محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

الكتاب والسنّة ، وموضوع البحث الأعم منهما ، إذن بناءً على أنّ عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع ، يكون البحث فيهما عن العوارض الغريبة لموضوع العلم.

وملخص الكلام : أنّ هذا الإشكال يبتني على أمرين :

الأوّل : أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعها.

الثاني : أن لا تكون عوارض النوع ذاتية للجنس وبالعكس.

ثمّ إنّهما يبتنيان على أمر واحد وأصل فارد ، وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم ، وإلاّ فلا موضوع لهذين الأمرين فضلاً عن الاشكال.

وكيف كان ، فقد ذهب غير واحد من الأعلام والمحققين في التفصي عنه يميناً وشمالاً ، منهم صدر المتألهين في الأسفار ، إلاّ أنّ جوابه لا يجدي إلاّفي المسائل الفلسفية فقط (١).

__________________

(١) قال : نعم ، كلّ ما يلحق الشيء لأمر أخص وكان ذلك الشيء مفتقراً في لحوقه له إلى أن يصير نوعاً متهيأ لقبوله ، ليس عرضاً ذاتياً بل عرض غريب على ما هو المصرّح به في كتب الشيخ وغيره. كما أنّ ما يلحق الموجود بعد أن يصير تعليمياً أو طبيعياً ، ليس البحث عنه من العلم الإلهي في شيء ، وما أظهر لك أن تفطن بأنّ لحوق الفصول لطبيعة الجنس كالاستقامة والانحناء للخط ـ مثلاً ـ ليس بعد أن يصير نوعاً متخصص الاستعداد ، بل التخصص إنّما يحصل بها لا قبلها ، فهي مع كونها أخص من طبيعة الجنس أعراض أوّلية له ... ». الأسفار الأربعة ج ١ [ ص ٣٣ ] ، فصل موضوع العلم الإلهي.

وأوضحه بعض المحققين بما إليك نصّه : توضيحه : أنّ الموضوع في علم المعقول ـ مثلاً ـ هو الموجود أو الوجود ، وهو ينقسم أوّلاً إلى الواجب والممكن ثمّ الممكن إلى الجوهر والمقولات العرضية ، ثمّ الجوهر إلى عقل ونفس وجسم ، ثمّ العرض كل

٢١

ولكن على ضوء ما حققناه سابقاً يتّضح لك أنّه لا أساس للاشكال المذكور ،

__________________

مقولة منه إلى أنواع ، والكل من مطالب ذلك العلم ومن لواحقه الذاتية ، مع أنّ ما عدا التقسيم الأوّل ، يتوقف على تخصص الموضوع بخصوصية أو خصوصيات ، إلاّ أنّ جميع تلك الخصوصيات مجعولة بجعل واحد وموجودة بوجود فارد ، فليس هناك سبق في الوجود لواحد بالإضافة إلى الآخر ، كي يتوقف لحوق الآخر على سبق استعداد وتهيؤ للموضوع بلحوق ذلك الواحد المفروض تقدمه رتبة ، فانّ الموجود لا يكون ممكناً أوّلاً ثمّ يوجد له وصف الجوهرية أو العرضية ، بل إمكانه بعين جوهريته وعرضيته ، كما أنّ جوهريته بعين العقلية أو النفسية أو الجسمية ، ففي الحقيقة لا واسطة في العروض والحمل الذي هو الاتحاد في الوجود ، بل الامكان يتحد مع الوجود بعين الاتحاد الجوهري العقلي أو النفسي أو الجسماني في الوجود ، فليس هناك عروضان حتى يكون أحدهما بالذات والآخر بالعرض ، بخلاف لحوق الكتابة والضحك للحيوان ، فانّه يتوقف على صيرورة الحيوان متخصصاً بالنفس الإنسانية تخصصاً وجودياً حتى يعرضه الضحك والكتابة ، وليس الضحك والكتابة بالإضافة إلى الانسان كالعقلية والنفسية بالإضافة إلى الجوهر ، بداهة أنّ إنسانية الانسان ليست بضاحكيته وكاتبيته ، نعم تجرّد النفس وما يماثله ممّا يكون تحققه بتحقق النفس الانسانية ، من الأعراض الذاتية للحيوان كالنفس.

ثمّ قال قدس‌سره أيضاً : وهذا الجواب وإن كان أجود ما في الباب ، إلاّ أنّه وجيه بالنسبة إلى علم المعقول ، وتطبيقه على سائر الموضوعات للعلوم لا يخلو عن تكلف ، فانّ موضوع علم الفقه هو فعل المكلف ، وموضوعات مسائله الصلاة والصوم والحج ، إلى غير ذلك ، وهذه العناوين نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة الأنواع إلى الجنس ، وهي وإن كانت لواحق ذاتية له إلاّ أنّه لا يبحث عن ثبوتها له ، والحكم الشرعي ليس بالإضافة إليها كالعقلية بالإضافة إلى الجوهرية ، بل هما موجودان متباينان وكذا الأمر في النحو والصرف. [ نهاية الدراية ١ : ٢٢ ، ٢٤ ].

