محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

من المشيئة الواردة في الروايات من أنّه تعالى خلق الأشياء بالمشيئة ، والمشيئة بنفسها ، هو المشيئة الفعلية التي هي عين الوجود المنبسط ، والوجود الاطلاقي ، والمراد من الأشياء هو الموجودات المحدودة الخاصّة ، فموجودية هذه الأشياء بالوجود المنبسط ، وموجودية الوجود المنبسط بنفسها ، لا بوجود آخر ، وهذا معنى قوله عليه‌السلام « خلق الله الأشياء بالمشيئة » أي بالوجود المنبسط الذي هو فعله الاطلاقي ، وخلق المشيئة بنفسها ، ضرورة أنّه ليس للوجود المنبسط ما به الوجود.

ولا يخفى أنّه قدس‌سره قد تبع في ذلك نظرية الفلاسفة القائلة بتوحيد الفعل ، وبطبيعة الحال أنّ هذه النظرية ترتكز على ضوء علّية ذاته الأزلية للأشياء ، وعلى هذا الضوء فلا محالة يكون الصادر الأوّل منه تعالى واحداً ذاتاً ووجوداً ، لاقتضاء قانون السنخية والتناسب بين العلّة والمعلول ذلك. وهذا الصادر الواحد هو الوجود الاطلاقيّ المعبّر عنه بالوجود المنبسط تارةً وبالمشيئة الفعلية تارة اخرى ، وهو الموجود بنفسه لا بوجود آخر ، يعني أنّه لا واسطة بينه وبين وجوده الأزلي ، فهو معلوله الأوّل ، والأشياء معلوله بواسطته ، وهذا المعنى هو مدلول صحيحة عمر بن اذينة المتقدمة (١).

ولنأخذ بالنقد عليه من وجهين :

الأوّل : أنّ القول بالوجود المنبسط في إطاره الفلسفي يرتكز على نقطة واحدة ، وهي أنّ نسبة الأشياء بشتى أنواعها وأشكالها إلى ذاته تعالى نسبة المعلول إلى العلّة التامة ، ويترتب على هذا أمران : الأوّل : التجانس والتسانخ بين ذاته تعالى وبين معلوله. الثاني : التعاصر بينهما ، وعليه حيث إنّه لا تجانس بين موجودات عالم المادة بكافة أنواعها وبين ذاته تعالى ، فلا بدّ من الالتزام بالنظام الجملي السلسلي ، وهو عبارة عن ترتب مسببات على أسباب متسلسلة ، فالأسباب

__________________

(١) في ص ٣٧٨.

٣٨١

والمسببات جميعاً منتهيتان في نظامهما الخاص وإطارهما المعيّن بحسب الطولية والعرضية معاً إلى مبدأ واحد ، وهو الحق سبحانه ، وهو مبدأ الكل ، فالكل ينال منه ، وهو مسبّب الأسباب على الاطلاق. ونتيجة هذا أنّ الصادر الأوّل من الله تعالى لا بدّ أن يكون مسانخاً لذاته ومعاصراً معها ، وإلاّ استحال صدوره منه.

ومن الطبيعي أنّ ذلك لا يكون إلاّ الوجود المنبسط في إطاره الخاص.

وغير خفي أنّه لا شبهة في بطلان النقطة المذكورة وأ نّه لا واقع موضوعي لها أصلاً ، والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ سلطنته تعالى وإن كانت تامة من كافة الجهات ولا يتصور النقص فيها أبداً ، إلاّ أنّ مردّ هذا ليس إلى وجوب صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه ، كوجوب صدور المعلول عن العلة التامة ، بل مردّه إلى أنّ الأشياء بكافة أشكالها وأنواعها تحت قدرته وسلطنته التامة ، وأ نّه تعالى متى شاء إيجاد شيء أوجده بلاتوقف على أيّة مقدّمة خارجة عن ذاته وإعمال قدرته حتّى يحتاج في إيجاده إلى تهيئة تلك المقدمة ، وهذا معنى السلطنة المطلقة التي لا يشذ شيء عن إطارها.

ومن البديهي أنّ وجوب وجوده تعالى ، ووجوب قدرته ، وأ نّه تعالى وجود كلّه ، ووجوب كلّه ، وقدرة كلّه لايستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج ، وذلك لأنّ الضرورة ترتكز على أن يكون إسناد الفعل إليه تعالى كاسناد المعلول إلى العلّة التامة ، لا إسناد الفعل إلى الفاعل المختار ، فلنا دعويان :

الاولى : أنّ إسناد الفعل إليه ليس كاسناد المعلول إلى العلّة التامة.

الثانية : أنّ إسناده إليه كاسناد الفعل إلى الفاعل المختار.

أمّا الدعوى الاولى : فهي خاطئة عقلاً ونقلاً.

