محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

ومنها قوله تعالى : ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ )(١) حيث قد عرفت أنّ العبد لا يكون فاعلاً لفعل إلاّ أن يشاء الله تعالى حياته وقدرته ونحوهما ممّا يتوقف عليه فعله خارجاً ، وبدون ذلك لا يعقل كونه فاعلاً له ، وعليه فمن الطبيعي أنّ فعله في الغد يتوقف على تعلّق مشيئة الله تعالى بحياته وقدرته فيه ، وإلاّ استحال صدوره منه ، فالآية تشير إلى هذا المعنى.

ويحتمل أن يكون المراد من الآية معنى آخر ، وهو أنّكم لا تقولون لشيء سنفعل كذا وكذا غداً إلاّ أن يشأ الله خلافه ، فتكون جملة ( إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) مقولة القول ، ويعبّر عن هذا المعنى في لغة الفرس « اگر خدا بگذارد » ومرجع هذا المعنى إلى استقلال العبد وتفويضه في فعله إذا لم يشأ الله خلافه ، ولذا منعت الآية المباركة عن ذلك بقوله ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ) إلخ ، ولعل هذا المعنى أظهر من المعنى الأوّل كما لا يخفى.

ومنها قوله تعالى : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ )(٢) حيث قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية الكريمة لا تدل على الجبر ، بل تدل على واقع الأمر بين الأمرين ، بتقريب أنّ المشيئة الإلهية لو لم تتعلق بافاضة الحياة للانسان والقدرة له فلا يملك الانسان لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا يقدر على شيء ، بداهة أنّه لا حياة له عندئذ ولا قدرة كي يكون مالكاً وقادراً ، فملكه النفع أو الضر لنفسه يتوقف على تعلّق مشيئته تعالى بحياته وقدرته آناً فآناً ، ويدور مداره حدوثاً وبقاءً ، وبدونه فلا ملك له أصلاً ولا سلطان.

ومنها قوله تعالى : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٣) حيث قد أسندت

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) يونس ١٠ : ٤٩.

(٣) النحل ١٦ : ٩٣.

٤٤١

الآية الكريمة الضلالة والهداية إلى الله ( سبحانه وتعالى ) مع أنّهما من أفعال العباد ، وسرّه ما ذكرناه من أنّ أفعال العباد وإن لم تقع تحت مشيئة الباري ( عزّ وجلّ ) مباشرةً ، إلاّ أنّ مبادئ تلك الأفعال بيد مشيئته تعالى وتحت إرادته ، وقد تقدّم (١) أنّ هذه الجهة كافية لصحّة إسناد هذه الأفعال إليه تعالى حقيقةً من دون عناية ومجاز.

فالنتيجة : أنّ هذه الآيات وأمثالها تطابق نظريّة الأمر بين الأمرين ولا تخالفها. وتوهم أنّ أمثال تلك الآيات تدل على نظريّة الجبر خاطئ جداً ، فان هذا التوهم قد نشأ من عدم فهم معنى نظريّة الأمر بين الأمرين فهماً صحيحاً كاملاً ومطابقاً للواقع الموضوعي ، وأمّا بناءً على ما فسّرنا به هذه النظريّة فلا يبقى مجال لمثل هذا التخيل والتوهم أبداً.

ثمّ إنّه لا بأس بالاشارة في نهاية المطاف إلى نقطتين :

الاولى : أنّ الفخر الرازي قد أورد شبهةً على ضوء الهيئة القديمة وحاصلها : هو أنّ الله تعالى خلق الكائنات على ترتيب خاص وحلقات تصاعدية مخصوصة ، وهي أنّه تعالى خلق الكرة الأرضية وجعلها نقطة الدائرة ومركزاً لها ، ثمّ كرة الماء ، ثمّ كرة الهواء ، ثمّ كرة النار ، ثمّ الفلك الأوّل ، وهكذا إلى أنّ ينتهي إلى الفلك التاسع وهو فلك الأفلاك المسمّى بالفلك الأطلس ، وأمّا ما وراءه فلا خلأ ولا ملأ ولا يعلمه إلاّ الله ( سبحانه وتعالى ) ثمّ إنّه تعالى جعل لكل من تلك الكرات والأفلاك حركة خاصّة من القسرية والطبيعية ، فجعل حركة الشمس مثلاً من المشرق إلى المغرب ، ولم يجعلها من الشمال إلى الجنوب أو من المغرب

__________________

(١) في ص ٤٣٣.

٤٤٢

إلى المشرق ، وهكذا.

وبعد ذلك قال : إنّ للسائل أن يسأل عن أنّ الله تعالى لم لم يجعل العالم على شكل آخر وترتيب ثانٍ بأن يجعل حركة الشمس مثلاً من المغرب إلى المشرق ، وهكذا ، وبأيّ مرجح جعل العالم على الشكل الحالي دون غيره ، فيلزم الترجيح من دون المرجح وهو محال.

وحكى صدر المتألهين هذه الشبهة عنه في مشاعره (١) وأجاب عنها بعدّة وجوه.

