محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

ولشيخنا الاستاذ ( قدس سرّه ) (١) في المقام كلام : وهو أنّ ما يكون المبدأ فيه منتزعاً عن مقام الذات ولا يحاذيه شيء في الخارج وكان من الخارج المحمول كالعلّة والمعلول والممكن وما يقابلانه من الواجب والممتنع خارج عن محل البحث ، بتقريب أنّ في أمثال هذه العناوين لا يعقل بقاء الذات وزوال التلبّس فتكون كالعناوين الذاتية ، فإنّ الامكان مثلاً منتزع عن مقام ذات الممكن وهو الانسان ، لا عن أمر خارج عن مقام ذاته وإلاّ فلازمه أن يكون الممكن في مرتبة ذاته خالياً عن الإمكان ولا يكون متّصفاً به ، وحينئذٍ لزم انقلاب الممكن إلى الواجب أو الممتنع ، لاستحالة خلوّ شيء عن أحد المواد الثلاثة.

أو فقل : إنّ المواد الثلاثة أعني بها الوجوب والإمكان والامتناع ، وإن كانت خارجة عن ذات الشيء وذاتياته ، لأنّها نسبة إلى وجود الشيء الخارج عن مقام ذاته ، إلاّ أنّها منتزعة عن ذلك المقام ، فلا تعقل أن تخلو ماهية من الماهيات عن إحدى هذه المواد الثلاث في حال من الأحوال ، وهكذا العلية والمعلولية ، فانّهما وإن كانتا خارجتين عن مقام ذات العلّة وذات المعلول ، إلاّ أنّهما منتزعتان عن نفس ذاتهما لا عن خارج مقام الذات ، فلا يعقل زوال المادة مع بقاء الذات وإلاّ للزم اتصاف ذات العلّة وذات المعلول بغيرهما ، وهو كما ترى.

ولكن بالتأمل فيما ذكرناه يظهر الجواب عنه ، وذلك لأنّ البحث في المشتق كما أشرنا إليه آنفاً إنّما هو في وضع الهيئة فقط بلا اختصاص لها بمادة دون مادة ، لما تقدّم سابقاً من أنّ وضع الهيئات نوعي لا شخصي ، مثلاً هيئة ( فاعل ) وضعت لمعنى ، وهيئة ( مفعول ) وضعت لمعنى ، وزنة ( مفعل ) وهي : اسم فاعل من باب الإفعال وضعت لمعنى وهكذا ، ومن الواضح أنّ عدم جريان النزاع في بعض أفراد الهيئة من جهة عدم إمكان بقاء الذات فيها مع زوال المبدأ لا يوجب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٨.

٢٦١

عدم جريانه في كلّي الهيئة التي تعم ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ ، ولا يكون البحث حينئذ من سعة مفهوم هذه الهيئة وضيقه لغواً بعد ما كانت الذات باقية حال الانقضاء في جملة من المواد ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ النزاع في وضع هيئة ( مفعل ) وهيئة ( فاعل ) وهيئة ( مفعول ) ولا ريب أنّ هذه الهيئات لاتختص بالمواد التي لايعقل فيها بقاء الذات مع زوالها كالممكن والواجب والممتنع والعلة والمعلول وما شاكل ذلك لئلاّ يجري النزاع فيها ، بل تعم ما يمكن فيه بقاء الذات مع زوال التلبّس وانقضاء المبدأ عنها كالمقيم والمنعم والقائم والضارب والمملوك والمقدور وأشباه ذلك ، ومن المعلوم أنّ عدم جريان النزاع في بعض الأفراد والمصاديق لايوجب لغوية النزاع عن الكلي بعد ما كانت الذات في أكثر مصاديقه قابلة للبقاء مع زوال المادة.

نعم ، لو كانت الهيئة في مثل لفظ الممكن وما يقابلانه موضوعة بوضع على حدة ، لكان لما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره مجال واسع ، وكان البحث عن سعة مفهومهما وضيقه حينئذ لغواً محضاً ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ الهيئة فيها موضوعة في ضمن وضع لفظ جامع بينها وبين غيرها بوضع نوعي وهو هيئة مفعل مثلاً.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره فيه خلط بين جريان النزاع في الهيئات الخاصّة والهيئات العامّة التي لا يختص وضعها بمادة.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين أنّ الخارج عن البحث أمران :

أحدهما : العناوين الذاتية.

وثانيهما : الأفعال والمصادر.

ثمّ إنّه قد يشكل في دخول هيئة اسم الزمان في محل النزاع باعتبار أنّها فاقدة للركن الثاني الذي قد مرّ اعتباره في دخول شيء في محل البحث وهو

٢٦٢

بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها ، لأنّ الذات فيه وهي الزمان من الامور المتقضية والمتصرمة في الوجود آناً فآناً ، فلا يعقل بقاؤها فيه مع زوال المبدأ عنها ليكون داخلاً في موضع النزاع ، وأمّا إطلاق اسم الزمان في بعض الموارد كاطلاق مقتل الحسين عليه‌السلام على اليوم العاشر من المحرّم في كل عام ، فهو من باب التجوز والعناية بلا إشكال.

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نصّه : ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عام بفرد كما في المقام لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بازاء الفرد دون العام ، وإلاّ لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة ، مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى (١).

