آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩
بحث الأوامر
الكلام فيها يقع في مقامين :
الأوّل : في مادة الأمر ( أ م ر ).
الثاني : في هيئة ( افعل ) وما شاكلها من الهيئات ، كهيئة فعل الماضي والمضارع ، ونحوهما.
أمّا الأوّل : فالكلام فيه من جهات :
الاولى : ذكر جماعة أنّ مادة الأمر موضوعة لعدّة معان : الطلب ، الشيء ، الحادثة ، الشأن ، الغرض ، الفعل ، وغير ذلك ، وقد أنهاها بعضهم إلى خمسة عشر معنى.
واختار صاحب الفصول قدسسره أنّها موضوعة لمعنيين من هذه المعاني ، أي الطلب والشأن (١).
وذكر صاحب الكفاية قدسسره أنّ عدّ بعض هذه المعاني من معاني الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم ، فانّ الأمر لم يستعمل في نفس هذه المعاني ، وإنّما استعمل في معناه ، ولكنّه قد يكون مصداقاً لها. ثمّ قال : ولا يبعد دعوى كونه حقيقةً في الطلب في الجملة والشيء (٢).
__________________
(١) الفصول الغروية : ٦٢.
(٢) كفاية الاصول : ٦١.
وذهب شيخنا الاستاذ قدسسره (١) إلى أنّ لفظ الأمر موضوع لمعنىً واحد ، وهو الواقعة التي لها أهمّية في الجملة ، وجميع ما ذكر من المعاني يرجع إلى هذا المعنى الواحد حتّى الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة له ، وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة ، وقد ينطبق على الشأن ، وقد ينطبق على الغرض ، وهكذا.
نعم ، لا بدّ أن يكون المستعمل فيه من قبيل الأفعال والصفات ، فلا يطلق على الجوامد. بل يمكن أن يقال : إنّ الأمر بمعنى الطلب أيضاً من مصاديق هذا المعنى الواحد ، فانّه أيضاً من الامور التي لها أهمّية ، فلا يكون للفظ الأمر إلاّ معنىً واحد يندرج الكل فيه ، وتصوّر الجامع القريب بين الجميع وإن كان صعباً إلاّ أنّا نرى وجداناً أنّ استعمال الأمر في جميع الموارد بمعنى واحد ، وعليه فالقول بالاشتراك اللفظي بعيد.
وما أفاده قدسسره يحتوي على نقطتين :
الاولى : أنّ لفظ الأمر موضوع لمعنىً واحد يندرج فيه جميع المعاني المزبورة حتّى الطلب المنشأ بالصيغة.
الثانية : أنّ الأهمّية في الجملة مأخوذة في معناه.
ولنأخذ بالنقد على كلتا النقطتين :
أمّا الاولى : فلأنّ الجامع الذاتي بين الطلب وغيره من المعاني المذكورة غير معقول ، والسبب في ذلك : أنّ معنى الطلب معنىً حدثي قابل للتصريف والاشتقاق ، دون غيره من المعاني فانّها من الجوامد وهي غير قابلة لذلك ، ومن الواضح أنّ الجامع الذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد غير متصور.
__________________
(١) أجود التقريرات ١ : ١٣٣.
وبكلمة اخرى : أنّ الجامع بينهما لايخلو من أن يكون معنىً حدثياً أو جامداً ، ولا ثالث لهما ، وعلى كلا التقديرين لا يكون الجامع المزبور جامعاً ذاتياً ، إذ على الأوّل لا ينطبق على الجوامد. وعلى الثاني لا ينطبق على المعنى الحدثي ، وهذا معنى عدم تصوّر جامع ذاتي بينهما.
وممّا يشهد على ذلك : اختلافهما ـ أي الأمر بمعنى الطلب والأمر بمعنى غيره ـ في الجمع ، فانّ الأوّل يجمع على أوامر ، والثاني على امور ، وهذا شاهد صدق على اختلافهما في المعنى ، ولهذا لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر ، فلا يقال : بقي أوامر ، أو ينبغي التنبيه على أوامر ، وهكذا ... فالنتيجة بطلان هذه النقطة.
وأمّا الثانية : فلأ نّه لا دليل على أخذ الأهمّية في معنى الأمر بحيث يكون استعماله فيما لا أهمّية له مجازاً ، وذلك لوضوح أنّ استعماله فيه كاستعماله فيما له أهمّية في الجملة من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
وإن شئت قلت : إنّ الأهمّية لو كانت مأخوذةً في معناه لكانت متبادرة منه عرفاً عند إطلاقه وعدم نصب قرينة على الخلاف ، مع أنّها غير متبادرة منه كذلك ، ومن هنا صحّ توصيفه بما لا أهمّية له ، وبطبيعة الحال أنّها لو كانت داخلة في معناه لكان هذا تناقضاً ظاهراً.
