محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

تعارض الأحوال

التخصيص والتقييد والمجاز والاشتراك والاضمار.

ذكروا لتقديم كل واحد منها على الآخر فيما إذا وقعت المعارضة بينها وجوهاً.

ولكن الصحيح ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ تلك الوجوه بأجمعها من الامور الاستحسانية التي لا اعتداد بها أصلاً في باب الألفاظ ، فانّ المتبع في ذلك الباب الظهورات العرفية التي قد جرت على متابعتها السيرة العقلائية في مسألة الاحتجاج واللجاج ، دون الاستحسانات العقلية ، والامور الظنية ، إذ لم يترتب عليها أيّ أثر شرعي ، إلاّ إذا كانت موجبة للظهور العرفي ، فحينئذ العمل بالظهور ، لا بها كما لا يخفى ، فلا وجه لاطالة الكلام في ذلك أصلاً.

الأمر التاسع

في الحقيقة الشرعية

الكلام في هذه المسألة يقع في جهات :

الجهة الاولى : قال جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) تظهر الثمرة في المسألة بحمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة كألفاظ العبادات والمعاملات على المعاني الشرعية ، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وعلى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠.

(٢) كفاية الاصول : ٢٢.

١٤١

المعاني اللغوية بناءً على عدم ثبوتها.

وقيل بالتوقف في المقام بناءً على الثاني ، بدعوى أنّ الحقيقة الشرعية وإن لم تثبت إلاّ أنّه لا شبهة في صيرورة المعاني الشرعية من المجازات المشهورة من جهة كثرة استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني ، والمختار في تعارض الحقيقة مع المجاز المشهور التوقف ، بل المشهور على ذلك ، إلاّبناءً على حجية أصالة الحقيقة تعبداً كما نسب إلى السيِّد المرتضى (١) قدس‌سره وأمّا بناءً على اعتبار الظهور فلا ظهور لها في معانيها الحقيقية ، هذا.

والتحقيق : أنّه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً ، وفاقاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) والوجه في ذلك : هو أنّ الكبرى المذكورة وهي : حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشارع على المعاني اللغوية أو التوقف بناءً على عدم الثبوت ، وعلى المعاني الشرعية بناءً على الثبوت وإن كانت مسلّمة ، إلاّ أنّ الصغرى غير ثابتة ، لعدم الشك في المراد الاستعمالي من هذه الألفاظ ، سواء قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية أم لم نقل ، فهي على التقديرين استعملت في عرف المتشرعة في المعاني الشرعية ، إذن لا يبقى مورد نشك فيه في المراد الاستعمالي.

وعلى الجملة : أنّ ألفاظ الكتاب والسنّة قد وصلت إلينا من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ومن الواضح جداً أنّ الحقيقة الشرعية وإن فرض أنّها لم تثبت ، إلاّ أنّه لا شبهة في ثبوت الحقيقة المتشرعية في زمن ما ، وعليه فليس لنا مورد نشك فيه في مراد الشارع المقدّس من هذه الألفاظ ، حتّى تظهر الثمرة المزبورة.

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة : ١٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٨.

١٤٢

نعم ، لو فرض كلام وصل إلينا من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا وساطة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام فيمكن أن تظهر الثمرة فيه إذا فرض الشك في مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، إلاّ أنّه فرض في فرض ، فبالنتيجة أنّه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة اصلاً ، بل هو بحث علمي فقط.

الجهة الثانية : قد تقدّم أنّ الوضع على قسمين : أحدهما : تعييني. والثاني : تعيّني. أمّا الوضع التعييني في المقام ـ بأن كان الشارع المقدس قد تصدى للوضع صريحاً ـ فهو مقطوع العدم ، ضرورة أنّه لو كان كذلك لنقل إلينا بالتواتر ، كيف ولم ينقل حتّى بخبر الواحد ، وذلك لعدم المانع منه مع توفر الداعي على نقله ، وليس الوضع كمسألة الخلافة ونحوها لتوفّر الدواعي هناك على إخفائها وكتمانها ، دونه.

وأمّا الوضع التعييني بمعنى آخر ، بأن يكون الوضع متحققاً بنفس الاستعمال كما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) فيقع الكلام في إمكانه أوّلاً ، وفي وقوعه ثانياً ، فهنا مقامان :

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) عدم إمكانه ، بدعوى أنّ حقيقة الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى في الخارج ، بحيث تكون الألفاظ مغفولاً عنها ، فالاستعمال يقتضي أن يكون النظر إلى الألفاظ آلياً ، والوضع يستدعي أن يكون النظر إلى الألفاظ استقلالياً ، فالجمع بين الوضع والاستعمال في شيء يلازم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وهو غير معقول.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٩.

