محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

______________________________________________________

مركب من معنى اسمي وحرفي هذا (١).

ويردّه أوّلاً : أنّ الاختلاف بين المعنى الحرفي والاسمي كما عرفت اختلاف بالذات والحقيقة لا باللحاظ الآلي والاستقلالي ، فالمعنى الحرفي حرفي وإن لوحظ استقلالاً ، والمعنى الاسمي اسمي وإن لوحظ آلياً ، وقد اعترف هو قدس‌سره أيضاً بذلك ، وعليه فالارادة معنى اسمي وإن لوحظت آلة ، ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي حتّى يلزم وضع اللفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي. على أنّك قد عرفت أنّ المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي ملحوظ استقلالاً لا آلياً ، فلا وجه حينئذ لتخصيص الايراد بصورة أخذ الارادة قيداً لا جزءاً ، إلاّ أن يكون مراده من المعنى الحرفي نفس التقيد بالارادة لا نفس الارادة ، فانّه معنى حرفي. ولكنّه مدفوع أوّلاً : بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركبة أو المقيدة ، فانّ معانيها متضمنة للمعنى الحرفي لا محالة ، إذ كل جزء مقيد بجزء آخر فالتقيد معنى حرفي. وثانياً : أنّه لا مانع من وضع لفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي إذا دعت الحاجة إليه ، فإذا فرض أنّ الغرض تعلّق بوضع الألفاظ للمعاني المقيّدة بارادة المتكلم فلا مانع من وضع الألفاظ لها كذلك ، إذ الوضع فعل اختياري للواضع فله أن يقيد المعنى الموضوع له بقيود ما ولا محذور فيه ، والاستقراء المدعى في كلامه قدس‌سره لو تمّ فلا يدل على استحالة ذلك الوضع. على أنّ ذلك لو تمّ فانّما يتم إذا كان الواضع من أهل كل لغة واحداً أو جماعة معينين ليثبت له الطريقة الخاصة في الوضع التي فرض عدم جواز التخلف عنها ، إلاّ أنّه فرض في فرض.

وثانياً : أنّه لا أساس لذلك الايراد أصلاً ، فانّه مبتن على أخذ الارادة في المعنى ـ

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ : ٩٢.

١٢١

فالنتيجة : هي أنّ جعل الارادة من قيود العلقة الوضعية لايدع مجالاً للايرادات ، لابتنائها جميعاً على أخذ الارادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها ، وقد ظهر أنّ الأمر خلاف ذلك وأنّ الارادة لم تؤخذ في المعاني لا قيداً ولا جزءاً ، بل هي مأخوذة في العلقة الوضعية فهي تختص بصورة إرادة تفهيم تلك المعاني (١) بنحو

______________________________________________________

الموضوع له ، وأمّا إذا لم تؤخذ فيه أبداً ، بل كانت مأخوذة في العلقة الوضعية فلا مجال لذلك الايراد.

(١) وأورد بعض الأعاظم قدس‌سره على ما في تقريرات بعض تلاميذه على ذلك بماملخّصه هو : أنّ اللفظ لا يدل بالدلالة الوضعية على أنّ المتكلم أراد المعنى في الواقع ، لأنّ تحصيله بالوضع لا يمكن فالذي يمكن تحصيله بالوضع هو الدلالة التصورية ، ضرورة أنّ السامع شاك في أنّ المتكلم يريد هذا المعنى واقعاً فيفتقر السامع في إحراز أنّ المتكلم أراد هذا المعنى في الواقع إلى دلالة اخرى كأصالة الظهور والحقيقة ، فلا يكون الوضع وحده كافياً لاثبات ذلك ، ومعه فالوضع لذلك يصبح لغواً وعبثاً ، فلا يكون هذا غرضاً للواضع من الوضع ، بل الغرض منه تهية مقدمة من مقدمات الافادة (١).

أقول : لا شبهة في أنّ الغرض الداعي إلى الوضع الباعث للواضع الحكيم عليه إنّما هو إبراز المقاصد والمرادات النفسانية ، فلولا الجعل والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة تفهيم المعاني لم يمكن إبرازها ، بل اختلت أنظمة الحياة كلّها ، فلذلك يصبح الوضع ضرورياً ، ولولا ذلك لما احتجنا إلى الوضع أبداً ، فالتشكيك فيه تشكيك في البداهة. وعلى ذلك فلا يشك أيضاً أحد في أنّ اللفظ الصادر من المتكلم يدل على أنّه أراد تفهيم معناه بمقتضى قانون الوضع ، فهذه الدلالة لا تتوقف على ما عدا إحراز كون ـ

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ : ٩٣.

١٢٢

القضيّة الحقيقية وبنحو القوّة والتقدير ، وفي مرحلة الاستعمال تخرج من القوّة والتقدير إلى الفعلية والتحقق ، ولعل لأجل ذلك الاختصاص قد عبّر عن الموضوع له بالمعنى باعتبار كونه مقصوداً بالتفهيم.

قد أصبحت النتيجة بوضوح : أنّ الدلالة الوضعية تنحصر بالدلالة التصديقية ولا مناص من الالتزام بتلك النتيجة ، ولا يرد عليها شيء من الايرادات التي تقدّمت ، هذا تمام الكلام في الدلالات الثلاث.