أمّا الأوّل : فلأنّ القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة والسلطنة عنه تعالى ، فانّ مردّ هذا القول إلى أنّ الوجودات بكافة مراتبها الطولية والعرضية

٣٨٢

موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتم ، وتتولد منه على سلسلتها الطولية تولد المعلول عن علّته التامة ، فانّ المعلول من مراتب وجود العلّة النازلة ، وليس شيئاً أجنبياً عنه. مثلاً الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها ، وليست أجنبية عنها ، وهكذا.

وعلى هذا الضوء فمعنى علّية ذاته تعالى للأشياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها ، كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها ، ويستحيل انفكاكها عنها ، غاية الأمر أنّ النار علّة طبيعية غير شاعرة ، ومن الواضح أنّ الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية ، فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب ، وتكون من مراتب وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه ، فإذن ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامة. على أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفا شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية ، لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علّته.

وأمّا الثاني : فقد تقدّم (١) ما يدل من الكتاب والسنّة على أنّ صدور الفعل منه تعالى بارادته ومشيئته.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري ، وهو أن يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور ، وحيث إنّه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري ، لا يرجع إلى معنىً محصّل ، بداهة أنّ علم العلّة بالمعلول وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلية وتأثيرها ، فانّ العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب ، ومجرد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها ، وإلاّ لزم الخلف.

__________________

(١) في ص ٣٧٨.

٣٨٣

فما قيل : من أنّ الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو أنّ الأوّل غير شاعر وملتفت إلى فعله دون الثاني ، فلأجل ذلك قالوا إنّ ما صدر من الأوّل غير اختياري وما صدر من الثاني اختياري لا واقع موضوعي له أصلاً ، لما عرفت من أنّ مجرد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلية بعد فرض أنّ نسبة الفعل إلى كليهما على حد نسبة المعلول إلى العلّة التامة.

وأمّا الدعوى الثانية : فقد ظهر وجهها ممّا عرفت من أنّ إسناد الفعل إليه تعالى إسناد إلى الفاعل المختار ، وقد تقدّم أنّ صدوره باعمال القدرة والسلطنة ، وبطبيعة الحال أنّ سلطنة الفاعل مهما تمّت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير ، وحيث إنّ سلطنة الباري ( عزّ وجلّ ) تامّة من كافّة الجهات والحيثيات ، ولا يتصور فيها النقص أبداً ، فهو سلطان مطلق ، وفاعل ما يشاء ، وهذا بخلاف سلطنة العبد ، حيث إنّها ناقصة بالذات فيستمدها في كل آن من الغير ، فهو من هذه الناحية مضطر فلا اختيار ولا سلطنة له ، وإن كان له اختيار وسلطنة من ناحية اخرى ، وهي ناحية إعمال قدرته وسلطنته ، وأمّا سلطنته تعالى فهي تامّة وبالذات من كلتا الناحيتين.

لحدّ الآن قد تبيّن : أنّ القول بالوجود المنبسط باطاره الفلسفي الخاص وبواقعه الموضوعي يستلزم الجبر في فعله تعالى ، ونفي القدرة والسلطنة عنه ، أعاذنا الله من ذلك.

الوجه الثاني : أنّ ما أفاده قدس‌سره من المعنى للحديث المذكور خلاف الظاهر جداً ، فانّ الظاهر منه بقرينة تعلّق الخلق بكل من المشيئة والأشياء تعدد المخلوق ، غاية الأمر أنّ أحدهما مخلوق له تعالى بنفسه وهو المشيئة ، والآخر مخلوق له بواسطتها.

وإن شئت قلت : إنّ تعدد الخلق بطبيعة الحال يستلزم تعدد المخلوق ،

٣٨٤

والمفروض أنّه لاتعدد على المعنى الذي ذكره قدس‌سره تبعاً لبعض الفلاسفة ، فانّ المخلوق على ضوء هذا المعنى هو الوجود المنبسط فحسب دون غيره من الأشياء ، لأنّ موجوديتها بنفس الوجود المنبسط لا بايجاد آخر. مع أنّ ظاهر الرواية بقرينة تعدد الخلق أنّ موجوديتها بايجاد آخر.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده قدس‌سره لا يمكن الالتزم به ثبوتاً ولا إثباتاً.

(٣)

نظريّة الأشاعرة

مسألة الجبر ، ونقدها

استدلّوا على الجبر بوجوه :

الأوّل : ما إليكم نصّه : لو كان العبد موجداً لأفعاله بالاختيار والاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها ، واللازم باطل. أمّا الشرطية ـ أي الملازمة ـ فلأنّ الأزيد والأنقص ممّا أتى به ممكن ، إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان ، فوقوع ذلك المعيّن منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه ، والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البداهة ، فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لا بدّ أن تكون مقصودة معلومة ، وأمّا بطلان اللازم فلأنّ النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب آخر ، ولا يشعر بكمّية ذلك الفعل وكيفيته (١).

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ١٤٨.