فالنتيجة : أنّ نظريّة المحقق النائيني قدسسره في موضوع بحثنا نظريّة خاطئة ولا واقع موضوعي لها.
ويمكن أن نقول : إنّ مادة الأمر موضوعة لغةً لمعنيين على سبيل الاشتراك اللفظي.
أحدهما : الطلب في إطار خاص ، وهو الطلب المتعلق بفعل الغير ، لا الطلب المطلق الجامع بين ما يتعلق بفعل غيره وما يتعلق بفعل نفسه ، كطالب العلم ،
وطالب الضالة ، وطالب الحق ، وما شاكل ذلك ، والسبب فيه : أنّ مادة الأمر ـ بما لها من معنى ـ لا تصدق على الحصّة الثانية وهي المتعلقة بفعل نفس الانسان ، وهذا قرينة قاطعة على أنّها لم توضع للجامع بينهما. ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين الأمر والطلب عموم مطلق.
وثانيهما : الشيء الخاص ، وهو الذي يتقوّم بالشخص من الفعل أو الصفة أو نحوهما في مقابل الجواهر وبعض أقسام الأعراض ، وهي بهذا المعنى قد تنطبق على الحادثة ، وقد تنطبق على الشأن ، وقد تنطبق على الغرض وهكذا.
الدليل على ما ذكرناه أمران :
أحدهما : أنّ لفظ الأمر بمعناه الأوّل قابل للتصريف والاشتقاق ، فتشتق منه الهيئات والأوزان المختلفة ، كهيئة الماضي ، والمضارع ، والفاعل ، والمفعول ، وما شاكلها ، وهذا بخلاف الأمر بمعناه الثاني حيث إنّه جامد فلا يكون قابلاً لذلك.
وثانيهما : أنّ الأمر بمعناه الأوّل يجمع على أوامر ، وبمعناه الثاني يجمع على امور ، ومن الطبيعي أنّ اختلافهما في ذلك شاهد صدق على اختلافهما في المعنى.
وعلى ضوء هذا قد اتّضح فساد كلا القولين السابقين : الاشتراك اللفظي ، الاشتراك المعنوي.
أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ جميع المعاني المشار إليها آنفاً ليست من معاني الأمر على سبيل الاشتراك اللفظي ، كيف فان استعماله فيها غير معلوم لو لم يكن معلوم العدم ، فضلاً عن كونه موضوعاً بازائها ، ومن هنا لا يكون المتبادر منه عند الاطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة الخلاف إلاّ أحد المعنيين السابقين لا غير.
وأمّا الثاني ، فلعدم تصور جامع ماهوي بينها ليكون موضوعاً له.
فالنتيجة : أنّه موضوع بازاء المعنيين الماضيين على نحو الاشتراك اللفظي :
الحصّة الخاصّة من الطلب ، الحصّة الخاصّة من مفهوم الشيء ، وهي ما يتقوم بالشخص في قبال الجواهر وبعض أقسام الأعراض ، ولأجل ذلك لا يصح أن يقال : رأيت أمراً عجيباً إذا رأى فرساً عجيباً ، أو إنساناً كذلك ، ولكن يصح أن يقال : رأيت شيئاً عجيباً إذا رأى فرساً أو إنساناً كذلك. والسبب في هذا ظاهر ، وهو أنّ الشيء بمفهومه العام ينطبق على الأفعال والأعيان والصفات بشتى ألوانها وأشكالها ، ولذلك قالوا إنّه عرض عام لجميع الأشياء.
وعلى أثر هذا البيان يظهر نقد ما أفاده شيخنا المحقق قدسسره من أنّ الأمر وضع لمعنىً جامع وحداني على نحو الاشتراك المعنوي ، وهو الجامع بين ما يصح أن يتعلق الطلب به تكويناً وما يتعلق الطلب به تشريعاً ، مع عدم ملاحظة شيء من الخصوصيتين في المعنى الموضوع له ، والأصل فيه أن يجمع على أوامر (١).
وجه الظهور : ما عرفت من أنّه لا جامع ذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد ليكون الأمر موضوعاً بازائه ، وأمّا الجامع الانتزاعي فهو وإن كان أمراً ممكناً وقابلاً للتصوير ، إلاّ أنّه لم يوضع بازائه يقيناً. على أنّه خلاف مفروض كلامه قدسسره.
وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاص ، يردّه ـ مضافاً إلى ذلك ـ ما حققناه في مبحث الصحيح والأعم (٢) من أنّ نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاص كنتيجة الاشتراك اللفظي فلاحظ ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ اختلاف لفظ الأمر في الجمع قرينة قطعية على اختلافه في المعنى ، ضرورة أنّ
__________________
(١) نهاية الدراية ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٢.
(٢) في ص ١٧٠.
معناه لو كان واحداً لن يعقل اختلافه في الجمع ، هذا على ما بيّناه في الدورات السابقة.
ولكن الصحيح في المقام أن يقال : إنّ مادة الأمر لم توضع للدلالة على حصّة خاصّة من الطلب ، وهي الحصّة المتعلقة بفعل الغير ، بل وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، والسبب في ذلك : ما حققناه في بحث الانشاء (١) من أنّه عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله ، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى : ما ذكرناه في بحث الوضع من أنّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي وضع مادة الأمر أو ما شاكلها بطبيعة الحال لما ذكرناه ، أي للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني ، لا للطلب والتصدّي ، ولا للبعث والتحريك. نعم ، إنّها كصيغتها مصداق للطلب والتصدّي ، والبعث والتحريك ، لا أنّها معناها.
وبكلمة اخرى : أنّنا إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً فلا نعقل فيه سوى شيئين :
أحدهما : اعتبار المولى ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة داعية إلى ذلك.
وثانيهما : إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كمادة الأمر أو نحوها ، فالمادة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني ، لا للطلب ولا للبعث والتحريك.
__________________
(١) في ص ٩٧.
نعم ، قد عرفت أنّ المادة أو ما شاكلها مصداق للطلب والبعث ، ونحو تصدٍ إلى الفعل ، فانّ الطلب والبعث قد يكونان خارجيين ، وقد يكونان اعتباريين ، فمادة الأمر أو ما شابهها مصداق للطلب والبعث الاعتباري لا الخارجي ، لوضوح أنّها تصدٍ في اعتبار المولى إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه ، لا تكويناً وخارجاً ، كما هو ظاهر.
ونتيجة ما ذكرناه أمران :
الأوّل : أنّ مادة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، وهو اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف ، ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك.
الثاني : أنّها مصداق للطلب والبعث لا أنّهما معناها.
إلى هنا قد تبيّن أنّ القول بالاشتراك اللفظي بين جميع المعاني المتقدمة باطل لا واقع موضوعي له ، وكذلك القول بالاشتراك المعنوي ، فالصحيح هو القول بالاشتراك اللفظي بين المعنيين المتقدمين.
ثمّ لا يخفى أنّه لا ثمرة عملية لذلك البحث أصلاً ، والسبب فيه : أنّ الثمرة هنا ترتكز على ما إذا لم يكن المراد الاستعمالي من الأوامر الواردة في الكتاب والسنّة معلوماً ، وحيث إنّ المراد الاستعمالي منها معلوم ، فإذن لا أثر له.
المعنى الاصطلاحي للأمر
حكى المحقق صاحب الكفاية (١) قدسسره أنّ الأمر قد نقل عن معناه الأصلي إلى القول المخصوص ، وهو هيئة ( افعل ).
__________________
(١) كفاية الاصول : ٦٢.
ويرد عليه : أنّه إن كان هذا مجرد اصطلاح ، فلا مشاحة فيه ، وإلاّ فلا وجه له أصلاً ، وذلك لأنّ الظاهر أنّ الاشتقاق منه بحسب معناه الاصطلاحي ، وعليه فلو كان معناه الاصطلاحي القول المخصوص لم يمكن الاشتقاق منه لأنّه جامد ، ومن الطبيعي أنّ مبدأ المشتقات لا بدّ أن يكون معنىً حدثياً قابلاً للتصريف والتغيير ، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى : أن يكون المبدأ خالياً عن جميع الخصوصيات ، ليقبل كل خصوصية ترد عليه.