وتوضيحه : أنّ انحصار مفهوم كلّي في فردين : أحدهما ممكن والآخر ممتنع لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلي ليضطر إلى وضعه للفرد الممكن ، فانّه يمكن ملاحظة المعنى الجامع بين الفردين ووضع اللفظ

له ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد لا يوجب وضعه له ، بل يمكن ملاحظة المفهوم العام ووضع اللفظ بازائه ، غاية الأمر انحصاره في الخارج في فرد واحد وهو الزمان المتلبس بالمبدأ بالفعل ، وامتناع تحقق فرده الآخر وهو الزمان المنقضي عنه المبدأ ، ولا مانع من وضع لفظ للجامع بين الفرد الممكن والمستحيل أصلاً ، وكم له من نظير.

ومن هنا وقع النزاع في وضع لفظ الجلالة « الله » وأ نّه اسم للجامع أو علم لذاته المقدّسة ، فلو لم يمكن الوضع للكلي بين الممكن والممتنع ، لم يصحّ النزاع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠.

٢٦٣

فيه ، بل كان المتعيّن أنّه علم لا اسم جنس ، إذ لو كان من قبيل الثاني لكان الوضع لا محالة للمعنى الجامع ، مع أنّ بقية أفراده غير ذاته المقدسة ممتنعة ، بل قال قدس‌سره إنّ ذلك واقع في كلمة الواجب ، فانّها موضوعة للمعنى الجامع مع استحالة سائر أفراده غير ذاته تعالى.

ولا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّه لا مانع من وضع لفظ للمعنى الجامع بين الفرد الممكن والممتنع صحيح ، بل إنّه لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد الممتنع ، كوضع لفظ بسيط للحصّة المستحيلة من الدور أو التسلسل أو لمفهوم اجتماع النقيضين ، فضلاً عن الوضع للجامع بين ما يمكن وما يستحيل ، كما هو الحال في لفظ الدور والتسلسل والاجتماع وما شاكل ذلك ، فانّ الجميع وضع للمفهوم العام مع امتناع بعض أفراده في الخارج كاجتماع النقيضين والضدّين ، وتوقف العلّة على المعلول المتوقف على علّته فانّه دور مستحيل ، والتسلسل فيما لا يتناهى ، وكثير من أفرادها ممكنة في الخارج كدور الشيء حول نفسه والتسلسل فيما يتناهى وغيرهما.

وعلى الجملة : فلا شبهة في إمكان هذا الوضع على جميع المسالك في تفسيره وهذا واضح ، ولكن وقوع مثل هذا الوضع متوقف على تعلّق الحاجة بتفهيم الجامع المزبور ، وذلك لأنّ الغرض من الوضع التفهيم والتفهم في المعاني التي تتعلّق الحاجة بابرازها كما في الأمثلة المذكورة ، فانّ الحاجة كثيراً ما تتعلق باستعمال تلك الألفاظ في الجامع ، بل تطلق كثيراً ويراد منها خصوص الفرد المستحيل والحصّة الممتنعة. وأمّا إذا لم تتعلق الحاجة بذلك كان الوضع له لغواً ، فلا يصدر عن الواضع الحكيم ، ولمّا لم تكن حاجة متعلقة باستعمال اسم الزمان في الجامع بين الزمان المنقضي عنه المبدأ والزمان المتلبس به فعلاً ، كان الوضع له لغواً ، إذن يخرج عن مورد النزاع.

٢٦٤

ومن هنا يظهر فساد قياس المقام باسم الجلالة الذي وقع الخلاف في أنّه علم لذاته المقدّسة أو اسم جنس ، وذلك لأنّ الحاجة تتعلق باستعمال لفظ الجلالة في الجامع في مسألة البحث عن التوحيد وغيره. وهذا بخلاف اسم الزمان ، فانّ الحاجة لا تتعلق باستعمال اللفظ في الجامع بين المنقضي والمتلبس ، إذن كان وضع اللفظ بازائه لغواً.

وأمّا تمثيله لما وضع للجامع مع استحالة بعض أفراده بلفظ الواجب فهو غريب ، وذلك لأنّ الواجب بمعنى الثابت ، وهو مفهوم جامع بين الواجب تعالى وغيره ، فانّه يصدق على كل موجود ، فان كل موجود واجب لا محالة. نعم إنّه تعالى واجب لذاته وغيره واجب بارادته ، والواجب لذاته وإن كان منحصراً بالله تعالى إلاّ أنّ هذه الجملة لم توضع بوضع واحد ليكون من الوضع للعام مع انحصار فرده في واحد.

وعلى الجملة : فلفظ الواجب مرادف لكلمة الثابت ، فهو يصدق على الامور التكوينية والتشريعية ، وبزيادة كلمة الوجود إليه يعم جميع الموجودات من الواجب لذاته وبغيره ، وبزيادة كلمة لذاته ينحصر بالله سبحانه فلا يشمل غيره ، إلاّ أنّ ذلك أجنبي عن وضع لفظ بازاء جامع ينحصر بفرد ، فانّ الانحصار فيه من ضم مفهوم إلى مفاهيم اخر ومن باب تعدد المدلول بتعدد الدال.