٣٨٥

والجواب عنه : أنّ دخل العلم والالتفات في صدور الفعل عن الفاعل بالاختيار أمر لا يعتريه شك ولم يختلف فيه اثنان ، وبدون ذلك لا يكون اختيارياً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ العلم المعتبر في ذلك إنّما هو العلم بعنوان الفعل والالتفات إليه حين صدوره بأن يعلم الانسان أنّ ما يصدر منه في الخارج ينطبق عليه عنوان شرب الماء مثلاً أو الصلاة أو الصوم أو الحج أو قراءة القرآن أو السفر إلى بلد أو التكلم أو ما شابه ذلك ، ومن الواضح أنّه لا يعتبر في صدور هذه الأفعال بالاختيار أزيد من ذلك ، فإذا علم الانسان بالصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط وأتى بها كذلك ، فقد صدرت منه بالاختيار وإن كان لا يعلم حقيقة أجزائها ودخولها تحت أيّة مقولة من المقولات.

فالنتيجة : أنّ ملاك صدور الفعل بالاختيار هو سبقه بالالتفات والتصور على نحو الاجمال في مقابل صدوره غفلةً وسهواً.

وبعد ذلك نقول : إن أراد الأشعري من العلم بتفاصيل الأفعال العلم بكنهها وحقيقتها الموضوعية فيردّه :

أوّلاً : أنّ ذلك لا يتيسر لغير علاّم الغيوب ، فان حقائق الأشياء بكافة أنواعها وأشكالها مستورة عنّا ، ولا طريق لنا إليها ، لأنّ أفكارنا لا تملك قوّة إدراكها والوصول إلى واقعها ومغزاها.

وثانياً : أنّ هذا العلم لا يكون ملاكاً لاتصاف الفعل بالاختيار كما عرفت.

وإن أراد منه العلم بما يوجب تمييز الأفعال بعضها عن بعضها الآخر ، كأن يعلم بأنّ ما يفعله خارجاً ويأتي به شرب ماء مثلاً لاشرب خل وهكذا ، وإن لم يعلم كنهه وحقيقته فهو صحيح كما مرّ ، إلاّ أنّ اللازم على هذا ليس بباطل ،

٣٨٦

لفرض أنّ كل فاعل مختار يعلم أفعاله في إطار عناوينها الخاصة.

وإن أراد منه العلم بحدها التام المشهوري أو برسمها التام أو الناقص فيرد عليه :

أوّلاً : أنّ ذلك العلم لا يتيسر لأغلب الناس ، بداهة أنّ العامي لا يعرف جنس الأشياء ولا فصلها ولا خواصها حتّى يعرف حدّها التام أو الناقص أو رسمها التام أو الناقص.

وثانياً : قد سبق أنّ هذا العلم لا يكون مناطاً لصدور الفعل بالاختيار.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره لبيان بطلان اللازم من أنّ النائم وكذا الساهي قد يفعله باختياره غريب جداً ، بداهة أنّ ما يصدر منهما من الحركة كالتقلب من جنب إلى جنب آخر أو نحو ذلك غير اختياري ، ولذا لا يستحقان عليه المدح والذم والعقاب والثواب. وقد تقدّم أنّ الالتفات إلى الفعل على نحو الاجمال ركيزة أساسية لاختياريته ، وبدونه لا يعقل صدوره بالاختيار.

الثاني : ما إليك نصّه : إنّ العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته واختياره استقلالاً فلا بدّ أن يتمكن من فعله وتركه ، وإلاّ لم يكن قادراً عليه مستقلاً فيه وأن يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح ، إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتفاقياً لا اختيارياً ، ويلزم أيضاً أن لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب ، فينسدّ باب إثبات الصانع ، وذلك المرجّح لا يكون من العبد باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل ، لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عنه ويكون الفعل عنده ـ أي عند ذلك المرجح ـ واجباً ، أي واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلفه عنه ، وإلاّ لم يكن الموجود ـ أي ذلك المرجح المفروض ـ تمام المرجح ، لأنّه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز أن

٣٨٧

يوجد معه الفعل تارةً ويعدم اخرى ، مع وجود ذلك المرجح فيهما ، فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجح لما عرفت ، فلا يكون ما فرضناه مرجحاً تاماً ، هذا خلف ، وإذا كان الفعل مع المرجح الذي ليس منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل اضطرارياً لازماً لا اختيارياً بطريق الاستقلال كما زعموه (١).

يتضمن هذا النص عدّة نقاط :

الاولى : أنّ العبد لو كان مستقلاً في فعله ومختاراً فلازمه أن يكون متمكناً من تركه وفعله.

الثانية : أنّ ترجيح وجود الفعل على عدمه في الخارج يتوقف على وجود مرجح ، إذ لو وجد بدونه لكان اتفاقياً لا اختيارياً.

الثالثة : أنّ وقوع أحد الجائزين ـ الوجود والعدم ـ في الخارج لو كان ممكناً من دون وجود مرجّح وسبب ، لا نسدّ باب إثبات الصانع ولأمكن وجود العالم بلا سبب وعلّة.

الرابعة : أنّ المرجّح لا يمكن أن يكون تحت اختيار العبد ، وإلاّ لزم التسلسل.