ومن ثمة قلنا في بحث المشتق (١) إنّ المصدر لا يصلح أن يكون مبدأً له ، لعدم توفر الشرط الأساسي للمبدأ فيه ، وهو خلوّه عن جميع الأشكال والصور المعنوية واللفظية ، حتّى يقبل أيّة صورة ترد عليه ، نظير الهيولى في الأجسام ، حيث إنّها فاقدة لكل صورة افترضت ، ولذا تقبل كل صورة ترد عليها بشتّى أنواعها وأشكالها ، وبطبيعة الحال أنّها لو لم تكن فاقدةً لها فلا تقبل صورة اخرى ، لوضوح إباء كل صورة عن صورة اخرى ، وكل فعلية عن فعلية ثانية.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ القول المخصوص لا يصلح أن يكون مبدأً للمشتقات ، وأن يجعله شقة شقة ، لاستحالة تصريفه وورود هيئة اخرى عليه ، فيكون نظير الجملة والمفرد والكلمة والكلام وما شاكل ذلك ممّا هو اسم لنفس اللفظ ، فانّها غير قابلة لأن تشتق منها المشتقات ، لعدم توفر الركيزتين الأساسيتين للمبدأ فيها : المعنى الحدثي ، الخلو من الخصوصيات.
نعم ، التلفظ بالقول المخصوص قابل لأن تشتق منه المشتقات وترد عليه الهيئات والصور ، وذلك لأنّ التلفظ إن لوحظ بنفسه مع عدم ملاحظة شيء
__________________
(١) في ص ٣١٩.
معه من الخصوصيات الخارجة عن حدود ذاته ، فهو مبدأ. وإن لوحظ قائماً بغيره فحسب فهو مصدر. وإن لوحظ زائداً على هذا وذاك وجوده وتحققه في الخارج قبل زمان التكلم فهو ماض ، وفي زمانه وما بعده فمضارع ، وهكذا.
ولكن من المعلوم أنّه لا صلة لذلك بما ذكرناه أصلاً.
ولكن لشيخنا المحقق قدسسره في هذا الموضوع كلام ، وهو أنّ الأمر بهذا المعنى أيضاً قابل للاشتقاق والتصريف ، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه :
وإن كان وجه الاشكال ما هو المعروف من عدم كونه معنىً حدثياً ، ففيه :
أنّ لفظ « اضرب » صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع ، وهو من الأعراض القائمة بالمتلفظ به.
فقد يلاحظ نفسه من دون لحاظ قيامه وصدوره عن الغير ، فهو المبدأ الحقيقي الساري في جميع مراتب الاشتقاق.
وقد يلاحظ قيامه فقط ، فهو المعنى المصدري المشتمل على نسبة ناقصة.
وقد يلاحظ قيامه وصدوره في الزمان الماضي فهو المعنى الماضوي.
وقد يلاحظ صدوره في الحال أو الاستقبال ، فهو المعنى المضارعي وهكذا ، فليس هيئة ( اضرب ) كالأعيان الخارجية والامور غير القائمة بشيء حتّى لايمكن لحاظ قيامه فقط ، أو في أحد الأزمنة. وعليه فالأمر موضوع لنفس الصيغة الدالة على الطلب مثلاً أو للصيغة القائمة بالشخص ، و « أَمَرَ » موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في المضي و « يأمر » موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في الحال أو الاستقبال (١).
__________________
(١) نهاية الدراية ١ : ٢٥٤.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدسسره وحاصله : أنّ ما ذكره في إطاره وإن كان في غاية الصحّة والمتانة ، إلاّ أنّه لا صلة له بما ذكرناه ، والسبب في ذلك : أنّ لكل لفظ حيثيتين موضوعيتين :
الاولى : حيثية صدوره من اللافظ خارجاً وقيامه به كصدور غيره من الأفعال كذلك.
الثانية : حيثية تحققه ووجوده في الخارج.
فاللفظ من الحيثية الاولى وإن كان قابلاً للتصريف والاشتقاق ، إلاّ أنّ لفظ الأمر لم يوضع بازاء القول المخصوص من هذه الحيثية ، وإلاّ لم يكن مجال لتوهم عدم إمكان الاشتقاق والصرف منه ، بل هو موضوع بازائه من الحيثية الثانية ، ومن الطبيعي أنّه بهذه الحيثية غير قابل لذلك كما عرفت. فما أفاده قدسسره مبني على الخلط بين هاتين الحيثيتين.
الجهة الثانية : هل أنّ العلوّ معتبر في معنى الأمر أم لا؟
الظاهر اعتباره ، إذ لا يصدق الأمر عرفاً على الطلب الصادر من غير العالي ، وإن كان بنحو الاستعلاء وإظهار العلوّ.
وعلى الجملة : فصدوره من العالي منشأ لانتزاع عنوان الأمر والبعث والتحريك والتكليف وما شاكل ذلك ، دون صدوره عن غيره ، بل ربّما يوجب توبيخه باستعماله الأمر.