٢٢

فانّه يبتني على الالتزام بالأمرين المزبورين اللّذين هما مبتنيان على أصل وأساس واحد ، وهو الالتزام

بلزوم الموضوع في كل علم ، وقد سبق أنّه لا دليل عليه بصورة عامة وعرفت قيام الدليل على عدمه بصورة خاصة في بعض العلوم ، كعلم الفقه والاصول.

وتوهم أنّ وحدة العلم تدور مدار وحدة موضوعه ، فإذا فرض أنّه لا موضوع له فلا وحدة له ، مدفوع بأنّ وحدة كل علم ليست وحدة حقيقية ، لنحتاج إلى تكلف إثبات وجود جامع حقيقي بين موضوعات مسائله ، بل وحدته وحدة اعتبارية ، فانّ المعتبر يعتبر عدّة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول علماً ويسميها باسم فارد من جهة اشتراكها في الدخل في غرض واحد.

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا لزوم الموضوع للعلم ، فلا دليل على اعتبار أن يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لموضوعه بالمعنى الذي فسّرها المشهور به ، والوجه في ذلك ما بيّناه من أنّ حقيقة العلم عبارة عن عدّة من المسائل والقواعد المختلفة موضوعاً ومحمولاً ، التي جمعها الاشتراك في غرض واحد ، وعليه فيبحث في كل علم عمّا له دخل في غرضه ، سواء كان من العوارض الذاتية في الاصطلاح ، أم كان من الغريبة ، ضرورة أنّه لا ملزم بأن يكون البحث عن العوارض الذاتية فقط ، بعد فرض دخل العوارض الغريبة أيضاً في المهم.

ولو تنزلنا عن هذا أيضاً وسلّمنا أنّ البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، إلاّ أنّه لا دليل على أنّ عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس ، بل الصحيح أنّ ما يلحق الشيء بتوسط نوعه أو جنسه ذاتي له لا غريب ، بداهة أنّ المراد منه ليس ما يعرض الشيء أوّلاً وبالذات ومن دون

٢٣

واسطة ، فانّ لازمه خروج كثير من محمولات العلوم التي لها دخل في الأغراض المترتبة عليها.

وبالجملة : لا وجه للقول بكون عوارض النوع غريبة للجنس ، فانّ البحث عنها لا بدّ منه في العلوم ، وبدونه لا يتم أمرها.

وعليه فنقول : لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أن نلتزم بأنّ عوارض النوع ذاتية للجنس ، وإمّا أن نلتزم بأنّ المبحوث عنه في العلوم أعم من العوارض الذاتية والغريبة ، وهو : كل ما له دخل في الغرض ذاتياً كان أو غريباً ، ومع التنزل عن الثاني ، فلا مناص من الالتزام بالأوّل.

وعلى ذلك فملاك الفرق بينهما : هو أنّ ما له دخل في الغرض فليس بعرض غريب ، وما لا دخل له فيه غريب. ومن ذلك ظهر أنّه لا وجه لإطالة الكلام في المقام ، في بيان أنّ عارض النوع ذاتي للجنس وبالعكس ، أو لا ، كما صنعه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) وغيره.

ثمّ إنّ مرادنا من العرض مطلق ما يلحق الشيء ، سواء كان من الامور الاعتبارية أم من الامور المتأصلة الواقعية ، لا خصوص ما يقابل الجوهر.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة : فقد اشتهر أنّ تمايز العلوم بعضها عن بعض بتمايز الموضوعات. وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) واختار أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض المترتبة عليها الداعية إلى تدوينها ، كالاقتدار على الاستنباط في علم الاصول ، وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو ، وصون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج في علم المنطق ، وهكذا ....

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٨.

(٢) كفاية الاصول : ٨.

٢٤

وأورد على المشهور بما ملخّصه : أنّ الملاك في تمايز العلوم لو كان تمايز موضوعاتها ، فلازمه أن يكون كل باب بل كل مسألة علماً على حدة ، لتحقق هذا الملاك فيهما.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ إطلاق كل من القولين ليس في محلّه ، وبيان ذلك : أنّ التمايز في العلوم تارةً يراد به التمايز في مقام التعليم والتعلم ، لكي يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه ، ويعرف أنّها مسألة اصولية أو مسألة فقهية أو غيرهما.

واخرى يراد به التمايز في مقام التدوين ، وبيان ما هو الداعي والباعث لاختيار المدوّن عدّة من القضايا والقواعد المتخالفة ، وتدوينها علماً واحداً ، وتسميتها باسم فارد ، واختياره عدّة من القضايا والقواعد المتخالفة الاخرى وتدوينها علماً آخر وتسميتها باسم آخر ، وهكذا.