١٤٣

والتحقيق : أنّ الوضع ـ سواء كان بمعنى التعهد والالتزام النفساني ، أو بمعنى اعتبار نفساني ـ على تمام أنحائه في مرتبة متقدمة على الاستعمال. أمّا على الأوّل : فواضح ، ضرورة أنّ التعهد والتباني بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى ما ، يكون مقدّماً على الاستعمال لا محالة ، من دون فرق بين أن يكون إبراز هذا التعهد بمثل كلمة وضعت ، أو نحوها الدالة على التعهد بالمطابقة ، أو يكون المبرز نفس الاستعمال الدال على ذلك بالالتزام بمعونة القرينة. وأمّا على الثاني : فلأنّ اعتبار الملازمة أو نحوها بين لفظ خاص ومعنى ما ، مقدّم على الاستعمال بالضرورة ، وإن كان المبرز لذلك الاعتبار نفس الاستعمال مع نصب القرينة على ذلك ، وكيف كان فالاستعمال متأخر عن الوضع لا محالة.

ونظير ذلك الهبة ، فانّه تارة يبرزها بجملة ( وهبتك ) الدالة عليها بالمطابقة واخرى يبرزها بجملة ( خذ هذا الثوب ) مثلاً الدالة عليها بالالتزام.

فقد أصبحت النتيجة أنّ محذور لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي مندفع على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع ، فانّ الوضع أمر نفساني ثابت في افق النفس ، والاستعمال أمر خارج عن افق النفس ، فالوضع سابق على الاستعمال دائماً.

بل لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا الجمع بين الوضع والاستعمال في آن واحد ، لم نسلّم استلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، فانّ هذا اللازم مبتن على مذهب المشهور في مسألة الاستعمال ، حيث إنّهم يرون الألفاظ في مرحلة الاستعمال آليات ، وأمّا على المذهب الصحيح من أنّ حال الألفاظ حال المعاني في مقام الاستعمال ، فكما أنّ المعاني ملحوظة استقلالاً ، فكذلك الألفاظ ، ومن هنا يلتفت المتكلم إلى خصوصيات الألفاظ الصادرة منه من كونها لغة عربية أو فارسية أو غير ذلك ، فلا يلزم من الجمع بين الوضع والاستعمال ، الجمع بين

١٤٤

اللحاظين الآلي والاستقلالي.

فقد ظهر ممّا ذكرناه إمكان الوضع التعييني على أن يكون الدال عليه نفس الاستعمال ، مع نصب القرينة على ذلك.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فالظاهر أنّه لا شبهة في وقوع الوضع التعييني على هذا النحو خارجاً ، بل لعلّه كثير بين العرف والعقلاء في وضع الأعلام الشخصية والمعاني المستحدثة ، وعليه فدعوى ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني على النحو المزبور في الجملة غير بعيدة.

إنّما الإشكال في أنّ ذلك الاستعمال ، هل هو استعمال حقيقي أو مجازي ، أو لا هذا ولا ذاك؟ وجهان ، بل قولان.

فقد اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) الاحتمال الأخير ، بدعوى أنّه لايكون من الاستعمال الحقيقي ، من جهة أنّ الاستعمال الحقيقي استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ، والمفروض أنّه لا وضع قبل هذا الاستعمال ، ليكون الاستعمال استعمالاً فيه ، وأمّا أنّه لا يكون من الاستعمال المجازي ، فلأجل أنّ الاستعمال المجازي استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له ، والمفروض أنّه لا وضع قبل هذا الاستعمال ، ومعه لا يعقل المجاز ، فانحصر أن لا يكون ذلك الاستعمال حقيقياً ولا مجازياً ، وقد ذكرنا أنّ صحّة الاستعمال لا تدور مدار كونه حقيقياً أو مجازياً ، بل صحّ الاستعمال بدون أن يكون متصفاً بأحدهما إذا كان حسناً عند الطبع ، وقد عرفت أنّ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل هذا محصل ما أفاده قدس‌سره.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١.

١٤٥

وقد ظهر ممّا حققناه سابقاً (١) أنّ الإطلاقات المذكورة ليست من قبيل الاستعمال في شيء على تفصيل تقدّم.

كما أنّه قد تبين ممّا ذكرناه الآن أنّ هذا الاستعمال استعمال حقيقي وفي المعنى الموضوع له ، بيانه : هو أنّك عرفت أنّ الوضع في مرتبة متقدمة على الاستعمال على جميع المسالك في تفسير الوضع ، وعليه فالوضع يحصل قبل الاستعمال ، فاذا كان كذلك فالاستعمال استعمال في الموضوع له ، وهذا واضح.

