محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

الأوّل : أنّه لا فرق بين القولين في جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه ، والوجه في ذلك : هو أنّ مناط الجواز كون المتكلم في مقام البيان ، وأ نّه لم ينصب قرينة على التقييد ، وعليه فكما أنّ الأعمي يتمسك بالاطلاق فيما إذا احتمل دخل شيء في المأمور به زائداً على القدر المتيقن ، فكذلك الصحيحي يتمسك به إذا شكّ في اعتبار أمر زائد على المقدار المعلوم. ومن هنا يتمسك الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) باطلاق صحيحة حماد (١) التي وردت في مقام بيان الأجزاء والشرائط ، وبيّن الإمام عليه‌السلام فيها جميع أجزاء الصلاة من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود ونحوها ، وحيث لم يبيّن فيها الاستعاذة مثلاً ، فيتمسك باطلاقها على عدم وجوبها ، فلا فرق في ذلك بين القول بالوضع للصحيح والقول بالوضع للأعم.

فتلخّص : أنّ العبرة بكون المتكلم في مقام البيان وعدم إتيانه بقرينة في كلامه ، لا بكون الوضع للأعم أو الصحيح كما لا يخفى.

والجواب عنه : قد ظهر ممّا تقدّم وملخّصه : أنّ التمسك بالاطلاق موقوف على إحراز المقدمات الثلاث ، أوّلها : إحراز تعلق الحكم بالجامع بحسب المراد الاستعمالي وقابلية انقسامه إلى قسمين أو أقسام. فهذه المقدمة لا بدّ من إحرازها وإلاّ فلا يعقل الإطلاق في مقام الثبوت كي يستكشف ذلك بالاطلاق في مقام الإثبات ، وحيث إنّه على القول بالصحيح قد تعلق الحكم بحصّة خاصة ، وهي خصوص الحصّة الصحيحة ، فالمقدمة الاولى مفقودة ، فالإطلاق اللفظي على القول بالصحيح غير معقول.

وأمّا ما استشهد على ذلك بتمسك الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) باطلاق صحيحة حماد المتقدمة فهو خلط بين الإطلاق الحالي والإطلاق اللفظي ، فان

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٥٩ / أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١.

٢٠١

إطلاق الصحيحة إطلاق مقامي ، وهو أجنبي عن الإطلاق اللفظي المتقوّم باحراز صدق المفهوم على المورد المشكوك فيه ، والذي لايمكن التمسك به على الصحيحي هو الإطلاق اللفظي ، وأمّا الإطلاق المقامي فالتمسك به مشترك فيه بين القول بالصحيح والقول بالأعم ، والسر في ذلك : أنّ المعتبر في الاطلاق اللفظي أن يرد الحكم في القضيّة على الطبيعي الجامع القابل للانطباق على حصص عديدة ، ولا أقل من حصّتين.

وبعد ذلك تصل النوبة إلى إحراز بقية المقدمات ، من كون المتكلم في مقام البيان ، وعدم إتيانه بالقرينة على إرادة الخلاف ، ولأجل ذلك لا يسع القائل بوضع الألفاظ للصحيح أن يتمسك بالإطلاق ، وذلك للشك في صدق المفهوم على الفاقد لما يحتمل دخله في المسمى. وأمّا الإطلاق الأحوالي فلا يعتبر فيه ذلك ، بل المعتبر فيه سكوت المتكلم عن البيان حينما يورد الحكم على نفس الأجزاء والشرائط أو الأفراد ، مثلاً إذا كان المولى في مقام بيان ما يحتاجه اليوم من اللحم والخبز والارز واللبن وغيرها من اللوازم ، فأمر عبده بشرائها ولم يذكر الدهن مثلاً ، فبما أنّه كان في مقام البيان ولم يذكر ذلك فيستكشف منه عدم إرادته له وإلاّ لبيّنه.

ومن هنا لانحتاج في هذا النحو من الإطلاق إلى وجود لفظ مطلق في القضيّة ، بل هو مناقض له كما عرفت آنفاً ، والإطلاق في الصحيحة من هذا القبيل ، فانّه ( سلام الله عليه ) كان في مقام بيان الأجزاء والشرائط ، فكلّ ما لم يبيّنه يستكشف عدم دخله في المأمور به.

فالنتيجة : أنّ أحد الإطلاقين أجنبي عن الإطلاق الآخر رأساً ، وجواز التمسك بأحدهما لايستلزم جواز التمسك بالآخر ، كما أنّه لا فرق في جواز التمسك بالاطلاق الأحوالي بين القول بالوضع للصحيح ، والقول بالوضع للأعم. وأمّا

٢٠٢

الإطلاق اللفظي فلا يجوز التمسك به على القول بالصحيح دون الأعم. فما أورده القائل من الإشكال لا يرجع إلى معنى محصّل.

الثاني : أنّ الأعميّ كالصحيحي في عدم إمكان التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار جزء أو قيد ، وذلك لأنّ أدلة العبادات جميعاً من الكتاب والسنّة مجملة ولم يرد شيء منها في مقام البيان ، فإذا كان المتكلم فيها في مقام الإهمال أو الإجمال ، فلا يجوز التمسك باطلاقها ، غاية الأمر أنّ عدم جواز التمسك على هذا القول من جهة واحدة وهي عدم ورود مطلقات العبادات في مقام البيان ، بل إنّها جميعاً في مقام التشريع والجعل بلا نظر لها إلى خصوصيتها من الكمّية والكيفية. وعلى القول بالصحيح من ناحيتين : وهما عدم ورود المطلقات في مقام البيان وعدم تعلق الحكم بالجامع والمقسم ، فالنتيجة عدم صحّة التمسك بالإطلاق على كلا القولين.