أمّا التمايز في المقام الأوّل : فيمكن أن يكون بكل واحد من الموضوع والمحمول والغرض ، بل يمكن أن يكون ببيان فهرس المسائل والأبواب إجمالاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ حقيقة كل علمٍ حقيقة اعتبارية ، وليست وحدتها وحدةً بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بتباين الذات ، كما لو كانت حقيقة كل واحد منهما من مقولة على حدة ، أو بالفصل كما لو كانت من مقولة واحدة ، بل وحدتها بالاعتبار ، وتمييز كل مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر يمكن بأحد الامور المزبورة.

وأمّا التمايز في المقام الثاني : فبالغرض إذا كان للعلم غرض خارجي يترتب عليه ، كما هو الحال في كثير من العلوم المتداولة بين الناس كعلم الفقه والاصول والنحو والصرف ونحوها ، وذلك لأنّ الداعي الذي يدعو المدوّن لأن يدوّن عدّة من القضايا المتباينة علماً كقضايا علم الاصول مثلاً ، وعدّة اخرى منها

٢٥

علماً آخر كقضايا علم الفقه ، ليس إلاّ اشتراك هذه العدّة في غرض خاص ، واشتراك تلك العدّة في غرض خاص آخر ، فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين ، بل كان هو الموضوع ، لكان اللاّزم على المدوّن أن يدوّن كل باب بل كل مسألة علماً مستقلاً ، لوجود الملاك كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

وأمّا إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتب عليه سوى العرفان والاحاطة به ، كعلم الفلسفة الاولى ، فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول ، كما إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل الموضوع فيه الكرة الأرضية مثلاً ، ويبحث فيه عن أحوالها من حيث الكمية والكيفية والوضع والأين ، إلى نحو ذلك ، وخواصها الطبيعية ومزاياها على أنحائها المختلفة.

أو إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل موضوعه الإنسان ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه ، وعن صفاته من الظاهرية والباطنية ، وعن أعضائه وجوارحه وخواصها ، فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك ، إمّا بالذات أو بالموضوع ، ولا ثالث لهما ، لعدم غرض خارجي له ما عدا العرفان والإحاطة ، ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي.

كما أنّه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض أنّ غرض المدوّن يتعلق بمعرفة ما تعرضه الحركة مثلاً ، فله أن يدوّن علماً يبحث فيه عمّا تثبت الحركة له ، سواء كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها من المقولات ، فمثل هذا العلم لا امتياز له إلاّبالمحمول.

وبما حققناه تبيّن لك وجه عدم صحّة إطلاق كل من القولين ، وأنّ تميّز أيّ علم عن آخر كما لا ينحصر بالموضوع ، كذلك لا ينحصر بالغرض ، بل كما يمكن أن يكون بهما ، يمكن أن يكون بشيء ثالث لا هذا ولا ذاك.

٢٦

ثمّ إنّ من القريب جداً أن يكون نظر المشهور فيما ذهبوا إليه من أنّ تمايز العلوم بالموضوعات ، إلى تقدم رتبة الموضوع على رتبتي المحمول والغرض ، ولعلّهم لأجله قالوا إنّ التمايز بها ، وليس مرادهم الانحصار ، وإلاّ فقد عرفت عدمه.

ويتلخص ما ذكرناه في امور :

الأوّل : أنّ صحّة تدوين أيّ علم لا تتوقف على وجود موضوع له ، لما بيّنا من أنّ حقيقة العلم عبارة عن : مجموع القضايا والقواعد المتخالفة التي جمعها الاشتراك في غرض خاص لا يحصل ذلك الغرض إلاّبالبحث عنها.

الثاني : أنّه لا منافاة بين ما ذكرناه من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع في العلوم ، وبين أن يكون لبعض العلوم موضوع ، وذلك لأنّ ما ذكرناه إنّما هو من جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كل علم ، بحيث لا يكون العلم علماً بدونه ، ولذا يبحث في أكثر العلوم عن محمولات مسائلها المترتبة على موضوعاتها ، وذلك لا ينافي وجود الموضوع لبعض العلوم ، كما إذا فرض تعلق غرض المدوّن بمعرفة موضوع ما ، فيدوّن علماً يبحث فيه عن عوارض موضوعه.

الثالث : أنّ تمايز العلوم بعضها عن بعض كما لا ينحصر بالموضوع ، كذا لا ينحصر بالغرض ، بل كما يمكن أن يكون بهما ، يمكن أن يكون بالمحمول ، وببيان الفهرس والأبواب إجمالاً ، بل بالذات تارة ، على حسب اختلاف العلوم والمقامات ، هذا كلّه في موضوع العلم بصورة عامّة.

وأمّا الكلام في موضوع هذا العلم ، فقد سبق أنّه أقمنا البرهان على أنّه لا موضوع له واقعاً ، وأنّ حقيقته عبارة عن عدّةٍ من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول التي جمعها في مرحلة التدوين اشتراكها في الدخل في

٢٧

غرض واحد.