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوضع ليس عبارة عن مجرد أمر نفساني من تعهد واعتبار ملازمة ونحو ذلك ، بل للابراز دخل في حقيقة الوضع جزءاً أو قيداً ، وبدونه لا يتحقق الوضع ، كما هو الحال في مثل عنوان البيع والتجارة والهبة والصلح وما شاكل ذلك ، فانّ هذه العناوين لا تتحقق عرفاً ولا تصدق خارجاً على مجرد الاعتبار النفساني ما لم يبرزه في الخارج بمبرز من قول أو فعل ، فللابراز دخل فيها جزءاً أو قيداً ، مثلاً عنوان البيع لا يصدق عرفاً على مجرد اعتبار البائع ملكية المبيع لزيد مثلاً ، واعتبار زيد تملكه لنفسه بعوض معلوم ما لم يبرزه البائع بقوله : بعت أو ملكت ، والمشتري بقوله : اشتريت أو قبلت ، فالبيع عبارة عن الأمر الاعتباري الخاص المبرز في الخارج بمبرز ، وهكذا غيره ، فلو سلّمنا أنّ الوضع أيضاً كذلك فلايكون هذا الاستعمال استعمالاً في غير ما وضع له ، والوجه في ذلك : هو أنّه لا يعتبر في كون الاستعمال حقيقياً واستعمالاً في الموضوع له تقدّم الوضع على الاستعمال ، بل غاية ما يقتضيه ذلك هو أن لا يكون الوضع متأخراً عن الاستعمال ، فيكفي في كون الاستعمال حقيقياً مقارنة الوضع معه زماناً ، والمفروض أنّ الوضع والاستعمال في مقامنا هذا

__________________

(١) في ص ١٠٦.

١٤٦

كذلك ، وإن كان الاستعمال مقدّماً عليه طبعاً ورتبة باعتبار أنّه جزؤه أو قيده ، إلاّ أنّه لا يوجب تقدمه عليه زماناً.

وقد تحصّل من ذلك بوضوح : أنّ هذا الاستعمال استعمال في الموضوع له ، ولو قلنا بأنّ الوضع يتحقق بنفس ذلك الاستعمال ، وأ نّه الجزء الأخير والمتمم لتحققه.

وكيف كان ، فقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره ما نصّه :

فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جداً ، ومدعي القطع به غير مجازف قطعاً ، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته ، ثمّ يؤيد ذلك بعدم وجود علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية في بعض الموارد ... إلخ. وهذا الذي ذكره هو الصحيح.

ثمّ قال قدس‌سره هذا كلّه بناءً على كون معانيها مستحدثة في شرعنا ، وأمّا بناءً على كونها ثابتة في الشرائع السابقة ، كما هو قضيّة غير واحد من الآيات مثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ ... ) إلخ ، وقوله تعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) وقوله تعالى : ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) إلى غير ذلك ، فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية ، واختلاف الشرائع فيها جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية ، إذ لعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات ، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ، كما لا يخفى (١) انتهى.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره يمكن الجواب عنه بوجهين :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١.

١٤٧

الوجه الأوّل : أنّ ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يضر بثبوت الحقيقة الشرعية في شرعنا ، ضرورة أنّ مجرّد الثبوت هناك لا يلازم التسمية بهذه الألفاظ الخاصة ، وليس في المقام إلاّ التعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز ، ومن الواضح أنّه لا يدل على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة ، بل هو لأجل اقتضاء مقام الافادة ذلك ، كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات والقصص القرآنية التي كانت بالسريانية كما في لغة عيسى عليه‌السلام ، أو العبرانية كما في لغة موسى عليه‌السلام بل من المعلوم أنّ تلك المعاني كانت يعبّر عنها بألفاظ سريانية أو عبرانية ، وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصة في شريعتنا لاقتضاء مقام الافادة ذلك.

وإن شئت فقل : إنّ معنى الحقيقة الشرعية ليس جعل المعنى واختراعه ، بل جعل اللفظ بازاء معنى من المعاني ، ولا يفرق فيه بين كون المعنى قديماً أو حادثاً في هذه الشريعة.

وما يتوهم من أنّ الصلاة بهذه اللفظة موجودة في إنجيل برنابا لا بلفظة اخرى ، عبرانية أو سريانية ، فكما أنّ المعاني لم تكن مستحدثة ، فكذلك الألفاظ التي يعبّر بها عنها ، مدفوع بأنّ وجود لفظ الصلاة في الإنجيل الرائج لا يدل على وجوده في أصله المعلوم أنّه لم يكن باللغة العربيّة. هذا مضافاً إلى أنّ لفظ الصلاة الموجود في الانجيل والتوراة لم يكن بالمعنى المركب من الأجزاء والشرائط والكيفية الخاصّة ، بل كان بمعنى الدعاء ، فالصلاة بهذه الكيفية والأجزاء والشرائط والموانع مستحدثة لا محالة.