ونقل شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) أنّ صدر المتألهين قد تعرّض لهذه الشبهة في شرح اصول الكافي ، ولكن لم يأت بالجواب عنها إلاّباللعن والشتم واعترف بأ نّه أتى بشبهة لا جواب لها.

وغير خفي أنّ إيراد الفخر هذه الشبهة على ضوء الهيئة القديمة لا من جهة ابتناء الشبهة عليها ، بل من ناحية أنّ أفكارهم عن العالم في ذلك العصر وتصوّرهم عنه كانت قائمة على أساس تلك الهيئة ، وإلاّ فالشبهة غير مختصة بها ، بل تجيء على ضوء الأفكار الجديدة عن العالم في العصر الحاضر أيضاً ، حيث إنّ للسائل أن يسأل عن أنّ الله تعالى لماذا جعل حركة الأرض حول الشمس دون العكس ، وهكذا.

ولنأخذ بالنقد في هذه الشبهة على ضوء كلتا النظريتين ، يعني : نظريتنا ونظريّة الفلاسفة.

أمّا على نظريّتنا ، فلأ نّها ساقطة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، والسبب في ذلك : هو أنّ الفعل الاختياري إنّما يفتقر في وجوده إلى إعمال قدرة الفاعل

__________________

(١) لاحظ شرح المشاعر : ٢٨٩.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٤٠.

٤٤٣

واختياره ، فمتى أعمل قدرته نحو إيجاده وجد وإلاّ فلا ، سواء أكان هناك مرجّح خارجي يقتضي وجوده أم لم يكن ، وهذا بخلاف المعلول فانّ صدوره عن العلّة إنّما هو في إطار قانون التناسب ، ويستحيل صدوره في خارج هذا الإطار ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا في بحث الوضع (١) أنّ الترجيح بلا مرجّح لم يكن قبيحاً فضلاً عن كونه مستحيلاً ، وذلك كما إذا تعلّق الغرض بصرف وجود الطبيعي في الخارج وافترضنا أنّ أفراده كانت متساوية الأقدام بالاضافة إليه ، فعندئذ اختيار أيّ فرد منها دون آخر لم يكن قبيحاً فضلاً عن كونه محالاً.

نعم ، اختيار فعل من دون تعلّق غرض به لا بشخصه ولا بنوعه لغو وقبيح ، لا أنّه محال.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ المشيئة الإلهية حيث تعلّقت بخلق العالم وإيجاده ، فاختياره تعالى هذا الشكل الخاص له والترتيب المخصوص المشتمل على الأنظمة الخاصّة المعيّنة من بين الأشكال المتعددة المفترض تساويها لا يكون قبيحاً فضلاً عن كونه محالاً.

على أنّ الترجيح بلا مرجّح لو كان قبيحاً لقلنا بطبيعة الحال بوجود المرجّح في اختياره ، وإلاّ استحال صدوره من الحكيم تعالى ، بداهة أنّه ليس بامكاننا نفي وجود المرجّح فيه ودعوى تساويه مع بقية الأفراد والأشكال ، وكيف كان فالشبهة واهية جداً.

وأمّا على نظريّة الفلاسفة ، فالأمر أيضاً كذلك ، والوجه فيه : أنّ صدور

__________________

(١) في ص ٣٤.

٤٤٤

المعلول عن العلّة وإن كان يحتاج إلى وجود مرجّح ، إلاّ أنّ المرجّح عبارة عن وجود التناسب بينهما ، وبدونه يستحيل صدوره منها. وعلى هذا الأساس لا محالة يكون وجود العالم بهذا الشكل والترتيب الخاص معلولاً لعلّة مناسبة له وإلاّ استحال وجوده كذلك.

وبكلمة اخرى : قد تقدّم (١) أنّ تأثير العلّة في المعلول على ضوء قانون التناسب بينهما ، وعليه فالتناسب الموجود بين العالم وعلّته لا يخلو من أن يكون موجوداً بين وجوده بهذا الشكل ووجود علّته أو يكون موجوداً بين وجوده بشكل آخر ووجود علّته ، ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل يجب وجوده بالشكل الحالي ويستحيل وجوده بشكل آخر ، وعلى الثاني عكس ذلك ، وحيث إنّ العالم قد وجد بهذا الشكل فنستكشف عن وجود المرجّح فيه لا في غيره.

الثانية : قد عرفت أنّ للفعل الصادر من العبد إسنادين حقيقيين :

أحدهما : إلى فاعله مباشرة.

وثانيهما : إلى معطي مقدّماته ومبادئه التي يتوقف الفعل عليها ، وهو الله ( سبحانه وتعالى ).

ولكن قد يكون إسناده إلى الله تعالى أولى في نظر العرف من إسناده إلى العبد ، وقد يكون بالعكس ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال : وهو أنّ من هيّأ جميع مقدّمات سفر شخص إلى زيارة بيت الله الحرام مثلاً من الزاد والراحلة ونحوهما وسعى له في إنجاز تمام مهماته وقد أنجزها حتّى أحضر له سيّارةً خاصّة أو طائرة فلم يبق إلاّ أن يركب فيها ويذهب بها إلى الحج ، فعندئذ إذا ركب فيها

__________________

(١) في ص ٤٠١.

