محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

والحمل على الوجوب ، والسبب في ذلك : أنّ بساطة الارادة الشديدة وتركب الارادة الضعيفة إنّما هما بالنظر الدقي العقلي ، وليستا من المتفاهم العرفي ، ومن الطبيعي أنّ الاطلاق إنّما يعيّن ما هو المتفاهم عرفاً دون غيره ، وحيث إنّ بساطة تلك المرتبة وعدم وجود حد لها ، وتركب هذه المرتبة ووجود حد لها ، أمران خارجان عن الفهم العرفي ، فلا يمكن حمل الاطلاق على بيان المرتبة الاولى دون الثانية. ونظير ذلك ما إذا أطلق المتكلم كلمة الوجود ولم يبيّن ما يدل على إرادة سائر الموجودات ، فهل يمكن حمل إطلاق كلامه على إرادة واجب الوجود ، نظراً إلى عدم تحديده بحد ، وتحديد غيره من الموجودات به؟ كلاّ ، والسرّ فيه ما عرفت من أنّ المعنى المذكور خارج عن المتفاهم العرفي.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ تفسير صيغة الأمر مرّةً بالطلب ومرّةً اخرى بالبعث والتحريك ومرّةً ثالثةً بالارادة ، لايرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل ، ضرورة أنّ هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير واللفظ ، وليس لها واقع موضوعي أصلاً ، والسبب في ذلك : ما حققناه في بحث الانشاء من أنّه عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا في بحث الوضع (١) أنّ حقيقته عبارة عن تعهد الواضع والتزامه النفساني بأ نّه متى ما أراد معنىً خاصاً يبرزه بلفظ مخصوص.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي ضرورة وضع صيغة الأمر أو ما شاكلها للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، لا للطلب

__________________

(١) في ص ٤٨.

٤٨١

والتصدي ، ولا للبعث والتحريك ، ولا للارادة.

نعم ، إنّ صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك ، لا أنّهما معناها ، كما أنّها مصداق للطلب والتصدي ، وأمّا الارادة فلا يعقل أن تكون معناها ، وذلك لاستحالة تعلّق الارادة بمعنى الاختيار وإعمال القدرة بفعل الغير ، وكذا الارادة بمعنى الشوق النفساني المحرّك للانسان نحو المراد فيما لا تعود مصلحته إليه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا في محلّه (١) أنّه لا معنى للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية ، ولا نعقل لها معنىً محصّلاً ما عدا الأمر الصادر من المولى.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا معنى لتفسير الأمر بالارادة ، ومن جميع ذلك يظهر أنّ تفسير النهي بالكراهة أيضاً خاطئ.

وبكلمة اخرى : أنّنا إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً ، فلا نعقل فيه ما عدا شيئين :

الأوّل : اعتبار الشارع ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة أو غيرها.

الثاني : إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها ، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني لا للبعث والتحريك ، ولا للطلب.

نعم ، قد عرفت أنّ الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصدٍ إلى الفعل ، حيث إنّ البعث والطلب قد يكونان خارجيين ، وقد يكونان اعتباريين ، فصيغة

__________________

(١) سيأتي في ص ٥٤١.

٤٨٢

الأمر أو ما شابهها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي ، ضرورة أنّها تصدٍّ في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه ، لا تكويناً وخارجاً ، كما هو ظاهر.

ونتيجة ما ذكرناه : أمران : الأوّل أنّ صيغة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني ، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف ، ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك. الثاني أنّها مصداق للطلب والبعث لا أنّهما معناها.

ومن ذلك يظهر : أنّ الصيغة كما لا تدل على الطلب والبعث ، كذلك لا تدل على الحتم والوجوب. نعم ، يحكم العقل بالوجوب بمقتضى قانون العبودية والمولوية فيما إذا لم ينصب قرينةً على الترخيص. أو فقل : إنّ الصيغة كما عرفت موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري في الخارج ، ولا تدل على ما عدا ذلك ، إلاّ أنّ العقل يحكم بأنّ وظيفة العبودية والمولوية تقتضي لزوم المبادرة والقيام على العبد نحو امتثال ما أمره به المولى واعتبره على ذمّته ، وعدم الأمن من العقوبة لدى المخالفة إلاّ إذا أقام المولى قرينةً على الترخيص وجواز الترك ، وعندئذ لا مانع من تركه ، حيث إنّه مع وجود هذه القرينة مأمون من العقاب ، وينتزع العقل من ذلك الندب ، كما ينتزع في الصورة الاولى الوجوب.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الحاكم بالوجوب إنّما هو العقل دون الصيغة ، لا وضعاً ولا اطلاقاً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا فرق بينه وبين الندب في مقام الاثبات إلاّفي الترخيص في الترك وعدمه. نعم ، فرق بينهما في مقام الثبوت والواقع على أساس نظريّة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

ومن ناحية ثالثة : أنّه لا بأس بتفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار

٤٨٣

دلالته على ثبوت الفعل على ذمّة المكلف ، بل هو معناه لغةً وعرفاً ، غاية الأمر الثبوت مرّةً تكويني خارجي ، ومرّةً اخرى ثبوت تشريعي ، فصيغة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على الثبوت التشريعي وإبرازه.