والجواب عنه : مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب ، أنّ الأمر ليس كما ذكره القائل ، فانّ من الآيات الكريمة ما ورد في الكتاب وهو في مقام البيان ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) فالمفهوم من كلمة الصيام عرفاً كف النفس عن الأكل والشرب ، وهو معناه اللغوي ، فالصيام بهذا المعنى كان ثابتاً في سائر الشرائع والأديان بقرينة قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (٢) حيث لم يعتبر فيه سوى الكف عن الأكل والشرب عند تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

نعم ، إنّ ذلك يختلف كيفيةً باختلاف الشرائع ، ولكن كل ذلك الاختلاف يرجع

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٣.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.

٢٠٣

إلى الخارج عن ماهية الصيام ، بل قد يعتبر فيه كما في شرع الاسلام الكف عن عدّة امور اخر أيضاً كالجماع والارتماس في الماء والكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الأئمة الأطهار عليهم‌السلام وإن لم يكن الكف عنها معتبراً في بقية الشرائع والأديان. وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شيء في هذه الماهية قيداً ، وعدم اعتباره كذلك ، فلا مانع من أن نرجع إلى إطلاق قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وبه يثبت عدم اعتباره ، فحال الآية المباركة حال قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢) وما شاكلهما ، فكما أنّه لا مانع من التمسك باطلاقهما في باب المعاملات عند الشك في اعتبار شيء فيها ، فكذلك لا مانع من التمسك باطلاق هذه الآية المباركة في باب الصوم عند الشك في دخل شيء في صحّته شرعاً.

هذا مضافاً إلى ما في السنّة من الروايات المطلقة الواردة في مقام البيان منها قوله عليه‌السلام في التشهد « يتشهد » (٣) فان مقتضى إطلاقه عدم اعتبار أمر زائد على نفس الشهادتين ، فلو شكّ في اعتبار التوالي بينهما فيدفع بالإطلاق ، وكذا غيره من نصوص الباب فلاحظ.

هذا كلّه على تقدير تسليم أن يكون الضابط في كون المسألة اصولية ترتب ثمرة فعلية عليها ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ الضابط للمسألة الاصولية إمكان وقوعها في طريق الاستنباط لا فعليته.

وملخص ما ذكرناه في الجواب عن هذا الإيراد أمران :

الأوّل : أنّ المطلق الوارد في مقام البيان من الكتاب والسنّة موجود ، وليس

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) النساء ٤ : ٢٩.

(٣) الوسائل ٦ : ٤٠٤ / أبواب التشهد ب ٨ ح ١.

٢٠٤

الأمر كما ذكره القائل.

الثاني : لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ المتكلم لم يكن في مقام البيان في شيء من مطلقات العبادات ، إلاّ أنّ إمكان ترتب هذه الثمرة يكفينا لكون المسألة اصولية ، لما عرفت من أنّ الميزان فيها إمكان وقوعها في طريق استنباط حكم فرعي كلّي لا فعلية ذلك كما تقدّم.

نعم ، الذي يرد هنا ما ذكرناه سابقاً من أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة ولا تترتب عليها بلا واسطة ، بل هي من ثمرات كبرى مسألة المطلق والمقيد ، وهي من صغريات تلك الكبرى ومن مبادئها ، من جهة أنّ البحث فيها في الحقيقة عن ثبوت الإطلاق وعدم ثبوته ، والبحث عن جواز التمسك به وعدم جوازه بحث عن المسألة الاصولية ، دونه.

الثالث : أنّ الإطلاق والتقييد في العبادات إنّما يلاحظ بالإضافة إلى المأمور به ومتعلق الأمر ، لا بالقياس إلى المسمّى بما هو ، ضرورة أنّ الإطلاق أو التقييد في كلام الشارع أو غيره إنّما يكون بالقياس إلى مراده ، وأ نّه مطلق أو مقيد ، لا إلى ما هو أجنبي عنه ، وعلى ذلك فلا فرق بين القولين ، فكما أنّ الصحيحي لا يمكنه التمسك بالإطلاق ، فكذلك الأعمي.

أمّا الصحيحي : فلما عرفت من عدم إحرازه الصدق على الفاقد لما شكّ في اعتباره جزءاً أو شرطاً لاحتمال دخله في المسمّى.

وأمّا الأعمي : فلأجل أنّه يعلم بثبوت تقييد المسمّى بالصحّة ، وأ نّها مأخوذة في المأمور به ومتعلق الأمر ، فانّ المأمور به حصّة خاصة من المسمّى وهي الحصّة الصحيحة ، ضرورة أنّ الشارع لا يأمر بالحصّة الفاسدة ، ولا بما هو الجامع بينها وبين الصحيحة ، وعلى ذلك فلا يمكن التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئيه شيء أو شرطيته ، للشك حينئذ في صدق المأمور به على الفاقد للشيء المشكوك فيه.