٤٤٥

وذهب وأدى تمام المناسك ، فالعرف يرى أولوية إسناد هذا العمل إلى من هيّأ له المقدمات دون فاعله. وأمّا لو استغلّ هذا الشخص الطائرة وذهب بها إلى مكان لا يرضى الله ورسوله به وعمل ما عمل هناك ، فالفعل في نظر العرف مستند إلى فاعله مباشرةً دون من هيّأ المقدّمات له.

وكذلك الحال في أفعال العباد ، فان كافّة مبادئها من الحياة والقدرة ونحوهما تحت مشيئته تعالى وإرادته كما عرفت سابقاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى :

أنّ الله تعالى قد بيّن طريق الحق والباطل ، والهداية والضلال ، والسعادة والشقاوة ، وما يترتب عليهما من دخول الجنّة والنار بارسال الرسل وإنزال الكتب.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ الله تعالى يعطي تلك المبادئ والمقدّمات لهم ليصرفوها في سبل الخير وطرق الهداية والسعادة ويرتكبوا بها الأفعال الحسنة ، لا في سبل الشر وطرق الضلالة والشقاوة ، وعندئذ بطبيعة الحال الأفعال الصادرة منهم إن كانت حسنة ومصداقاً لسبل الخير وطرق الهداية لكان استنادها في نظر العرف إلى الله تعالى أولى من استنادها إليهم ، وإن كانت قبيحةً ومصداقاً لسبل الشرّ وطرق الضلالة ، لكان استنادها إليهم أولى من استنادها إليه ( سبحانه وتعالى ) وإن كان لا فرق بينهما في نظر العقل.

وعلى هذا نحمل ما ورد في بعض الروايات بهذا المضمون « إنِّي أولى بحسناتك من نفسك وأنت أولى بسيِّئاتك منّي » (١) فانّ النظر فيه إلى ما ذكرناه من التفاوت في نظر العرف دون النظر الدقي العقلي. وهذا لا ينافي ما حققناه من صحّة استناد العمل إلى الله تعالى وإلى فاعله المباشر حقيقةً.

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ١٦٠ ح ١٢.

٤٤٦

(٦)

نظريّة العلماء

مسألة العقاب

لا إشكال في صحّة عقاب العبد وحسنه على مخالفة المولى على ضوء نظريّتي الإمامية والمعتزلة ، حيث إنّ العقاب على ضوئهما عقاب على أمر اختياري ، ولا يكون عقاباً على أمر خارج عن الاختيار ليكون قبيحاً ، ومن الطبيعي أنّ العقل يستقل بحسن العقاب على أمر اختياري. وقد تقدّم أنّ العبد مختار في فعله في ضمن البحوث السالفة بشكل موسّع.

وأمّا على نظريّة الأشاعرة فيشكل عقاب العبيد على أفعالهم وكذلك على نظريّة الفلاسفة ، ضرورة أنّ العقاب على ضوء كلتا النظريتين عقاب على الأمر الخارج عن الاختيار ، ومن الطبيعي أنّ العقل قد استقلّ بقبح العقاب على ما هو الخارج عن الاختيار ، بل عندئذ لا فائدة لبعث الرسل وإنزال الكتب أصلاً ، حيث إنّ الكل بقضاء الله وقدره ، فما تعلّق قضاء الله بوجوده وجب وما تعلّق قضاء الله بعدمه امتنع ، فإذن ما فائدة الأمر والنهي. ومن هنا قد تصدّوا للجواب عن ذلك بوجوه.

الأوّل : ما عن صدر المتألهين وإليك نصّه : أمّا الأمر والنهي فوقوعهما أيضاً من القضاء والقدر ، وأمّا الثواب والعقاب فهما من لوازم الأفعال الواقعة بالقضاء ، فانّ الأغذية الرديئة كما أنّها أسباب للأمراض الجسمانية ، كذلك العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة أسباب للأمراض النفسانية ، وكذلك في جانب الثواب (١).

__________________

(١) الأسفار ٦ : ٣٨٦.

٤٤٧

وهذا الجواب غير مفيد ، والسبب في ذلك :

أوّلاً : أنّ الثواب والعقاب ليسا من لوازم أفعال العباد التي لا تنفك عنها ، بل هما فعلان اختياريان للمولى ، وإلاّ فلا معنى للشفاعة والغفران اللذين قد ثبتا بنص من الكتاب والسنّة.

وثانياً : أنّ أفعال العباد إذا كانت واقعة بقضاء الله تعالى فبطبيعة الحال هي خارجة عن اختيارهم ، ومن هنا قد صرّح بأنّ ما تعلّق به قضاء الله وجب ولا يعقل تخلّفه عنه. وعلى هذا فما فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي.

وبكلمة اخرى : بهذا الجواب وإن كان تدفع مسألة قبح العقاب على أمر خارج عن الاختيار ، حيث إنّ تلك المسألة تقوم على أساس أنّ العقاب فعل اختياري للمولى ، فعندئذ لا محالة يكون قبيحاً. وأمّا لو كان من لوازم الأفعال القبيحة والعقائد الفاسدة فلا يعقل قبحه ، إلاّ أنّه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب.