الجهة الثالثة : وهي الجمل الفعلية التي استعملت في مقام الانشاء دون الاخبار ككلمة « أعاد » و « يعيد » أو ما شاكلها ، فهل لها دلالة على الوجوب أم لا؟

وليعلم أنّ استعمال الجمل المضارعية في مقام الانشاء كثير في الروايات ، وأمّا استعمال الجمل الماضوية في مقام الانشاء فلم نجد إلاّفيما إذا وقعت جزاءً لشرط كقوله عليه‌السلام : من تكلم في صلاته أعاد (١) ، ونحوه.

وكيف كان ، فإذا استعملت الجمل الفعلية في مقام الانشاء فهل تدل على الوجوب أم لا؟ وجهان :

ذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره إلى الأوّل ، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه : الظاهر الأوّل ـ الوجوب ـ بل تكون أظهر من الصيغة.

ولكنّه لا يخفى أنّه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه ، إلاّ أنّه ليس بداعي الاعلام بل بداعي البعث بنحو آكد ، حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهاراً بأ نّه لا يرضى إلاّبوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة كما هو الحال في الصيغ الانشائية على ما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الايقاعية ، لكن بداوعٍ اخر ، كما مرّ.

لا يقال : كيف ويلزم الكذب كثيراً ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٨١ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢٥ ح ٢ ( نقل بالمضمون ).

٤٨٤

الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً.

فانّه يقال : إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الاخبار والاعلام لا لداعي البعث ، كيف وإلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل زيد كثير الرماد أو مهزول الفصيل لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً ، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد ، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ ، فانّه مقال بمقتضى الحال.

هذا ، مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فان تلك النكتة إن لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا أقل من كونها موجبةً لتعيّنه من بين محتملات ما هو بصدده ، فانّ شدّة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره فافهم (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : أنّ دلالة الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء على الوجوب أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه ، نظراً إلى أنّها تدل على وقوع المطلوب في الخارج في مقام الطلب ، ومن الطبيعي أنّ مردّ ذلك إلى اظهار الآمر بأ نّه لا يرضى بتركه وعدم وقوعه أبداً ، وبطبيعة الحال أنّ هذه النكتة تناسب مع إطار الوجوب والحتم وهي تؤكّده ، وحيث إنّ تلك النكتة منتفية في الصيغة فلأجل ذلك تكون دلالتها على الوجوب أقوى من دلالتها عليه.

وإن شئت قلت : إنّ الجمل الفعلية في هذا المقام قد استعملت في معناها ، لا أنّها لم تستعمل فيه ، ولكن الداعي على هذا الاستعمال لم يكن هو الاخبار

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧١.

٤٨٥

والاعلام ، بل هو البعث والطلب. نظير سائر الصيغ الانشائية حيث قد يكون الداعي على استعمالها في معانيها الايقاعية أمراً آخر.

الثانية : أنّها لا تتصف بالكذب عند عدم وقوع المطلوب في الخارج ، وذلك لأنّ اتصافها به إنّما يلزم فيما إذا كان استعمالها في معناها بداعي الاخبار والحكاية ، وأمّا إذا كان بداعي الانشاء والطلب فلا يعقل اتصافها به ، ضرورة أنّه لا واقع للانشاء كي يعقل اتصافها به.

الثالثة : أنّ الجملة الفعلية لو لم تكن ظاهرةً في الوجوب فلا إشكال في تعيّنه من بين سائر المحتملات بواسطة مقدّمات الحكمة ، والسبب في ذلك : هو أنّ النكتة المتقدمة حيث كانت شديدة المناسبة مع الوجوب فهي قرينة على إرادته وتعيينه عند عدم قيام البيان على خلافه ، وهذا بخلاف غير الوجوب ، فانّ إرادته من الاطلاق تحتاج إلى مؤونة زائدة.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي خاطئة على ضوء كلتا النظريتين في باب الانشاء يعني نظريّتنا ونظريّة المشهور.

أمّا على ضوء نظريّتنا فواضح ، والسبب في ذلك ما حققناه في بابه (١) من أنّ حقيقة الانشاء وواقعه الموضوعي بحسب التحليل العلمي عبارة عن اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل ذلك ، فالجملة الانشائية موضوعة للدلالة على ذلك فحسب ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا قد حققنا هناك أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة

__________________

(١) في ص ٩٨.

٤٨٦

على قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً.

