محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

..........

______________________________________________________

من الله تعالى أن يجعله سعيداً ، فلو كانت الشقاوة صفة ذاتية له ولازمة لذاته فكيف يعقل تغييرها وانقلابها إلى صفة اخرى وهي السعادة. ودعوى أنّ قوله ٩ في صحيحة الكناني : « الشقي من شقي في بطن امّه ، والسعيد من سعد في بطن امّه » (١) وقوله : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة » (٢) يدلاّن على أنّ السعادة والشقاوة صفتان ذاتيتان للانسان ، خاطئة جداً.

وذلك أمّا صحيحة الكناني فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة ولم تكن قرينة خارجية على الخلاف لأمكن أن يقال بدلالتها على أنّهما صفتان ذاتيتان له ، ولكن حيث لايمكن كونهما ذاتيتين على نحو العلّة التامّة فبطبيعة الحال تكونان على نحو الاقتضاء ، ولكن القرينة الخارجية قد منعتنا عن الأخذ بظاهرها ، وهي صحيحة ابن أبي عمير الواردة في بيان المراد منها قال : « سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشقي من شقي في بطن امّه السعيد من سعد في بطن امّه ، فقال : الشقي من علم الله ( علمه الله ) وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله ( علمه الله ) وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال السعداء » (٣) فانّها واضحة الدلالة على بيان المراد من تلك الصحيحة وإطار مدلولها ، وقد تقدّم في ضمن البحوث السابقة بشكل موسّع أنّ العلم الأزلي لا يكون سبباً للجبر ومنشأً له ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ نفس هذه الصحيحة تدل على أنّ الشقاوة والسعادة صفتان

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٣٩٥ المجلس ٧٤ ( مع اختلاف ).

(٢) الكافي ٨ : ١٧٧ ح ١٩٧.

(٣) البحار ٥ : ١٥٧ ح ١٠.

٤٦١

..........

______________________________________________________

عارضتان على الانسان بمزاولة الأعمال الخارجية كسائر الملكات النفسانية الطيّبة والخبيثة التي تحصل لنفس الانسان من مزاولة الأعمال الحسنة والسيِّئة ، وليستا من الصفات الذاتية اللازمة لذاته منذ وجوده في هذا الكون أو انعقاده في الرحم.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّهما صفتان عارضتان ، المنتزعتان من الأعمال الخارجية.

وأضف إلى ذلك : أنّنا إذا حلّلنا الانسان تحليلاً موضوعياً فلا نجد فيه غير الصفات المعروفة ، والملكات النفسانية ، والقوى الشهوانية ، والقوى العقلية صفةً اخرى ذاتية له تسمى بصفة الشقاوة أو السعادة.

وبكلمة اخرى : أنّ الانسان لحظة تكوّنه في بطن امّه أو لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة صفة من الصفات والملكات النفسانية ، والقوى العقلية والشهوانية ، ما عدا حياته الحيوانية ، وتحصل هذه الصفات والملكات والقوى له بمرور الأيّام وطول الزمن ، وبطبيعة الحال أنّ صفتي الشقاوة والسعادة لو كانتا ذاتيتين له لكان الانسان واجداً لهما من تلك اللحظة وهو كما ترى.

ومن هنا لا يصح إطلاق الشقي عليه منذ تلك اللحظة وكذلك السعيد.

وعلى هذا الضوء فلا مناص من الالتزام بأ نّهما كسائر الملكات النفسانية تحصل لنفس الانسان من مزاولة الأعمال الخارجية ، مثلاً تحصل صفة الشقاوة لها من مزاولة الأعمال السيِّئة ، وصفة السعادة من مزاولة الأعمال الحسنة ، وليس لهما واقع موضوعي غير هذا.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذا البيان التحليلي قرينة على حمل الصحيحة على ما ذكر آنفاً مع قطع النظر عمّا ورد في تفسيرها وبيان المراد منها.

٤٦٢

السادس : أنّ شيخنا المحقق قدس‌سره قد أجاب عن هذه المسألة بجوابين :

الأوّل : أنّ العقوبة والمثوبة ليستا من معاقب ومثيب خارجي ، بل هما من تبعات الأفعال ولوازم الأعمال ، ونتائج الملكات الرذيلة ، وآثار الملكات الفاضلة ، ومثل تلك العقوبة على النفس لخطيئتها كالمرض العارض على البدن لنهمه ، والمرض الروحاني كالمرض الجسماني ، والأدوية العقلائية كالأدوية الجسمانية ، ولا استحالة في استلزام الملكات النفسانية الرذيلة للآلام الجسمانية والروحانية في تلك النشأة ـ أي النشأة الاخروية ـ كما أنّها تستلزم في هذه النشأة الدنيوية ، ضرورة أنّ تصور المنافرات كما يوجب الآلام النفسانية كذلك يوجب الآلام الجسمانية.