وضع المركّبات

وقبل البدء فيه ينبغي التنبيه على مقدمة وهي : أنّ محل الكلام هنا في وضع المركب بما هو مركب أعني وضعه بمجموع أجزائه من الهيئة والمادة ، مثلاً في قولنا : زيد شاعر قد وضعت كلمة زيد لمعنى خاص ، وكلمة شاعر لمعنى آخر ، والهيئة القائمة بهما لمعنى ثالث ، فكل ذلك لا إشكال ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام والإشكال في وضع مجموع المركب من هذه المواد على حده ، وأمّا وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع أو مع إفادة

__________________

المتكلم في مقام التفهيم ، وهي موجودة حتّى فيما إذا علم المخاطب كذب المتكلم في كلامه إذا لم ينصب قرينة متصلة على أنّه ليس في مقام التفهيم.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره قدس‌سره من الايراد مبني على الخلط بين الارادة التفهيمية والارادة الجدية ، فانّ الثانية يحتاج إثباتها في الواقع ومقام الثبوت إلى مقدمة اخرى وهي التمسك بأصالة الظهور أو الحقيقة دون الاولى.

وعلى الجملة : فاللفظ بمقتضى قانون الوضع والتعهد يدل على إرادة المتكلم تفهيم معناه سواء كانت هذه الارادة متصادقة مع الارادة الجدية في مقام الثبوت والواقع أم كانت على خلافها.

١٢٣

خصوصية اخرى أيضاً ، أو لابراز أمر نفساني غير قصد الحكاية.

فعلى ضوء هذه المقدّمة قد ظهر أنّ الصحيح هو أنّه لا وضع للمركب بما هو مركب بيان ذلك : هو أنّ كل جملة ناقصة كانت أو تامّة لها أوضاع متعددة باعتبار وضع كل جزء جزء منه أقلّها ثلاثة حسب ما يدعو إليه الحاجة ، مثلاً جملة زيد انسان لها أوضاع ثلاثة : ١ ـ وضع زيد. ٢ ـ وضع انسان. ٣ ـ وضع الهيئة القائمة بهما. ولجملة الانسان متعجب أوضاع أربعة : ١ ـ وضع الانسان.

٢ ـ وضع متعجب مادة. ٣ ـ وضعه هيئة. ٤ ـ وضع الهيئة القائمة بالجملة.

ولجملة زيد ضارب عمر أوضاع ستّة : ١ ـ وضع زيد. ٢ ـ وضع ضارب مادة. ٣ ـ وضعه هيئة. ٤ ـ وضع الهيئة القائمة بجملة زيد ضارب. ٥ ـ وضع عمرو. ٦ ـ وضع الهيئة القائمة بالمجموع. وهكذا إلى أن ربّما يبلغ الوضع إلى عشرة أو أزيد على اختلاف الأغراض الموجبة لاختلاف المركبات زيادة ونقيصة ، فانّ الغرض قد يتعلق بالمركب من شيئين ، وقد يتعلق بالمركب من أشياء ثلاثة ، وقد يتعلق بالمركب من أشياء أربعة ، وهكذا.

ومن الواضح أنّ هذه الأوضاع وافية لافادة الأغراض والمقاصد المتعلقة بالمركبات ، سواء كان الغرض قصد الحكاية عن الواقع ، أو إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية ، ولا يبقى أيّ غرض لا تكون تلك الأوضاع وافية لافادته ، لنحتاج إلى وضع المركب بما هو على حدة لافادة ذلك الغرض ، مثلاً هيئة ضرب زيد تدل على قصد الحكاية عن حدوث تلبس زيد بالمبدأ في الخارج ، كما أنّ جملة ما أكرم القوم إلاّزيداً تدل على حصر الاكرام بزيد زائداً على دلالتها على قصد الاخبار عن تلبس القوم بذلك. وهيئة إنّ زيداً عادل تدل على التأكيد وهيئة ضرب موسى عيسى تدل على أنّ موسى فاعل ، لعدم دال آخر هنا غير تلك الهيئة ، وهكذا.

وعلى الجملة : فالمتكلم متى ما أراد تفهيم خصوصية من الخصوصيات وإبرازها

١٢٤

في الخارج يتمكن من ذلك بهيئة من الهيئات ، وعليه فلسنا بحاجة إلى وضع المركب بما هو ، بل هو لغو وعبث.

وممّا يدلنا على ذلك ـ أي على عدم وجود وضع مستقل للمركبات بما هي ـ مضافاً إلى لغويته ، أنّه يستلزم إفادة المعنى الواحد مرّتين والانتقال إليه بانتقالين ، وذلك لفرض تعدد الوضع الذي يقتضي تعدد الإفادة والانتقال ، وهذا كما إذا تكلم الانسان بلفظ الدار مرّة ، وبكلمات الحائط والغرفة والساحة اخرى ، فانّه لا ريب حينئذ في أنّ الانتقال إلى المعنى يكون مرّتين غايته أنّهما طوليان.

وأمّا في مقامنا فلو التزمنا بتعدد الوضع للزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين ، وذلك لأنّ المركبات بما هي لو كان لها وضع فلا محالة كان وضعها لافادة ما يستفاد من مجموع الهيئة والمادة في الجملة ، لعدم معنى آخر على الفرض ، وعليه فلزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين لتحقق كل من الدالين في عرض تحقق الآخر ، وهذا مخالف للوجدان كما هو واضح. ومن هنا لم نجد قائلاً به وإن كان ابن مالك (١) قد نسب القول به إلى بعض ، ولكن من المحتمل قوياً أن يكون النزاع لفظياً بأن يكون مراد القائل بالوضع وضع هيئة المركب لا هو بنفسه.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره أهل الأدب من تقسيم المجاز إلى المجاز في المفرد وإلى المجاز في المركب (٢) غير صحيح ، وذلك لأنّ الاستعمال المجازي فرع وجود الموضوع له ، فاذا فرض عدم الموضوع له للشي فلا يعقل المجاز فيه ، وقد عرفت أنّ المركب بما هو لم يوضع لشيء ومعه كيف يتصور المجاز فيه.