ومن ناحية ثالثة : أنّ المستعمل فيه والموضوع له في الجمل المزبورة إذا استعملت في مقام الانشاء يباين المستعمل فيه والموضوع له في تلك الجمل إذا استعملت في مقام الاخبار ، فانّ المستعمل فيه على الأوّل هو إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، وعلى الثاني قصد الحكاية والاخبار عن الواقع.

فالنتيجة على ضوئها هي عدم الفرق في الدلالة على الوجوب بين تلك الجمل وبين صيغة الأمر ، لفرض أنّ كلتيهما قد استعملتا في معنى واحد وهو إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : انتفاء النكتة المتقدمة ، فانّها تقوم على أساس استعمال الجمل الفعلية في معناها الخبري ولكن بداعي الطلب والبعث.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا فرق بين الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء وبين صيغة الأمر أصلاً ، فكما أنّ الصيغة لا تدل على الوجوب ولا على الطلب ولا على البعث والتحريك ولا على الارادة ، وإنّما هي تدل على إبراز اعتبار شيء على ذمّة المكلّف ، فكذلك الجمل الفعلية ، وكما أنّ الوجوب مستفاد من الصيغة بحكم العقل بمقتضى قانون العبودية والرقية ، كذلك الحال في الجمل الفعلية حرفاً بحرف.

فما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ دلالتها على الوجوب آكد من دلالة الصيغة عليه لا واقع موضوعي له.

وأمّا على نظريّة المشهور ، فالأمر أيضاً كذلك ، والوجه فيه واضح ، وهو أنّ ما تستعمل فيه تلك الجمل في مقام الانشاء غير ما تستعمل فيه في مقام الاخبار ، فلا يكون المستعمل فيه في كلا الموردين واحداً ، ضرورة أنّها على الأوّل قد استعملت في الطلب وتدل عليه ، وعلى الثاني في ثبوت النسبة في الواقع أو

٤٨٧

نفيها ، ومن الطبيعي أنّنا لا نعني بالمستعمل فيه والمدلول إلاّما يفهم من اللفظ عرفاً ويدل عليه في مقام الاثبات.

وعلى الجملة : فلا ينبغي الشك في أنّ المتفاهم العرفي من الجملة الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء غير ما هو المتفاهم العرفي منها إذا استعملت في مقام الاخبار ، مثلاً المستفاد عرفاً من مثل قوله عليه‌السلام يعيد الصلاة ، أو يتوضأ ، أو يغتسل للجمعة والجنابة أو ما شاكل ذلك ، على الأوّل ليس إلاّ الطلب والوجوب ، كما أنّ المستفاد منها على الثاني ليس إلاّثبوت النسبة في الواقع أو نفيها. فإذن كيف يمكن القول بأ نّها تستعمل في كلا المقامين في معنى واحد ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ هذه الجمل على ضوء هذه النظريّة لا تدل على الوجوب أصلاً فضلاً عن كون دلالتها عليه آكد من دلالة الصيغة.

والسبب في ذلك : هو أنّها حيث لم تستعمل في معناها الحقيقي بداعي الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها ، فقد أصبحت جميع الدواعي محتملة في نفسها ، فكما يحتمل استعمالها في الوجوب والحتم والطلب والبعث ، فكذلك يحتمل استعمالها في التهديد أو السخرية أو ما شاكل ذلك. ومن الطبيعي أنّ إرادة كل ذلك تفتقر إلى قرينة معيّنة ، ومع انتفائها يتعيّن التوقف والحكم باجمالها. ومن هنا أنكر جماعة منهم صاحب المستند قدس‌سره (١) في عدّة مواضع من كلامه دلالة الجملة الخبرية على الوجوب.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ نظريّة المشهور تشترك مع نظريّتنا في نقطة وتفترق في نقطة واحدة.

__________________

(١) مستند الشيعة ١ : ٧٤.

٤٨٨

أمّا نقطة الاشتراك ، وهي أنّ هذه الجمل على أساس كلتا النظريتين تستعمل في مقام الانشاء في معنى هو غير المعنى الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

وأمّا نقطة الافتراق ، وهي أنّ تلك الجمل تدل على الوجوب بحكم العقل على أساس نظريتنا ولا تدل عليه على أساس نظريّة المشهور.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من النكتة فهو إنّما يتم على أساس أن تكون الجملة مستعملة في معناها لكن بداعي الطلب والبعث ، لا بداعي الاخبار والحكاية ، وحيث قد عرفت أنّها لم تستعمل فيه بل استعملت في معنى آخر وهو الوجوب أو البعث والطلب ، فلا موضوع لها عندئذ أصلاً.

هذا ، مضافاً إلى أنّه لا يتم على ضوء الأساس المذكور أيضاً ، وذلك لأنّ النكتة المذكورة لو كانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية على إرادة الوجوب وتعيينه ، لكانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية الاسمية كزيد قائم ، والجمل الماضوية في غير الجملة الشرطية على الوجوب أيضاً إذا كانتا مستعملتين في مقام الانشاء ، مع أنّ استعمالهما في ذلك المقام لعلّه من الأغلاط الفاحشة ، ولذا لم نجد أحداً ادّعى ذلك لا في اللغة العربية ، ولا في غيرها.