والتحقيق في المقام : أنّ أسماء الأزمنة لم توضع بوضع على حدة في قبال أسماء الأمكنة ، بل الهيئة المشتركة بينهما وهي هيئة « مفعل » وضعت بوضع واحد لمعنى واحد كلّي ، وهو ظرف وقوع الفعل في الخارج ، أعم من أن يكون زماناً أو مكاناً ، وقد سبق أنّ النزاع إنّما هو في وضع الهيئة بلا نظر إلى مادة دون مادة ، فإذا لم يعقل بقاء الذات في مادة مع زوالها لم يوجب ذلك عدم جريان النزاع في الهيئة نفسها التي هي مشتركة بين ما يعقل فيه بقاء الذات مع

٢٦٥

انقضاء المبدأ عنها وما لايعقل فيه ذلك ، وحيث إنّ الهيئة في محل البحث وضعت لوعاء المبدأ الجامع بين الزمان والمكان ، كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبس أو الأعم نزاعاً معقولاً ، غاية الأمر أنّ الذات إذا كانت زماناً لم يعقل بقاؤها مع زوال التلبّس عن المبدأ ، وإذا كانت مكاناً يعقل فيه ذلك ، وقد عرفت أنّه لا مانع من وضع اللفظ للجامع بين الفرد الممكن والممتنع إذا تعلقت الحاجة بتفهيمه.

نعم ، لو كانت هيئة اسم الزمان موضوعة بوضع على حدة لخصوص الزمان الذي وقع فيه الفعل ، لم يكن مناص من الالتزام إلاّبخروج اسم الزمان عن النزاع.

الأمر الثاني : قد سبق أنّ المصادر المزيد فيها ، بل المصادر المجردة والأفعال جميعاً ، خارجة عن محل النزاع ، لأنّها غير جارية على الذوات.

أمّا المصادر ، فلأ نّها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجاً فلا تقبل الحمل عليها.

وأمّا الأفعال ، فلأ نّها وضعت للدلالة على نسبة المادة إلى الذات على أنحائها المختلفة باختلاف الأفعال ، فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدأ إلى الذات ، والفعل المضارع يدل على ترقب وقوع تلك النسبة ، وفعل الأمر يدل على طلب تلك النسبة ، ومن المعلوم أنّ معانيها هذه تأبى عن الحمل على الذوات.

ثمّ إنّ المشهور بين النحويين دلالة الأفعال على الزمان وقالوا : إنّ الفعل الماضي يدل على تحقق المبدأ في الزمن السابق على التكلم ، والمضارع يدل على تحققه في الزمن المستقبل أو الحال ، وصيغة الأمر تدل على الطلب في الزمان الحال ، ومن هنا قد زادوا في حدّ الفعل الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة ، دون الاسم والحرف.

٢٦٦

ولكن الصحيح عدم دلالته على الزمان ، والوجه في ذلك : هو أنّ كون الزمان جزءاً لمدلول الأفعال باطل يقيناً ، لأنّها لا تدل عليه لا مادة ولا هيئة ، أمّا بحسب المادة فظاهر ، لأنّها لا تدل إلاّعلى نفس الطبيعة المهملة غير مأخوذة فيها أيّة خصوصية فضلاً عن الزمان ، وأمّا بحسب الهيئة ، فقد تقدّم أنّ مفادها نسبة المادة إلى الذات على نحو من أنحاء النسبة ، فالزمان أجنبي عن مفاد الفعل مادة وهيئة.

والحاصل : أنّ احتمال كون الزمان جزءاً لمدلول الفعل فاسد في نفسه ، والقائلون بدلالته على الزمان لم يريدوا ذلك يقيناً.

وأمّا احتمال كون الزمان قيداً لمداليل الأفعال بأن يكون معنى الفعل مقيداً به على نحو يكون القيد خارجاً عنه والتقيد به داخلاً ، فهو وإن كان أمراً ممكناً في نفسه ، إلاّ أنّه غير واقع ، وذلك لأنّ دلالة الأفعال عليه لا بدّ أن تستند إلى أحد أمرين : إمّا إلى وضع المادة أو إلى وضع الهيئة ، ومن الواضح أنّ المادة وضعت للدلالة على نفس طبيعي الحدث اللاّ بشرط ، والهيئة وضعت للدلالة على تلبّس الذات به بنحو من أنحائه كما عرفت ، وشيء منهما لا يدل عليه.

وممّا يدلّنا على ذلك : ما نرى من صحّة إسناد الأفعال إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات الخالية عن الزمان والخارجة عن دائرته من دون لحاظ عناية في البين ، فلا فرق بين قولنا ( علم الله ) و ( علم زيد ) و ( أراد الله ) و ( أراد زيد ) و ( مضى الزمان ) و ( مضى الأمر الفلاني ) فالفعل في جميع هذه الأمثلة استعمل في معنى واحد وعلى نسق فارد ، فلو كان الزمان مأخوذاً فيه قيداً لم يصح إسناده إلى نفس الزمان بلا لحاظ تجريد ، فانّ الزمان لا يقع في الزمان وإلاّ لدار أو تسلسل ، وكذا لم يصح إسناده إلى ما فوق الزمان من المجردات ، إذ أفعالها لا تقع في الزمان لأنّها غير محدودة بحد ، وما كان في الزمان محدود بحد

٢٦٧

لا محالة. وبهذا يستكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الزمان غير مأخوذ في الفعل لا جزءاً ولا قيداً.

نعم ، الفعل المسند إلى الزماني وإن كان يدل على وقوع الحدث في أحد الأزمنة الثلاثة ، إلاّ أنّه ليس من جهة الوضع ، بل من جهة أنّ الأمر الزماني لا بدّ وأن يقع في أحد الأزمنة.

فتحصّل : أنّ الأفعال لا تدل على الزمان وأنّ استعمالها في جميع الموارد على نحو الحقيقة ، ولا فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه واستعمالها في الزماني ، فالإسناد في الجميع اسناد حقيقي.