نعم ، يجوز تشبيه المركب بالمركب كما في قوله تبارك وتعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانه.

(٢) مفتاح العلوم : ٣٦٢.

١٢٥

الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)(١) وكذا يجوز الكناية في المركب كما في قولهم : أراك تقدّم رجلاً وتؤخر اخرى ، فهو كناية عن التردد الحاصل في النفس الموجب لذلك.

الوضع الشخصي والنوعي

قسّموا الوضع إلى نوعي كوضع الهيئات وإلى شخصي كوضع المواد.

ولا يخفى أنّ المراد بالوضع الشخصي ليس وضع شخص اللفظ الصادر من المتكلم ، فان شخصه قد انقضى وانعدم فلا يمكن إعادته ، وما يصدر منه ثانياً هو مثله لا عينه ، بل المراد منه وضع اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الذاتية في قبال وضع اللفظ بجامعه العنواني ووحدته الاعتبارية ، هذا.

وقد يشكل على ذلك : بأنّ ملاك شخصية الوضع في المواد إن كان وحدة كل واحدة منها طبيعة وذاتاً وامتيازها عن مادة اخرى بذاتها ، فهو بعينه موجودة في الهيئات ، فان كل هيئة بنفسها وبشخصها ممتازة عن هيئة اخرى ، مثلاً هيئة فاعل ممتازة بذاتها عن سائر الهيئات فلها وحدة طبيعية وشخصية ذاتية ، وإن كان ملاك نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاص الهيئة بمادة دون مادة فهو موجود بعينه في المواد ، بداهة عدم اختصاص المادة بهيئة دون هيئة اخرى ، مثلاً مادة ( ض ر ب ) كما هي موجودة في ( ضرب ) كذلك موجودة في زنة ( ضارب ) و ( مضروب ) ونحو ذلك من الأوزان ، فلا فرق بين الهيئة والمادة ليكون وضع الاولى نوعياً والثانية شخصياً.

وقد أجاب عنه شيخنا المحقق قدس‌سره بوجهين ، وإليك قوله :

١ ـ والتحقيق أنّ جوهر الكلمة ومادتها ، أعني الحروف الأصلية المترتبة

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٧.

١٢٦

الممتازة عن غيرها ذاتاً أو ترتيباً ، أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه فيلاحظ بوحدته الطبيعية وتوضع لمعنى ، بخلاف هيئة الكلمة ، فانّ الزنة لمكان اندماجها في المادة لا يعقل أن تلاحظ بنفسها لاندماجها غاية الاندماج في المادة ، فلا استقلال لها في الوجود اللحاظي كما في الوجود الخارجي كالمعنى الحرفي ، فلا يمكن تجريدها ولو في الذهن عن المواد ، فلذا لا جامع ذاتي لها كحقائق النسب ، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولهم : كل ما كان على زنة فاعل ، وهو معنى نوعية الوضع ، أي الوضع لها بجامع عنواني لا بشخصيتها الذاتية.

٢ ـ أو المراد أنّ المادة حيث يمكن لحاظها فقط فالوضع شخصي ، والهيئة حيث لا يمكن لحاظها فقط إلاّفي ضمن مادة فالوضع لها يوجب اقتصاره عليها فيجب أن يقال : هيئة فاعل وما يشبهها ، وهذا معنى نوعية الوضع ، أي لا لهيئة شخصية واحدة بوحدة طبيعية بل لها ولما يشبهها فتدبر (١) ، انتهى.

وما أفاده قدس‌سره من الجواب في غاية المتانة وحاصله : أنّ كل مادة يمكن للواضع أن يلاحظها بشخصها وبوحدتها الطبيعية ، مثلاً لفظ الانسان أو مادة ( ض ر ب ) يمكن أن يلاحظه بشخصه وبوحدته ويوضع لمعنى ، فالوضع لا محالة يوجب الاقتصار على تلك المادة أو ذلك اللفظ فلا ينحل إلى أوضاع عديدة ، فيكون نظير الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، وهذا بخلاف الهيئة ، فانّها حيث لا يمكن أن تلاحظ بشخصها ووحدتها الذاتية بدون مادة ما ، يجب أن توضع بجامع عنواني ، ومن هنا ينحل إلى أوضاع متعددة فيثبت لكل هيئة وضع خاص مستقل نظير وضع العام والموضوع له الخاص ، وهذا معنى كون الوضع فيها نوعياً ، أي أنّ الملحوظ حال الوضع جامع عنواني ، ولكن الموضوع

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٧٧.

١٢٧

معنون هذا العنوان لا نفسه.

والنتيجة : أنّ الوضع ينحل إلى أوضاع عديدة بتعدد أفراد تلك الهيئة الانتزاعية ، وهذا معنى أنّ الوضع نوعي. وهذا بخلاف المواد ، فان شخص كل مادة موضوع بازاء معنى ما ، فلأجل ذلك كان الوضع فيها شخصياً.

الأمر الثامن

علامات الحقيقة والمجاز

إنّهم ذكروا للحقيقة علائم :

منها : التبادر وهو خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ وإطلاقه من دون لحاظ أيّة قرينة وعناية في البين من حالية أو مقالية ، ومن الواضح أنّ مثل هذا التبادر معلول للوضع لا محالة وكاشف عنه كشفاً إنياً ، والوجه في ذلك : هو أنّ دلالة اللفظ لا تخلو إمّا أن تكون ذاتية ، أو تكون جعلية ، وعلى الثاني إمّا أن تكون الدلالة مع القرينة أو بدونها.