الثاني : ما عن أبي الحسن البصري (١) رئيس الأشاعرة والمجبّرة من أنّ الثواب والعقاب ليسا على فعل العبد الصادر منه في الخارج ، ليقال إنّه خارج عن اختياره ولا يستحق العقاب عليه ، بل إنّما هما على اكتساب العبد وكسبه بمقتضى الآية الكريمة ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٢).

وهذا الجواب لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، وذلك لأنّه إن أراد بالكسب

__________________

(١) كشف الفوائد ( مجموعة الرسائل للحلي ١ ) : ٦١.

(٢) غافر ٤٠ : ١٧.

٤٤٨

والاكتساب كون العبد محلاً للفعل كالجسم الذي يكون محلاً للسواد مثلاً تارةً وللبياض اخرى ، فيردّه : أنّه لا يعالج مشكلة العقاب على أمر غير اختياري ، ضرورة أنّ كونه محلاً له ككون الجسم محلاً للسواد أو البياض أمر خارج عن اختياره فلا يعقل عقابه عليه.

هذا ، مضافاً إلى اختلاف الفعل في الخارج فلا يكون على نسبة واحدة ، حيث قد يكون قيامه بالفاعل قيام صدور وإيجاد ، وقد يكون قيامه به قيام الحال بالمحل ، وهذا الجواب لو تمّ فانّما يتم في خصوص ما كان قيام الفعل به قيام الحال بالمحل لا مطلقاً.

وإن أراد بهما الفعل الصادر من العبد باختياره وإعمال قدرته ، فهو يناقض التزامه بالجبر وأنّ العبد لا اختيار له.

وإن أراد بهما شيئاً آخر يغاير الفعل الخارجي ، فهو مضافاً إلى أنّه خلاف الوجدان ، ضرورة أنّه ليس هنا شيء آخر يصدر من العبد خارجاً ما عدا فعله ، ننقل الكلام فيه ونقول : إنّه لا يخلو من أن يكون صدوره منه باختياره أو لا يكون باختياره.

وعلى الأوّل فلا موجب للتفرقة بينه وبين الفعل والالتزام بأ نّه اختياري دونه ، وذلك لأنّ مقتضى الأدلة المتقدمة أنّه لا اختيار للعبد وهو بمنزلة الآلة فكل ما يصدر منه في الخارج يصدر في الحقيقة بارادة الله تعالى ومشيئته ، سواء أسمي فعلاً أم كسباً ، وعليه فكما أنّ الالتزام بكون الفعل اختيارياً يناقض مذهبه ، فكذلك الحال في الكسب فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

وعلى الثاني فما هو المصحح للعقاب إذا كان الكسب كالفعل يصدر بغير اختيار للعبد.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّه لا وجه للاستشهاد على ذلك بالآية الكريمة ،

٤٤٩

لوضوح أنّ المراد من الكسب فيها هو العمل الخارجي لا شيء آخر في مقابله.

ومن هنا قد رتّب سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الجزاء والعقاب على العمل.

الثالث : ما عن الباقلاني (١) من أنّ الثواب والعقاب إنّما هما على عنوان الاطاعة والمعصية ، بدعوى أنّ الفعل الخارجي وإن كان يصدر من العبد بغير اختياره ، إلاّ أنّ جعله معنوناً بعنوان الاطاعة والمعصية بيده واختياره ، فإذن العقاب عليها ليس عقاباً على أمر غير اختياري.

وغير خفيّ أنّ الاطاعة والمعصية لا تخلوان من أن تكونا عنوانين انتزاعيين من مطابقة الفعل المأتي به في الخارج للمأمور به ومخالفته له ، أو تكونا أمرين متأصلين في الخارج.

وعلى الأوّل فلا مناص من الالتزام بعدم كونهما اختياريين ، بداهة أنّهما تابعان لمنشأ انتزاعهما ، وحيث فرض عدم اختياريته فبطبيعة الحال يكونان خارجين عن الاختيار ، فإذن عاد المحذور.

وعلى الثاني فيرد عليه أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان والضرورة ، بداهة أنّا لا نعقل شيئاً آخر في الخارج في مقابل الفعل الصادر من العبد المنتزع منه تارةً عنوان الاطاعة واخرى عنوان المعصية. وثانياً : أنّا ننقل الكلام إليهما ونقول أنّهما لايخلوان من أن يصدرا عن العبد بالاختيار أو يصدرا قهراً وبغير اختيار ، فعلى الأوّل يلزمهم أن يعترفوا بعدم الجبر واختيارية الأفعال ، ضرورة عدم الفرق بين فعل وآخر في ذلك ، فلو أمكن صدور فعل عنه بالاختيار لأمكن صدور غيره أيضاً كذلك ، فانّ الملاك فيه واحد. وعلى الثاني يعود المحذور.

__________________

(١) كشف الفوائد ( مجموعة الرسائل للحلي ١ ) : ٦١.