وربّما قيل بأنّ الألفاظ المذكورة موضوعة بازاء تلك المعاني قبل الشريعة الاسلامية ، فالعرب قبلها كانوا قد تعهدوا لهذه المعاني في استعمالاتهم ، والتزموا بذكر هذه الألفاظ عند إرادة تفهيمها ، ومن هنا كانوا ينتقلون إلى معاني هذه

١٤٨

الألفاظ من لدن نزول هذه الآيات الكريمة كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) وقوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٢) إلى غير ذلك ، وهم لا يتوقفون في فهم هذه المعاني من تلك الألفاظ ، ومن المعلوم أنّ هذا يكشف كشفاً قطعياً عن كونها حقيقة فيها قبل زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي حقيقة لغوية وليست بحقيقة شرعية ، والقرآن الكريم قد تابعهم في استعمالها ، ليكون أوقع في النفوس ، حيث إنّهم كانوا مستأنسين بالتعبير عنها بهذه الألفاظ الخاصة.

والجواب عنه : أنّ هذا وإن كان ممكناً في نفسه إلاّ أنّه لا شاهد عليه ، لا من الآيات ، ولا من الروايات ، ولا من القرائن الخارجية.

أمّا الأخيرتان فظاهر. وأمّا الاولى فكذلك ، لأنّ شيئاً من هذه الآيات لا يشهد على ذلك ، فقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... ) إلخ مثلاً ، لا يدل على أنّ الصوم بهذا اللفظ الخاص كان موجوداً قبل الشريعة ، غاية ما في الباب أنّ الآية تدل على أنّ الصوم كان موجوداً قبلها ، أمّا أنّه كان يعبّر عنه بهذا اللفظ الخاص ، فهي ساكتة عن ذلك ، والتعبير عنه في الآية المباركة من جهة اقتضاء مقام الافادة ذلك.

وأمّا انسباق هذه المعاني في أذهان القوم بمجرد نزول هذه الآيات ، فهو من جهة أنّ هذه الألفاظ قد صدرت عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزولها ، ثمّ بعد ذلك جاءت الآيات الكريمة فحكت عمّا جاء به النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد استند فهم العرب إلى ذلك لا محالة.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٣.

(٢) مريم ١٩ : ٣١.

١٤٩

الوجه الثاني : أنّا لو سلّمنا أنّ تسمية هذه المعاني بهذه الألفاظ بالحقيقة الشرعية تدور مدار كونها مستحدثة في شرعنا ، إلاّ أنّ ثمرة ثبوت الحقيقة الشرعية تترتب على القول بثبوت الحقيقة في لسان الشارع لا محالة ، ولا أثر لكون هذه المعاني قديمة وثابتة في الشرائع السابقة بالقياس إلى الثمرة المزبورة أصلاً ، ولايترتب على كونها معاني حديثة أثر ما عدا التسمية بالحقائق الشرعية ، فانّ الثمرة التي ذكرت في المسألة وهي ـ حمل الألفاظ في استعمالات الشارع المقدّس على المعاني الشرعية بناءً على الثبوت ـ لا تترتب على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة ، إذ المراد من هذه الألفاظ في استعمالات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هذه المعاني ، سواء قلنا بكونها معاني حديثة في شريعتنا أم كانت معاني ثابتة في الشرائع السابقة. فعلى كلا التقديرين تعهد الشارع المقدّس لهذه المعاني في استعمالاته قبال معانيها اللغوية ، كانت مسمّاة بالحقائق الشرعية أو بالحقائق اللغوية ، فلا فرق بين التسميتين في ثمرة النزاع أصلاً.

فتلخّص أنّ ما أفاده قدس‌سره من توقف ثبوت الحقيقة الشرعية على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة على تقدير تسليمه لا يترتب على ذلك أيّ أثر.

وأمّا القسم الثاني وهو الوضع التعيّني الذي ينشأ من كثرة الاستعمال ، لا من الجعل والمواضعة ، فثبوته في زمن الصادقين عليهما‌السلام معلوم ، بل وحتّى في زمن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل ولا يبعد ثبوته في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسان تابعيه ، لكثرة استعمالات هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة الأسئلة التي ترد من السائلين لا سيما في مثل لفظ الصلاة الذي هو أكثر استعمالاً من غيره من ألفاظ العبادات.

نعم ، ثبوته في خصوص لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله مشكل جداً ، لعدم

١٥٠

العلم بكثرة استعمالاته صلى‌الله‌عليه‌وآله على حد توجب التعين ، وقد أشار إلى ذلك الاشكال المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله ، فتأمّل (١).