٢٠٥

وعلى الجملة : فلا فرق بين أن تكون الصحّة مأخوذة في المسمّى ، وأن تكون مأخوذة في المأمور به ، فعلى كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالاطلاق ، غاية الأمر أنّ الشك في الصدق على الصحيحي من جهة أخذ الصحّة في المسمّى ، وعلى الأعمي من جهة العلم بتقييد المأمور به بالصحّة لا محالة.

فالنتيجة : هي عدم جواز الأخذ بالإطلاق على كلا القولين. إذن لا ثمرة في البين.

والجواب عنه : يظهر ممّا بيّناه سابقاً ، فانّ الصحّة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً في موارد الامتثال والإجزاء ، غير مأخوذة في المأمور به قطعاً ، بل لا يعقل ذلك كما سبق ، وإنّما النزاع في أخذ الصحّة بمعنى التمامية أعني به تمامية الشيء من حيث الأجزاء والقيود في المسمّى ، فالقائل بالصحيح يدعي وضع لفظ الصلاة مثلاً للصلاة التامة من حيث الأجزاء والشرائط ، والقائل بالأعم يدعي وضع اللفظ للأعم ، وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شيء جزءاً أو قيداً في المأمور به كالسورة مثلاً ، فعلى القول بالوضع للصحيح كان صدق اللفظ بما له من المعنى على الفاقد لها غير معلوم ، لاحتمال دخلها فيه ، وإمكان أن يكون المجموع هو المسمّى بلفظ الصلاة ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق.

وعلى القول بالوضع للأعم ، كان صدق اللفظ على الفاقد معلوماً ، وإنّما الشك في اعتبار أمر زائد عليه ، وفي مثله لا مانع من التمسك بالاطلاق لنفي اعتبار الشيء المشكوك فيه ، وبه نثبت أنّ المأمور به هو طبيعي الصلاة الجامع بين الفاقدة والواجدة للسورة ، ومن انطباق ذلك الطبيعي على المأتي به بلا سورة ننتزع الصحّة ، فالصحّة بمعنى التمامية تثبت بنفس التمسك بالإطلاق بضميمة ما علم من الأجزاء والشرائط تفصيلاً ، والصحّة المنتزعة غير مأخوذة في المأمور به

٢٠٦

فضلاً عن المسمى.

وعلى الجملة : فالمأمور به على كلا القولين وإن كان هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، إلاّ أنّ الاختلاف بينهما في نقطة اخرى ، وهي أنّ صدق اللفظ على الفاقد لما يشك في اعتباره معلوم على قول الأعمي ، وإنّما الشك في اعتبار أمر زائد عليه. وأما على الصحيحي فالصدق غير معلوم. وعلى أساس تلك النقطة يجوز التمسك بالاطلاق على القول بالأعم دون القول بالصحيح.

فقد أصبحت النتيجة أنّ هذه الشبهة مبتنية على أخذ الصحّة الفعلية في المأمور به ، ولكن قد تقدّم فساده.

ومن هنا قال شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) إنّ هذه الشبهة ليست بذات أهمّية كما اهتمّ بها شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره وأطال الكلام فيها واعتنى بالجواب عنها فوق ما تستحق ، والصحيح ما أفاده قدس‌سره.

وربّما قيل : بأنّ ثمرة النزاع تظهر في النذر ، وذلك كما لو نذر أن يعطي ديناراً للمصلي ركعتين ، فبناءً على القول بالأعم يجزي الاعطاء للمصلي ركعتين ولو كانت صلاته فاسدة ، وعلى القول بالصحيح لايجزي ذلك ، بل يجب عليه الاعطاء للمصلي صلاة صحيحة ، ولا تبرأ ذمّته إلاّبذلك.

لا يخفى أنّ أمثال هذه الثمرة غير قابلة للذكر والعنوان في المباحث الاصولية ، لأ نّها ليست ثمرة للمسألة الاصولية ، فانّ ثمرتها استنباط الحكم الكلي الفرعي ، وأمّا تطبيقه على موارده ومصاديقه فليس ثمرة للبحث الاصولي ، بل لا تصلح هذه الثمرة ثمرة لأيّة مسألة علمية ولو كانت المسألة من المبادئ.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٠.

٢٠٧

هذا مضافاً إلى أنّ وجوب الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر في الكيفية والكمّية ، وأجنبي عن الوضع للصحيح أو الأعم ، فلو قصد الناذر من كلمة المصلي مَن أتى بالصلاة الصحيحة لم تبرأ ذمّته بالاعطاء لمن يصلي فاسدة ولو قلنا بوضع الألفاظ للأعم ، ولو قصد منها الآتي بالصلاة ولو كانت فاسدة برأت ذمّته بذلك وإن قلنا بوضع الألفاظ للصحيح.

على أنّ الصحّة المتنازع دخلها في المسمّى غير الصحّة المعتبرة في مرحلة الامتثال ، فيمكن أن يكون المأتي به صحيحاً من جهة وجدانه تمام الأجزاء والشرائط ، وفاسداً من الجهات الاخر ، وعليه تحصل براءة الذمّة بالاعطاء لمن يصلي فاسدة أيضاً.