٤٥٠

الرابع : أنّ الأشاعرة (١) قد أنكرت التحسين والتقبيح العقليين وقالوا : إنّ القبيح ما قبّحه الشارع ، والحسن ما حسّنه الشارع ، ومع قطع النظر عن حكمه بذلك لا يدرك العقل حسن الأشياء ولا قبحها في نفسه ، وقد أقاموا على هذا الأساس دعويين :

الاولى : لا يتصور صدور الظلم من الله ( سبحانه وتعالى ) والسبب في ذلك :

أنّ الظلم عبارة عن التصرّف في ملك الغير بدون إذنه ، والمفروض أنّ العالم بعرضه العريض من العلوي والسفلي والدنيوي والاخروي ملك لله سبحانه وتحت سلطانه وتصرّفه ، ولا سلطان لغيره فيه ولا شريك له في ملكه ، ومن الطبيعي أنّ أيّ تصرّف صدر منه تعالى كان في ملكه فلا يكون مصداقاً للظلم ، وعلى هذا فلا محذور لعقابه تعالى العبيد على أفعاله غير الاختيارية ، بل ولا ظلم لو عاقب الله ( سبحانه وتعالى ) نبياً من أنبيائه وأدخله النار وأثاب شقياً من الأشقياء وأدخله الجنّة ، حيث إنّ له أن يتصرف في ملكه ما شاء ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون عمّا يفعلون.

فالنتيجة : أنّ انتفاء الظلم في أفعاله تعالى بانتفاء موضوعه ، وعلى هذا المعنى نحمل الآيات النافية للظلم عن ساحته ( تعالى وتقدّس ) كقوله ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ )(٢) ونحوه ، يعني أنّ سلب الظلم عنه لأجل عدم موضوعه واستحالة تحققه ، لا لأجل قبحه.

ومن ضوء هذا البيان يظهر وجه عدم اتصاف أفعال العباد بالظلم ، حيث إنّها أفعال لله تعالى حقيقة وتصدر منه واقعاً ، ولا شأن للعباد بالاضافة إليها في

__________________

(١) كشف الفوائد ( ضمن مجموعة الرسائل للحلي ١ ) : ٦٥.

(٢) فصّلت ٤١ : ٤٦.

٤٥١

مقابل شأنه تعالى ، ولا إرادة لهم في مقابل إرادته.

الثانية : أنّ الله ( سبحانه وتعالى ) هو الحاكم على الاطلاق ، فلا يتصور حاكم فوقه ، وعليه فلا يعقل أن يكون محكوماً بحكم عبيده ، ولا معنى لعدم تجويز الظلم عليه بحكم العقل ، فانّ مردّه إلى تعيين الوظيفة له تعالى وهو غير معقول.

ولنأخذ بالنقد على كلتا الدعويين :

أمّا الدعوى الاولى : فهي ساقطة جداً ، والسبب في ذلك : أنّ قضيّتي قبح الظلم وحسن العدل من القضايا الأوّلية التي يدركهما العقل البشري في ذاته ، ولا يتوقف إدراكه لهما على وجود شرع وشريعة ، وتكونان من القضايا التي هي قياساتها معها ، ولن يتمكن أحد ولا يتمكن من إنكارهما ، لا في أفعال الباري ( عزّ وجلّ ) ولا في أفعال عباده.

وأمّا ما ذكره الأشاعرة في وجه عدم اتصاف أفعاله تعالى بالظلم فهو خاطئ ، وذلك لأنّ حقيقة الظلم هي الاعوجاج في الطريق والخروج منه يمنةً ويسرةً ، وعدم الاستقامة في العمل ، وهو المعبّر عنه بجعل الشيء في غير موضعه ، كما أنّ حقيقة العدل عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع وعدم الخروج منها يمنةً تارةً ويسرةً اخرى ، وهو المعبّر عنه بوضع كل شيء في موضعه ، وبطبيعة الحال أنّ صدق الظلم بهذا التفسير لا يتوقف على كون التصرف تصرفاً في ملك الغير وسلطانه. ومن هنا لو قصّر أحد في حفظ نفسه يقال إنّه ظلم نفسه ، مع أنّ نفسه غير مملوكة لغيره ، كما أنّه لو وضع ماله في غير موضعه عدّ ذلك ظلماً منه. وعلى ضوء هذا التفسير لو أثاب المولى عبده العاصي وعاقب عبده المطيع عدّ ذلك منه ظلماً ووضعاً لهما في غير محلّهما ، وإن كان التصرف تصرفاً في ملكه وسلطانه.

وعلى الجملة : كما أنّ العقل يدرك أنّ مؤاخذة المولى عبده على العمل

٤٥٢

الصادر منه قهراً وبغير اختيار ظلم منه ووضع في غير موضعه ، وإن كان الملك ملك نفسه والتصرف تصرفاً في سلطانه ، كذلك يدرك أنّ مؤاخذة المطيع وإثابة العاصي ظلم.

فالنتيجة : أنّ الظلم لا ينحصر بالتصرف في ملك غيره. نعم ، عنوان الغصب لا يتحقق في فعله تعالى ، حيث إنّه عبارة عن التصرف في ملك الغير من دون إذنه ورضاه ، وقد عرفت أنّ العالم وما فيه ملك له تعالى.