أمّا الاولى فقد عرفت بطلانها على ما حققناه في مسألة الوضع.

وأمّا الثانية فهي خارجة عن مفروض كلامنا في المقام ، فيتعين الثالثة فيدل التبادر على الوضع.

وبتعبير آخر : أنّ مطلق تبادر المعنى من إطلاق اللفظ وفهمه منه ليس علامة لاثبات الحقيقة ، بل العلامة حصّة خاصة منه وهي فهم المعنى من اللفظ نفسه بلا معونة خارجية ، وهي كاشفة عن الوضع لا محالة ، كما يكشف المعلول عن علّته.

١٢٨

وقد يورد على ذلك : باستلزامه الدور ، بيانه : أنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الوضع وحده لا يكفي للتبادر ولا يكون علّة تامّة له ، فانّ الموجب للتبادر هو العلم بالوضع لا نفسه ، فلو انتفى العلم به انتفى التبادر ، فينتج أنّ التبادر في الحقيقة معلول للعلم بالوضع ، فلو كان العلم بالوضع متوقفاً عليه لدار.

وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بوجهين :

الأوّل : أنّ التبادر عند العالم بالوضع علامة الحقيقة للجاهل به ، فالمستعلم يرجع في ذلك إلى العالم بالوضع ، كما هو طريقة دارجة بين أهل المحاورة في مقام استعلام اللغات الأجنبية وتعاليمها ، وبذلك يندفع الدور من أصله.

الثاني : أنّ التبادر وإن كان متوقفاً على العلم بالوضع لا محالة إلاّ أنّ ذلك العلم ارتكازي مكنون في خزانة النفس ، وثابت في حافظة أهل كل لغة بالقياس إلى لغاتهم ، وهم يستعملون تلك اللغات في معانيها حسب ذلك الارتكاز من دون التفات تفصيلي منهم إلى خصوصيات تلك المعاني من حيث السعة والضيق ، فإذا حصل الالتفات منهم إلى خصوصيات تلك المعاني حصل لهم العلم تفصيلاً بها ، وبذلك تحصل المغايرة بين العلمين فارتفع الدور من البين.

ثمّ لا يخفى أنّ تبادر المعنى من نفس اللفظ من دون قرينة لا يثبت به إلاّ وضع اللفظ لذلك المعنى ، وكون استعماله فيه حقيقياً في زمان تبادره منه ، وأمّا وضعه لذلك المعنى في زمان سابق عليه فلا يثبت بالتبادر المتأخر ، فلا بدّ في إثبات ذلك من التشبث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجيته في خصوص باب الظهورات بقيام السيرة العقلائية وبناء أهل المحاورة عليه ، فانّهم يتمسّكون بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجة أقوى على خلافه ، بل

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨.

١٢٩

على ذلك الأصل تدور استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ، ضرورة أنّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا ، ولكن ببركة ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضاً ما لم تثبت قرينة على خلافها ، وسمِّي ذلك الاستصحاب بالاستصحاب القهقرى ، فانّه على عكس الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة ، فانّ المتيقن فيه أمر سابق ، والمشكوك فيه لاحق ، على عكس الاستصحاب القهقرى فانّ المشكوك فيه ، أمر سابق ، والمتيقن لاحق.

هذا كلّه فيما إذا احرز التبادر وعلم أنّ المعنى ينسبق إليه الذهن من نفس اللفظ ، وأمّا إذا لم يحرز ذلك ، واحتمل أنّ ظهور اللفظ مستند إلى وجود قرينة داخلية أو خارجية فلا يمكن إثبات الحقيقة بأصالة عدم القرينة ، إذ لا دليل على حجيته ، فانّه إن تمسك في إثبات حجيته بأخبار الاستصحاب ، فيردّه أنّ الاستصحاب لا يثبت اللوازم غير الشرعية ، ومن الظاهر أنّ استناد الظهور إلى نفس اللفظ من لوازم عدم القرينة عقلاً ، فلا يثبت باستصحاب عدمه.

وإن تمسّك فيه ببناء العرف على عدم الاعتناء باحتمال القرينة ، فيردّه أنّ بناء العرف وأهل المحاورة إنّما يختص بما إذا شكّ في مراد المتكلم ولم يعلم أنّه المعنى الحقيقي أو معنى آخر غيره ، وقد نصب على إرادته قرينة قد خفيت علينا ، وأمّا إذا علم المراد وشكّ في أنّ ظهور اللفظ فيه من جهة الوضع أو من جهة القرينة ، فلا بناء من أبناء المحاورة على عدم الاعتناء باحتمال القرينة. فتلخّص : أنّ إثبات الحقيقة يتوقّف على إحراز أنّ الظهور مستند إلى نفس اللفظ لا إلى القرينة.

ومنها : أي علائم الحقيقة عدم صحّة السلب ، وذكروا أنّ صحّة السلب علامة المجاز ، وقد يعبّر عن الاولى بصحّة الحمل ، وعن الثانية بعدم صحّة

١٣٠

الحمل ، فيقال إنّ حمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي على معنى علامة أنّه حقيقة فيه وكاشف عن كونه موضوعاً بازائه ، كما أنّ عدم صحّة حمل اللفظ كذلك على معنى علامة للمجاز ، وكاشف عن عدم وضعه بازائه.