الخامسة : أنّ وجود الفعل واجب عند تحقق المرجح.

ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فالصحيح على ما سيأتي بيانه بشكل واضح أن يقال :

إنّ ملاك صدور الفعل عن الانسان بالاختيار هو أن يكون باعمال القدرة والسلطنة ويعبّر عن هذا المعنى بقوله : له أن يفعل وله أن لا يفعل ، ولا ينافي ذلك ما سنحققه إن شاء الله تعالى في المبحث الآتي وهو بحث الأمر بين

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ١٤٩.

٣٨٨

الأمرين (١) أنّ العبد لا يستقل في فعله تمام الاستقلال ، حيث إنّ كافة مبادئ الأفعال كالحياة والقدرة والعلم والاختيار مفاضة من الله تعالى آناً فآناً وخارجة عن اختياره ، بحيث لو انقطعت الافاضة آناً ما لانتفت تلك المبادئ بأسرها.

وعلى هذا الضوء فان اريد من استقلال العبد استقلاله من كافة النواحي فهو باطل ، لا ما هو لازمه فانّه صحيح على تقدير ثبوته. وإن اريد منه استقلاله في فرض تحقق تلك المبادئ وإفاضتها فهو صحيح ، وكذا لازمه. وعلى كلا التقديرين فالتالي صادق.

وأمّا النقطة الثانية : فهي خاطئة جداً ، وذلك لأنّها ترتكز على ركيزة لا واقع لها ، وهي استحالة ترجيح وجود الفعل على عدمه بدون وجود مرجّح ، والسبب في ذلك : أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل في الخارج بلا سبب وفاعل ، وأمّا صدور الفعل الاختياري عن الفاعل من دون وجود مرجّح له ليس بمحال ، لما عرفت من أنّ وجوده خارجاً يدور مدار اختياره وإعمال قدرته من دون توقفه على شيء آخر كوجود المرجّح أو نحوه. نعم ، بدونه يكون لغواً وعبثاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا دخل لوجود المرجّح في إمكان الفعل أصلاً ، ولا صلة لأحدهما بالآخر. على أنّ وجود المرجّح لاختيار طبيعي الفعل كافٍ وإن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجّح بالاضافة إلى بعضها الآخر ، ولا يلزم وجوده في كل فعل شخصي اختاره المكلف.

ودعوى أنّ الاختيار هو المرجّح في فرض التساوي ساقطة بأنّ الاختيار لا يمكن أن يكون مرجحاً ، لوضوح أنّ المرجح ما يدعو الانسان إلى اختيار

__________________

(١) في ص ٤٣٦ ، ٤٤٠.

٣٨٩

أحد فردين متساويين أو أفراد متساوية ، فلا يعقل أن يكون هو المرجح ، على أنّه لو كان مرجّحاً لم يبق موضوع لما ذكر من أنّ ترجيح وجود الفعل على عدمه يتوقف على وجود مرجح ، لفرض أنّه موجود وهو الاختيار.

ومن هنا يظهر بطلان ما ذكر من أنّ الفعل الصادر من دون وجود مرجح اتفاقي لا اختياري.

وأمّا النقطة الثالثة : فقد ظهر فسادها ممّا أشرنا إليه في النقطة الثانية ، من أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل بلا سبب وفاعل ، لا وجوده بدون وجود مرجحّ.

وقد وقع الخلط في كلامه بين هذين الأمرين ، وذلك لأنّ ما يوجب سدّ باب إثبات الصانع إنّما هو وجود الممكن بدونه ، حيث قد برهن في موطنه استحالة ترجح الممكن ووجوده من دون سبب وفاعل ، لأنّ حاجة الممكن إليه داخلة في كمون ذاته وواقع مغزاه ، لفرض أنّه عين الفقر والحاجة لا ذات له الفقر والحاجة ، فلا يمكن تحققه ووجوده بدونه.

وأمّا وجوده بدون وجود مرجح كما هو محل الكلام فلا محذور فيه أصلاً.

وأمّا النقطة الرابعة : فقد عرفت أنّ الفعل الاختياري لا يتوقف على وجود مرجّح له. وعلى تقدير توقفه عليه وافتراضه فلا يلزم أن يكون اختيارياً دائماً ، لوضوح أنّ المرجح قد يكون اختيارياً ، وقد لا يكون اختيارياً. وعلى تقدير أن يكون اختيارياً فلا يلزم التسلسل ، وذلك لأنّ الفعل في وجوده يحتاج إلى وجود مرجّح ، وأمّا المرجّح فلا يحتاج في وجوده إلى مرجّح آخر ، بل هو ذاتي له ، فلا يحتاج إلى سبب كما هو ظاهر.