ونزيد على هذا : أنّ إنكار التحسين والتقبيح العقليين يستلزم سدّ باب إثبات النبوّة وهدم أساس الشرائع والأديان ، والوجه في ذلك : هو أنّ إثبات النبوّة يرتكز على إدراك العقل قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب في دعوى النبوة ، وإذا افترضنا أنّ العقل لا يدرك قبح ذلك وأ نّه لا مانع في نظره من أنّ الله ( سبحانه وتعالى ) يعطي المعجزة بيد الكاذب ، فإذن ما هو الدليل القاطع على كونه نبياً وما هو الدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته. ومن الطبيعي أنّه لا دافع له ولا مبرّر إلاّ إدراك العقل قبح ذلك.

ومن ذلك يظهر أنّ الأشاعرة لا يتمكنون ولن يتمكنوا من إثبات مسألة النبوة على ضوء مذهبهم.

هذا ، مضافاً إلى أنّ عقاب المطيع لو كان جائزاً ولم يكن قبيحاً من الله سبحانه لزم كون إرسال الرسل وإنزال الكتب لغواً ، فانّهما لدعوة الناس إلى الاطاعة والثواب وتبعيدهم عن المعصية والعقاب ، وإذا افترضنا أنّ كلاً من المطيع والعاصي يحتمل العقاب على فعله كما يحتمل الثواب عليه ، فلا داعي له إلى الاطاعة ، لجواز أن يثيب ( سبحانه وتعالى ) العاصي ويعاقب المطيع.

ودعوى أنّ عادة الله تعالى قد جرت على إظهار المعجزة بيد الصادق دون الكاذب ، خاطئة جداً.

٤٥٣

أمّا أوّلاً : فلأ نّه لا طريق لنا إلى إثبات هذه الدعوى إلاّمن طريق إدراك العقل ، وذلك لأنّها ليست من الامور المحسوسة القابلة للادراك بإحدى القوى الظاهرة ، ولكن إذا عزلنا العقل عن حكمه وأ نّه لا يدرك الحسن والقبح فما هو المبرّر لها والحاكم بها وكيف يمكن تصديقها والعلم بثبوتها له تعالى.

وأمّا ثانياً : فلأنّ إثبات هذه العادة له تعالى تتوقف على تصديق نبوّة الأنبياء السابقين الذين أظهروا المعجزة وجاؤوا بها ، وأمّا من أنكر نبوّتهم أو أظهر الشك فيها فكيف يمكن حصول العلم له بثبوت هذه العادة.

وبكلمة اخرى : العادة إنّما تحصل بالتكرار وتعاقب الوجود ، وعليه فننقل الكلام إلى أوّل نبي يدّعي النبوّة ويظهر المعجزة ، فكيف يمكن تصديقه في دعواها ، وما هو الطريق لذلك والدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته بعد عدم إدراك العقل قبح إظهار المعجزة بيد الكاذب من ناحية ، وعدم ثبوت العادة المفروضة من ناحية اخرى.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا طريق إلى إثبات نبوّة مَن يدّعيها إلاّ إدراك العقل قبح إظهاره تعالى المعجزة بيد الكاذب ، ولولاه لا نسدّ باب إثبات النبوة.

وأمّا ثالثاً : فلأ نّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ عادة الله تعالى قد جرت على ذلك ، ولكن ما هو المانع من تغيير هذه العادة وما هو الدافع لهذا الاحتمال ، ومن الطبيعي أنّه لا دافع له إلاّ إدراك العقل قبح ذلك ، وإذا افترضنا أنّ العقل لا يدرك قبحه ولا مانع عنده من هذا التغيير ، فإذن ما هو الدافع له؟

ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان دعوى جريان عادته تعالى على مؤاخذة العاصي وإثابة المطيع أيضاً ، بعين ما قدّمناه فلا نعيد.

وتوهم أنّ إثابة المطيع ومؤاخذة العاصي مستندة إلى وعده تعالى ووعيده

٤٥٤

في كتابه الكريم من الحسنات والسيِّئات ، والدخول في الجنّة والنار ، والحور والقصور ، والويل والعذاب وما شاكل ذلك من ألوان الثواب والعقاب خاطئ جداً والسبب في ذلك : أنّه لا يمكن الوثوق بوعده تعالى ووعيده بعد الالتزام بعدم إدراك العقل قبح الكذب وخلف الوعد عليه سبحانه.

فالنتيجة : أنّ في عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح وتجويز ارتكاب الظلم على الله تعالى القضاء الحاسم على أساس كافّة الشرائع والأديان.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأ نّها نشأت من الخلط بين حكم العقل العملي وحكم العقل النظري ، وذلك لأنّ الله تعالى لا يعقل أن يكون محكوماً بحكم العقل العملي ، وهو حكم العقلاء باستحقاقه تعالى المدح تارةً والذم اخرى على الفعل الصادر منه في الخارج ، بداهة أنّه لايتصور أن يحكم عليه سبحانه عبيده.

وأمّا العقل النظري ، فهو كما يدرك وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته التي هي من لوازم علمه وقدرته ، كذلك يدرك قبح ارتكابه سبحانه الظلم واستحالة صدوره منه ، كيف حيث إنّه منافٍ لحكمته ، ومن الطبيعي أنّ ما ينافي لها يستحيل صدوره من الحكيم تعالى ، والسبب في ذلك : أنّ صدور الظلم من شخص معلول لأحد امور : الجهل ، التشفي ، العجز ، الخوف ، وجميع ذلك مستحيل في حقّه تعالى.