ولكن مع هذا كلّه يمتاز الفعل الماضي عن المضارع بخصوصية ثابتة في كل واحد منهما ، ولأجل تلك الخصوصية لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر ويكون الاستعمال غلطاً واضحاً.

وتفصيل ذلك : أنّ الخصوصية في الفعل الماضي هي أنّه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمان التكلم ، وهذه الدلالة موجودة في جميع موارد استعمالاته ، سواء أكان الإسناد إلى نفس الزمن وما فوقه أم إلى الزماني ، فقولنا : مضى الزمان ، يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق الزمن قبل زمن التكلم ، وإن كان الزمان لا يقع في ضمن الزمان ، وكذا قولنا : علم الله وأراد الله وما شاكل ذلك ، يدل على أنّ المتكلم قاصد للإخبار عن تحقق المادة وتلبس الذات بها قبل زمن التكلم ، وإن كان صدور الفعل ممّا هو فوق الزمان لا يقع في زمان ، وكذلك إذا اسند الفعل إلى الزماني كقولنا : قام زيد وضرب عمرو ، فانّه يدل على قصد المتكلم الإخبار عن تحقق المبدأ وتلبّس الذات به قبل حال التكلم ، فهذه الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته من دون دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي.

٢٦٨

نعم ، بين الإسناد إلى الزماني والإسناد إلى غيره فرق من ناحية اخرى ، وهي أنّ الاسناد إلى الزماني يدل بالالتزام على وقوع الحدث في الزمان الماضي.

فهذه الدلالة وإن كانت موجودة إلاّ أنّها غير مستندة إلى أخذ الزمان في الموضوع له ، بل من جهة أنّ صدور الفعل من الزماني قبل حال التكلم يستلزم وقوعه في الزمان الماضي لا محالة.

وأمّا الخصوصية في الفعل المضارع ، فهي أنّه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة في زمن التكلم أو ما بعده ، ولا يدل على وقوعها في الحال أو الاستقبال ، كيف فانّ دلالته على ذلك في جميع موارد إسناده على حد سواء ، فلا فرق بين إسناده إلى الزمن وما فوقه ، كقولنا ( يمضي الزمان ) و ( يريد الله ) و ( يعلم الله ) وبين إسناده إلى الزماني ، غاية الأمر إذا اسند إلى الزماني يدل على وقوع المبدأ في الزمن الحال أو الاستقبال بالالتزام ، من جهة أنّ الفاعل الزماني يقع فعله في الزمن لا محالة ، وإلاّ فالمضارع بوضعه لا يدل إلاّعلى تحقق المبدأ حال تحقق التكلم أو ما بعده من دون أن يدل على وقوعه في الزمان.

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ الأفعال جميعاً لاتدل على الزمان لابنحو الجزئية ولا بنحو القيدية ، لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية. نعم ، إنّها تدل عليه بالدلالة الالتزامية إذا كان الفاعل أمراً زمانياً ، وهذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع ، بل هي مستندة إلى خصوصية الاسناد إلى الزماني ، ولذا هذه الدلالة موجودة في الجمل الإسمية أيضاً إذا كان المسند إليه فيها زمانياً ، فإذا قيل : زيد قائم ، فهو يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المبدأ وتلبس الذات به في الخارج بالمطابقة ، وعلى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة بالالتزام.

الثاني : أن كلاً من الفعل الماضي والمضارع يدل على خصوصية بها يمتاز

٢٦٩

أحدهما عن الآخر ، وتلك الخصوصية مأخوذة في المعنى على نحو التقييد ، فيكون معنى الفعل الماضي تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمن التلفظ بنحو دخول التقيد وخروج القيد ، ومعنى المضارع تحقق المادة مقيداً بكونه في زمن التكلم أو فيما بعده. هذا كلّه فيما إذا كان الفعل مطلقاً فيدل على تحقق المادة ونسبتها إلى الذات قبل زمن التكلم أو مقارناً معه أو متأخراً عنه. ولكن قد يقيد بالسبق واللحوق أو التقارن بالاضافة إلى شيء آخر غير التكلم ، إذن لا يكون الماضي ماضياً حقيقة والمستقبل مستقبلاً كذلك ، وإنّما يكون ماضياً أو مستقبلاً بالاضافة إلى شيء آخر ، كما في قولنا : جاءني زيد قبل سنة وهو يضرب غلامه ، فاللحوق أو التقارن إنّما يلاحظ في هذا المثال بالقياس إلى شيء آخر وهو المجيء لا زمن التلفظ ، و[ قولنا : ] يجيء زيد في شهر كذا وقد ضرب عمراً قبله بأيام ، فالسبق هنا إنّما يلاحظ بالإضافة إلى شيء آخر وهو مجيء زيد ، لا زمن التكلم.

وعلى الجملة : لا ريب في صحّة استعمال الماضي والمضارع في هذه الموارد في اللغة العربية وغيرها.

فقد ظهر : أنّ الملاك في صحّة استعمال الماضي جامع السبق ، سواء كان بالإضافة إلى زمن التكلم أم كان بالإضافة إلى شيء آخر ، وإن كان الظاهر عند الإطلاق خصوص الأوّل ، والملاك في صحّة استعمال المضارع جامع التقارن أو اللحوق ، وإن كان الظاهر عند الاطلاق خصوص التقارن أو اللحوق بالإضافة إلى زمن التكلم.