ثمّ إنّا قد ذكرنا في الدورة السابقة ثمرة لهذه المسألة غير ما ذكره القوم ، وهي أنّ الحكم الوارد على عنوان الصلاة ومفهومها يختلف باختلاف القولين ، مثلاً قد ورد النهي عن صلاة الرجل وبحذائه امرأة تصلي ، فعلى القول بالصحيح لو علمنا بفساد صلاة المرأة لا تكون صلاة الرجل منهياً عنها لعدم صدق الصلاة على ما أتت المرأة به ، فلا يصدق حينئذ أنّه صلّى وبحذائه امرأة تصلي ، وأمّا على القول بالأعم كانت منهياً عنها ، هذا.

ولكن قد تبيّن ممّا تقدّم أنّ هذه الثمرة أيضاً ليست بثمرة لبحث اصولي ، بل لا تترتب على النزاع بين القولين ، فانّك عرفت أنّ القول بالصحيح لا يلازم الصحّة في مقام الامتثال ، فانّ الصحّة هناك غير الصحّة المأخوذة في المسمّى على هذا القول ، كما مرّ.

فقد استبان من مجموع ما ذكرناه تحت عنوان الثمرة لحدّ الآن امور :

الأوّل : أنّ البحث عن هذه المسألة ليس بحثاً اصولياً ، بل بحث عن المبادئ ،

٢٠٨

وذكرها في هذا العلم لأجل أنّ لها فائدة جلية ، ومناسبة شديدة مع بعض المسائل الاصولية.

الثاني : أنّ ما ذكروه من الثمرات لها وعمدتها الثمرة الاولى والثانية ليس بثمرة للبحث عن هذه المسألة كما عرفت.

الثالث : أنّ جواز الرجوع إلى البراءة أو عدم جوازه ، غير مبني على القول بالوضع للصحيح أو الأعم ، بل مبني على انحلال العلم الإجمالي وعدمه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

الرابع : أنّ القول بالوضع للأعم يحقق موضوع جواز التمسك بالاطلاق أو العموم ، كما أنّ القول بالوضع للصحيح يحقق موضوع عدم جوازه. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني في المعاملات

ويقع البحث عنه في مقامين :

الأوّل : فيما ذهب إليه المشهور من جواز التمسك باطلاقات المعاملات من العقود والايقاعات على كلا القولين ، ولا يختص الجواز باختيار الوضع للأعم ، ومن هنا تنتفي الثمرة المتقدمة في العبادات هنا.

الثاني : فيما ذكره جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ النزاع في المعاملات إنّما يجري فيما إذا كانت الألفاظ أسامي للأسباب دون المسببات ، فانّ المسببات امور بسيطة غير قابلة لأن تتصف بالصحة والفساد ،

__________________

(١). كفاية الاصول : ٣٢.

٢٠٩

بل هي تتصف بالوجود عند وجود أسبابها ، وبالعدم عند عدمها.

ولتحقيق الكلام في المقامين نقول :

أمّا المقام الأوّل : فالأمر كما ذهب إليه المشهور من جواز التمسك بالاطلاقات حتّى على القول بالصحيح ، والوجه في ذلك : هو أنّ المعاملات امور عرفية عقلائية وليست من الماهيات المخترعة عند الشارع المقدس ، وإنّما هي ماهيات قد اخترعها العقلاء قبل هذه الشريعة لتمشية نظام الحياة ، ثمّ لمّا جاء نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخالفهم في هذه الطريقة المستقرّة عندهم ، ولم يجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله طرقاً خاصة لا بدّ للناس أن يمشي على طبق تلك الطرق ، بل ولم يتصرف فيها تصرفاً أساسياً ، بل أمضاها على ما كانت عندهم ، وتكلم بلسانهم ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله كأحدهم من هذه الجهة.

نعم ، قد تصرّف صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها في بعض الموارد ، فنهى عن بعض المعاملات كالمعاملة الربوية وما شاكلها ، وزاد في بعضها قيداً أو جزءاً لم يكن معتبراً عند العقلاء ، كاعتبار البلوغ في المتعاقدين ، واعتبار الصيغة في بعض الموارد.

وعلى ذلك الأصل نحمل ما ورد في الشرع من الآيات والروايات كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ، (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢) ، (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (٣) ، وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النكاح سنّتي » (٤) ، « والصلح جائز » (٥) ونحو ذلك ، على المفاهيم التي قد استقرّت عندهم ، وجرى ديدنهم عليها ، فانّه ( صلى‌الله‌عليه‌وآله )

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٣) النساء ٤ : ٢٩.

(٤) المستدرك ١٤ : ١٥٣ / أبواب مقدّمات النكاح ب ١ ح ١٨.

(٥) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / أبواب الصلح ب ٣ ح ١.

٢١٠

لم يتصرّف فيها لا لفظاً ولا معنى ، وتكلّم بما تكلّموا به من الألفاظ واللّغات.

إذن تكون تلك الأدلة مسوقة لامضاء المعاملات العرفية العقلائية ، وحيث إنّ المعاملات عندهم قسمان : فعلي وقولي ، إلاّفي بعض الموارد ، فتلك الأدلة تدل على إمضاء كلا القسمين إلاّفي بعض الموارد الخاصة التي اعتبر الشارع فيها اللفظ ، أو اللفظ الخاص كما في الطلاق والنكاح وما يشبههما ، وعليه فان دلّ دليل من قبل الشارع على اعتبار شيء جزءاً أو قيداً فنأخذ به ، وإن شككنا فيه فنتمسك باطلاقات تلك الأدلة ، ونثبت بها عدم اعتباره.