وكيف كان ، فادراك العقل استحالة صدور الظلم منه سبحانه وقبحه من القضايا الأوّلية التي هي قياساتها معها. ومن هنا لولا إدراك العقل قبح الظلم لاختلت كافّة الأنظمة البشرية المادية والمعنوية.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ أفعال الله تعالى لا تتصف بالقبح ، وأنّ كل ما يصدر منه سبحانه حسن ، إلاّ أنّه لاينبغي الشك في أنّ العقلاء يعاقبون عبيدهم على مخالفتهم ويثيبون على إطاعتهم ، كما أنّهم يمدحون الفاعل على فعل

٤٥٥

ويذمونه على فعل آخر ، وهكذا ، ولو كانت الأفعال الصادرة منهم غير اختيارية كما هو مختار الأشاعرة ومذهب الفلاسفة ، فلا معنى لاستحقاقهم المدح والثواب عليها تارةً ، والذم والعقاب اخرى. ومن هنا لايستحقّون ذلك على الفعل الصادر منهم بغير اختيار ، وأ نّهم يفرّقون بين الأفعال الاختيارية وغيرها ، فلو كانت الأفعال بشتّى أنواعها وأشكالها غير اختيارية ، فما هو سبب هذه التفرقة وحكمهم باستحقاق المدح أو الذم في بعضها دون بعضها الآخر. ومن الطبيعي أنّ كل ذلك يكشف بصورة قاطعة عن بطلان نظريّة الجبر وصحّة نظريّة الاختيار.

الخامس : ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نصّه : العقاب إنّما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللاّزمة لخصوص ذاتهما ، فانّ السعيد سعيد في بطن امّه ، والشقي شقي في بطن امّه ، والناس معادن كمعان الذهب والفضّة كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع السؤال أنّه لم جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً ، فانّ السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنّما أوجدهما الله تعالى ، قلم إينجا رسيد سر بشكست (١).

وملخّص كلامه قدس‌سره هو أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي حتّى يلزم المحذور المتقدم ، بل هو من لوازم الأعمال السيِّئة التي لا تنفك عنها ، فان نسبة العقاب إلى العمل كنسبة الثمر إلى البذر ، ومن الطبيعي أنّ البذر إذا كان صحيحاً كان نتاجه صحيحاً ، وإذا كان فاسداً كان نتاجه فاسداً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ تلك الأعمال تنتهي بالأخرة إلى الشقاوة التي هي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٨.

٤٥٦

ذاتية للانسان والذاتي لا يعلل.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا إشكال لا من جانب العقاب حيث إنّه من لوازم الأعمال وآثارها ، ولا من جانب تلك الأعمال حيث إنّها تنتهي في نهاية المطاف إلى الذات.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظريّة :

أوّلاً : أنّها مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنّة ، حيث إنّ لازمها عدم إمكان العفو بالشفاعة ونحوها ، مع أنّهما قد نصتا على ذلك وأنّ العقاب بيده تعالى وله أن يعاقب وله أن يعفو ، فهو فعل اختياري له سبحانه. وعلى الجملة :

فلا ينبغي الشك في بطلان هذه النظريّة على ضوء الكتاب والسنّة.

وثانياً : أنّها لاتحل مشكلة العقاب على أمر غير اختياري فتبقى تلك المشكلة على حالها ، بل هي تؤكّدها كما هو واضح. نعم ، لو كان مراده قدس‌سره من تبعية العقاب للكفر والعصيان التبعية على نحو الاقتضاء ، فلا إشكال فيها من الناحية الاولى ولاتكون مخالفة للكتاب والسنّة ، فيبقى الاشكال فيها من الناحية الثانية وهي أنّ الأعمال إذا كانت غير اختيارية فكيف يعقل العقاب عليها (١).

__________________

(١) لا بأس بالتعرض لما أفادة المحقق صحاب الكفاية قدس‌سره في المقام ونقده بشكل موسع ، وإليك نص قوله : واما الدفع : فهو أن استحالة التخلف إنما تكون في الادارة التكوينية وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الارادة التشريعة وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف ، وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الارادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا تواقفنا فلا بد من الاطاعة والايمان ، وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.

٤٥٧

______________________________________________________

إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان بارادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد فلا يصح أن يتعلق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً.

قلت : إنّما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الارادة بها مسبوقةً بمقدّماتها الاختيارية وإلاّ فلا بدّ من صدورها بالاختيار ، وإلاّ لزم تخلّف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

إن قلت : إنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بارادتهما إلاّ أنّهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار ، كيف وقد سبقهما الارادة الأزلية والمشيئة الإلهية ، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار.

قلت : العقاب إنّما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللاّزمة لخصوص ذاتهما ، فانّ السعيد سعيد في بطن امّه ، والشقي شقي في بطن امّه ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع سؤال إنّه لم جعل السعيد سعيداً ، والشقي شقياً ، فانّ السعيد سعيد بنفسه ، والشقي شقي كذلك ، وإنّما أوجدهما الله تعالى (١).