ولو تنزلنا عن ذلك ، وفرضنا أنّ له موضوعاً ، فما هو الموضوع له؟ قيل : إنّ موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها ، وهذا القول هو مختار المحقق القمي قدس‌سره كما هو ظاهر كلامه في أوّل كتابه (١) وقد صرّح بذلك في هامشه عليه (٢).

ويرد عليه : أنّ لازم ذلك خروج المسائل الاصولية عن علم الاصول ، وكونها من مبادئه ، كمباحث الحجج والأمارات ، ومباحث الاستلزامات العقلية ، والاصول العملية : الشرعية والعقلية ، ومبحث حجية العقل ، وظواهر الكتاب بل مبحث التعادل والترجيح ، ما عدا مباحث الألفاظ ، فانّ كبرى هذه المسألة ـ وهي مسألة حجية الظواهر ـ مسلّمة عند الكل ، ولم يخالف فيها أحد ولم يقع البحث عنها في أيّ علم من العلوم ، فلا كلام فيها.

وإنّما الكلام في صغريات هذه الكبرى ، أعني ظهور الألفاظ في شيء وعدم ظهورها فيه ، كالبحث عن أنّ الأمر أو النهي هل هو ظاهر في الوجوب أو التحريم أم لا ، وغير ذلك. وعليه فيكون البحث عنها عن عوارض الدليل بما هو دليل ، فانّه لا شبهة في دليليّة الكتاب والسنّة في أنفسهما ، وإنّما الكلام هناك في تعيين مدلولهما ، وذلك من عوارضهما.

أمّا خروج مباحث الحجج والأمارات فواضح ، لأنّ البحث فيها بأسرها عن الدليليّة ، وهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية ، فتدخل إذن في مقدماته ومبادئه لا في مسائله ، حتى مبحث التعادل والترجيح ، على ما

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٩ السطر ٢٢.

(٢) نفس المصدر ص ٨.

٢٨

هو الصحيح من أنّ البحث فيه في الحقيقة عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال.

وأمّا خروج مباحث الاستلزامات العقلية ، فلأجل أنّ البحث فيها ليس عن عوارض أحد الأدلة الأربعة ، لا بما هي أدلة ولا بما هي هي ، بل عن أحوال الأحكام بما هي أحكام ، مع قطع النظر عن كونها مستفادةً منها ومداليل أدلة.

ويظهر بذلك وجه خروج الاصول العملية : الشرعية والعقلية.

ولأجل ذلك عدل صاحب الفصول قدس‌سره عن هذا المسلك ، واختار أنّ الموضوع ذوات الأدلة الأربعة بما هي هي (١) وعليه فالبحث عن دليليتها بحث عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته.

ويرد عليه أيضاً : لزوم خروج كثير من مسائل هذا العلم عن كونها اصولية ، كمباحث الحجج والأمارات ـ ما عدا مبحث حجية العقل وظواهر الكتاب ـ ومباحث الاستلزامات العقلية ، والاصول العملية : الشرعية والعقلية.

والوجه في ذلك : هو أنّ البحث في كل علم لا بدّ أن يكون عن العوارض الذاتية لموضوعه ، وإذا لم يكن كذلك ، فهو ليس من مباحث العلم ومسائله في شيء ، وعليه فكل مسألة يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة الأربعة ، فهي من مسائل علم الاصول ، وإلاّ فلا.

وعلى ذلك يترتب خروج مباحث الاستلزامات العقلية ، فانّ البحث فيها ليس عن أحوال أحد الأدلة مطلقاً ، بل عن الاستحالة والامكان ، وخروج مسألة حجية خبر الواحد ، إذ البحث فيها ليس عن عوارض السنّة التي هي موضوع علم الاصول ، بل عن عوارض الخبر ، وخروج مسألة حجية الإجماع

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٢ السطر ١٠.

٢٩

المنقول والشهرة الفتوائية ، ومبحث التعادل والترجيح ، والاصول العملية :

الشرعية والعقلية ، فانّ البحث في جميع هذه المسائل ليس عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة الأربعة كما هو ظاهر.

فتحصّل : أنّه لا فرق بين هذا القول والقول الأوّل إلاّفي مسألة حجية ظواهر الكتاب وحجية العقل ، فانّهما ليستا من المسائل الاصولية على القول الأوّل ، وتكونان منها على هذا القول.

ومن هنا التجأ شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره إلى إرجاع البحث عن مسألة حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنّة ، وأنّ مرجعه إلى أنّ السنّة ـ أعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد أو لا؟ وبذلك تدخل في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة (١).