وبكلمة اخرى : أنّ المصحّح لاستعمال الجمل الخبرية الفعلية في معناها بداعي الطلب والبعث إن كان تلك النكتة ، فالمفروض أنّها مشتركة بين كافّة الجمل الخبرية من الاسمية والفعلية ، فلا خصوصية من هذه الناحية للجمل الفعلية ، فإذن ما هو النكتة لعدم جواز استعمالها في مقام الانشاء دونها.

وإن كان من جهة أنّ هذا الاستعمال استعمال في معناها الموضوع له والمستعمل فيه ، غاية الأمر الداعي له قد يكون الاعلام والاخبار ، وقد يكون الطلب

٤٨٩

والبعث ، فلا تحتاج صحّة مثل هذا الاستعمال إلى مصحح خارجي ، فإن كانت النكتة هذا لجرى ذلك في بقية الجملات الخبرية أيضاً حرفاً بحرف مع أنّك قد عرفت عدم صحّة استعمالها في مقام الطلب والانشاء.

ومن ذلك يعلم أنّ المصحح للاستعمال المزبور خصوصية اخرى غير تلك النكتة ، وهي موجودة في خصوص الجمل الفعلية من المضارع والماضي إذا وقع جزاء في الجملة الشرطية ، ولم تكن موجودة في غيرها ، ولذا صحّ استعمالها في مقام الطلب دون غيرها حتّى مجازاً فضلاً عن أن يكون الاستعمال حقيقياً.

فالنتيجة عدّة امور :

الأوّل : أنّ النكتة المذكورة لم تكن مصححة لاستعمال الجمل الفعلية في مقام الانشاء والطلب.

الثاني : أنّها في مقام الطلب والبعث لم تستعمل في معناها الموضوع له على رغم اختلاف الداعي كما عرفت.

الثالث : أنّ المصحح له خصوصية اخرى ونكتة ثانية ، دون ما ذكره من النكتة.

وأمّا النقطة الثانية : فهي في غاية الصحّة والمتانة ، ضرورة أنّ الجملة الفعلية إذا استعملت في مقام الانشاء لم يعقل اتصافها بالكذب من دون فرق في ذلك بين نظريتنا ونظريته قدس‌سره.

وأمّا النقطة الثالثة : فقد تبيّن خطؤها في ضمن البحوث السالفة بوضوح فلا حاجة إلى الاعادة.

ثمّ إنّ الثمرة تظهر بين النظريتين في مثل قوله عليه‌السلام : اغتسل للجمعة والجنابة ، مع العلم بعدم وجوب غسل الجمعة ، وذلك أمّا بناءً على نظريتنا من

٤٩٠

أنّ الدال على الوجوب العقل دون الصيغة فالأمر ظاهر ، فانّ الصيغة إنّما تدل على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، ولا تدل على ما عدا ذلك ، وهو معنى حقيقي لها ، غاية الأمر حيث قام دليل من الخارج على جواز ترك غسل الجمعة والترخيص فيه ، فالعقل لا يلزم العبد باتيانه وامتثاله خاصّة ، ولكنّه يلزمه بالاضافة إلى امتثال غسل الجنابة بمقتضى قانون العبودية والمولوية حيث لم تقم قرينة على جواز تركه ، ومن الطبيعي أنّ كلّ ما لم تقم قرينة على جواز تركه فالعقل يستقل بلزوم إتيانه قضاءً لرسم العبودية ، وأداءً لحقّ المولوية.

وأمّا بناءً على نظريّة المشهور فالصيغة في أمثال المقام لم تستعمل في معناها الحقيقي وهو الوجوب يقيناً ، لفرض أنّ غسل الجمعة غير واجب ، وعليه فلا مناص من الالتزام بأن يكون المستعمل فيه مطلق الطلب الجامع بين الوجوب والندب ، فتحتاج إرادة كل منهما إلى قرينة معيّنة ، ومع عدمها لا بدّ من التوقف.

وعلى الجملة : فالصيغة أو ما شاكلها في أمثال المقام استعملت في معناها الحقيقي على ضوء نظريتنا من دون حاجة إلى عناية زائدة ، ولم تستعمل فيه على ضوء نظريّة المشهور.

[ الواجب التعبّدي والتوصّلي ]

الجهة الرابعة : يقع الكلام في الواجب التوصلي والتعبدي ، وقبل بيانهما نقدّم مقدّمةً ، وهي أنّ الواجب التوصلي يطلق على معنيين :

الأوّل : ما لا يعتبر فيه قصد القربة ، وذلك كغسل الميت وكفنه ودفنه وما شاكل ذلك ، حيث إنّها واجبات في الشريعة الاسلامية ولا يعتبر في صحّتها قصد القربة والاتيان بها مضافاً إلى الله ( سبحانه وتعالى ) فلو أتى بها بدون ذلك

٤٩١

سقطت عن ذمّته.