ومن هنا يظهر فساد ما ربّما يورد على الشهيد قدس‌سره (١) حيث قال :

إنّ الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود حقيقة في الصحيح ، ومجاز في الفاسد ، إلاّ الحج لوجوب المضي فيه ، مع أنّه قدس‌سره كغيره يتمسك باطلاقات المعاملات ، والحال أنّ الصحيحي لايمكنه التمسك بها لإجمال الخطاب.

ووجه الفساد هو ما عرفت من أنّه لا مانع من التمسك باطلاقات المعاملات على القول بالصحيح ، كما عرفت.

وعلى الجملة : فالمعاملات المأخوذة في موضوع أدلة الامضاء كالبيع ونحوه ، معاملات عرفية عقلائية ولم يتصرف الشارع فيها أيّ تصرف لا من حيث اللفظ ، ولا من حيث المعنى ، بل أمضاها بما لها من المفاهيم التي قد استقرّ عليها الفهم العرفي ، وتكلّم بالألفاظ التي كانت متداولة بينهم في محاوراتهم قبل الشريعة الاسلامية ، فحينئذ إن شكّ في اعتبار أمر زائد على ما يفهمه العرف والعقلاء فنتمسك باطلاق الأدلة وننفي بذلك اعتباره ، كما أنّه لم يكن معتبراً عند العرف ، إذ لو كان معتبراً للزم على الشارع المقدّس بيانه ، وحيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في مقام البيان ولم يبيّن ، فعلم عدم اعتباره.

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨.

٢١١

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات ، فانّ العبادات حيث إنّها ماهيّات مخترعة عند الشارع بجميع أجزائها وشرائطها ، فلو كانت موضوعة للصحيحة لم يمكننا التمسك باطلاقاتها عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته لاحتمال دخله في المسمّى كما سبق. وهذا بخلاف المعاملات فانّها ماهيات مخترعة عند العرف فلو شككنا في اعتبار شيء فيها شرعاً ، فيكون الشك في أمر زائد على ما كان معتبراً عندهم ، وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق ولو على القول بكونها موضوعة للصحيحة.

نعم ، لو شككنا في اعتبار شيء فيها عرفاً كاعتبار المالية مثلاً أو نحوها ، فلا يمكننا التمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز صدق البيع على فاقد المالية أو نحوها ، هذا بناءً على القول بالصحيح. وأمّا بناءً على الأعم فلا مانع من التمسك بالإطلاق حتّى إذا كان الشك في اعتبار شيء فيها عرفاً ، إلاّفيما إذا كان الشك في دخله في المسمى.

وصفوة القول : أنّ حال المعاملات عند العرف حال العبادات عند الشارع المقدس ، فكما أنّ ثمرة جواز الأخذ بالإطلاق وعدم جوازه تظهر بين القولين في العبادات ، فكذلك تظهر بينهما في المعاملات ، وإنّما تنتفي الثمرة بين القولين فيها ـ أي المعاملات ـ لو شككنا في اعتبار جزء أو قيد فيها شرعاً لا عرفاً ، فانّه يجوز حينئذ التمسك بالاطلاق مطلقاً حتّى على القول بالوضع للصحيح ، كما مرّ.

وربّما يورد : بأنّ حديث التمسك بالاطلاق في المعاملات إنّما يتم فيما لو كانت المعاملات أسامي للأسباب دون المسببات ، فانّه حينئذ مجال للتمسك باطلاق قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (٢) ونحوهما ، لاثبات

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) النساء ٤ : ٢٩.

٢١٢

إمضاء كل سبب عرفي إلاّما نهى عنه الشارع ، وأمّا لو كانت المعاملات أسامي للمسببات فالامضاء الشرعي المتوجه إليها لا يدل على إمضاء أسبابها ، لعدم الملازمة بين إمضاء المسبب وهو المبادلة في البيع وما شاكلها ، وإمضاء السبب وهو المعاطاة أو الصيغة الفارسية مثلاً ، ومن الواضح أنّ أدلة الامضاء جميعاً من الآيات والروايات متجهة إلى إمضاء المسببات ، ولا تنظر إلى إمضاء الأسباب أصلاً ، ضرورة أنّ الحلية في قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ثابتة لنفس المبادلة والملكية في مقابل تحريمها ، ولا معنى لحلية نفس الصيغة أو حرمتها ، ووجوب الوفاء في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) ثابت للملكية والمبادلة ، فانّ الوفاء على ما ذكرناه بمعنى الانهاء والاتمام ، ومن المعلوم أنّه لا يتعلق بنفس العقد فانّه آني الحصول فلا بقاء له ، بل لا بدّ وأن يتعلق بما له قابلية البقاء والدوام ، وهو ليس في المقام إلاّنفس المسبب ، والنكاح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النكاح سنّتي » (٢) نفس علاقة الزواج بين المرء والمرأة ، لا نفس الصيغة ، وكذا الصلح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الصلح جائز » (٣) ونحو ذلك ، وعليه فلو شككنا في حصول مسبب من سبب خاص كالمعاطاة مثلاً ، فمقتضى الأصل عدم حصوله والاقتصار على الأخذ بالقدر المتيقن ، إلاّفيما إذا كان له سبب واحد ، فان إمضاء مسببه يستلزم إمضاءه لا محالة ، وإلاّ لكان إمضاؤه بدونه لغواً محضاً ، وكذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقن ، فان نسبة المسبب حينئذ إلى الجميع على حد سواء ، فلا يمكن الحكم بامضاء بعض دون بعض ، وفي غير هاتين الصورتين لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن ، وفي

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) المستدرك ١٤ : ١٥٣ / أبواب مقدّمات النكاح ب ١ ح ١٨.