فإذن لا مانع من حدوث منافرات روحانية وجسمانية بواسطة الملكات الخبيثة النفسانية ، فالنتيجة أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي حتّى يقال :

__________________

وأمّا الرواية الثانية : فهي لا تدل بوجه على أنّهما صفتان ذاتيتان للانسان ، بداهة أنّها لا تتعرّض لهما لا تصريحاً ولا تلويحاً ، فكيف تكون ناظرةً إليهما ودالّة على كونهما ذاتيتين ، بل هي ناظرة إلى اختلاف أفراد الانسان بحسب الملكات والكمالات النفسانية ، ومراتبها الدانية والعالية ، كاختلاف الذهب والفضّة.

فالنتيجة من مجموع ما ذكرناه : قد تبيّن أنّ القول بكون صفتي السعادة والشقاوة ذاتيتين للانسان لا يخرج عن مجرد الفرض والخيال.

وأمّا النقطة الخامسة : فقد ظهر خطؤها من ناحيتين : الاولى : أنّ الشقاوة ليست صفةً ذاتيةً للانسان ليكون في انتهاء العقاب إليها القضاء الحاسم على قاعدة قبح العقاب على أمر خارج عن الاختيار. الثانية : أنّ العقاب لا يعقل أن يكون من لوازم تلك الصفة على نحو العلّة التامّة ، بل هو من معاقب خارجي كما تقدّم بشكل مفصّل.

٤٦٣

كيف يمكن صدور العقاب من الحكيم المختار على ما لايكون بالأخرة بالاختيار.

وفي الآيات والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك ، فقد تكرر في القرآن الكريم (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقال عليه‌السلام : « إنّما هي أعمالكم ترد إليكم ».

الثاني : أنّ المثوبة والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي كما دلّ على ذلك ظاهر الكتاب والسنّة ، وتصحيحهما بعد صحّة التكليف بذلك المقدار من الاختيار في غاية السهولة ، إذ كما أنّ المولى العرفي يؤاخذ عبده على مخالفة أمره ، كذلك المولى الحقيقي ، لوضوح أنّ الفعل لو كان بمجرد استناده إلى الواجب تعالى غير اختياري وغير مصحح للمؤاخذة ، لم تصح مؤاخذة المولى العرفي أيضاً ، وإذا كان في حدّ ذاته قابلاً للمؤاخذة عليه ، فكون المؤاخذة ممّن انتهت إليه سلسلة الارادة والاختيار لا يوجب انقلاب الفعل عمّا هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممّن خولف أمره ونهيه.

وقد أجاب عن ذلك بجواب آخر : وهو أنّ الحكم باستحقاق العقاب ليس من أجل حكم العقلاء به حتّى يرد علينا إشكال إنتهاء الفعل إلى ما لا بالاختيار ، بل نقول بأنّ الفعل الناشئ عن هذا المقدار من الاختيار مادة لصورة اخروية ، والتعبير بالاستحقاق بملاحظة أنّ المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لافاضة الصورة من واهب الصور.

ومنه تعرف أنّ نسبة التعذيب والادخال في النار إليه تعالى بملاحظة أنّ إفاضة تلك الصورة المؤلمة المحرقة التي تطّلع على الأفئدة منه تعالى بتوسط ملائكة العذاب ، فلاينافي القول باللزوم ، مع ظهور الآيات والروايات في العقوبة من معاقب خارجي (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٩٧.

٤٦٤

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره من الأجوبة.

أمّا الأوّل : فيرد عليه ما أوردناه على الجواب الأوّل حرفاً بحرف فلا نعيد.

وأمّا الاستشهاد على ذلك بالآيات والروايات فغريب جداً ، لما سبق من أنّ الآيات والروايات قد نصّتا على خلاف ذلك ، وأمّا قوله تعالى : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١) فلا يكون مشعراً بذلك فضلاً عن الدلالة ، ضرورة أنّ مدلوله جزاء الناس بسبب الأعمال الصادرة منهم في الخارج ، وأمّا كونه من آثارها ولوازمها التي لا تتخلف عنها فلا يدل عليه بوجه أصلاً.

وأمّا قوله عليه‌السلام : « إنّما هي أعمالكم ترد إليكم » (٢) فظاهر في تجسم الأعمال ، ولا يدل على أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي ، بداهة أنّه لا تنافي بين الالتزام بتجسم الأعمال في الآخرة وكونه بيد الله تعالى وتحت اختياره.

وأمّا الثاني ، فيرد عليه ما تقدّم في ضمن البحوث السابقة (٣) من أنّ مجرد كون الفعل مسبوقاً بالارادة لا يصحح مناط اختياريته رغم أنّ الارادة بكافة مبادئها غير اختيارية من ناحية ، وكونها علّة تامّةً من ناحية اخرى ومنتهية [ إلى ] الارادة الأزلية من ناحية ثالثة ، بداهة أنّ الفعل والحال هذه كيف يعقل كونه اختيارياً. وعلى هذا الضوء فلا يمكن القول باستحقاق العقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب على الفعل الخارج عن الاختيار. فإذن هذا الجواب

__________________

(١) الطور ٥٢ : ١٦.