وعليه فالروايات التي صدرت عنهم عليهم‌السلام واشتملت على هذه الألفاظ قد أصبحت معلومة المراد ، فانّها تحمل على هذه المعاني بلا قرينة ، لثبوت الحقيقة المتشرعية في زمنهم عليهم‌السلام على الفرض ، ومعه تنتفي الثمرة التي كنّا نتوقعها من هذا البحث ، باعتبار أنّ الروايات التي وصلت عن المعصومين عليهم‌السلام إلينا المشتملة على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوماً فلا ثمرة ، بل لا داعي لهذا البحث بعد ذلك.

فقد أصبحت النتيجة لحدّ الآن في امور :

الأوّل : أنّ الصحيح ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني المتحقق بنفس الاستعمال.

الثاني : إن قلنا بعدم الوضع التعييني فلا شبهة في ثبوت الوضع التعيّني في زمن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام من جهة كثرة استعمالات المتشرعة تلك الألفاظ في المعاني الجديدة.

الثالث : أنّه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلاً ، فان ألفاظ الكتاب والسنّة الواصلتين إلينا يداً بيد معلومتان من حيث المراد ، فلا نشك في المراد الاستعمالي منهما ، ولا يتوقف في حملها على المعاني الشرعية.

ومن هنا لا يهمنا إطالة البحث عن أنّ الحقيقة الشرعية ثابتة أو غير ثابتة ، فانّ الثمرة المذكورة غير مبتنية على ثبوت الحقيقة الشرعية.

__________________

(١). كفاية الاصول : ٢٢.

١٥١

الأمر العاشر

الصحيح والأعم

وقع الكلام بين الأعلام في أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات هل تكون أسامي للصحيحة أو للأعم؟ قبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على جهات :

الجهة الاولى : لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، فانّه القدر المتيقن في المسألة.

وإنّما الاشكال في جريانه على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، ولكن الظاهر بل المقطوع به جريان النزاع على هذا القول أيضاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ مرجع هذا القول إلى أنّ الشارع المقدس من لدن نزول القرآن الحكيم هل استعمل هذه الألفاظ في المعاني الصحيحة من جهة لحاظ علاقة بينها وبين المعاني اللغوية ، أو استعملها في الأعم من جهة لحاظ علاقة بينه وبين المعاني اللغوية؟ فعلى الأوّل يكون الأصل في استعمالات الشارع الاستعمال في الصحيح إلاّ إذا قامت قرينة على الخلاف ، وعلى الثاني ينعكس الأمر.

بل يجري النزاع حتى على القول بأنّ هذه الألفاظ استعملت في لسان الشارع في معانيها اللغوية ، ولكنّه أراد المعاني الشرعية من جهة نصب قرينة تدل على ذلك بنحو تعدّد الدال والمدلول ، كما نسب هذا القول إلى الباقلاني (١) والوجه في ذلك : هو أن يقع النزاع في أنّ الشارع حين إرادته المعاني الشرعية بالقرينة ، هل نصب القرينة العامة على إرادة المعاني الصحيحة حتى يحتاج إرادة الأعم

__________________

(١) قوانين الاصول : ٣٩.

١٥٢

إلى قرينة خاصة؟ أو أنّه نصبها على إرادة الأعم فارادة الصحيحة تحتاج إلى قرينة خاصة؟

الجهة الثانية : الظاهر أنّ الصحّة بمعنى التمامية من حيث الأجزاء والشرائط التي يعبّر عنها في لغة الفرس بكلمة ( درستي ) وهي معناها لغة وعرفاً.

وأمّا تفسير الفقهاء الصحّة بمعنى إسقاط القضاء والإعادة ، والمتكلمين بمعنى موافقة الشريعة ، فكلاهما من باب التفسير باللازم ، فالصلاة مثلاً إذا كانت تامّة من حيث أجزائها وشرائطها كانت موافقة للشريعة ، ومسقطة للاعادة والقضاء ، وليس شيء من ذلك معنى الصحة ، ولا من الحيثيات التي يتمّ بها حقيقتها.

وهذا هو الحال في سائر المركبات الشرعية والعرفية.

ومن ذلك ظهر فساد ما أفاده شيخنا المحقق قدس‌سره حيث قال ما لفظه :

إنّ حيثية إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ، ليست من لوازم التمامية بالدقة ، بل من الحيثيات التي يتمّ بها حقيقة التمامية ، حيث لا واقع للتمامية إلاّ التمامية من حيث إسقاط القضاء ، أو من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث ترتب الأثر إلى غير ذلك ، واللازم ليس من متممات معنى ملزومه فتدبر.

ثمّ قال في هامش كتابه : إنّه إشارة إلى أنّ اللازم إن كان من لوازم الوجود صحّ ما ذكر ، وإن كان من لوازم الماهية فلا ، إذ لا منافاة في لازم الماهية وعارضها بين اللّزوم وكونه محققاً لها كالفصل بالإضافة إلى الجنس ، فانّه عرض خاص له ، مع أنّ تحصّل الجنس بتحصله ، انتهى (١).