وأمّا النقطة الخامسة : فيظهر خطؤها ممّا ذكرناه من أنّه لا دخل للمرجّح في صدور الفعل بالاختيار ، فيمكن صدوره عن اختيارٍ مع عدم وجود المرجّح

٣٩٠

له أصلاً. كما أنّه يظهر بذلك أنّ وجوده لايوجب وجوب صدور الفعل وضرورة وجوده في الخارج ، وذلك لأنّ الفعل الاختياري ما يصدر بالاختيار وإعمال القدرة ، سواء أكان هناك مرجّح أم لم يكن ، بداهة أنّ المرجّح مهما كان نوعه لا يوجب خروج الفعل عن الاختيار ، ولو كان ذلك المرجّح هو الارادة ، لما سنشير إليه (١) إن شاء الله تعالى من أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها من القوّة والشدّة لا توجب سلب الاختيار عن الانسان.

الثالث : ما إليكم لفظه : إنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكل ممكن مقدور لله تعالى ، لما مرّ من شمول قدرته للممكنات بأسرها ، وقد مرّ مخالفة الناس من المعتزلة والفرق الخارجة عن الاسلام في أنّ كل ممكن مقدور لله تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ، لامتناع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد (٢).

والجواب عنه : أمّا ما ذكره من الصغرى والكبرى ـ يعني أنّ فعل العبد ممكن ، وكل ممكن مقدور لله تعالى ـ وإن كان صحيحاً ، ضرورة أنّ الممكنات بشتى أنواعها وأشكالها مقدورة له تعالى ، فلا يمكن خروج شيء منها عن تحت قدرته وسلطنته ، إلاّ أنّ ما فرّعه على ذلك من أنّه لا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع تحت قدرة العبد ، لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد ، خاطئ جداً ، والسبب في ذلك ما سيأتي بيانه (٣) بشكل واضح من أنّ أفعال العباد رغم كونها مقدورةً لله تعالى من ناحية أنّ مبادءها بيده سبحانه مقدورة للعباد أيضاً وواقعة تحت اختيارهم وسلطانهم ، فلا منافاة بين الأمرين أصلاً.

__________________

(١) في ص ٣٩٧.

(٢) شرح المواقف ٨ : ١٤٨ المرصد السادس.

(٣) في ص ٤١٧.

٣٩١

وبكلمة اخرى : أنّ كل مقدور ليس واجب الوجود في الخارج لتقع المنافاة بينهما ، بداهة أنّه لا مانع من كون فعل واحد مقدوراً لشخصين لعدم الملازمة بين كون شيء مقدوراً لأحد وبين صدوره منه في الخارج ، فالصدور يحتاج إلى أمر زائد عليه وهو إعمال القدرة والمشيئة.

ومن ضوء هذا البيان يظهر وقوع الخلط في هذا الدليل بين كون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وبين وقوعها خارجاً باعمال قدرته.

وعليه فما ذكره من الكبرى وهي استحالة اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد خاطئ جداً. نعم ، لو أراد من القدرة المؤثرة إعمالها خارجاً فالكبرى المزبورة وإن كانت تامة إلاّ أنّها فاسدة من ناحية اخرى ، وهي أنّ أفعال العباد لا تقع تحت مشيئة الله وإعمال قدرته على ما سنذكره (١) إن شاء الله تعالى ، وإنّما تقع مبادؤها تحت مشيئته وإعمال قدرته لا نفسها ، فإذن لا يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على شيء واحد.

لحدّ الآن قد تبيّن بطلان هذه الوجوه وعدم إمكان القول بشيء منها.

ثمّ إنّ من الغريب ما نسب في شرح المواقف إلى أبي الحسن الأشعري وإليك نصّه : إنّ أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرةً واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (٢).

__________________

(١) في ص ٤١٦.

(٢) شرح المواقف ٨ : ١٤٥.

٣٩٢

ووجه الغرابة أمّا أوّلاً : فلا دليل على ثبوت هذه العادة لله تعالى.

وأمّا ثانياً : فقد قام البرهان القطعي على عدم واقع موضوعي لها أصلاً ، توضيح ذلك : أنّ الكلام من هذه الناحية تارةً يقع في المعاليل الطبيعية المترتبة على عللها ، واخرى في الأفعال الاختيارية.

أمّا الاولى : فلأ نّها تخضع لقوانين طبيعية ونظم خاصّة التي أودعها الله تعالى في كمون ذاتها وطبائعها ضمن إطار معيّن وهي مبدأ السنخية والتناسب ، والسر في ذلك أنّ العلل تملك معاليلها في واقع ذواتها وكمون طبائعها بنحو الأتم والأكمل ، وليست المعاليل موجودات اخر في قبال وجوداتها ، بل هي تتولد منها ومن مراتب وجودها النازلة ، وعليه فبطبيعة الحال تتناسب معها. مثلاً معنى كون الحرارة معلولةً للنار هو أنّ النار تملك الحرارة في صميم ذاتها وتتولد منها وتكون من مراتب وجودها ، وهذا هو التفسير الصحيح لاعتبار السنخية والتناسب بينهما.