(٣) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / أبواب الصلح ب ٣ ح ١.

٢١٣

الزائد عليه نرجع إلى أصالة العدم.

وقد أجاب عنه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بأنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبباتها ، ليكونا موجودين خارجيين يترتب أحدهما على الآخر ترتباً قهرياً ، ويكون تعلق الارادة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب من جهة أنّ اختيارية المسبب باختيارية السبب ، كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية ، بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها ، والارادة تكون متعلقة بنفس المعاملة ابتداءً ، كما هو الحال في سائر الانشاءات ، فان قولنا :

بعت أو صلّ ليس بنفسه موجداً للملكية أو الطلب في الخارج ، نظير الالقاء الموجد للاحراق ، بل الموجد في الواقع هو الارادة المتعلقة بايجاده انشاءً.

فتحصّل : أنّه إذا لم تكن الصيغ من قبيل الأسباب ، والمعاملات من قبيل المسببات ، فلم يكن هناك موجودان خارجيان مترتبان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاءً للآخر ، بل الموجود واحد ، غاية ما في الباب أنّه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة ، فالبيع المنشأ بالمعاطاة قسم ، وبغيرها قسم آخر ، وباللفظ العربي قسم ، وبغير العربي قسم آخر وهكذا ، فإذا كان دليل إمضاء البيع مثلاً في مقام البيان ولم يقيّده بنوع دون نوع ، فيستكشف منه عمومه لجميع الأقسام والأنواع ، كما في بقية المطلقات حرفاً بحرف ، هذا ما أجاب به قدس‌سره عن الاشكال.

ولكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده قدس‌سره وذلك لعدم الفرق في محل الكلام بين أن يعبّر عن صيغ العقود بالأسباب أو يعبّر عنها بالآلات ، فان أدلة الامضاء إذا لم تكن ناظرة إلى إمضاء تلك الصيغ فلا يفرق بين كونها أسباباً

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٣.

٢١٤

أو آلة ، ولا أثر للاختلاف في مجرد التعبير.

ومن الغريب أنّه قدس‌سره قد استدلّ على شمول أدلة الامضاء لصيغ العقود بأنّ الآلة وذا الآلة ليسا كالسبب والمسبب يمتاز أحدهما من الآخر في الوجود ، بل هما موجودان بوجود واحد ، فامضاء ذي الآلة يلازم إمضاء الآلة لا محالة وجه الغرابة : أنّه لا ريب في تعدد وجود الصيغ ووجود ما يعبّر عنه بالمسببات في باب المعاملات ، فانّ المسببات هي الامور الاعتبارية النفسانية التي لا وجود لها إلاّفي عالم الاعتبار ، والأسباب عبارة عن الأفعال والألفاظ ، وهما من الموجودات الحقيقية الخارجية ، سواء عبّر عنها بالأسباب أو بالآلات ، فكما أنّ إمضاء المسبب لا يلازم إمضاء السبب فكذلك إمضاء ذي الآلة لا يلازم إمضاء الآلة ، لعدم تفاوت بينهما إلاّفي التعبير.

وعليه فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن على كل تقدير ، فلو شكّ في حصول مسبب كالملكية ، أو نحوها من سبب خاص كالمعاطاة مثلاً أو بغير العربي أو نحو ذلك ، فمقتضى الأصل عدم حصوله إلاّ إذا كان له سبب واحد ، فان إمضاء المسبب حينئذ يلازم إمضاء سببه لا محالة ، وإلاّ لكان إمضاؤه لغواً.

والصحيح في الجواب عنه : هو أنّا لو سلّمنا أنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات نسبة الأسباب إلى مسبباتها ، أو نسبة الآلة إلى ذيها ، وأغمضنا النظر عمّا سلكناه في باب المعاملات من أنّها أسام للمركب من المبرز والمبرز خارجاً ، فلا سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذا آلة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فمع ذلك لا يتمّ الاشكال المزبور ، فانّه إنّما يتم فيما إذا كان هناك مسبب واحد وله أسباب عديدة ، فحينئذ يقال إنّ إمضاءه لا يلازم إمضاءها جميعاً ، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن لو كان ، وفي الزائد نرجع إلى أصالة عدم حصوله.