وجه الظهور : هو أنّ إسقاط القضاء والاعادة وموافقة الشريعة وغيرهما

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٩٥.

١٥٣

جميعاً من آثار التمامية ولوازمها وهي التمامية من حيث الأجزاء والشرائط ، وليست من متممات حقيقتها ، ضرورة أنّ لها واقعية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم ، والظاهر أنّه وقع الخلط في كلامه قدس‌سره بين تمامية الشيء في نفسه ، أعني بها تماميته من حيث الأجزاء والشرائط ، وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء ، فانّه لا واقع لهذه التمامية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم. أو وقع الخلط بين واقع التمامية وعنوانها ، فان عنوان التمامية عنوان انتزاعي منتزع عن الشيء باعتبار أثره ، فحيثية ترتب الآثار من متممات حقيقة ذلك العنوان. ولا واقع له إلاّ الواقعية من حيث ترتب الآثار ، ولكنّه خارج عن محل الكلام ، فان كلمة الصلاة مثلاً ، لم توضع بازاء ذلك العنوان ضرورة ، بل وضعت بازاء واقعه ومعنونه وهو الأجزاء والشرائط ، ومن الظاهر أنّ حيثية ترتب الآثار ليست من متممات حقيقة تمامية هذه الأجزاء والشرائط ، وعلى أيّ حال فلا وقع لما ذكره قدس‌سره أصلاً.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّه لا منافاة بين كون شيء لازماً لماهية وكونه محققاً لها ، فانّ الفصل لازم لماهية الجنس ، مع كونه محققاً لها في الخارج ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ اللازم لايعقل أن يكون من متممات معنى ملزومه ، من دون فرق فيه بين لازم الوجود ولازم الماهية ، فماهية الفصل بما هي من لوازم ماهية الجنس لايعقل أن تكون من متمماتها بالضرورة ، نعم الفصل بحسب وجوده محصّل لوجود الجنس ومحقق له ، ولكنّه بهذا الاعتبار ليس لازماً له ، فاطلاق قوله قدس‌سره إنّ ذلك ـ أي اللازم ليس من متممات معنى ملزومه ـ إنّما يتم في لازم الوجود دون لازم الماهية غير تام ، وكيف كان فالأمر ظاهر لا

سترة فيه.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الصحّة بمعنى تمامية المركب في نفسه وذاته ، أعني بها

١٥٤

تماميته من حيث أجزائه وقيوده. ومن هنا يتبين أنّ البسيط لايتصف بالصحّة والفساد بل يتصف بالوجود أو العدم.

كما ظهر أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف حالات المكلّفين ، مثلاً الصلاة قصراً صحيحة للمسافر ، وفاسدة للحاضر ، كما أنّها إذا وقعت إلى ما بين المشرق والمغرب صحيحة لمن لم يتمكن من تشخيص القبلة ، وفاسدة للمتمكن من ذلك ، وهكذا.

فتحصّل : أنّ الصحّة التي هي داخلة في المسمّى على أحد القولين في المسألة من حيث أجزائه وقيوده ، مع قطع النظر عن أيّ أثر يترتب عليها ، فانّها في مرتبة سابقة على ترتب الآثار.

ومن هنا يظهر أنّ الصحّة الفعلية التي هي منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً ، خارجة عن محل الكلام ، ضرورة أنّها في مرتبة متأخرة عن الأمر فكيف يعقل أخذها في المسمّى وفي متعلق الأمر ، ومن الواضح أنّ المراد من الوضع للصحيح أو للأعم الوضع لما هو واقع في حيّز الأمر.

وعلى ذلك فلا وجه للترديد والقول بأنّ الصحة والفساد المبحوث عنهما في هذه المسألة هل هي بمعنى التمامية وعدمها من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث إسقاط القضاء والاعادة ، أو من حيث استجماع الأجزاء والشرائط ، أو من حيث ترتب الأثر وعدمه ، أو غير ذلك ، فانّك قد عرفت (١) أنّ المبحوث عنه لا يمكن أن يكون إلاّ التمامية وعدمها بالاضافة إلى الأجزاء والشرائط ، وأمّا بقية الحيثيات فهي أجنبية عن معنى التمامية بالكلية ، بل هي من الآثار واللوازم المترتبة عليها في مرتبة متأخرة. وهذا واضح ، فلا وجه لاطالة الكلام

__________________

(١) في ص ١٥٣.

١٥٥

في ذلك كما عن شيخنا المحقق قدس‌سره.

الجهة الثالثة : لا شبهة في دخول الأجزاء جميعاً في محل النزاع ، بلا فرق بين الأركان كالركوع والسجود والتكبيرة ، وبين غيرها ، وكذلك لا شبهة في دخول شرائط المأمور به في محل النزاع.