الأمر الثالث : أنّ مواد المشتقات ومبادءها تنقسم إلى أقسام :

منها : ما يكون من قبيل الأفعال الخارجية كالقيام والقعود والركوع والسجود والتكلم والمشي وما شاكل ذلك ، ويكون الانقضاء فيها برفع اليد عن تلك

٢٧٠

الأفعال ولو آناً ما.

ومنها : ما يكون من قبيل الملكة والقوّة والاستعداد كما في المجتهد والمهندس والمفتاح والمكنسة وما شاكل ذلك ، والانقضاء فيها لا يكون إلاّبزوال القوّة والملكة والاستعداد ، فما دامت قوّة الاستنباط موجودة في المجتهد أو استعداد الفتح موجوداً في المفتاح مثلاً فالتلبّس فعلي وغير زائل. نعم ، إذا زالت الملكة عن شخص مثلاً كان صدق عنوان المجتهد عليه حقيقة داخلاً في محل الكلام.

ومنها : ما يكون من قبيل الحرفة والصنعة كما في الخيّاط والبنّاء والبزّاز والحدّاد والنسّاج والتمّار ونحو ذلك ، ويكون التلبّس بها بأخذ تلك المبادئ حرفة أو صنعة له ، فالبنّاء مثلاً هو من اتّخذ البناء حرفة له ، والانقضاء في مثل ذلك إنّما يكون بترك هذه الحرفة ، فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها فالتلبّس فعلي وإن لم يشتغل بالبناء فعلاً ، ففعلية التلبّس بتلك المبادئ تدور مدار اتخاذها شغلاً وكسباً ، وانتسابها إلى الذات ، سواء كان ذلك الانتساب انتساباً حقيقياً كما في الخياط والنسّاج وما شاكلهما ، أم كان انتساباً تبعياً كما في البقال والبزّاز والتامر واللابن والحدّاد وأمثالها ، لأنّ موادها ومبادءها من أسماء الأعيان ، ومن المعلوم أنّها غير قابلة للانتساب إلى الذات حقيقة ، فلا محالة يكون انتسابها إليها بتبع اتخاذ الفعل المتعلق بها حرفة وشغلاً ، فمن اتّخذ بيع التمر شغلاً له صار التمر مربوطاً به تبعاً ، ومن اتّخذ بيع اللبن شغلاً صار اللبن مربوطاً به وهكذا.

ثمّ إنّ كون التلبّس بالمادة على نحو القوّة والاستعداد ، قد يكون من جهة أنّ المادة موضوعة لذلك كما في الاجتهاد ونحوه ، وقد يكون من جهة استفادة ذلك من الهيئة كما في المكنس والمفتاح ، فانّ المادة فيهما وهي الفتح والكنس ظاهرة في الفعلية ، لا في القابلية والاستعداد ، ولكن الهيئة فيهما موضوعة لافادة تلبس

٢٧١

الذات بها شأناً واستعداداً ، فالمفتاح والمكنس موضوعان لما من شأنه الفتح والكنس لا للمتلبس بالفتح أو الكنس فعلاً.

ومن هنا يصدق لفظ المفتاح حقيقة على كل ما فيه قابلية للفتح ولو لم يقع الفتح به خارجاً ، فما دامت القابلية موجودة فالتلبّس فعلي ، ويكون الانقضاء فيها بزوال القابلية عنه ولو بانكسار بعض أسنانه ، فبناءً على القول بكون المشتق موضوعاً للمعنى الجامع بين الذات المنقضية عنه المبدأ والمتلبسة به فعلاً ، يصدق عليه أنّه مفتاح على نحو الحقيقة. وعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبس به فعلاً لا يصدق عليه إلاّمجازاً.

وممّا ذكرناه يستبين أنّ اختلاف المواد في المشتقات لا دخل له في محل البحث أصلاً ، فانّ النزاع إنّما هو في وضع الهيئات للمشتقات ، وأ نّها موضوعة للمعنى الجامع أو للحصّة الخاصة منه ، بلا نظر إلى وضع موادها ، وأ نّها ظاهرة في الفعلية أو في القابلية والملكة أو الحرفة والصنعة ، ففي جميع ذلك يجري النزاع ، غاية الأمر أنّ الانقضاء في كل مورد بحسبه. ومن هنا كان اختلاف المواد من هذه الناحية موجباً لاختلاف زمن التلبّس طولاً وقصراً كما عرفت.

وبذلك يظهر فساد ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من خروج أسماء الآلة وأسماء المفعولين عن محل النزاع تبعاً لصاحب الفصول قدس‌سره (٢) بتقريب أنّ الهيئة في أسماء الآلة كما عرفت قد وضعت للدلالة على القابلية والاستعداد ، وهذا الصدق حقيقي وإن لم يتلبس الذات بالمبدأ فعلاً. وأمّا أسماء المفعولين ، فلأنّ الهيئة فيها وضعت لأن تدل على وقوع المبدأ على الذات ، وهذا المعنى ممّا لا يعقل فيه الانقضاء ، لأنّ ما وقع على الذات كيف يعقل انقضاؤه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٢) الفصول : ٦٠.

٢٧٢

عنها ، ضرورة أنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، والمفروض أنّ الضرب قد وقع عليها ، فدائماً يصدق أنّها ممّن وقع عليه الضرب ، إذن لا يفرق في صدق المشتق بين حال التلبس والانقضاء ، ففي كلا الحالين على نسق واحد بلا عناية في البين ، بل لا يتصور فيه الانقضاء كما مرّ.