والصحيح أن يقال : إنّ شيئاً منهما لا يصلح لأن يكون علامة للحقيقة أو المجاز ، بيان ذلك : أنّ ملاك صحّة الحمل مطلقاً ، سواء كان حملاً أوّلياً ذاتياً ، أم كان حملاً شائعاً صناعياً ، هو الاتحاد من جهة لئلاّ يلزم حمل المباين على مباين آخر ، والمغايرة من جهة اخرى حتّى لا يلزم حمل الشيء على نفسه ، والمغايرة قد تكون بالاعتبار ، والمراد منه الاعتبار الموافق للواقع لا مجرد الفرض كما في حمل الحد على المحدود ، فانّهما متحدان بالذات والحقيقة ، ومختلفان باللحاظ والاعتبار ، أعني به الاختلاف من جهة الاجمال والتفصيل والجمع والتفريق ، مثلاً المفهوم من لفظ ( الانسان ) ، ومن جملة ( الحيوان الناطق ) حقيقة واحدة ، وهذه الحقيقة الواحدة المركبة ممّا به الاشتراك وما به الامتياز ، ملحوظة في الانسان بنحو الوحدة والجمع ، وفي الحيوان الناطق بنحو الكثرة والتفريق ، فجهة الوحدة في الانسان كجهة الكثرة في الحيوان الناطق اعتبار موافق للواقع ، ضرورة أنّ هذه الحقيقة الواحدة بتلك الجهة غير تلك الحقيقة بالجهة الاخرى.

وقد ذكرنا سابقاً أنّه يمكن تصوير شيء واحد مرّة بنحو الوحدة ، ومرّة اخرى بنحو الكثرة ، وقد مثّلنا لذلك بمفهوم الدار فانّه مركب من حيطان وساحة وغرفة أو غرف ، وهذا المفهوم ملحوظ بنحو الجمع في لفظ الدار ، وبنحو التفريق في كلمات الحيطان والساحة والغرف. وقد تكون المغايرة ذاتية والاتحاد في أمر خارج عن مقام الذات كما في الحمل الشائع الصناعي مثل قولنا : زيد إنسان أو كاتب ، فان مفهوم زيد غير مفهوم الانسان أو الكاتب ، فهما مفهومان متغايران ،

١٣١

ولكنهما موجودان في الخارج بوجود واحد ، ويسمّى هذا الحمل بالشائع لأجل شيوعه بين عامّة الناس على عكس الاولى ، وبالصناعي لأجل استعماله في صناعات العلوم وأقيستها ، وإذا اتّضح ذلك فنقول : إنّ صحّة شيء من ذينك الحملين لا تكون علامة للحقيقة ، ولا يثبت بهما المعنى الحقيقي.

وتفصيل ذلك : أنّ الحمل الذاتي لا يكشف إلاّعن اتحاد الموضوع والمحمول ذاتاً ، ومغايرتهما اعتباراً ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأ نّه حقيقي أو مجازي ، مثلاً حمل ( الحيوان الناطق ) على الانسان ، لا يدل إلاّعلى اتحاد معنييهما حقيقة ، ولا نظر فيه إلى أنّ استعمال لفظ الانسان فيما اريد به حقيقي أو مجازي ، ومن الظاهر أنّ مجرد الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة.

وعلى الجملة : فصحّة الحمل الذاتي بما هو لا يكشف إلاّعن اتحاد المعنيين ذاتاً ، وأمّا أنّ استعمال اللفظ في القضيّة استعمال حقيقي فهو أمر آخر أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها. نعم ، بناءً على أنّ الأصل في كل استعمال أن يكون حقيقياً كما نسب إلى السيِّد المرتضى (١) قدس‌سره يمكن إثبات الحقيقة إلاّ أنّه لم يثبت في نفسه ، كما ذكرناه غير مرّة. على أنّه لو ثبت فهو أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها.

وبكلمة اخرى : أنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول ، فمع اتحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل وإلاّ فلا ، وأمّا الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال ، وبين الأمرين مسافة بعيدة.

نعم ، لو فرض في القضيّة الحملية أنّ المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة ، كان ذلك علامة الحقيقة ، إلاّ أنّه مستند إلى التبادر لا إلى صحّة

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة : ١٣.

١٣٢

الحمل.

وقد أصبحت النتيجة بوضوح أنّ صحّة ذلك الحمل بما هو حمل لا تكون علامة لاثبات الحقيقة ، وكذا عدمها لا يكون علامة لاثبات المجاز ، بل هما علامة الاتحاد والمغايرة لا غير ، فنحتاج في إثبات الحقيقة إلى التمسك بالتبادر من الاطلاق أو نحوه ، هذا.

وأمّا الحمل الشائع فتفصيل الكلام فيه : أنّ ملاك صحّته بجميع أنواعه اتحاد المعنيين ، أي الموضوع والمحمول وجوداً ، ومغايرتهما مفهوماً ، فذلك الوجود الواحد إمّا أن يكون وجوداً لهما بالذات ، أو يكون لأحدهما بالذات وللآخر بالعرض ، أو لكليهما بالعرض ، فهذه أقسام ثلاثة :

أمّا القسم الأوّل : فهو في حمل الطبيعي على أفراده ومصاديقه ، وحمل الجنس على النوع ، وحمل الفصل عليه ، وبالعكس ، فانّ الموضوع والمحمول في تمام هذه الموارد متحدان في الوجود الخارجي ، بمعنى أنّ وجوداً واحداً وجود لهما بالذات والحقيقة ، مثلاً وجود زيد هو وجود الانسان بعينه ، لأنّ وجود الطبيعي بعين وجود فرده ، وليس له وجود آخر غيره ، فالوجود الواحد وجود لهما بالذات ، وإنّما الاختلاف في جهتي النسبة ، وكذلك الحال في قولنا : الانسان حيوان ، أو قولنا : الانسان ناطق إلى غير ذلك ، فانّ المحمول والموضوع في جميع ذلك متحدان فيما يكون وجوداً لهما بالذات.