فالنتيجة : أنّ الكائنات الطبيعية بعللها ومعاليلها جميعاً خاضعة لقانون التناسب والتسانخ ، ولا تتخلف عن السير على طبقه أبداً ، وعلى ضوء هذا فلا يمكن القول بأنّ ترتب المعاليل على عللها بمجرد جريان عادة الله تعالى بذلك من دون علاقة ارتباط ومناسبة بينهما ، رغم أنّ العادة لا تحصل إلاّبالتكرار ، وعليه فما هو المبرّر لصدور أوّل معلول عن علّته مع عدم ثبوت العادة هناك ، وما هو الموجب لتأثيرها فيه ووجوده عقيب وجودها. ومن الطبيعي أنّه ليس ذلك إلاّمن ناحية ارتباطه معها ذاتاً ووجوداً ، فإذا كان المعلول الأوّل خاضعاً لقانون العلّية ، فكذلك المعلول الثاني وهكذا ، بداهة عدم الفرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

٣٩٣

وكيف يمكن أن يقال : إنّ وجود الحرارة مثلاً عقيب وجود النار في أوّل سلسلتهما الطولية مستند إلى مبدأ السنخية والمناسبة وخاضع له ، وأمّا بعده فهو من جهة جريان عادة الله تعالى بذلك ، لا من جهة خضوعه لذلك المبدأ.

فالنتيجة أنّ مردّ هذه المقالة إلى إنكار واقع مبدأ العلّية وهو لا يمكن.

وأمّا الثانية : وهي الأفعال الاختيارية ، فقد تقدّم أنّها تصدر بالاختيار وإعمال القدرة ، فمتى شاء الفاعل إيجادها أوجدها في الخارج ، وليس الفاعل بمنزلة الآلة كما سيأتي بيانه (١) بصورة مفصّلة.

على أنّه كيف يمكن أن تثبت العادة في أوّل فعل صادر عن العبد ، فإذن ما هو المؤثر في وجوده ، فلا مناص من أن يقول إنّ المؤثر فيه هو إعمال القدرة والسلطنة ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق بينه وبين غيره من هذه الناحية.

فالنتيجة : أنّ ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، هذا تمام الكلام في هذه الوجوه ونقدها.

بقي هنا عدّة وجوه اخر قد استدلّ بها على نظريّة الأشعري أيضاً :

الأوّل : المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديماً وحديثاً أنّ الأفعال الاختيارية بشتّى أنواعها مسبوقة بالارادة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّها إذا بلغت حدّها التام تكون علّةً تامّةً لها.

وتبعهم في ذلك جماعة من الاصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية (٢) وشيخنا المحقق (٣) قدس‌سرهما. فالنتيجة على ضوء ذلك هي وجوب صدور الفعل

__________________

(١) في ص ٣٩٧ ، ٤٠٣.

(٢) كفاية الاصول : ٦٧.

(٣) نهاية الدراية ١ : ٢٨٥.

٣٩٤

عند تحقق الارادة واستحالة تخلفه عنها ، بداهة استحالة تخلف المعلول عن العلّة التامّة.

وإلى هذا أشار شيخنا المحقق قدس‌سره بقوله : الارادة ما لم تبلغ حداً يستحيل تخلف المراد عنها لا يمكن وجود الفعل ، لأنّ معناه صدور المعلول بلا علّة تامّة ، وإذا بلغت ذلك الحد امتنع تخلّفه عنها ، وإلاّ لزم تخلف المعلول عن علّته التامّة (١).

وقال صدر المتألهين : إنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه لم تكن صالحة لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر ، وأمّا إذا صارت حدّ الوجوب لزم منه وقوع الفعل (٢). ومراده من التساوي بعض مراتب الارادة كما صرّح بصحّة إطلاق الارادة عليه ، كما أنّ مراده من صيرورتها حدّ الوجوب بلوغها إلى حدّها التام ، فإذا بلغت ذلك الحد تحقق المراد في الخارج ، وقد صرّح بذلك في غير واحد من الموارد.

وكيف كان ، فتتفق كلمات الفلاسفة على ذلك رغم أنّ الوجدان لا يقبله ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الارادة بكافة مبادئها من التصور والتصديق بالفائدة والميل وما شاكلها غير اختيارية وتحصل في افق النفس قهراً من دون أن تنقاد لها. نعم ، قد يمكن للانسان أن يُحدث الارادة والشوق في نفسه إلى إيجاد شيء بالتأمل فيما يترتب عليه من الفوائد والمصالح ، ولكن ننقل الكلام إلى ذلك الشوق

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٨٥.

(٢) الأسفار ٦ : ٣١٧.

٣٩٥

المحرّك للتأمل فيه ، ومن الطبيعي أنّ حصوله للنفس ينتهي بالآخرة إلى ما هو خارج عن اختيارها ، وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له.

وعلى ضوء ذلك أنّ الارادة لا بدّ أن تنتهي إمّا إلى ذات المريد الذي هو بذاته وذاتياته وصفاته وأفعاله منتهٍ إلى الذات الواجبة ، وإمّا إلى الارادة الأزليّة.