ويدلّنا على ذلك : مضافاً إلى مطابقة هذا للوجدان ، صحّة سلب الأمر عن الطلب الصادر من غير العالي ، بل يستحق التوبيخ عليه بقوله : أتأمر الأمير مثلاً ، ومن المعلوم أنّ التوبيخ لا يكون على أمره بعد استعلائه ، وإنّما يكون على استعلائه واستعماله الأمر.
الجهة الثالثة : لا إشكال في تبادر الوجوب عرفاً من لفظ الأمر عند الاطلاق ، وإنّما الاشكال والكلام في منشأ هذا التبادر ، هل هو وضعه للدلالة عليه ، أو الاطلاق ومقدمات الحكمة ، أو حكم العقل به؟ وجوه بل أقوال.
المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو القول الأوّل. واختار جماعة القول الثاني ، ولكن الصحيح هو الثالث ، فلنا دعويان : الاولى : بطلان القول الأوّل والثاني.
الثانية : صحّة القول الثالث.
أمّا الدعوى الاولى : فلأ نّها تبتني على ركيزتين :
إحداهما : ما حققناه في بحث الوضع من أنّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني.
وثانيتهما : ما حققناه في بحث الانشاء من أنّه عبارة عن اعتبار الأمر النفساني ، وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله.
وعلى ضوء هاتين الركيزتين يظهر أنّ مادة الأمر وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، فلا تدل على الوجوب لا وضعاً ولا إطلاقاً. أمّا الأوّل فظاهر. وأمّا الثاني فلأ نّه يرتكز على كونها موضوعةً للجامع بين الوجوب والندب ، ليكون إطلاقها معيّناً للوجوب دون الندب ، باعتبار أنّ بيان الندب يحتاج إلى مؤونة زائدة والاطلاق غير وافٍ به. ولكن قد عرفت أنّها كما لم توضع لخصوص الوجوب أو الندب ، كذلك لم توضع للجامع بينهما ، بل وضعت لما ذكرناه.
هذا مضافاً إلى عدم الفرق بين الوجوب والندب من هذه الناحية. وإذن فلا يكون الاطلاق معيّناً للأوّل دون الثاني ، فحاله حال الوجوب من هذه الناحية
من دون فرق بينهما أصلاً.
وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ العقل يدرك ـ بمقتضى قضيّة العبودية والرقية ـ لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولى ، ما لم ينصب قرينة على الترخيص في تركه ، فلو أمر بشيء ولم ينصب قرينةً على جواز تركه فهو يحكم بوجوب إتيانه في الخارج ، قضاء لحق العبودية وأداءً لوظيفة المولوية ، وتحصيلاً للأمن من العقوبة ، ولا نعني بالوجوب إلاّ إدراك العقل لابدّية الخروج عن عهدته فيما إذا لم يحرز من الداخل أو من الخارج ما يدل على جواز تركه.
الجهة الرابعة : في الطلب والارادة.
قد سبق منّا في الجهة الثالثة : أنّ الأمر موضوع للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، فلا يدل على شيء ما عداه ، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى : تعرّض المحقق صاحب الكفاية قدسسره في المقام للبحث عن جهة اخرى ، وهي أنّ الطلب هل يتحد مع الارادة أو لا؟ فيه وجوه وأقوال. قد اختار قدسسره القول بالاتحاد ، وإليك نص مقولته :
فاعلم أنّ الحق كما عليه أهله وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للاشاعرة ، هو اتحاد الطلب والارادة ، بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بازاء مفهوم واحد ، وما بازاء أحدهما في الخارج يكون بازاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائية. وبالجملة هما متحدان مفهوماً وانشاءً وخارجاً ، لا أنّ الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متحد مع الارادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً ، ضرورة أنّ المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.
فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقةً كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ،
فانّ الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفةً اخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها ، سوى ما هو مقدّمة تحققها عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها.
وبالجملة لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والارادة هناك صفة اخرى قائمة بها يكون هو الطلب ، فلا محيص إلاّعن اتحاد الارادة والطلب ، وأن يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك ، مسمى بالطلب والارادة ، كما يعبّر به تارةً ، وبها اخرى كما لا يخفى (١).
ما أفاده قدسسره يحتوي على عدّة نقاط :
١ ـ اتحاد الارادة الحقيقية مع الطلب الحقيقي.
٢ ـ اتحاد الارادة الانشائية مع الطلب الانشائي.