وتوهّم أنّها خارجة عن محل النزاع ، بدعوى أنّ مرتبة الأجزاء مرتبة المقتضي ، ومرتبة الشرائط متأخرة عن المقتضي ، فانّ الشرائط دخيلة في فعلية التأثير كما في تقريرات شيخنا العلاّمة الأنصاري (١) قدس‌سره ولا يجوز إدخالها في المسمى ، لتكون مساوية مع الأجزاء في الرتبة ، مدفوع بأنّ تأخر الشرائط رتبة عن الأجزاء لا يستلزم عدم إمكان وضع اللفظ بازاء المجموع ، ضرورة أنّ الوضع بازاء المتقدم والمتأخر رتبة بل زماناً ، من الواضحات الأوّلية كما لا يخفى ، فالتأخر في مقام العلية لا يوجب التأخر في مقام التسمية ، فان أحد المقامين أجنبي عن المقام الآخر بالكلية.

ولا إشكال أيضاً في أنّ كل ما لم يؤخذ في المأمور به جزءاً أو شرطاً فهو خارج عن المسمّى وإن كان له دخل في الصحّة ، وذلك كقصد القربة ، وعدم كون العبادة مزاحمة بواجب آخر الموجب لسقوط أمرها ، وعدم كونها منهياً عنها.

وهذا لا لأجل ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من استحالة أخذ جميع ذلك في المسمّى ، لما ذكره في وجهها وحاصله : أنّ الصحّة من جهة عدم المزاحم وعدم النهي ومن جهة قصد القربة في مرتبة متأخرة عن المسمّى وفرع تحققه ، لينهى عنه أو يوجد له مزاحم ، أو يقصد به التقرّب ، وعليه فكيف يعقل اعتبارها في المسمّى وأخذها فيه ، فيكون من قبيل أخذ ما هو متأخر رتبة في

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٧.

١٥٦

المتقدم كذلك ، وهو غير معقول (١).

فانّه يرد عليه : أنّ وضع لفظ بازاء شيئين طوليّين رتبة بل زماناً بمكان من الامكان وليس فيه أيّ محذور أبداً ، ومقامنا من هذا القبيل ، إذ مجرد كون قصد القربة وعدم المزاحم وعدم النهي في طول الأجزاء المأمور بها وشرائطها لا يوجب استحالة أخذها في مسمّى لفظ الصلاة مثلاً ، ولا يوجب تقدّم الشيء على نفسه ، وغير ذلك من المحاذير.

ومن الغريب استدلاله قدس‌سره على استحالة أخذ هذه الامور في المسمّى بكونها متفرعة على تحقق المسمّى في مرتبة سابقة عليها حتّى يوجد له مزاحم ، أو ينهى عنه ، أو يقصد به القربة ، وذلك لأنّ قضيّة التفرع مبتنية على أن يكون المسمّى متحققاً بدون هذه الامور ولم يكن لها دخل في تحققه ، وأمّا إذا فرض أنّها أيضاً مأخوذة فيه كالأجزاء والشرائط ، فلا تحقق له قبل هذه الامور حتّى يوجد له مزاحم أو غيره ، وعليه فلو فرض مزاحم للمأمور به ، أو فرض النهي عنه ، أو أنّه لم يقصد القربة به ، لم يتحقق المسمّى ، ضرورة انتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه.

نعم ، غاية ما يلزم على هذا هو كون المسمّى غير ما تعلق به الأمر ، وهذا ليس بمحذور امتناع عقلي ، بل لأنّ دخل هذه الامور في المسمّى واضح البطلان ، ومن ثمّ لم يحتمل أحد دخل هذه الامور في المسمّى حتّى على القول بأنّ الألفاظ موضوعة للصحيحة.

فالمتحصل ممّا ذكرناه : هو أنّ الأجزاء وشرائط المأمور به جميعاً داخلتان في محل النزاع من دون شبهة وإشكال ، كما أنّه لا إشكال في خروج هذه الامور

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥١.

١٥٧

عن محل النزاع.

الجهة الرابعة : أنّه لا بدّ على كلا القولين من تصوير جامع وحداني يشترك فيه جميع الأفراد.

أمّا بناءً على أن يكون الموضوع له لأسماء العبادات والمعاملات عاماً كوضعها كما هو الصحيح ، فالأمر واضح ، فان لفظ الصلاة ونحوه من أسماء الأجناس ، وقد تقدّم أنّ الموضوع له فيها عام ، غاية الأمر أنّ ذلك الجامع على أحد القولين حصّة خاصّة ، وعلى القول الآخر طبيعة مطلقة ، وهذا لا يوجب التفاوت في المقام.