نعم ، استحقاق الثواب عليها يرتكز على الاتيان بها بقصد القربة وبدونه لايستحق وإن حصل الإجزاء. ولا ينافي ذلك اعتبار امور اخر في صحّتها ، مثلاً يعتبر في صحّة غسله أن يكون الغاسل بالغاً ، وأن يكون مماثلاً ولو كان غيره بطل إلاّفي موارد خاصّة ، وأن يكون الماء مباحاً ، وأن تكون الأغسال الثلاثة مترتبة وغير ذلك.

وفي مقابله ما يعتبر فيه قصد القربة وهو المعبّر عنه بالواجب التعبدي ، فلو أتى به بدون ذلك لم يسقط عنه وكان كمن لم يأت به أصلاً.

الثاني : ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلف بل يسقط عن ذمّته بفعل الغير ، سواء أكان بالتبرع أم بالاستنابة ، بل ربّما لايعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار ، بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ ، فلو تحقق من دون التفات وبغير اختيار ، أو في ضمن فرد محرّم كفى.

وإن شئت قلت : إنّ الواجب التوصلي مرّةً يطلق ويراد به ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلف. ومرّةً اخرى يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار. ومرّةً ثالثة يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ.

ويقابل القسم الأوّل ما تعتبر فيه المباشرة. والقسم الثاني ما يعتبر فيه الالتفات والاختيار. والقسم الثالث ما يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ فلو أتى به في ضمن فرد محرّم لم يسقط.

ثمّ إنّ القسم الأوّل من الواجب التوصلي بالمعنى الثاني قد يجتمع مع الواجب التعبدي بالمعنى الأوّل ـ وهو ما يعتبر فيه قصد القربة ـ في عدّة موارد :

منها : الزكاة فانّها رغم كونها واجبةً تعبّديةً يعتبر فيها قصد القربة والامتثال ،

٤٩٢

تسقط عن ذمّة المكلف بفعل الغير سواء أكان بالاستنابة أم كان بالتبرع إذا كان مع الاذن ، وأمّا لو كان بدونه فالسقوط لايخلو عن إشكال ، وإن نسب إلى جماعة.

ومنها : الصلوات الواجبة على وليّ الميت ، فانّها تسقط عن ذمّته باتيان غيره ، كان بالاستنابة أم كان بالتبرّع رغم كونها واجبات تعبّدية.

ومنها : صلاة الميت فانّها تسقط عن ذمّة المكلف بفعل الصبي المميّز نائباً كان أم متبرعاً ، كما ذهب إليه جماعة منهم السيِّد قدس‌سره في العروة (١) وقرّره على ذلك أصحاب الحواشي.

ومنها : الحج فانّه واجب على المستطيع ولم يسقط بعجزه عن القيام بأعماله إمّا من ناحية ابتلائه بمرض لايُرجى زواله ، وإمّا من ناحية كهولته وشيخوخته ، ولكن مع ذلك يسقط عنه بقيام غيره به رغم كونه واجباً تعبدياً. ومنها غير ذلك.

فالنتيجة : هي أنّه لا ملازمة بين كون الواجب تعبدياً وعدم سقوطه بفعل الغير ، فان هذه الواجبات بأجمعها واجبات تعبدية فمع ذلك تسقط بفعل الغير.

ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين هذا القسم من الواجب التوصلي وبين الواجب التعبدي بالمعنى الأوّل عموم وخصوص من وجه ، حيث ينفرد الأوّل عن الثاني بمثل تطهير الثياب من الخبث وما شاكله ، فانّه يسقط عن المكلف بقيام غيره به ، ولا يعتبر فيه قصد القربة. وينفرد الثاني عن الأوّل بمثل الصلوات اليومية وصيام شهر رمضان وما شاكلهما ، فانّها واجبات تعبدية لا تسقط عن المكلف بقيام غيره بها. ويلتقيان في الموارد المتقدمة.

كما أنّ النسبة بينه وبين الواجب التوصلي بالمعنى الأوّل عموم وخصوص

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٢٥٥ المسألة ٥ [٨٤٩] ولاحظ أيضاً ص ٢٨٨ المسألة ٢ [٩٤٣].

٤٩٣

من وجه ، حيث يمتاز الأوّل عن الثاني بمثل وجوب ردّ السلام ، فانّه واجب توصلي لا يعتبر فيه قصد القربة ، ولكن يعتبر فيه قيد المباشرة من نفس المسلَّم عليه ، ولا يسقط بقيام غيره به.

ومن هذا القبيل وجوب تحنيط الميت ، حيث قد ذكرنا في بحث الفقه (١) أنّه لا يسقط عن البالغ بقيام الصبي المميز به.