وجه الظهور : أنّ الهيئة في الآلة إذا دلّت على قابلية الذات للاتصاف بالمادة شأناً ، فما دامت القابلية موجودة كان التلبّس فعلياً وإن لم تخرج المادة عن القابلية إلى الفعلية أصلاً ، فالمفتاح يصدق على ما من شأنه الفتح وإن لم يتلبس به أبداً ، وعليه فانقضاء التلبّس إنّما يكون بسقوطها عن القابلية ، كما لو انكسر بعض أسنانه مثلاً ، ومعه كان الصدق على نحو الحقيقة بناءً على الأعم ، وعلى نحو المجاز بناءً على الوضع لخصوص المتلبس.

فما أفاده قدس‌سره مبتنٍ على الخلط بين شأنية الاتصاف بالمبدأ وفعليته به ، وتخيّل أنّ المعتبر في التلبّس إنّما هو التلبّس بالفعل بالمبدأ.

وأمّا أسماء المفعولين ، فلأن ما ذكره قدس‌سره في وجه خروجها عن محل النزاع عجيب ، والوجه في ذلك : هو أنّه لو تمّ ما ذكره لجرى ذلك في أسماء الفاعلين أيضاً ، فانّ الهيئة فيها موضوعة لأن تدل على صدور الفعل عن الفاعل ، ومن المعلوم أنّه لا يتصور انقضاء الصدور عمّن صدر عنه الفعل خارجاً ، لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، والمبدأ الواحد كالضرب مثلاً لا يتفاوت حاله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ، غاية الأمر أنّ قيامه بأحدهما قيام صدوري وبالآخر قيام وقوعي.

وحل ذلك : أنّ أسماء المفعولين كأسماء الفاعلين وضعت للمفاهيم الكلية ، لما تقدّم منّا من أنّ الألفاظ وضعت بازاء المعاني التي هي قابلة للانطباق على ما في الخارج تارة ، وعلى ما في الذهن اخرى ، لا بازاء الموجودات الخارجية ،

٢٧٣

لأ نّها غير قابلة لأن تحضر في الأذهان ، ومن هنا قد يكون للموضوع له مطابق في الخارج وقد لا يكون له مطابق فيه ، فالمضروب مثلاً قد يكون موجوداً وقد يكون معدوماً ، وهكذا الحال في سائر الألفاظ ، فالنزاع هنا في أنّ اسم الفاعل أو اسم المفعول موضوع لمعنى لا ينطبق إلاّعلى خصوص المتلبس أو للأعم منه ومن المنقضي.

وعلى الجملة : لا نجد فرقاً بين اسم الفاعل والمفعول ، فكما أنّ النزاع يجري في هيئة اسم الفاعل وأ نّها وضعت لمفهوم كان مطابقه في الخارج فرداً واحداً وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً ، أو فردين أحدهما المتلبس والآخر المنقضي ، فكذلك يجري في هيئة اسم المفعول وأ نّها وضعت لمعنى كان مطابقه في الخارج فرداً واحداً أو فردين ، مثلاً لو فرض أنّ زيداً كان عالماً بقيام عمرو ثمّ زال عنه العلم به ، فكما أنّ النزاع جارٍ في صحّة إطلاق العالم على زيد وعدم صحّة إطلاقه إلاّمجازاً ، فكذلك النزاع جارٍ في صحّة إطلاق المعلوم على قيام عمرو وعدم صحّة إطلاقه عليه إلاّعلى نحو المجاز ، ضرورة أنّه لا فرق بين الهيئتين هنا أصلاً ، فانّ المبدأ في كلتيهما واحد ، والمفروض أنّ ذلك المبدأ قد زال ، وبزواله كان إطلاق العالم على زيد وإطلاق المعلوم على قيام عمرو من الإطلاق على المنقضي عنه المبدأ لا محالة.

الأمر الرابع : أنّ المراد من ( الحال ) المأخوذ في عنوان المسألة ليس زمن النطق يقيناً ، ضرورة عدم دلالة الأوصاف المشتقة عليه ، ولا على غيره من الماضي أو المستقبل ، لا بنحو الجزئية ولا بنحو القيدية ، فحالها من هذه الجهة كحال أسماء الأجناس ، فكما أنّها لا تدل على زمان خاص ، فكذلك تلك. ومن هنا لا تجوّز في قولنا : زيد كان قائماً بالأمس أو زيد سيكون ضارباً ونحو ذلك ، كما أنّه لا تجوّز في قولنا : زيد كان انساناً أو سيكون تراباً إلى غير ذلك ،

٢٧٤

فلو كان زمن النطق داخلاً في مفهومها لزم التجوّز في هذه الأمثلة لا محالة ، وكذا لا دلالة فيها على أحد الأزمنة الثلاثة أيضاً ، وذلك لأنّ تلك الأوصاف كما تستند إلى الزمانيات ، كذلك تستند إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات ، مع أنّه لايعقل أن يكون للزمان زمان ، وكذا للمجرّدات ، والاسناد في الجميع على نسق واحد ، ولو كان خصوص زمان أو أحد الأزمنة داخلاً في مفهومها لكان إسنادها إلى نفس الزمان وما فوقه محتاجاً إلى لحاظ عناية وتجريد.

نعم ، إذا اسندت إلى الزمانيات تدل على أنّ تلبس الذات بالمبدأ واقع في أحد الأزمنة ، وهذا لا من جهة أنّ الزمان مأخوذ في مفهومها جزءاً أو قيداً ، بل من جهة أنّ قيام الفعل بالفاعل الزماني لا يكون إلاّفي الزمان ، فوقوعه في أحد الأزمنة ممّا لا بدّ منه.