وأمّا بناءً على أن يكون الموضوع له فيها خاصاً فالأمر أيضاً كذلك ، ضرورة أنّ تصوّر جميع الأفراد تفصيلاً غير معقول لعدم تناهيها ، فلا بدّ حينئذ من تصوّرها بجامع يكون ذلك الجامع معرّفاً لها إجمالاً وبوجه ، حتّى يمكن وضع اللفظ بازائها.

فبالنتيجة أنّ تصوّر الجامع على كلا القولين لابدّ منه ، سواء قلنا بأنّ الموضوع له عام أو خاص. وأمّا الاشتراك اللفظي أو كون الألفاظ حقيقة في بعض الأصناف ومجازاً في الباقي فهو مقطوع البطلان ، كما يظهر ذلك من إطلاق لفظ الصلاة مثلاً على أصنافها على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها.

وبعد ذلك نقول : الكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في العبادات.

المقام الثاني : في المعاملات.

١٥٨

أمّا الكلام في المقام الأوّل :

[ في العبادات ]

فيقع في تصوير الجامع بين أفراد العبادات ، وقد عرفت أنّ تصويره بينها لا بدّ منه ، سواء قلنا بكونها موضوعة للصحيحة أم للأعم.

ولكن شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد خالف في المقام ، وذهب إلى أنّه لا ضرورة تدعو إلى تصوير جامع وحداني يشترك فيه جميع الأفراد ، وأفاد في وجه ذلك أنّه يمكن الالتزام بأنّ الموضوع له في مثل لفظ الصلاة مثلاً أوّلاً هو المرتبة العليا الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، فانّ للصلاة باعتبار مراتبها عرضاً عريضاً ، ولها مرتبة عليا وهي صلاة المختار ، ولها مرتبة دنيا وهي صلاة الغرقى ، وبين الحدّين متوسطات ، فلفظة الصلاة ابتداءً موضوعة للمرتبة العليا على كلا القولين ، واستعمالها في غيرها من المراتب النازلة من باب الادعاء والتنزيل ، أو من باب الاشتراك في الأثر.

فالصحيحي يدعي أنّ استعمال لفظ الصلاة في بقية المراتب الصحيحة إمّا من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة فيما يصح فيه التنزيل ، أو من باب الاشتراك في الأثر واكتفاء الشارع به في مقام الامتثال كما في صلاة الغرقى ، فانّه لا يمكن فيها الالتزام بالتنزيل المزبور.

والأعمي يدعي أنّ استعمالها في بقية مراتبها الأعم من الصحيحة والفاسدة من باب العناية والتنزيل ، أو من باب الاشتراك في الأثر ، فكل واحد من الأمرين موجب لجواز الاستعمال حتّى في فاسد صلاة الغرقى من باب تنزيله منزلة الواجد منها ، المنزّل منزلة التام الأجزاء والشرائط من جهة الاشتراك في الأثر.

١٥٩

نعم ، استثنى قدس‌سره من ذلك القصر والاتمام ، فقال إنّهما في عرض واحد ، فلا بدّ من تصوير جامع بينهما ، ثمّ رتّب على ذلك بطلان ثمرة النزاع بين قول الأعمي وقول الصحيحي ، وهي جواز التمسك بالإطلاق على الأعمي ، وعدم جوازه على الصحيحي ، فانّه بناء على كون الصلاة مثلاً موضوعة لخصوص المرتبة العليا لم يجز التمسك بالاطلاق ولو فرض وجود مطلق في العبادات ، لعدم العلم بالتنزيل والمسامحة في مقام الاستعمال ، ومعه يصبح اللفظ مجملاً لا محالة.

ثمّ قال : إنّ الحال في سائر المركبات الاختراعية أيضاً كذلك ، يعني أنّ اللفظ فيها موضوع ابتداءً للمرتبة العليا ، واستعماله في بقية مراتبها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد أو من جهة الاشتراك في الأثر (١).

ونتيجة ما أفاده قدس‌سره ترجع إلى امور :

الأوّل : أنّ الموضوع له هو المرتبة العليا على كلا القولين ، غاية الأمر الصحيحي يدعي صحّة الاستعمال في خصوص المراتب الصحيحة بين بقية المراتب ، والأعمي يدعي صحّته على الاطلاق.

الثاني : أنّه لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات الاختراعية.

الثالث : أنّ الصحيحي والأعمي محتاج كل منهما إلى تصوير جامع بين صلاتي القصر والإتمام ، ليكون اللفظ موضوعاً بازاء ذلك الجامع.

الرابع : بطلان ثمرة النزاع بين القولين.

أمّا الأوّل : فيردّه أنّ إطلاق ألفاظ العبادات على جميع مراتبها الدانية والعالية بعرضهما العريض على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها ، مثلاً إطلاق لفظ الصلاة على المرتبة العليا وهي صلاة المختار الواجدة لجميع الأجزاء

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٢ وما بعدها.

١٦٠