ويرد عليه : أنّه غير مفيد ، وذلك لأنّه لو اريد من الثبوت ، الثبوت التكويني الواقعي ، أعني كون خبر الواحد واسطة وعلة لثبوت السنّة واقعاً ، فهذا غير معقول ، بداهة أنّ خبر الواحد ليس واقعاً في سلسلة علل وجودها ، وكيف يمكن أن يكون كذلك وهو حاك عنها ، والحكاية عن شيء متفرعة عليه وفي مرتبة متأخرة عنه. على أنّ البحث في هذه المسألة حينئذ يكون عن مفاد كان التامة ، أي عن ثبوت الموضوع ، لا عن عوارضه.

ولو اريد منه الثبوت التكويني الذهني ، أعني كون خبر الواحد واسطة لاثبات السنّة واقعاً ووجداناً ، فهو أيضاً غير معقول ، ضرورة أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم الوجداني بالسنّة ، ولا يعقل انكشاف السنّة به واقعاً كما تنكشف بالمتواتر والقرينة القطعية ، ومع فرض الانكشاف حقيقة ، لا تبقى للبحث عن

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٥٦.

٣٠

حجية خبر الواحد موضوعية أصلاً ، فانّ العبرة حينئذ بالعلم الوجداني الحاصل بالسنّة ، فيجب الجري على وفقه دون الخبر بما هو.

والحاصل : أنّ لازم خبر الواحد بما هو أن يحتمل الصدق والكذب ، فكما لا يعقل أن يكون واسطة في ثبوت السنّة واقعاً ، فكذلك لا يعقل أن يكون واسطة لاثباتها كذلك.

وإن اريد منه الثبوت التعبدي ـ كما هو الظاهر ـ فالأمر وإن كان كذلك ، أي أنّ السنّة الواقعية تثبت تعبّداً بخبر الواحد ، إلاّ أنّه من عوارض الخبر دون السنّة ، وذلك لأنّ الثبوت التعبّدي ـ بناءً على ما سلكناه ـ عبارة عن إعطاء الشارع صفة الطريقية والكاشفية لشيء وجعله علماً للمكلف شرعاً بعد ما لم يكن كذلك ، وهذا وإن استلزم إثبات السنّة وانكشافها شرعاً ـ وهو من عوارضها ولواحقها ـ إلاّ أنّه ليس هو المبحوث عنه في هذه المسألة ، وإنّما المبحوث عنه فيها طريقية خبر الواحد وجعله علماً تعبّداً ، ومن الواضح أنّها من عوارض الخبر دون السنّة. والثبوت التعبدي بناءً على ما سلكه المشهور عبارة عن إنشاء الحكم الظاهري على طبق الخبر ، وهو أيضاً من عوارضه دونها كما هو ظاهر.

ومنه يظهر الحال على ما سلكه المحقق صاحب الكفاية من أنّه عبارة عن جعل المنجزيّة والمعذريّة (١) فانّهما أيضاً من عوارضه وصفاته لا من عوارضها ، وهو واضح.

فتحصّل : أنّ البحث في هذه المسألة على جميع المسالك بحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنّة الواقعية. على أنّ ما أفاده قدس‌سره لو تمّ فانّما

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٧.

٣١

يتم في خصوص هذه المسألة دون غيرها ، وقد عرفت أنّ الإشكال المزبور غير منحصر فيها.

ولذلك عدل صاحب الكفاية قدس‌سره عن مسلك المشهور وذهب إلى أنّ موضوع العلم عبارة عن جامع مقولي واحد بين موضوعات مسائله (١).

ولكن قد مرّ الكلام في هذا مفصلاً وذكرنا هناك أنّه لم يقم برهان على لزوم موضوع كذلك في العلوم فضلاً عن علم الاصول ، بل سبق منّا أنّه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين موضوعات مسائله لتباينها تبايناً ذاتياً.

ثمّ إن أبيت إلاّ أن يكون لكل علمٍ موضوع ولو كان واحداً بالعنوان كعنوان الكلمة والكلام في علم النحو ، وعنواني المعلوم التصديقي والتصوري في علم المنطق ، وعنوان فعل المكلف في علم الفقه وهكذا.

فأقول : إنّ موضوع علم الاصول هو : الجامع الذي ينتزع من مجموع مسائله المتباينة ، كعنوان ما تقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل.

الأمر الرابع في الوَضْع

ويقع الكلام فيه من جهات :

الجهة الاولى : في أنّ منشأ دلالة الألفاظ على المعاني هل هي المناسبة الذاتية بينهما لتصبح الدلالة ذاتية؟ أو الجعل والمواضعة لتصبح جعلية محضة؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧.

٣٢

الجهة الثانية : في أنّ الواضع هل هو الله تبارك وتعالى أو البشر؟

الجهة الثالثة : في أنّ الوضع من الامور الواقعية أو من الامور الاعتبارية؟

الجهة الرابعة : في أقسام الوضع إمكاناً مرّة ، ووقوعاً مرّة اخرى.

[ منشأ الوضع ]

أمّا الجهة الاولى : فربّما يقال فيها : إنّ دلالة الألفاظ على معانيها ناشئة عن مناسبة ذاتية بينهما (١).