ويمتاز الثاني عن الأوّل بالموارد المتقدمة ، حيث إنّها واجبات تعبدية يعتبر فيها قصد القربة ، ومع ذلك تسقط بفعل الغير ، ويلتقيان في موارد كثيرة كوجوب إزالة النجاسة وما شاكلها ، فانّها واجبة توصلية بالمعنى الأوّل والثاني فلا يعتبر فيها قصد القربة ، وتسقط بقيام الغير بها كالصبي ونحوه ، كما تسقط فيما إذا تحققت بغير التفات واختيار ، بل ولو في ضمن فرد محرّم.

وأمّا النسبة بين الواجب التعبدي بالمعنى الأوّل والواجب التعبدي بالمعنى الثاني أيضاً عموم من وجه ، حيث يفترق الأوّل عن الثاني بالواجبات التعبدية التي لا يعتبر فيها قيد المباشرة من نفس المكلف كالأمثلة التي تقدّمت ، فانّها واجبات تعبدية بالمعنى الأوّل دون المعنى الثاني. ويفترق الثاني عن الأوّل بمثل وجوب ردّ السلام ونحوه ، فانّه واجب تعبدي بالمعنى الثاني حيث يعتبر فيه قيد المباشرة دون المعنى الأوّل حيث لا يعتبر فيه قصد القربة ، ويلتقيان في كثير من الموارد كالصلوات اليومية ونحوها.

وبعد ذلك نقول : لا كلام ولا إشكال فيما إذا علم كون الواجب توصلياً أو تعبّدياً بالمعنى الأوّل أو الثاني ، وإنّما الكلام والاشكال فيما إذا شكّ في كون الواجب توصلياً أو تعبدياً. والكلام فيه تارة يقع في الشك في التوصلي والتعبدي بالمعنى

__________________

(١) شرح العروة الوثقى ٩ : ١٦٥ المسألة [٩٢٤].

٤٩٤

الثاني. وتارةً اخرى يقع في الشك فيه بالمعنى الأوّل. فهنا مقامان :

أمّا الكلام في المقام الأوّل فيقع في مسائل ثلاث :

الاولى : ما إذا ورد خطاب من المولى متوجهاً إلى شخص أو جماعة وشككنا في سقوطه بفعل الغير ، فقد نسب إلى المشهور أنّ مقتضى الاطلاق سقوطه وكونه واجباً توصلياً ، من دون فرق في ذلك بين كون فعل الغير بالتسبيب أو بالتبرع ، أو بغير ذلك. وقد أطال شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) الكلام في بيانهما ، ولكنّا لا نحتاج إلى نقله ، بل هو لا يخلو عن تطويل زائد وبلا أثر حيث نبيّن الآن إن شاء الله تعالى أنّ مقتضى الاطلاق ـ لو كان ـ هو عكس ما نسب إلى المشهور ، وأ نّه لايسقط بفعل غيره ، بلا فرق بين كونه بالتسبيب أو بالتبرع ، والسبب في ذلك : أنّ التكليف هنا بحسب مقام الثبوت يتصوّر على أحد أشكال :

الأوّل : أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وفعل غيره ، فيكون مردّه إلى كون الواجب أحد فعلين على سبيل التخيير.

وفيه : أنّ هذا الوجه غير معقول ، وذلك لأنّ فعل الغير خارج عن اختيار المكلف وإرادته ، فلا يعقل تعلّق التكليف بالجامع بينه وبين فعل نفسه.

وبكلمة اخرى : أنّ الاطلاق بهذا الشكل في مقام الثبوت والواقع غير معقول ، لفرض أنّه يبتني على أساس إمكان تعلّق التكليف بفعل الغير وهو مستحيل ، فإذن بطبيعة الحال يختص التكليف بفعل المكلف نفسه فلا يعقل إطلاقه.

أو فقل : إنّ الاهمال في الواقع غير معقول ، فيدور الأمر بين الاطلاق وهو تعلّق التكليف بالجامع ، والتقييد وهو تعلّق التكليف بحصّة خاصّة ، وحيث إنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤٧ وما بعدها ، فوائد الاصول ١ : ١٣٩ ـ ١٤٣.

٤٩٥

الأوّل لا يعقل تعين الثاني.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا إمكانه بحسب مقام الثبوت ، إلاّ أنّ الاطلاق في مقام الاثبات لايعيّنه ، وذلك لأنّ أمر التكليف عندئذ يدور بين التعيين والتخيير ، ومن الواضح أنّ مقتضى الاطلاق هو التعيين ، لأنّ التخيير في المقام الراجع إلى جعل فعل الغير عدلاً لفعل المكلف نفسه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خارجة فلا يمكن إرادته من الاطلاق.