نعم ، لو فرضنا أنّه لم يكن بينها قدر متيقن ، بل كانت نسبة الجميع إليه على

٢١٥

حد سواء ، أمكننا أن نقول بأنّ إمضاء المسبب إمضاء لجميع أسبابه ، فانّ الحكم بامضاء بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح ، والحكم بعدم الإمضاء رأساً مع إمضاء المسبب على الفرض غير معقول ، ولكنّه فرض نادر جدّاً ، بل لم يتحقق في الخارج ، وأمّا إذا كانت المسببات كالأسباب متعددة كما هو كذلك فلا يتم الإشكال بيان ذلك :

أنّ المراد بالمسبب إمّا أن يكون هو الاعتبار النفساني كما هو مسلكنا ، أو يكون هو الوجود الانشائي المتحصّل من الصيغة أو غيرها كما هو مسلكهم في باب الانشاء ، حيث إنّهم فسّروا الانشاء بايجاد المعنى باللفظ ، ومن هنا قالوا إنّ صيغ العقود أسباب للمعاملات من جهة أنّها لا توجد إلاّبها ، فالبيع لا يوجد إلاّ بعد قوله : بعت ، وكذا غيره ، أو أنّ المراد بالمسبب هو الإمضاء العقلائي فانّه مسبب وفعل البائع مثلاً سبب ، فإذا صدر من البائع بيع يترتب عليه إمضاء العقلاء ترتب المسبب على السبب.

وأمّا الإمضاء الشرعي فلا يعقل أن يكون مسبباً ، بداهة أنّ المسبب هو ما يتعلق به الإمضاء من قبل الشارع المقدس فلا يعقل أن يكون هو نفسه ، وإلاّ لزم تعلق الإمضاء بنفسه في مثل قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النكاح سنّتي » (٣) ونحو ذلك ، فانّ المعنى حينئذ هو أنّ الله أحلّ البيع الذي أحلّه ، وأوجب الوفاء بالعقد الذي أوجب الوفاء به ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّ النكاح الذي سنّه ... وهكذا.

وإن كان ربّما يظهر من كلام المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في مبحث

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) المائدة ٥ : ١.

(٣) المستدرك ١٤ : ١٥٣ / أبواب مقدّمات النكاح ب ١ ح ١٨.

٢١٦

النهي عن المعاملات حيث قال ـ بعد ما حكى عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ـ : والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب ، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلاّفيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة (١).

وكيف كان ، فاحتمال أن يكون المسبب هو الإمضاء الشرعي فاسد قطعاً.

وعلى جميع التقادير المذكورة لا يتم إشكال عدم التلازم بين إمضاء المسبب وإمضاء سببه.

أمّا بناءً على أن يكون المسبب عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس فلا محالة يتعدد المسبب بتعدد مبرزه خارجاً ، مثلاً لو اعتبر زيد ملكية داره لشخص فأبرزها باللغة العربية ، واعتبر ملكية بستانه لآخر فأبرزها باللغة الفارسية ، واعتبر ملكية فرسه لثالث فأبرزها بالمعاطاة ، واعتبر ملكية كتابه لرابع فأبرزها بالكتابة أو الاشارة ، فهنا اعتبارات متعددة خارجاً ، وكل واحد منها يباين الآخر لا محالة ، وإن كان الجميع صادراً من شخص واحد فضلاً عمّا إذا صدر عن أشخاص متعددة ، كما إذا باع زيد فرسه بالصيغة العربية ، وباع عمرو داره بالصيغة الفارسية ، وباع ثالث كتابه بالمعاطاة ... وهكذا ، حيث لا شبهة في أنّ الاعتبار القائم بزيد المبرز في الخارج بالصيغة العربية يباين كلاً من الآخرين ، وكذا كل واحد منها بالاضافة إلى الآخرين.

وعلى ذلك فإذا فرضنا أنّ الشارع أمضى الاعتبار المبرز في الخارج باللغة الفارسية أو بالمعاطاة ، فلا محالة أمضى المعاطاة أو الصيغة الفارسية التي يعبّر عنها بالسبب ، وإلاّ لكان إمضاؤه بدون إمضائها لغواً محضاً ، بداهة أنّه لا معنى لأن يمضي الشارع الملكية المبرزة بالمعاطاة ولا يمضي نفس المعاطاة ، ويمضي

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٩.

٢١٧

الملكية المظهرة بالعقد الفارسي ولا يمضي نفس هذا العقد ... وهكذا ، فان معنى عدم إمضاء الشارع هذا السبب عدم حصول الملكية به خارجاً ، وهذا مناقض لحصولها به وإمضاء الشارع إيّاها.

وأمّا بناءً على أن يكون المسبب عبارة عن الوجود الإنشائي الحاصل بالتلفظ بصيغ العقود كصيغة بعت ونحوها فهو أوضح من الأوّل ، بداهة أنّه متى ما حصل التلفظ بصيغة بعت أو نحوها يتحقق المسبب خارجاً ، فلو قال زيد مثلاً :

بعت داري ، ثمّ قال : بعت بستاني ، ثمّ قال : بعت فرسي ... وهكذا ، يتحقق بكل واحد من هذه الصيغ والأسباب وجود إنشائي الذي يعبّر عنه بالمسبب على مسلك القوم ، فكما أنّ لكل صيغة وجوداً ، فكذلك لكل منشأ وجوداً إنشائياً بوجود سببه ، فلا يعقل انفكاك المنشأ عن الإنشاء والسبب ، ولا سيّما فيما إذا كانت الأسباب مختلفة الحقائق كالعربية والعجمية وغيرهما.

وعلى الجملة : فالتلفظ بالصيغة يوجب تحصل وجود إنشائي للبيع على مسلكهم فلا يتصور انفكاكه عنه. وعليه فامضاء الوجود الإنشائي والتنزيلي إمضاء لسببه ، فلا يعقل تعلّق الامضاء بأحدهما دون الآخر كما تقدّم.