٣ ـ مغايرة الطلب الانشائي للطلب الحقيقي ، والارادة الانشائية للارادة الحقيقية ، ولم يبرهن قدسسره على هذه النقاط ، بل أحالها إلى الوجدان.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :
أمّا الاولى : فهي خاطئة جداً ، والسبب في ذلك : أنّ الارادة بواقعها الموضوعي من الصفات النفسانية ومن مقولة الكيف القائم بالأنفس. وأمّا الطلب فقد سبق أنّه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن الانسان بالارادة والاختيار ، حيث إنّه عبارة عن التصدي نحو تحصيل شيء في الخارج ، ومن هنا لا يقال طالب الضالّة ، أو طالب العلم إلاّلمن تصدّى خارجاً لتحصيلهما ، وأمّا من اشتاق
__________________
(١) كفاية الاصول : ٦٥.
إليهما فحسب وأراد فلا يصدق عليه ذلك ، ولذا لا يقال طالب المال أو طالب الدُّنيا لمن اشتاق وأرادهما في افق النفس ، ما لم يظهر في الخارج بقول أو فعل.
وبكلمة اخرى : أنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً ، فلا يصدق على مجرد الشوق والارادة النفسانية ، ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا : طلبت زيداً فما وجدته ، أو طلبت من فلان كتاباً ـ مثلاً ـ فلم يعطني ، وهكذا ، ضرورة أنّ الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي ، وليس إخباراً عن الارادة والشوق النفساني فحسب ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطلب متعلقاً بفعل نفس الانسان وعنواناً له كطالب الضالّة وطالب العلم وما شاكلها ، وأن يكون متعلقاً بفعل غيره. وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرّد الارادة.
وقد تحصّل من ذلك : أنّ الطلب مباين للارادة مفهوماً ومصداقاً ، فما أفاده قدسسره من أنّ الوجدان يشهد باتحادهما خطأ جداً.
وأمّا النقطة الثانية : فقد ظهر نقدها ممّا أوردناه على النقطة الاولى ، وذلك لما عرفت من أنّ الطلب عنوان للفعل الخارجي أو الذهني ، وليس منشأ بمادة الأمر ، أو بصيغتها ، أو ما شاكلها. فإذن لا موضوع لما أفاده قدسسره من أنّ الطلب الانشائي عين الارادة الانشائية.
ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة : فانّها إنّما تتم إذا كانت متوفرة لأمرين :
الأوّل : القول بأنّ الطلب منشأ بالصيغة أو نحوها.
الثاني : القول بالارادة الانشائية في مقابل الارادة الحقيقية ، ولكن كلا القولين خاطئ جداً.
وأمّا النقطة الرابعة : فالأمر وإن كان كما أفاده قدسسره ، إلاّ أنّ عدم تحقق الطلب حقيقةً ليس بملاك عدم تحقق الارادة كذلك في أمثال الموارد ، بل
بملاك ما عرفت من أنّ الطلب عنوان لمبرز الارادة ومظهرها من قول أو فعل ، وحيث لا إرادة ها هنا فلا مظهر لها حتّى يتصف بعنوان الطلب.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر فساد ما قيل : من أنّ الطلب والارادة متباينان مفهوماً ومتحدان مصداقاً وخارجاً (١) ووجه الظهور ما عرفت من تباينهما مفهوماً ومصداقاً ، فلا يمكن صدقهما في الخارج على شيء واحد كما مرّ بشكل واضح.
ثمّ لا يخفى أنّ غرض صاحب الكفاية قدسسره من هذه المحاولة نفي الكلام النفسي الذي يقول به الأشاعرة ، بتخيل أنّ القول بتغاير الطلب والارادة يستلزم القول بثبوت صفة اخرى غير الصفات المعروفة المشهورة ، وبطبيعة الحال أنّ مردّ ذلك هو التصديق بما يقوله الأشاعرة من الكلام النفسي.
ولكن قد عرفت أنّ هذه المحاولة غير ناجحة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّا سنذكر بعد قليل أنّ نفي الكلام النفسي لا يرتكز على القول باتحاد الطلب والارادة ، حيث إنّا نقول بتغايرهما ، فمع ذلك نبرهن بصورة قاطعة بطلان محاولة الأشاعرة لاثبات أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي.
بحث ونقد حول عدّة نقاط
الاولى : نظريّة الأشاعرة : الكلام النفسي ، ونقدها.
الثانية : نظريّة الفلاسفة : إرادته تعالى من الصفات الذاتية ، ونقدها.
الثالثة : نظريّة الأشاعرة : مسألة الجبر ، ونقدها.
__________________
(١) درر الفوائد ١ : ٤١.
الرابعة : نظريّة المعتزلة : مسألة التفويض ، ونقدها.
الخامسة : نظريّة الإمامية : مسألة الأمر بين الأمرين.