الثاني : أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وبين استنابته لغيره ، ونتيجة ذلك هي التخيير بين قيام نفس المكلف به وبين الاستنابة لآخر. وهو في نفسه وإن كان أمراً معقولاً ولا بأس بالاطلاق من هذه الناحية وشموله لصورة الاستنابة ، إلاّ أنّه خاطئ من جهتين اخريين :

الاولى : أنّ لازم ذلك الاطلاق كون الاستنابة في نفسها مسقطة للتكليف ، وهو خلاف المفروض ، بداهة أنّ المسقط له إنّما هو الاتيان الخارجي فلا يعقل أن تكون الاستنابة مسقطةً وإلاّ لكفى مجرد إجازة الغير في ذلك وهو كما ترى ، وعليه فلا يمكن كونها عدلاً وطرفاً للتكليف حتّى يعقل تعلّقه بالجامع بينها وبين غيرها.

الثانية : لو تنزّلنا عن ذلك وأغمضنا النظر عن هذا ، إلاّ أنّ الأمر هنا يدور بين التعيين والتخيير ، وقد عرفت أنّ قضيّة الاطلاق في مقام الاثبات إذا كان المتكلم في مقام البيان ولم ينصب قرينةً هي التعيين دون التخيير ، حيث إنّ بيانه يحتاج إلى مؤونة زائدة كالعطف بكلمة ( أو ) والاطلاق غير وافٍ له ، ونتيجة ذلك عدم سقوطه عن ذمّة المكلف بقيام غيره به.

الثالث : أن يقال إنّ أمر التكليف في المقام يدور بين كونه مشروطاً بعدم قيام غير المكلف به وبين كونه مطلقاً ، أي سواء قام غيره به أم لم يقم فهو

٤٩٦

لا يسقط عنه.

ويمتاز هذا الوجه عن الوجهين الأوّلين بنقطة واحدة ، وهي أنّ في الوجهين الأوّلين يدور أمر الواجب بين كونه تعيينياً أو تخييرياً ، ولا صلة لهما بالوجوب.

وفي هذا الوجه يدور أمر الوجوب بين كونه مطلقاً أو مشروطاً ولا صلة له بالواجب.

ثمّ إنّ هذا الوجه وإن كان بحسب الواقع أمراً معقولاً ومحتملاً ولا محذور فيه أصلاً ، إلاّ أنّ الاطلاق في مقام الاثبات يقتضي عدم الاشتراط وأ نّه لا يسقط عن ذمّة المكلف بقيام غيره به ، ومن الطبيعي أنّ الاطلاق في هذا المقام يكشف عن الاطلاق في ذاك المقام بقانون التبعية. ومن هنا ذكرنا في بحث الفقه في مسألة تحنيط الميت (١) أنّ مقتضى إطلاق خطابه المتوجه إلى البالغين هو عدم سقوطه بفعل غيرهم وإن كانوا مميزين. وقد تحصّل من ذلك : أنّ مقتضى إطلاق كل خطاب متوجه إلى شخص خاص أو صنف هو عدم سقوطه عنه بقيام غيره به ، فالسقوط يحتاج إلى دليل.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه تظهر أنّ ما هو المعقول والمحتمل بحسب الواقع من الوجوه المذكورة هو الوجه الأخير ، أعني الشك في الاطلاق والاشتراط ، دون الوجه الأوّل والثاني كما عرفت. وعندئذ فلا مناص من إرجاع الشك في أمثال المسألة إلى ذلك بعد افتراض عدم معقولية الوجه الأوّل والثاني.

وعلى هذا فلو شككنا في سقوط الواجب عن وليّ الميت مثلاً بفعل غيره تبرّعاً أو استنابةً ، فبطبيعة الحال يرجع الشك في هذا إلى الشك في الاطلاق والاشتراط ، وسيأتي في ضمن البحوث الآتية بشكل موسّع أنّ مقتضى إطلاق

__________________

(١) شرح العروة ٩ : ١٦٥ المسألة [٩٢٤].

٤٩٧

الخطاب عدم الاشتراط كما أشرنا إليه آنفاً أيضاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي في المسألة عدم التوصلية ، هذا إذا كان في البين إطلاق.

وأمّا إذا لم يكن فالأصل العملي يقتضي الاشتغال ، وذلك لأنّ المقام على ما عرفت داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين الاطلاق والاشتراط ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ فعلية التكليف إنّما هي بفعلية شرائطه ، فما لم يحرز المكلف فعلية تلك الشرائط لم يحرز كون التكليف فعلياً عليه.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ الشك في إطلاق التكليف واشتراطه قد يكون مع عدم إحراز فعلية التكليف ، وذلك كما إذا لم يكن ما يحتمل شرطيته متحققاً من الأوّل ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يرجع الشك فيه إلى الشك في أصل توجه التكليف ، كما إذا احتمل اختصاص وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلاً بالرجل دون المرأة أو بالحرّ دون العبد ، فلا محالة يتردد العبد ويشك في أصل توجه التكليف إليه ، وكذلك المرأة وهو مورد لأصالة البراءة.