ومن هنا يظهر أنّ المراد من الحال ليس زمن النطق والتكلم ولا أحد الأزمنة الثلاثة ، بل المراد منه فعلية تلبس الذات بالمبدأ ، إذن مرجع النزاع إلى سعة المفاهيم الاشتقاقية وضيقها ، بمعنى أنّ المشتقات هل هي موضوعة للمفاهيم التي مطابقها في الخارج خصوص الذات حال تلبسها بالمبدأ ، أو الأعم من ذلك ومن حال الانقضاء ، فبناءً على القول بالأعم كانت مفاهيمها قابلة للانطباق خارجاً على فردين : هما المتلبس فعلاً والمنقضي عنه المبدأ. وعلى القول بالأخص كانت مفاهيمها غير قابلة للانطباق إلاّعلى فرد واحد ، وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً.

وأمّا ما يقال : من أنّ الظاهر من إطلاق المشتقات وحملها على شيء هو فعلية تلبس الذات بالمبدأ حين النطق والتكلم ، فانّ الظاهر من قولنا : زيد قائم كونه كذلك بالفعل وفي زمان النطق ، فلا معنى للنزاع في كون المشتق موضوعاً

٢٧٥

للأعم أو للأخص ، بعد التسالم على أنّ المرجع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها هو فهم العرف ، والمفروض أنّ المتفاهم عندهم من الإطلاق والحمل هو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً حين التكلم ، فهو وإن كان صحيحاً بالاضافة إلى الاستظهار من الاطلاق ، إلاّ أنّه لا يستلزم بطلان النزاع في المقام ، فانّ الظهور من جهة الإطلاق يختص بموارد الحمل وما بحكمه ، ولا يعم جميع الموارد ، كما إذا قيل : لا تكرم الفاسق أو لا تهن العالم ونحو ذلك ، فيقع البحث في أنّ موضوع الحكم هو خصوص المتلبس بالمبدأ أو للأعم منه ومن المنقضي.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ المراد بالحال هو فعلية التلبّس بالمبدأ لا حال النطق ، ولذا صحّ إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبّس وإن لم يكن ذلك زمان النطق.

الأمر الخامس : ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه لا أصل في المقام ليعوّل عليه عند الشك في تعيين الموضوع له وأ نّه المعنى الوسيع أو المعنى الضيّق ، بعد عدم تمامية الأدلة على تعيين الوضع لأحدهما ، بتقريب أنّ أصالة عدم ملاحظة الواضع الخصوصية في الموضوع له عند وضعه ، معارضة بأصالة عدم ملاحظته العموم والإطلاق فيه ، لأنّ المفاهيم في حد مفهوميتها متباينات ، فإذا دار الأمر بين الوضع لمفهوم عام أو لمفهوم خاص ، فكما يحتمل لحاظ الأوّل عند الوضع ، فكذلك يحتمل لحاظ الثاني ، وحيث إنّ كل واحد من اللحاظين حادث مسبوق بالعدم ، فجريان الأصل في أحدهما معارض بجريانه في الآخر. هذا مضافاً إلى عدم جريانه في نفسه ، لأنّ أصالة عدم لحاظ الخصوصية لا تثبت الوضع للأعم إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ، وكذا العكس.

وعليه فتنتهي النوبة إلى الاصول الحكمية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥.

٢٧٦

وذكر في الكفاية (١) أنّ هذه الاصول تختلف باختلاف الموارد ، فالموارد التي يشك فيها في حدوث الحكم بعد زوال العنوان الذي اخذ في الموضوع يرجع فيها إلى أصالة البراءة ، كما إذا فرضنا أنّ زيداً كان عالماً ثمّ زال عنه العلم ، وبعد ذلك ورد في الدليل : أكرم كل عالم ، فشككنا في وجوب إكرام زيد لاحتمال كون المشتق موضوعاً للأعم. وأمّا الموارد التي يشك فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته ، فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، وذلك كما لو كان زيد عالماً وأمر المولى بوجوب إكرام كل عالم ثمّ بعد ذلك زال عنه العلم وأصبح جاهلاً ، فلا محالة نشك في بقاء الحكم لاحتمال كون المشتق موضوعاً للأعم ، إذن نستصحب بقاءه.

لا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره أوّلاً من أنّه لا أصل هنا ليعوّل عليه عند الشك في الوضع للمفهوم الوسيع أو الضيّق فهو صحيح ، لما عرفت.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره ثانياً من أنّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام وهو أصالة البراءة في موارد الشك في الحدوث ، والاستصحاب في موارد الشك في البقاء ، فلا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّه لا فرق بين موارد الشك في الحدوث وموارد الشك في البقاء ، ففي كلا الموردين كان المرجع هو أصالة البراءة دون الاستصحاب.

أمّا في موارد الشك في حدوث التكليف فالأمر واضح.

وأمّا في موارد الشك في البقاء فبناءً على ما سلكناه في باب الاستصحاب (٢) من عدم جريانه في الشبهات الحكمية خلافاً للمشهور فالأمر أيضاً واضح ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥.

(٢) مصباح الاصول ٣ : ٤٢.

٢٧٧

فانّ الاستصحاب فيها دائماً معارض باستصحاب عدم سعة المجعول ، وبالتعارض يتساقط الاستصحابان لا محالة.