السادسة : نظريّة العلماء : مسألة العقاب.
(١)
نظريّة الأشاعرة
الكلام النفسي ، ونقدها
ذهب الأشاعرة إلى أنّ كلامه تعالى من الصفات الذاتية العليا ، وهو قائم بذاته الواجبة ، قديم كبقية صفاته العليا من العلم والقدرة والحياة ، وليس من صفاته الفعلية كالخلق والرزق والرحمة وما شاكلها ، ولأجل ذلك قد اضطرّوا إلى الالتزام بأنّ كلامه تعالى نفسي ما وراء الكلام اللفظي ، وهو قديم قائم بذاته تعالى ، فانّ الكلام اللفظي حادث فلا يعقل قدمه ، وقد صرّحوا به في ضمن محاولتهم واستدلالهم على الكلام النفسي ، وإليكم نص مقولتهم :
وهذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن ، بل نقول به ونسمّيه كلاماً لفظياً ، ونعترف بحدوثه ، وعدم قيامه بذاته تعالى ، ولكنّا نثبت أمراً وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ونقول هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته تعالى ، ونزعم أنّه غير العبارات ، إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ، ولايختلف ذلك المعنى النفسي ، بل نقول ليس ينحصر الدلالة عليه في الألفاظ ، إذ قد يدل عليه بالاشارة والكتابة ، كما يدل عليه بالعبارة ، والطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لايتغير مع تغيّر العبارات ، ولا يختلف
باختلاف الدلالات ، وغير المتغير ـ أي ما ليس متغيراً وهو المعنى النفسي ـ مغاير للمتغير الذي هو العبارات ، ونزعم أنّه ـ أي المعنى النفسي الذي هو الخبر ـ غير العلم ، إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشك فيه ، وأنّ المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الارادة ، لأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا ، فانّ مقصوده مجرد الاختبار ، دون الاتيان بالمأمور به ، وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فانّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه.
واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ، إذ لا طلب فيهما أصلاً ، كما لا إرادة قطعاً ، فإذن هو ـ أي المعنى النفسي الذي يعبّر عنه بصيغة الخبر والأمر ـ صفة ثالثة مغايرة للعلم والارادة ، قائمة بالنفس ، ثمّ نزعم أنّه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى (١).
ومن الغريب جداً ما نسب إلى الحنابلة في شرح المواقف وهذا نصّه : قال الحنابلة : كلامه حرف وصوت ، يقومان بذاته تعالى ، وأ نّه قديم ، وقد بالغوا فيه حتّى قال بعض جهلاً : الجلد والغلاف قديمان فضلاً عن المصحف (٢).
يتضمن هذا النص عدّة خطوط :
١ ـ إنّ لله تعالى سنخين من الكلام : النفسي واللفظي. والأوّل من صفاته تعالى ، وهو قديم قائم بذاته الواجبة دون الثاني.
٢ ـ إنّ الكلام النفسي عبارة عن المعنى القائم بالنفس ، ويبرزه في الخارج بالألفاظ والعبارات بشتّى ألوانها وأشكالها ، ولا يختلف ذلك المعنى باختلافها ،
__________________
(١) شرح المواقف : ٩٣.
(٢) شرح المواقف : ٩٢.
كما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
٣ ـ إنّهم عبّروا عن ذلك المعنى تارةً بالطلب ، واخرى بالأمر ، وثالثة بالخبر ، ورابعة بصيغة الخبر.
٤ ـ إنّ هذا المعنى غير العلم ، إذ قد يخبر الانسان عمّا لا يعلمه ، أو يعلم خلافه ، وغير الارادة إذ قد يأمر الرجل بما لايريده كالمختبر لعبده فانّ مقصوده الامتحان والاختبار ، دون الاتيان بالمأمور به في الخارج.
ولنأخذ بالنقد على هذه الخطوط جميعاً.
أمّا الأوّل : فسنبيّنه بشكل واضح في وقت قريب إن شاء الله تعالى : أنّ كلامه منحصر بالكلام اللفظي ، وأنّ القرآن المنزل على النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله هو كلامه تعالى ، بتمام سوره وآياته وكلماته ، لا أنّه حاكٍ عن كلامه ، لوضوح أنّ ما يحكي القرآن عنه ليس من سنخ الكلام ، كما سيأتي بيانه ، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى : أنّ السبب الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي هو تخيل أنّ التكلم من صفاته الذاتية ، ولكن هذا الخيال خاطئ جداً ، وذلك لما سيجيء إن شاء الله تعالى بصورة واضحة أنّ التكلم ليس من الصفات الذاتية ، بل هو من الصفات الفعلية.
