؤونه لا يوجب انقلاب الشيء عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة إلى الاتحاد بينهما وجوداً.

وقد ذكرنا سابقاً في بحث صحّة السلب أنّ حمل شيء على شيء يتوقف على المغايرة من جهةٍ والاتحاد من جهة اخرى ، بأن يكونا موجودين بوجود واحد ينسب ذلك الوجود الواحد إلى كل واحد منهما بالذات أو بالعرض أو إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض ، وما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات. ومن الواضح أنّ العرض كما يباين الجوهر مفهوماً ، كذلك يباينه وجوداً ، ومجرد اعتباره لا بشرط بالاضافة إلى موضوعه لا يوجب اتحاده معه حقيقةً وخارجاً ، وهذا واضح لا ريب فيه.

وثالثاً : لو تمّ هذا فانّما يتم في المشتقات التي تكون مبادؤها من المقولات التسع العرضية التي يكون وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها. ولكن قد سبق أنّ النزاع لا يختص بها ، بل يعم المشتقات التي تكون مبادؤها من الامور الاعتبارية كالملكية والزوجية وما شاكلهما ، أو من الامور الانتزاعية كالإمكان والوجوب والامتناع ، أو من الامور العدمية.

ومن الظاهر أنّ اعتبار اللاّ بشرط في هذه المشتقات لا يجدي في شيء ، بداهة أنّ العدم ليس من عوارض ذات المعدوم ، وكيف يعقل اتحاده معها إذا لوحظ لا بشرط ، فانّه لا وجود له ليقال إنّ وجوده طور من أطوار وجود موضوعه ، والامتناع ليس من عوارض ذات الممتنع ، فانّه لا وجود له خارجاً ليقال إنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه. والوجوب ليس عرضاً مقولياً لذات الواجب تعالى. والإمكان ليس من عوارض ذات الممكن كالإنسان مثلاً ، وكذا

٣٢٠