وأمّا على المسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، فالاستصحاب لا يجري في المقام أيضاً ، وذلك لاختصاص جريانه بما إذا كان المفهوم فيه متعيناً ومعلوماً من حيث السعة والضيق ، وكان الشك متمحضاً في سعة الحكم المجعول وضيقه ، كما لو شككنا في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، فالمرجع فيه هو استصحاب بقاء الحرمة إلى أن تغتسل ، أو لو شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره ، أو في بقاء نجاسة الماء المتمم كراً بناءً على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، فالمرجع في جميع ذلك هو استصحاب بقاء الحكم ، وبه يثبت سعته.

وأمّا فيما لا يتعين مفهوم اللفظ ومعناه ، وهو المعبّر عنه بالشبهة المفهومية ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، لا حكماً ولا موضوعاً.

أمّا الأوّل : فلما ذكرناه في بحث الإستصحاب (١) من اعتبار وحدة القضيّة المتيقنة مع المشكوك فيها موضوعاً ومحمولاً في جريان الاستصحاب ، ضرورة انّه لا يصدق نقض اليقين بالشك مع اختلاف القضيتين موضوعاً أو محمولا ، وحيث إن في موارد الشبهات المفهومية لم يحرز الاتحاد بين القضيتين لا يمكن التمسك بالاستصحاب الحكمي ، فإذا شكّ في بقاء وجوب صلاة العصر أو الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس من جهة الشك في مفهوم المغرب وأنّ المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة ، فعلى الأوّل كان الموضوع وهو جزء النهار منتفياً ، وعلى الثاني كان باقياً ، وبما انّا لم نحرز

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٢٧١.

٢٧٨

بقاء الموضوع فلم نحرز الاتحاد بين القضيتين ، وبدونه لايمكن جريان الاستصحاب.

وأمّا الثاني : وهو استصحاب بقاء الموضوع فلعدم الشك في انقلاب حادث زماني ليحكم ببقاء المتيقن ، إذ مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردد مفهومه بين السعة والضيق ليس لنا شك في أمر خارجي ، فان استتار القرص عن الافق حسّي معلوم لنا بالعيان ، وذهاب الحمرة غير متحقق كذلك ، فماذا يكون هو المستصحب.

وبعبارة واضحة : أنّ المعتبر في الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشك اللاّحق مع اتحاد المتعلق فيهما ، وهذا غير متحقق في الشبهات المفهومية ، فان كلاً من الاستتار وعدم ذهاب الحمرة متيقن فلا شك ، وإنّما الشك في بقاء الحكم ، وفي وضع اللفظ لمعنى وسيع أو ضيّق ، وقد عرفت أنّ الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم غير جارٍ ، لعدم إحراز بقاء الموضوع ، وأمّا بالاضافة إلى وضع اللفظ فقد تقدّم أنّه لا أصل يكون مرجعاً في تعيين السعة أو الضيق. وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه ، فانّ الشبهة فيه مفهومية ، والموضوع له مردد بين خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضي ، فالاستصحاب لا يجري في الحكم لعدم إحراز اتحاد القضيّة المتيقنة مع المشكوكة ، وقد مرّ أنّ الاتحاد ممّا لا بدّ منه في جريان الاستصحاب ، مثلاً العالم بما له من المعنى موضوع للحكم ، وحيث إنّه مردد بين أمرين : المتلبس بالمبدأ والأعم ، فالتمسك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن للشك في بقاء موضوعه ، وكذلك لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الموضوع ، لعدم الشك في شيء خارجاً مع قطع النظر عن وضع المشتق وتردد مفهومه بين الأعم والأخص ، وقد عرفت أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشك اللاّحق مع وحدة متعلقهما في الخارج ، والشك في مقامنا غير موجود ، فانّ تلبس زيد مثلاً بالمبدأ سابقاً وانقضاء المبدأ

٢٧٩

عنه فعلاً كلاهما متيقن فلا شك في شيء ، وإنّما الشك في وضع المشتق وبقاء الحكم ، أمّا بالنسبة إلى وضع المشتق فقد عرفت أنّه لا أصل يرجع إليه في تعيين مفهوم اللفظ ووضعه سعة أو ضيقاً.

وتوهم جريان الأصل في بقاء الموضوع بوصف موضوعيته فانّه مشكوك فيه ، مدفوع بأ نّه عبارة اخرى عن جريان الأصل في بقاء الحكم ، وقد عرفت عدم جريانه فيه.

فالنتيجة : أنّ الاستصحاب في الشبهات المفهومية ساقط ولو قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فيما إذا كان الشك في سعة المجعول وضيقه.

وقد أشار شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره في آخر بحث الاستصحاب (١) في مسألة اشتراط بقاء الموضوع فيه إلى هذا المعنى ، وهو عدم جريان الاستصحاب في موارد الشبهات المفهومية.

فقد أصبحت النتيجة : أنّ المرجع في كلا الموردين هو أصل البراءة.

فما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من الفرق بين الموردين ، وأنّ المرجع في المورد الثاني هو الاستصحاب دون البراءة غير صحيح.

نستنتج ممّا ذكرناه حول المشتق لحدّ الآن عدّة امور :

الأوّل : أنّ محل البحث لا يعم جميع المشتقات بل يخص بعضها ويعم بعض أصناف الجوامد ، وهو ما كان مفهومه منتزعاً عن أمر خارج عن مقام ذاته.

الثاني : أنّ ملاك دخول شيء في محل البحث أن يكون واجداً لركيزتين :

١ ـ أن يكون قابلاً للحمل على الذات ولا يأبى عنه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٩١.

٢٨٠