وأمّا الثاني : فيتوقف نقده على تحقيق حال الجمل الخبرية والإنشائية.
أمّا الاولى : فقد حققنا في بحث الإنشاء والإخبار (١) أنّ الجمل الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع ، هذا بناءً على نظريتنا. وأمّا بناءً على نظرية المشهور ، فلأ نّها موضوعة
__________________
(١) في ص ٩٤.
للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه. ومن الطبيعي أنّ مدلولها على ضوء كلتا النظريتين ليس من سنخ الكلام ليقال إنّه كلام نفسي ، ضرورة أنّ الكلام النفسي عند القائلين به وإن كان موجوداً نفسانياً ، إلاّ أنّ كل موجود نفساني ليس بكلام نفسي ، بل لا بدّ أن يكون سنخ وجوده سنخ وجود الكلام ، لفرض أنّه ليس من سنخ وجود الصفات المعروفة الموجودة في النفس. ومن المعلوم أنّ قصد الحكاية على رأينا وثبوت النسبة على رأي المشهور ليس من ذلك.
وبكلمة واضحة : إذا حلّلنا الجمل الخبرية تحليلاً موضوعياً ، وفحصنا مداليلها في إطاراتها الخاصّة ، فلا نجد فيها سوى عدّة امور : الأوّل تصوّر معاني مفرداتها بموادها وهيئاتها. الثاني : تصوّر معاني هيئاتها التركيبية. الثالث : تصوّر مفردات الجملة. الرابع : تصوّر هيئاتها. الخامس : تصوّر مجموع الجملة. السادس : تصوّر معنى الجملة. السابع : التصديق بمطابقتها للواقع أو بعدم مطابقتها له. الثامن :
إرادة إيجادها في الخارج. التاسع : الشك في ذلك.
وبعد ذلك نقول : إنّ شيئاً من هذه الامور ليس من سنخ الكلام النفسي عند القائلين به.
أمّا الأوّل : فواضح ، إذ الكلام النفسي عند القائلين به ليس من سنخ المعنى أوّلاً على ما سيأتي بيانه. وليس من سنخ المعنى المفرد ثانياً.
وأمّا الثاني : فلأنّ الكلام النفسي ـ كما ذكروه ـ صفة قائمة بالنفس كسائر الصفات النفسانية ، ومن الطبيعي أنّ المعنى ليس كذلك ، فانّه مع قطع النظر عن وجوده وتحققه في الذهن ليس قائماً بها ، ومع لحاظ وجوده وتحققه فيه وإن كان قائماً بها ، إلاّ أنّه بهذا اللحاظ علم ، وليس بكلام نفسي على الفرض.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال جميع الامور الباقية ، فانّ الثالث والرابع
والخامس والسادس والتاسع من مقولة العلم التصوري ، والسابع من مقولة العلم التصديقي ، والثامن من مقولة الارادة.
فالنتيجة : أنّ الكلام النفسي بهذا الاطار الخاص عند القائلين به غير متصوّر في موارد الجمل الخبرية ، وحينئذٍ فلا يخرج عن مجرد افتراض ولقلقة اللسان ، بلا واقع موضوعي له.
وأمّا الجمل الانشائية : فقد سبق الكلام فيها بشكل مفصل ، وقلنا هناك إنّ نظريتنا فيها تختلف عن نظريّة المشهور ، حيث إنّ المشهور قد فسّروا الانشاء بايجاد المعنى باللفظ.
ولكن قد حققنا هناك (١) أنّا لا نعقل لذلك معنىً صحيحاً معقولاً ، والسبب في ذلك : هو أنّهم لو أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني ، كايجاد الجوهر والعرض ، فبطلانه من البديهيات التي لا تقبل الشك ، ضرورة أنّ الموجودات الخارجية ـ بشتى أشكالها وأنواعها ـ ليست ممّا توجد بالألفاظ ، كيف والألفاظ ليست واقعةً في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.
وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك ، فيردّه : أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني ، من دون حاجة إلى اللفظ والتكلم به ، ضرورة أنّ اللفظ في الجملة الانشائية لا يكون علّة لايجاد الأمر الاعتباري ، ولا واقعاً في سلسلة علته ، لوضوح أنّه يتحقق بنفس اعتبار المعتبر في افق النفس ، سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.
ودعوى : أنّ مرادهم بذلك الايجاد التنزيلي ، ببيان أنّ وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه تنزيلاً ، ومن هنا يسري إليه قبح المعنى وحسنه ،
__________________
(١) في ص ٩٧.