وأمّا القسم الثاني : فهو في حمل العناوين العرضية على معروضاتها ، كحمل الضاحك أو الكاتب أو العالم أو الأبيض أو الأسود على زيد مثلاً ، فان هذه العناوين جميعها عرضية انتزاعية منتزعة من قيام الأعراض بموضوعاتها ، وليس لها وجود في الخارج ، والموجود فيه نفس الأعراض والمقولات التي هي من مبادئ تلك العناوين ومنشأ انتزاعها ، وعليه فنسبة ما به الاتحاد وهو وجود

١٣٣

زيد المتصف بتلك المبادئ إلى تلك العناوين بالعرض والمجاز ، وبمقتضى القاعدة السائرة في الكائنات بأجمعها وهي أنّ كل ما بالعرض لا بدّ وأنّ ينتهي إلى ما بالذات ، ينتهي هذا الحمل ـ أي العناوين على معروضاتها ـ إلى حمل ثان ، ويدل الكلام عليه بالدلالة الإلتزامية لا محالة ، فذلك الحمل يكون من قبيل حمل الطبيعي على أفراده ، فان في قولنا : زيد ضاحك مثلاً ، بما أنّ الضاحك عنوان عرضي انتزاعي ، فلا محالة ينتهي الأمر إلى حمل الضحك على الصفة القائمة بزيد ، وهو من حمل الكلّي على فرده ، فبالنتيجة يرجع هذا القسم إلى القسم الأوّل ، وإن كان مغايراً له بحسب الصورة.

وأمّا القسم الثالث : فهو في حمل بعض العناوين العرضية على بعضها الآخر كقولهم : الكاتب متحرك الأصابع ، أو المتعجب ضاحك ونحو ذلك. وقد اتّضح لك أنّه ليس للعناوين العرضية وجود في عالم الخارج بالذات ، بل يضاف إليها وجود ما يتصف بها إضافة بالعرض ، وبقانون أنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، فلا محالة ينتهي الأمر إلى حملين آخرين : أحدهما : حمل صفة الكتابة أو التعجّب على شيء. وثانيهما : حمل الحركة أو الضحك على شيء آخر ، فيدخل هذا القسم أيضاً في القسم الأوّل ، والاختلاف بينهما في الصورة لا في الحقيقة.

فتلخص من ذلك : أنّ مرجع جميع هذه الأقسام إلى قسم واحد وهو القسم الأوّل ، وعلى ضوء أنّ الملاك في صحّة الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود الخارجي ، ظهر أنّ صحّته لا تكشف عن الحقيقة ، ضرورة أنّها لا تكون أمارة إلاّ على اتحاد المحمول مع الموضوع خارجاً ، وأمّا أنّ استعمال اللفظ في المحمول على نحو الحقيقة فهي لا تدل عليه ، إذ ليس هنا إلاّمجرد التعبير عنه بذلك اللفظ ، وهو لا يزيد على الاستعمال ، وهو أعم من الحقيقة.

نعم ، إذا فرض تجرد اللفظ عن القرينة وتبادر منه المعنى ، كان ذلك آية

١٣٤

الحقيقة إلاّ أنّه خارج عن محل الكلام بالكلية.

وعلى الجملة : فملاك صحّة الحمل نحو من أنحاء الاتحاد خارجاً ، وملاك الحقيقة استعمال اللفظ في الموضوع له ، فأحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر ، لامكان أن يتّحد الموضوع والمحمول في الخارج مع كون استعمال اللفظ في المحمول مجازاً ، وقد عرفت أنّ الحقيقة والمجاز أمران يرجعان إلى عالم الألفاظ ، وصحّة الحمل ترجع إلى عالم المدلول ، فاثبات أحدهما لا يكون دليلاً على إثبات الآخر.

فقد أصبحت النتيجة لحدّ الآن : كما أنّ صحّة الحمل الأوّلي الذاتي لا تكشف عن الحقيقة ، كذلك صحّة الحمل الشائع الصناعي ، ومن ذلك يظهر حال عدم صحّة الحمل أيضاً حرفاً بحرف.

ولكن في تقريرات بعض الأعاظم قدس‌سره أنّ صحّة الحمل مطلقاً ، سواء كان ذاتياً أم كان شائعاً صناعياً ، كاشفة عن الحقيقة ، وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه : أنّ صحّة الحمل الذاتي تكشف عن أنّ المعنى المعلوم لدى المستعلم تفصيلاً ، والمعنى المعلوم لديه ارتكازاً متحدان بالذات والحقيقة ، وبذلك الاتحاد يستكشف له تفصيلاً أنّ اللفظ موضوع لذاك المعنى المعلوم لديه تفصيلاً ، ولكنّه قدس‌سره استثنى من ذلك حمل الحد على المحدود ، كما في مثل الانسان حيوان ناطق فقال : إنّ صحّة الحمل في مثل ذلك لا تكشف عن الحقيقة اللغوية ، بدعوى أنّ مفهوم الحيوان الناطق مفهوم مركب مفصّل ، ومفهوم الانسان مفهوم مفرد بسيط. هذا في الحمل الأوّلي.