وأمّا لو كان المراد من المسبب إمضاء العقلاء فالأمر فيه أوضح من الأوّلين ، ضرورة أنّ العقلاء يمضون كل بيع صادر من البائع إذا كان واجداً للشرائط ، بأن يكون صادراً من أهله ووقع في محلّه ، مثلاً لبيع زيد كتابه إمضاء عقلائي ، ولبيع زيد داره إمضاء عقلائي آخر ، ولبيع زيد فرسه إمضاء عقلائي ثالث ...

وهكذا ، وليس إمضاؤهم متعلقاً بطبيعي البيع ، فانّه لا أثر له ، والآثار إنّما تترتب على آحاد البيع الصادرة عن آحاد الناس ، ومن الواضح أنّ العقلاء إنّما يمضون تلك الآحاد المترتبة عليها الآثار ، وليس إمضاء أحدها عين إمضاء الآخر ، بل لكل واحد منها إمضاء على حياله واستقلاله ، كما هو مقتضى كون البيع سبباً لامضاء عقلائي. وكيف كان ، فلا ريب في أنّ لكل بيع من البيوع الموجودة في

٢١٨

الخارج إمضاء عقلائياً يباين إمضاء عقلائياً آخر ... وهكذا ، سواء كانت البيوع صادرة من شخص واحد ، أو من أشخاص متعددة.

وعليه فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق قد دلّ باطلاقه على نفوذ كل إمضاء عقلائي ، فلا محالة دلّ بالالتزام على إمضاء كل سبب يتسبب إليه ، وإلاّ فلا يعقل إمضاؤه بدون امضائه ، فانّه نقض للغرض كما لا يخفى.

فالنتيجة من جميع ذلك : أنّ الإيراد المزبور إنّما يتم فيما لو كان هناك مسبب واحد وله أسباب عديدة ، ولكن قد عرفت أنّه لا أصل له على جميع المسالك في تفسير المسبب ، ولايعقل أن يكون لمسبب واحد أسباب متعددة على الجميع بل لكل سبب مسبب ، فامضاؤه بعينه إمضاء لسببه.

هذا كلّه بناءً على مسلك القوم في باب المعاملات.

التحقيق : أنّ كون صيغ العقود أسباباً أو آلة كل ذلك لا يرجع إلى معنى صحيح ، وذلك لما حققناه سابقاً من أنّ ما هو المشهور من أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ فاسد ، فانّهم إن أرادوا به الإيجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول ، بداهة أنّ اللفظ لا يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده وأسبابه. وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري ، فيرده : أنّه يوجد بنفس اعتبار المعتبر ، سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن. فاللفظ لا يكون سبباً لايجاده ولا آلة له ، فلا يكون محتاجاً إليه أصلاً ، كيف فانّ الأمر الاعتباري لا واقع له ما عدا اعتبار المعتبر في افق النفس ، وأمّا الخارج عنه من اللفظ والكتابة والإشارة والفعل ، فأجنبي عنه بالكلية.

نعم ، إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج يحتاج إلى مبرز ، وذلك المبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب ، وقد يكون اشارة ، وقد يكون كتابة ، وقد يكون فعلاً.

٢١٩

ومن هنا ذكرنا في بحث المعاملات (١) أنّها أسام للمركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه باللفظ أو نحوه في الخارج ، فانّ الآثار المترقبة منها لا تترتب إلاّ على المركب من الأمرين ، فالبيع والإيجار والصلح والنكاح وما شاكلها لا يصدق على مجرد الاعتبار النفساني بدون إبرازه في الخارج بمبرز ما ، فلو اعتبر

أحد ملكية داره لزيد مثلاً ، أو ملكية فرسه لعمرو بدون أن يبرزها في الخارج باللفظ أو ما شاكله ، فلا يصدق أنّه باع داره من زيد أو فرسه من عمرو ، كما أنّه لا يصدق هذه العناوين على مجرد إطلاق اللفظ أو نحوه من دون اعتبار نفساني كما لو كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الإيقاعات ، أو كان التكلم بها بداع آخر غير إبراز ما في افق النفس من الأمر الاعتباري ، فلو قال أحد بعت أو زوجت أو نحو ذلك من دون اعتبار نفساني ، فلا يصدق عليه عنوان البيع أو عنوان التزويج والنكاح ... وهكذا.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح أنّه لا سبب ولا مسبب في باب المعاملات ، ولا آلة ولا ذا آلة ، ليشكل أنّ إمضاء أحدهما لا يلازم إمضاء الآخر ، بل المعاملات بعناوينها الخاصة من البيع والهبة وما شاكلها أسامٍ للمركب من الأمرين ، فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص كما عرفت ، والمفروض أنّها بهذه العناوين مأخوذة في أدلة الامضاء كقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النكاح سنّتي » (٣) و « الصلح جائز » (٤) إلى غير ذلك ، فالأدلة ناظرة إلى إمضائها بتلك العناوين ، وعليه فمتى صدق هذه العناوين

__________________

(١) مصباح الفقاهة ١ : ٣٠ ، وفي المجلّد ٢ : ٥٢.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٣) المستدرك ١٤ : ١٥٣ / أبواب مقدّمات النكاح ب ١ ح ١٨.

(٤) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / أبواب الصلح ب ٣ ح ١.

٢٢٠