وفيه : أنّه لو اريد بذاتية الدلالة أنّ الارتباط الذاتي والمناسبة الذاتية بينهما بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه ، فبطلانه من الوضوح بمكان لايقبل النزاع ، فانّ لازم ذلك تمكن كل شخص من الإحاطة بتمام اللغات فضلاً عن لغة واحدة.

ولو اريد أنّ الارتباط المزبور والمناسبة المزبورة بينهما بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ مقتضياً لانتقال الذهن إلى معناه ، أي أنّ المناسبة اقتضائية لا علّة تامّة ، ففيه : أنّ ذلك وإن كان بمكان من الامكان ثبوتاً وقابلاً للنزاع ـ إذ لا مانع عقلاً من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ ومعانيها ، نظير الملازمة الثابتة بين أمرين فانّها ثابتة في الواقع والأزل بلا توقف على اعتبار أيّ معتبر أو فرض أيّ فارض ، وبلا فرق بين أن يكون طرفاها ممكنين أو مستحيلين أو مختلفين ، إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا) (٢) نعم ، إنّ سنخ ثبوتها غير سنخ

__________________

(١) كما نسبه إلى بعضٍ في القوانين ١ : ١٩٤.

(٢) الأنبياء ٢١ : ٢٢.

٣٣

ثبوت المقولات كالجواهر والأعراض ، ولذا ليست داخلة تحت شيء منها ـ إلاّ أنّه لا دليل على ثبوتها كذلك في مرحلة الإثبات فلا يمكن الالتزام بها.

وأمّا ما قيل من أنّه لولا هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، لكان تخصيص الواضع لكل معنى لفظاً مخصوصاً بلا مرجح ، وهو محال كالترجح بلا مرجح ، أي وجود حادث من دون سبب وعلّة.

فيرد عليه أوّلاً : أنّ المحال هو الثاني دون الأوّل ، بل لا قبح فيه فضلاً عن الاستحالة إذا كان هناك مرجح لاختيار طبيعي الفعل مع فقد الترجيح بين أفراده ومصاديقه على ما يأتي بيانه في الطلب والارادة إن شاء الله تعالى ، وحيث إنّ المرجح لاختيار طبيعي الوضع والتخصيص موجود فهو كاف في تخصيص الواضع وجعله لكل معنى لفظاً مخصوصاً وإن فقد الترجيح بين كل فرد من أفراده.

على أنّه لايعقل تحقق المناسبة المذكورة بين جميع الألفاظ والمعاني ، لاستلزام ذلك تحققها بين لفظ واحد ومعانٍ متضادة أو متناقضة ، كما إذا كان للفظ واحد معانٍ كذلك كلفظ جون الموضوع للأسود والأبيض ، ولفظ القرء للحيض والطّهر وغيرهما ، وهو غير معقول ، فان تحققها بين لفظ واحد ومعانٍ كذلك يستلزم تحققها بين نفس هذه المعاني كما لا يخفى.

وثانياً : سلّمنا امتناع الترجيح بلا مرجح ، إلاّ أنّ المرجح غير منحصر بالمناسبة المزبورة كي يلزم الالتزام بها ، بل يكفي فيه وجود مرجح ما وإن كان أمراً اتفاقياً ، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بما لا يلزم معه الترجيح بلا مرجح سواء كان ذاتياً أو اتفاقياً.

على أنّ المرجح لا بدّ وأن يقوم بالفعل الصادر من الفاعل فيجوز أن يكون

٣٤

الرجحان في نفس الوضع وإن لم يكن هناك مناسبة بين اللفظ والمعنى.

[ تعيين الواضع ]

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فقد اختار المحقق النائيني قدس‌سره أنّ الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم ، وقال في وجهه : فإنّا نقطع بحسب التواريخ التي بين أيدينا ، أنّه ليس هنا شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثرة في لغة واحدة لمعانيها التي تدل عليها فضلاً عن سائر اللغات ، كما أنّا نرى وجداناً عدم الدلالة الذاتية ، بحيث يفهم كل شخص من كل لفظ معناه المختص به ، بل الله ( تبارك وتعالى ) هو الواضع الحكيم جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا ، وجعله ( تبارك وتعالى ) هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الامور التكوينية التي جبل الانسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك.

فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر ، ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصي ، بل يلهم الله ( تبارك وتعالى ) عباده ـ على اختلافهم ـ كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص. وممّا يؤكّد المطلب : أنّا لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أيّ لغة ، لما قدروا عليه ، فما ظنّك بشخص واحد مضافاً إلى كثرة المعاني التي يتعذر تصورها من شخص أو أشخاص متعددة (١).

أقول : يتلخص نتيجة ما أفاده قدس‌سره في امور :

الأوّل : أنّ الواضع هو الله ( تبارك وتعالى ) ، ولكن لا بطريق إرسال الرسل وإنزال الكتب ، كما هو الحال في إيصال الأحكام الشرعية إلى العباد ، ولا بطريق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٩.