وقد يكون مع إحراز فعلية التكليف ، وذلك كما إذا كان ما يحتمل شرطيته متحققاً من الابتداء ثمّ ارتفع وزال ، ولأجله شكّ المكلف في بقاء التكليف الفعلي وارتفاعه ، ومن الواضح أنّه مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة ، ولا يختص هذا بموردٍ دون مورد آخر ، بل يعمّ كافّة الموارد التي شكّ فيها ببقاء التكليف بعد اليقين بثبوته واشتغال ذمّة المكلف به.

ومقامنا من هذا القبيل ، فانّ الولي مثلاً يعلم باشتغال ذمّته بتكليف الميت

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٣٤.

٤٩٨

ابتداءً ، ولكنّه شاك في سقوطه عن ذمّته بفعل غيره ، وقد عرفت أنّ المرجع في ذلك هو الاشتغال وعدم السقوط.

وبكلمة اخرى : أنّ التكليف إذا توجّه إلى شخص وصار فعلياً في حقّه ، فسقوطه عنه يحتاج إلى العلم بما يكون مسقطاً له ، فكلّما شكّ في كون شيء مسقطاً له ، سواء أكان ذلك فعل الغير أو شيئاً آخر ، فمقتضى القاعدة عدم السقوط وبقاؤه في ذمّته.

ومن هذا القبيل ما إذا سلّم شخص على أحد فردّ السلام شخص ثالث ، فبطبيعة الحال يشكّ المسلَّم عليه في بقاء التكليف عليه وهو وجوب ردّ السلام بعد أن علم باشتغال ذمّته به ، ومنشأ هذا الشك هو الشك في اشتراط هذا التكليف بعدم قيام الغير به وعدم اشتراطه ، فعلى الأوّل يسقط بفعله دون الثاني ، ومن الطبيعي أنّ مردّ هذا الشك إلى الشك في السقوط وهو مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة ، والسرّ في ذلك : ما ذكرناه في مبحث البراءة والاشتغال من أنّ أدلّة البراءة لا تشمل أمثال المقام ، فتختص بما إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف. وأمّا إذا كان أصل ثبوته معلوماً والشك إنّما كان في سقوطه كما فيما نحن فيه فهو خارج عن موردها.

ومن هنا ذكرنا (١) أنّ المكلف لو شكّ في سقوط التكليف عن ذمّته من جهة الشك في القدرة واحتمال العجز عن القيام به بعد فرض وصوله إليه وتنجّزه ، كما إذا شكّ في وجوب أداء الدين عليه بعد اشتغال ذمّته به من جهة عدم إحراز تمكنه مع فرض مطالبة الدائن ، فالمرجع في مثل ذلك بطبيعة الحال هو أصالة الاشتغال ووجوب الفحص عليه عن قدرته وتمكنه ، ولا يمكنه التمسك بأصالة

__________________

(١) في مصباح الاصول ٢ : ٤٦٥.

٤٩٩

البراءة ، هذا بناءً على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وأمّا بناءً على جريانه فيها فلا تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال ، بل المرجع هو استصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه في أمثال المقام ، وإن كانت النتيجة تلك النتيجة فلا فرق بينهما بحسبها. نعم ، بناءً على جريان الاستصحاب فعدم جريان البراءة في المقام أوضح كما لا يخفى.

الثانية : ما إذا شكّ في سقوط واجب عن ذمّة المكلف فيما لو صدر منه بغير اختيار وإرادة ، فهل مقتضى الاطلاق عدم السقوط إذا كان أو لا؟ وجهان : ربّما قيل بالوجه الأوّل بدعوى أنّ الفعل عند الاطلاق ينصرف إلى حصّة خاصّة وهي الحصّة المقدورة ، فالسقوط بغيرها يحتاج إلى دليل ، وإلاّ فالاطلاق يقتضي عدمه. ولكن هذه الدعوى خاطئة ولا واقع موضوعي لها ، والسبب في ذلك :

أنّ منشأ هذا الانصراف لا يخلو من أن يكون موادّ الأفعال أو هيئاتها.

أمّا الموادّ فقد ذكرنا في بحث المشتق بشكل موسّع (١) أنّها موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن كافّة الخصوصيات ، وهي مشتركة بين الحصص الاختيارية وغيرها ، مثلاً مادّة ضرب وهي ( ض ر ب ) موضوعة لطبيعي الحدث الصادق على ما يصدر بالاختيار وبغيره من دون عناية ، وهكذا. نعم ، وضع بعض المواد لخصوص الحصّة الاختيارية ، وذلك كالتعظيم والتجليل والسخرية والهتك وما شاكل ذلك.

وأمّا الهيئات فأيضاً كذلك ، يعني أنّها موضوعة لمعنى جامع بين المواد بشتّى أشكالها وأنواعها ، أي سواء أكانت تلك المواد من قبيل الصفات كمادة علم وكرم وابيضّ واسودّ واحمرّ ، وما شاكل ذلك ، أو من قبيل الأفعال ، وهي قد

__________________

(١) في ص ٢٦٧.

٥٠٠