وأمّا صحّة الحمل الشائع الصناعي فهي تكشف عن اتحاد الموضوع والمحمول اتحاد الطبيعي مع فرده ، وبذلك الاتحاد يستكشف أنّ اللفظ موضوع للطبيعي (١).

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ : ٩٨.

١٣٥

والجواب عن ذلك : قد ظهر ممّا تقدّم ، فانّك قد عرفت أنّ صحّة الحمل مطلقاً ذاتياً كان أم صناعياً لا تتوقف على كون الاستعمال حقيقياً لتكون كاشفة عنه ، فان ملاك أحدهما غير ملاك الآخر ، فملاك صحّة الحمل اتحاد المفهومين ، إمّا بحسب الحقيقة والذات أو بحسب الوجود ، فإذا كانا كذلك صحّ الحمل سواء كان التعبير عن المعنى المعلوم تفصيلاً حقيقياً أم كان مجازياً ، وهذا أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها رأساً ، ضرورة أنّ حمل الانسان على زيد صحيح سواء كان إطلاق لفظ الإنسان على الطبيعي المنطبق على زيد في الخارج حقيقياً أم مجازياً.

وعلى الجملة : بمجرد صحّة حمل شيء على شيء عند العرف وأبناء المحاورة لا يستكشف منها الوضع والحقيقة إلاّبمعونة التبادر أو نحوه ، وإلاّ فالحمل لو خلّي وطبعه لا يدل على أزيد من الاتحاد بين الموضوع والمحمول بنحو من أنحاء الاتحاد.

ومن الغريب أنّه قدس‌سره فرّق في الحمل الذاتي بين حمل الحد على المحدود كقولك : الانسان حيوان ناطق ، وبين غيره كقولك : الغيث مطر ، فقال : إن الأوّل لا يدل على الوضع دون الثاني ، وذلك لأنّ الاتحاد لو كان طريقاً إلى الحقيقة فمن اتحاد الحيوان الناطق مع الانسان بالذات والحقيقة ، يستكشف بالضرورة أنّ لفظ الانسان موضوع لمعنى يحلله العقل إلى جزأين جزء مشترك فيه وهو الحيوان وجزء آخر يميزه عن غيره وهو الناطق فهما بعينهما معنى الانسان بالتحليل العقلي ، كما هو شأن كل مفهوم بالاضافة إلى حكم العقل. وهذا لعلّه من الواضحات.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره من أنّ صحّة الحمل عند المستعلم علامة لاثبات الحقيقة لا محصّل له ، وذلك لأنّ الصحّة في مرتبة متأخرة عن إحراز ملاك الحمل

١٣٦

بين المفهومين ، فلا بدّ أوّلاً من تصورهما تفصيلاً وإحراز الملاك المصحح لحمل أحدهما على الآخر ، ثمّ يحمل هذا على ذاك ، والعلم الارتكازي بالمعنى لا يكفي في صحّة الحمل ، بل لا بدّ من الالتفات التفصيلي.

ومنها : أي علائم الحقيقة الاطراد ، وذكروا عدم الاطراد من علائم المجاز.

لا يخفى أنّ المراد من الاطراد ليس تكرار الاستعمال في معنى ، ضرورة أنّه إذا صحّ الاستعمال فيه مرّة واحدة يصح فيه مرّات عديدة ، من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقي والمجازي.

ومن هنا فسّر الإطراد شيخنا المحقق قدس‌سره بمعنى آخر وإليك قوله :

مورد هاتين العلامتين ـ الاطراد وعدمه ـ ما إذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلي على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفردية من المعاني الحقيقية ، لكنّه يشك في أنّ ذلك الكلي كذلك أم لا ، فاذا وُجد صحّة الإطلاق مطرداً باعتبار ذلك الكلي كشف عن كونه من المعاني الحقيقية ، لأنّ صحّة الاستعمال فيه ـ وإطلاقه على أفراده مطرداً ـ لابدّ من أن تكون معلولة لأحد الأمرين : إمّا الوضع أو العلاقة ، وحيث لا اطراد لأنواع العلائق المصححة للتجوز ثبت الاستناد إلى الوضع ، فنفس الاطراد دليل على الحقيقة وإن لم يعلم وجه الاستعمال على الحقيقة ، كما أنّ عدم الاطراد في غير مورد ، يكشف عن عدم الوضع له ، وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن العلة ، لأنّ الوضع علّة صحّة الاستعمال مطرداً ، وهذه العلامة علامة قطعية لو ثبت عدم اطراد علائق المجاز ، كما هو المعروف والمشاهد في جملة من الموارد (١) انتهى.

وحاصله : أنّ إطلاق لفظ باعتبار معنى كلّي على فرد مع القطع بعدم كون ذلك الفرد من حيث الفردية معنى حقيقياً ، إن كان مطرداً كشف عن كونه من

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٨٤.

١٣٧

المعاني الحقيقية ، وإن لم يكن مطرداً كشف عن كونه من المعاني المجازية ، مثلاً إطلاق لفظ الأسد على كل فرد من أفراد الحيوان المفترس مع العلم بعدم كون الفرد بخصوصه من المعاني الحقيقية ، لمّا كان مطرداً كشف ذلك عن كون الحيوان المفترس معنى حقيقياً له ، وإطلاقه على كل فرد من أفراد الشجاع لما لم يكن مطرداً ، فانّه يصح إطلاقه باعتبار هذا المفهوم الكلي على الانسان وعلى جملة من الحيوانات ، إلاّ أنّه لا يصح إطلاقه على النملة الشجاع مثلاً ، كشف ذلك عن كونه من المعاني المجازية.