٣٥

جعل الامور التكوينية التي جبل الانسان على إدراكها ، بل بطريق الإلهام إلى كل عنصر من عناصر البشر على حسب استعداده.

الثاني : التزامه قدس‌سره بوجود مناسبة مجهولة بين الألفاظ والمعاني.

الثالث : أنّ وضعه ( تبارك وتعالى ) إنّما كان على طبق هذه المناسبة.

الرابع : أنّ الوضع جعل متوسط بين الجعل التكويني والجعل التشريعي.

الخامس : أنّه قدس‌سره بعد نفي الدلالة الذاتية استند في دعوى أنّ الله ( تبارك وتعالى ) هو الواضع الحكيم دون غيره إلى أمرين :

الأوّل : أنّه لا يمكن أن يكون الواضع هو البشر ، لعدم إمكان إحاطته بتمام ألفاظ لغة واحدة فضلاً عن جميع اللغات ، فإذا امتنع أن يكون البشر واضعاً تعيّن أنّ الله تعالى هو الواضع الحكيم.

الثاني : أنّه على فرض تسليم أنّ البشر قادر على وضع الألفاظ لمعانيها بمعنى أنّ شخصاً أو جماعة معيّنين من أهل كل لغة يتمكن من وضع ألفاظها لمعانيها ، إلاّ أنّه لمّا كان من أكبر خدمات للبشر فلا بدّ من تصدي التواريخ لضبطه التي هي معدّة لضبط الأخبار السالفة والوقائع المهمّة ، خصوصاً مثل هذا الأمر المهم ، مع أنّه لم يكن فيها عن حدوث الوضع في أيّ عصر وزمان وعمّن تصدى له عين ولا أثر ، فإذا فرض أنّ البشر كان هو الواضع لنقل ذلك في التواريخ فانّها تتكفل بنقل ما هو دونه فكيف بمثله.

ولكنّ للتأمل في جميع هذه الامور مجالاً واسعاً :

أمّا الأوّل : فيظهر ضعفه ممّا نذكره من ضعف ما اعتمد عليه من الوجهين المذكورين.

وأمّا الثاني : فيرده أنّه تخرّص على الغيب ، لما قد سبق من أنّه لا دليل على

٣٦

وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، بل الدليل قائم على عدمها في الجميع.

وأمّا الثالث : فيرد عليه أنّا لو سلّمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فلا نسلّم أنّ الواضع جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً على طبق تلك المناسبة ، وذلك لأنّ الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك ، ومعه فأيّ شيء يستدعي رعاية تلك المناسبة في الوضع. اللهمّ إلاّ أن يتمسّك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون مرجح ، ولكن قد عرفت بطلانها.

وأمّا الرابع : وهو أنّ الوضع وسط بين الامور التكوينية والجعلية ، فهو ممّا لا يرجع إلى معنى محصّل ، وذلك لعدم واسطة بينهما ، ضرورة أنّ الشيء إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أيّ معتبر ، فهو من الموجودات التكوينية ، وإلاّ فمن الامور الاعتبارية الجعلية ، ولا نعقل ما يكون وسطاً بين الأمرين. وأمّا حديث الإلهام فهو حديث صحيح ولا اختصاص له بالوضع.

وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) أنّ الله ( تبارك وتعالى ) كما منّ على عباده بهدايتهم تشريعاً ، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بارسال الرسل وإنزال الكتب ، كذلك منّ عليهم بهدايتهم تكويناً بالهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم ، بل إنّ هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات ، فهي تسير نحو كمالها بطبعها أو باختيارها ، والله هو الذي أودع فيها قوّة الاستكمال فترى الفارة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة.

وعلى الجملة : أنّ مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلّية ، فانّ الإلهام من الامور التكوينية الواقعية ، ولا اختصاص له بباب الوضع ، والمبحوث

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن : ٤٩٦.

٣٧

عنه هو معنى الوضع ، كان الوضع بإلهام إلهي أم لم يكن.

وأمّا الأمر الخامس : وهو استناده فيما ذكره من أنّ الله ( تبارك وتعالى ) هو الواضع الحكيم ، فلو تمّ فانّما يتم لو كان وضع الألفاظ لمعانيها دفعياً وفي زمان واحد ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فان سعة دائرة الوضع وضيقها تتبع سعة دائرة الغرض وضيقها ، ومن الواضح أنّ الغرض منه ليس إلاّ أن يتفاهم بها وقت الحاجة وتبرز بها المعاني التي تختلج في النفوس لئلاّ يختل نظام حياتنا المادية والمعنوية ، ومن الظاهر أنّ كمّية الغرض الداعي إليه تختلف سعة وضيقاً بمرور الأيام والعصور ، ففي العصر الأوّل ـ وهو عصر آدم عليه‌السلام ـ كانت الحاجة إلى وضع ألفاظ قليلة بازاء معان كذلك ، لقلّة الحوائج في ذلك العصر ، وعدم اقتضائها أزيد من ذلك ، ثمّ ازدادت الحوائج مرّة بعد اخرى وقرناً بعد آخر بل وقتاً بعد وقت ، فزيد في الوضع كذلك.