وقد صرّح بذلك المحقق الاصفهاني قدس‌سره بقوله : إن كان المراد من انتهاء الفعل إلى إرادة الباري تعالى بملاحظة انتهاء إرادة العبد إلى إرادته تعالى ، لفرض إمكانها المقتضي للانتهاء إلى الواجب ، فهذا غير ضائر بالفاعلية التي هي شأن الممكنات ، فانّ العبد بذاته وبصفاته وأفعاله لا وجود له إلاّبافاضة الوجود من الباري تعالى ، ويستحيل أن يكون الممكن مفيضاً للوجود (١).

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا مناص من الالتزام بالجبر وعدم السلطنة والاختيار للانسان على الأفعال الصادرة منه في الخارج.

ولنأخذ بنقد هذه النظريّة على ضوء درس نقطتين :

الاولى : أنّ الارادة لا تعقل أن تكون علّة تامّة للفعل.

الثانية : أنّ الأفعال الاختيارية بكافّة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة.

أمّا النقطة الاولى : فلا ريب في أنّ كل أحد إذا راجع وجدانه وفطرته في صميم ذاته حتّى الأشعري يدرك الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد غيره ، وبين حركة النبض وحركة الأصابع ، وبين حركة الدم في العروق وحركة اليد يمنة ويسرة وهكذا ، ومن الطبيعي أنّه لا يتمكن أحد ولن يتمكن من إنكار ذلك الفرق بين هذه الحركات ، كيف حيث إنّ إنكاره بمثابة إنكار البديهي كالواحد نصف الاثنين ، والكل أعظم من الجزء وما شاكلهما ، ولو كانت الارادة علّةً تامّةً وكانت حركة العضلات معلولةً لها ، كان حالها عند وجودها حال

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٨٩ في الهامش.

٣٩٦

حركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق ونحوهما ، مع أنّ ذلك ـ مضافاً إلى أنّه خلاف الوجدان والضمير ـ خاطئ جداً ولا واقع له أبداً.

والسبب في ذلك : أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها لا يترتب عليها الفعل كترتب المعلول على علّته التامّة ، بل الفعل على الرغم من وجودها وتحققها كذلك يكون تحت اختيار النفس وسلطانها ، فلها أن تفعل ولها أن لا تفعل.

وإن شئت قلت : إنّه لا شبهة في سلطنة النفس على مملكة البدن وقواه الباطنة والظاهرة ، وتلك القوى بكافة أنواعها تحت تصرفها واختيارها. وعليه فبطبيعة الحال تنقاد حركة العضلات لها وهي مؤثرة فيها تمام التأثير من غير مزاحم لها في ذلك ، ولو كانت الارادة علّةً تامّةً لحركة العضلات ومؤثرةً فيها تمام التأثير لم تكن للنفس تلك السلطنة ولكانت عاجزةً عن التأثير فيها مع فرض وجودها ، وهو خاطئ وجداناً وبرهاناً.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ الارادة ـ مهما بلغت من القوّة والشدّة ـ لا تترتب عليها حركة العضلات كترتب المعلول على العلّة التامّة ، ليكون الانسان مقهوراً في حركاته وأفعاله.

وأمّا الثاني : فلأنّ الصفات التي توجد في افق النفس غير منحصرة بصفة الارادة ، بل لها صفات اخرى كصفة الخوف ونحوها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ صفة الخوف إذا حصلت في النفس تترتب عليها آثار قهراً وبغير اختيار وانقياد للنفس كارتعاش البدن واصفرار الوجه ونحوهما ، ومن المعلوم أنّ تلك الأفعال خارجة عن الاختيار ، حيث كان ترتبها عليها كترتب المعلول على العلّة التامّة ، فلو كانت الارادة أيضاً علّةً تامّةً لوجود الأفعال فإذن ما هو نقطة الفرق بين الأفعال المترتبة على صفة الارادة والأفعال المترتبة على صفة الخوف ، إذ على ضوء هذه النظريّة فهما في إطار واحد فلا

٣٩٧

فرق بينهما إلاّبالتسمية فحسب من دون واقع موضوعي لها أصلاً.

مع أنّ الفرق بين الطائفتين من الأفعال من الواضحات الأوّلية ، ومن هنا يحكم العقلاء باتصاف الطائفة الاولى بالحسن والقبح العقليين واستحقاق فاعلها المدح والذم ، دون الطائفة الثانية ، ومن الطبيعي أنّ هذا الفرق يرتكز على نقطة موضوعية ، وهي اختيارية الطائفة الاولى دون الطائفة الثانية ، لا على مجرد تسمية الاولى بالأفعال الاختيارية والثانية بالأفعال الاضطرارية ، مع عدم واقع موضوعي لها. ومن ذلك يظهر أنّ الارادة تستحيل أن تكون علّةً تامّةً للفعل.

ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين ، الأوّل : أنّنا إذا افترضنا شخصاً تردد بين طريقين : أحدهما مأمون من كل خطر على النفس والمال والعرض ، وفيه جميع متطلباته الحيويّة وما تشتهيه نفسه. والآخر غير مأمون من الخطر ، وفيه ما ينافي طبعه ولا يلائم إحدى قواه ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال تحدث في نفسه إرادة واشتياق إلى اختيار الطريق الأوّل واتخاذه مسلكاً له دون الطريق الثاني ، ولكن مع ذلك نرى بالوجدان أنّ اختياره هذا ليس قهراً عليه ، بل حسب اختياره وإعمال قدرته ، حيث إنّ له والحال هذه أن يختار الطريق الثاني.

الثاني : إذا فرضنا أنّ شخصاً سقط من شاهق ودار أمره بين أن يقع على ولده الأكبر المؤدّي إلى هلاكه ، وبين أن يقع على ولده الأصغر ، ولا يتمكن من التحفظ على نفس كليهما معاً ، فعندئذ بطبيعة الحال يختار سقوطه على ابنه الأصغر مثلاً من جهة شدّة علاقته بابنه الأكبر حيث انّه بلغ حدّ الرشد والكمال من جهة وارتضى سلوكه من جهة اخرى ، ومن البديهي أنّ اختياره السقوط على الأوّل ليس من جهة شوقه إلى هلاكه وموته وإرادته له ، بل هو يكره ذلك كراهة شديدة ومع ذلك يصدر منه هذا الفعل بالاختيار واعمال القدرة ، ولو

٣٩٨

كانت الارادة علّة تامّة للفعل لكان صدوره منه محالاً لعدم وجود علّته وهي الارادة ، ومن المعلوم استحالة تحقق المعلول بدون علّته.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ الارادة في أيّة مرتبة افترضت بحيث لا يتصور فوقها مرتبة اخرى لاتكون علّة تامّة للفعل ولاتوجب خروجه عن تحت سلطان الانسان واختياره.

الثاني : على فرض تسليم أنّ الارادة علّةً تامّة للفعل إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّ العلّة غير منحصرة بها ، بل له علّة اخرى أيضاً وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس ، ضرورة أنّها لو كانت منحصرة بها لكان وجوده محالاً عند عدمها ، وقد عرفت أنّ الأمر ليس كذلك.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره الفلاسفة (١) وجماعة من الاصوليين منهم شيخنا المحقق قدس‌سره (٢) من امتناع وجود الفعل عند عدم وجود الارادة خاطئ جداً.

ولعلّ السبب المبرّر لالتزامهم بذلك ـ أي بكون الارادة علّة تامّةً للفعل مع مخالفته للوجدان الصريح ومكابرته للعقل السليم ، واستلزامه التوالي الباطلة :

منها كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً ـ هو التزامهم بصورة موضوعية بقاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، حيث إنّهم قد عمّموا هذه القاعدة في كافة الممكنات بشتّى أنواعها وأشكالها ، ولم يفرّقوا بين الأفعال الارادية والمعاليل الطبيعية من هذه الناحية ، وقالوا سرّ عموم هذه القاعدة حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلّة. ومن الطبيعي أنّه لا فرق في ذلك بين ممكن وممكن آخر ، هذا

__________________

(١) لاحظ الأسفار ٦ : ٣٥١.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٢٨٥.

٣٩٩

من ناحية.

ومن ناحية اخرى : حيث إنّهم لم يجدوا في الصفات النفسانية صفة تصلح لأن تكون علّةً للفعل غير الارادة ، فلذلك التزموا بترتب الفعل عليها ترتب المعلول على العلّة التامّة.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ كل ممكن ما لم يجب وجوده من قبل وجود علّته يستحيل تحققه ووجوده في الخارج ، ومن هنا يقولون : إنّ كل ممكن محفوف بوجوبين : وجوب سابق وهو الوجوب في مرتبة وجود علّته ـ ووجوب لاحق ـ وهو الوجوب بشرط وجوده خارجاً.

ولنبحث هنا عن أمرين :

الأوّل : عن الفرق الأساسي بين المعاليل الطبيعية والأفعال الاختيارية.

الثاني : عدم جريان القاعدة المذكورة في الأفعال الاختيارية.

أمّا الأمر الأوّل : فقد سبق بشكل إجمالي (١) أنّ الأفعال الإرادية تمتاز عن المعاليل الطبيعية بنقطة واحدة ، وهي أنّها تحتاج في وجودها إلى فاعل ، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ )(٢) فأثبت ( عزّ من قائل ) بذلك احتياج الفعل إلى فاعل وخالق وبدونه محال ، والفاعل لهذه الأفعال هو نفس الانسان ، فانّها تصدر منها بالاختيار وإعمال القدرة والسلطنة ، وليس في إطارها حتم ووجوب ، فلها أن تشاء وتعمل ، ولها أنّ لا تشاء ولا تعمل ، فهذه المشيئة والسلطنة لا تتوقف على شيء آخر كالارادة ونحوها ، بل هي كامنة في صميم ذات النفس حيث إنّ الله تعالى خلق النفس

__________________

(١) في ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٢) الطور ٥٢ : ٣٥.

٤٠٠