نلخّص كلامه ١ في عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الارادة التكوينية علّة تامّة للفعل ويستحيل تخلفها عنه.

الثانية : أنّ إرادة العبد تنتهي إلى الارادة الأزلية بقانون أنّ كل ما بالغير ينتهي بالأخرة إلى ما بالذات.

الثالثة : أنّ إرادته تعالى من الصفات العليا الذاتية كالعلم والقدرة وما شاكلهما.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٧.

٤٥٨

..........

______________________________________________________

الرابعة : أنّ الشقاوة والسعادة صفتان ذاتيتان للانسان.

الخامسة : أنّ منشأ العقاب والثواب إنّما هو الشقاوة والسعادة الذاتيتان اللازمتان للذات.

أمّا النقطة الاولى والثانية والثالثة : فقد تقدّم الكلام فيها في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من دون حاجة إلى الاعادة.

وأمّا النقطة الرابعة : فان أراد بالذاتي الذاتي في باب الكلّيات أعني الجنس والفصل فهو واضح الفساد ، بداهة أنّ السعادة والشقاوة ليستا جنسين للانسان ولا فصلين له ، وإلاّ لكانت حقيقة الانسان السعيد مباينة لحقيقة الانسان الشقي وهو كما ترى ، فعندئذ لا محالة يكون مراده منه الذاتي في باب البرهان ، وعليه فنقول :

إن أراد به الذاتي بمعنى العلّة التامّة ، يعني أنّ شقاوة الشقي علّة تامّة لاختياره الكفر والعصيان ، وسعادة السعيد علّة تامّة لاختياره الايمان والاطاعة ، فيردّه :

البرهان والوجدان من ناحية ، والكتاب والسنّة من ناحية اخرى.

أمّا الأوّل : فمضافاً إلى ما تقدّم في ضمن البحوث السالفة بصورة مفصّلة من نقد نظريّة الجبر وإثبات الاختيار ، أنّ الشقاوة والسعادة لو كانتا كذلك لزم هدم أساس كافّة الشرائع والأديان وأصبح كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً محضاً ، فلا تترتّب عليه أيّة فائدة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : لزم من ذلك هدم أساس التحسين والتقبيح العقليين اللذين قد التزم بهما العقلاء لحفظ نظم حياتهم المادية والمعنوية وإبقاء نوعهم. فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا يمكن الالتزام بذلك.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوجدان حاكم بالاختيار ، وأ نّه ليس في كمون ذات الانسان ما

٤٥٩

..........

______________________________________________________

يجبره على اختيار الكفر والعصيان مرّةً ، واختيار الايمان والاطاعة مرّةً اخرى.

وأضف إلى ذلك : أنّ في المشاهد والمحسوس الخارجي القضاء الحاسم على تلك الدعوى ، حيث إنّنا نرى شخصاً واحداً كان شقياً في أوّل عمره وصار سعيداً في آخره أو بالعكس ، فلو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين فكيف يعقل تغييرهما ، لاستحالة تغيير الذاتي وانقلابه.

وأمّا الكتاب : فمضافاً إلى أنّه بنفسه شاهد صدق على بطلان هذه الفرضية ، فقد دلّت عدّة من الآيات الكريمة على نظريّة الاختيار والأمر بين الأمرين ، وبطلان نظريّة الجبر ، وأنّ الأعمال الصادرة عن الانسان تصدر بالاختيار ، لا بالقهر والجبر ، كما تقدّم التكلم في جملة منها في ضمن البحوث السابقة ، ولو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين له بالمعنى المتقدم لكان مقهوراً في أعماله ومجبوراً فيها.

وأمّا السنّة : فقد نصّت الروايات المتواترة على خطأ نظريّتي الجبر والتفويض ، وإثبات نظريّة الاختيار والأمر بين الأمرين ، ومن الطبيعي أنّ فيها القضاء المبرم على هذه الفرضية. وأضف إلى ذلك : أنّ هاتين الصفتين لو كانتا ذاتيتين بالمعنى المزبور لكان الأمر بالدعاء وطلب التوفيق من الله تعالى ، وحسن العاقبة ، وأن يجعل تعالى الشقي سعيداً ، لغواً محضاً وكان مجرّد لقلقة اللسان ، بداهة استحالة انقلاب الذاتي وتغييره عمّا يقتضيه. إذن في نفس هذه الأدعية شاهد صدق على بطلانها.

فالنتيجة : أنّ الذاتي بهذا المعنى غير معقول.

وإن أراد بالذاتي الذاتي بمعنى الاقتضاء ، فهو وإن كان أمراً ممكناً في نفسه ، وليس فيه القضاء الحاسم على أساس كافّة النظم الانسانية : المادية والمعنوية ، السماوية وغيرها ، وكما ليس على خلافه حكم العقل والوجدان ، إلاّ أنّ المستفاد من بعض الأدعية أنّهما ليستا بذاتيتين بهذا المعنى أيضاً ، وذلك لما ورد فيها من أنّ الشقي يطلب

٤٦٠