وعليه فيتمكن جماعة بل واحد من أهل كل لغة على وضع ألفاظها بازاء معانيها في أيّ عصر وزمن ، فانّ سعة الوضع وضيقه تابعان لمقدار حاجة الناس إلى التعبير عن مقاصدهم سعة وضيقاً ، ولما كان مرور الزمن موجباً لاتساع حاجاتهم وازديادها ، كان من الطبيعي أن يزداد الوضع ويتّسع.

أمّا الذين يقومون بعملية الوضع فهم أهل تلك اللغة في كل عصر ، من دون فرق بين أن يكون الواضع واحداً منهم أو جماعةً ، وذلك أمر ممكن لهم ، فانّ المعاني الحادثة التي يبتلى بها في ذلك العصر إلى التعبير عنها ليست بالمقدار الذي يعجز عنه جماعة من أهل ذلك العصر أو يعجز عنه واحد منهم ، فانّها محدودة بحد خاص.

وقد تلخّص من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ أهل اللغة ليسوا بحاجة إلى وضع ألفاظها للمعاني التي تدور عليها

٣٨

الافادة والاستفادة في جميع العصور ليقال إنّ البشر لا يقدر على ذلك ، بل يمكن الوضع بشكل تدريجي في كل عصر حسب تدريجية الحاجة إلى التعبير عنها.

الثاني : أنّنا لسنا بحاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني ، فانّ الوضع لما يزيد عن مقدار الحاجة لغو محض.

وأمّا الثاني : وهو أنّ الواضع لو كان بشراً لنقل ذلك في التواريخ ، لأن مثل هذا العمل يعتبر من أعظم الخدمات للبشر ولذلك تتوفر الدواعي على نقله.

فيرد عليه : أنّ ذلك إنّما يتم لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معيّنين ، وأمّا إذا التزمنا بما قدّمناه من أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معيّنين ، بل كل مستعمل من أهل تلك اللغة واضع بشكل تدريجي ، فلا يبقى مجال للنقل في التواريخ.

نعم ، لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معينين ، لنقله أصحاب التواريخ لا محالة.

وممّا يؤكّد ما ذكرناه : ما نراه من طريقة الأطفال عندما يحتاجون إلى التعبير عن بعض المعاني فيما بينهم ، فانّهم يضعون الألفاظ لهذه المعاني ويتعاهدون ذكرها عند إرادة إبراز ما يختلج في أذهانهم من الأغراض والمقاصد ، ولا نجدهم يتخلّفون عن هذه الحال ، حتى إنّهم لو عاشوا في مناطق خالية من السكان لتكلموا بلغة مجعولة لهم لا محالة ، ولا نعني بالوضع إلاّهذا التعهد وهذا الالتزام ، وإليه أشار تعالى بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (١) وذلك وإن كان ينتهي إليه تعالى ، لأنّه من لطفه وعنايته ، إلاّ أنّه أمر آخر غير أنّه هو الواضع الحكيم.

__________________

(١) الرّحمن ٥٥ : ٣ ـ ٤.

٣٩

وهذا الذي ذكرناه من دفع الاشكالين المتقدمين لا يفرق فيه بين مسلكنا ومسلك القوم في تفسير العلقة الوضعية ، فانّ تدريجية الوضع وعدم اختصاصه بشخص خاص لاتدع مجالاً للاشكال المزبور ، غاية الأمر أنّه بناءً على مسلكنا كان كل مستعمل واضعاً وإن كانت كلمة الواضع عند إطلاقها تنصرف إلى الواضع الأوّل ، إلاّ أنّه من جهة الأسبقية ، وهذا بخلاف غيره من المسالك كما لا يخفى.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ الله ( تبارك وتعالى ) ليس هو الواضع الحكيم.

الثاني : أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع.

في حقيقة الوضع

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة : وهي تعيين حقيقة الوضع : فذهب بعض الأعاظم قدس‌سره (١) إلى أنّها من الامور الواقعية ، لا بمعنى أنّها من إحدى المقولات ، ضرورة وضوح عدم كونها من مقولة الجوهر ، لانحصارها في خمسة أقسام : العقل ، النفس ، الصورة ، المادة ، الجسم ، وهي ليست من إحداها ، وكذا عدم كونها من المقولات التسع العرضية أيضاً ، لأنّها متقوّمة بالغير في الخارج ، لاستحالة تحققها في العين بدون موضوع توجد فيه ، فانّ وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، وهذا بخلاف حقيقة العلقة الوضعية فانّها قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى ومتقوّمة بهما فلا يتوقّف ثبوتها وتحققها على وجودهما في الخارج ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٢٥ ـ ٢٦.

٤٠