نعم ، إن إطلاق لفظ الشجاع باعتبار هذا المفهوم الكلي على جميع أفراده حيث كان مطرداً كشف هذا عن كون ذلك الاطلاق حقيقياً.

ولكن الصحيح أنّه لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّ المراد من الاطراد كما لا يمكن أن يكون تكرار الاستعمال لما مرّ ، كذلك لا يمكن أن يراد به التكرار في التطبيق أي تطبيق المعنى على مصاديقه وأفراده.

بيان ذلك : أنّ انطباق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه أمر عقلي ، وأجنبي عن الاستعمال بالكلية ، فلايعقل أن يكون المعنى كلياً ومع ذلك لاينطبق على تمام أفراده ومصاديقه ، ولايصح إطلاقه عليها ، فهذا من الواضحات الأوّلية وغير قابل للنزاع فيه أصلاً.

وأمّا عدم انطباق بعض المفاهيم في بعض الموارد فهو إنّما كان من جهة ضيق دائرة ذلك المفهوم من ناحية تخصصه بخصوصية ما عرفاً ، ومن الواضح أنّ مثل هذا المفهوم لا ينطبق إلاّعلى أفراد تلك الحصّة خاصة دون غيرها ، فانّ سعة الانطباق وضيقه تابعان لسعة المفهوم وضيقه ، فإذا كان المفهوم وسيعاً كان الانطباق كذلك ، وإذا كان مفهوماً ضيّقاً كان الانطباق مثله ، وعلى كلٍّ فلا يعقل انطباقه على غير أفراده وعدم انطباقه إلاّعلى بعض أفراده ، مثلاً مفهوم الانسان

١٣٨

إذا لاحظناه بما له من السعة والإطلاق فلا محالة ينطبق على جميع أفراده فلايعقل انطباقه على بعضها دون بعضها الآخر ، وإن لاحظناه بما له من الخصوصية كالعالمية أو الهاشمية أو العربية أو غير ذلك ، فلا يعقل انطباقه إلاّعلى أفراد هذه الحصّة ، فعدم الاطراد بهذا المعنى أو الاطراد ، مشترك فيه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، وتابع لسعة المعنى وضيقه ، مثلاً لفظ الماء في لغة العرب موضوع للجسم السيال البارد بالطبع ، مع أنّه لاينطبق على كل جسم سيال بارد بالطبع ، وليس ذلك إلاّمن جهة أنّ معناه حصّة خاصة منه ، لا هو على إطلاقه وسريانه ، وعليه فلا محالة لا ينطبق إلاّعلى أفراد تلك الحصّة دون غيرها وهكذا ، وعلى ذلك لا يكون عدم الاطراد كاشفاً عن عدم الحقيقة.

ومنه يظهر أنّ عدم اطراد إطلاق لفظ الأسد باعتبار مفهوم الشجاع على كل فرد من أفراده ، لا يكون إلاّمن جهة أنّ صحّة ذلك الإطلاق إنّما كانت باعتبار حصّة خاصة من ذلك الكلّي ، لا هو باطلاقه ، ومن المعلوم أنّ ذلك الاطلاق باعتبار تلك الحصّة مطرد.

فالنتيجة لحدّ الآن امور :

الأوّل : أنّ انطباق طبيعي المعنى على أفراده ومصاديقه قهري وأجنبي عن الاستعمال رأساً.

الثاني : أنّ سعة الانطباق وضيقه تابعان لسعة المعنى وضيقه عرفاً ، فان تعيين المفاهيم وخصوصياتها من حيث السعة والضيق أمر راجع إلى أهل العرف ، فان كان معنى اللفظ عندهم وسيعاً كان الانطباق أيضاً كذلك ، وإن كان ضيقاً وحصّة خاصة فالانطباق تابع له.

الثالث : أنّه لا فرق في ذلك بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، فهما على حد سواء في ذلك.

١٣٩

الرابع : أنّ الاطراد بهذا المعنى وعدمه أجنبيان عن الحقيقة والمجاز.

والذي ينبغي أن يقال في المقام : هو أنّ الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاص في معنى مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة ، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز ، فهذا طريقة عملية لتعليم اللغات الأجنبية ، واستكشاف حقائقها العرفية.

توضيح ذلك : هو أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم إذا تصدى لتعلم اللغة السائرة في هذا البلد رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنى ، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنى آخر وهكذا ، ولكنّه لا يعلم أنّ هذه الاطلاقات من الاطلاقات الحقيقية أو المجازية ، فإذا رأى أنّهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلم بأ نّها معانٍ حقيقية ، لأنّ جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين : إمّا الوضع ، أو القرينة ، وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطراد فلا محالة يكون مستنداً إلى الوضع ، مثلاً إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ الماء في معناه المعهود ، ولكنّه شكّ في أنّه من المعاني الحقيقية ، أو من المعاني المجازية ، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينة من جهة الاطراد علم بأ نّه من المعاني الحقيقية ، ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حالية أو مقالية.

وبهذه الطريقة غالباً يتعلمون الأطفال والصبيان اللغات والألفاظ.

فقد تحصّل من ذلك : أنّ الاطراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لاثبات الحقيقة ، بل إنّ هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً ، فان تصريح الواضع وإن كان يعلم به الحقيقة إلاّ أنّه نادر جداً ، وأمّا التبادر فهو وإن كان يثبت به الوضع كما عرفت ، إلاّ أنّه لا بدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع ، إمّا من جهة تصريح الواضع ، أو من جهة الاطراد ، والأوّل نادر فيستند إلى الثاني لا محالة.

١٤٠