(٢) بحار الأنوار ٣ : ٩٠.

(٣) في ص ٣٩٥ وما بعدها.

٤٦٥

لا يجدي في دفع المحذور المزبور.

وأمّا الثالث ، فهو مبتنٍ على تجسم الأعمال ، وهو وإن كان غير بعيد نظراً إلى ما يظهر من بعض الآيات (١) والروايات (٢) إلاّ أنّ مردّه ليس إلى أنّ تلك الأعمال مادّة لصورة اخروية المفاضة من واهب الصور على شكل اللزوم بحيث يستحيل تخلّفها عنها ، بداهة أنّ التجسم بهذا المعنى مخالف صريح للكتاب والسنّة ، حيث إنّهما قد نصّا على أنّ العقاب بيده تعالى ، وله أن يعاقب وله أن يعفو.

وعلى الجملة : فالمجيب بهذا الجواب وإن كان يدفع مسألة قبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار ، حيث إنّ العقاب على أساس ذلك صورة اخروية للأعمال الخارجية اللازمة لها الخارجة عن اختيار المعاقب الخارجي فلا يتصف بالقبح ، إلاّ أنّه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه في نهاية المطاف : أنّ الالتزام باستحقاق العقاب من معاقب خارجي وحسنه لا يمكن إلاّعلى ضوء نظريتي الإمامية والمعتزلة. وأمّا على ضوء نظريّتي الأشاعرة والفلاسفة فلا يمكن حلّ هذه المشكلة إلاّبوجه غير ملائم لأساس الأديان والشرائع.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدّة نتائج :

الاولى : أنّ إرادته تعالى عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة والسلطنة

وهي فعله سبحانه وتعالى ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الشوق المؤكد لا يعقل أن يكون إرادةً له تعالى. ومن ناحية ثالثة : أنّ إرادته سبحانه ليست من الصفات العليا الذاتية. ومن ناحية رابعة : أنّ الكتاب والسنّة تنصّان على أنّ إرادته تعالى فعله.

__________________

(١) منها : آل عمران ٣ : ٣٠ ، الزلزلة ٩٩ : ٦ ، ٧ ، ٨.

(٢) الكافي ٢ : ١٩٠ / ٨ ، ١٩١ / ١٠ و ١٢.

٤٦٦

ومن ناحية خامسة : أنّه لا وجه لحمل الكتاب والسنّة على بيان الارادة الفعلية دون الذاتية كما عن الفلاسفة وجماعة من الاصوليين ، وذلك أوّلاً : لعدم الدليل على كون إرادته تعالى ذاتية ، بل قد تقدّم عدم تعقل معنىً صحيح لذلك.

وثانياً : أنّ في نفس الروايات ما يدل على نفي الارادة الذاتية.

الثانية : أنّ تفسير الارادة بالعلم بالنظام الكامل التام من ناحية

كما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ، وبالرضا والابتهاج من ناحية اخرى كما عن شيخنا المحقق قدس‌سره تفسير خاطئ لا واقع موضوعي له.

الثالثة : أنّ تقسيم المشيئة إلى مشيئة ذاتية وهي عين ذاته تعالى ، وإلى مشيئة فعلية وهي الوجود الاطلاقي المنبسط كما عن الفلاسفة وشيخنا المحقق قدس‌سره قد تقدّم نقده بشكل موسّع ، وقلنا هناك إنّ هذا التقسيم يقوم على أساس أن تكون نسبة الأشياء إلى ذاته الأزلية نسبة المعلول إلى العلّة التامّة من كافّة الجهات والنواحي ، لا نسبة الفعل إلى الفاعل المختار. وقد سبق نقد هذا الأساس بصورة موضوعية ، وأقمنا البرهان على أنّه لا واقع له في أفعاله تعالى.

الرابعة : أنّ الأشاعرة قد استدلّوا على الجبر بعدّة وجوه ، وقد تقدّمت المناقشة في تمام تلك الوجوه وبينّا عدم دلالة شيء منها على ذلك.

الخامسة : أنّ ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري ـ من أنّ عادة الله تعالى قد جرت على أن يوجد في العبد فعله مقارناً لايجاد القدرة والاختيار فيه ،

فيكون فعل العبد مخلوقاً له تعالى إبداعاً وإحداثاً ـ قد تقدّم نقده بشكل موسّع ، وقلنا هناك إنّه لا يرجع إلى معنىً صحيح ، لا في المعاليل الطبيعية ، ولا في الأفعال الاختيارية.

السادسة : المعروف بين الفلاسفة قديماً وحديثاً أنّ الأفعال الاختيارية بشتّى أنواعها مسبوقة بالارادة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّها إذا بلغت

٤٦٧

حدّها التام تكون علّةً تامّةً لها ، وتبعهم على ذلك جماعة من الاصوليين. وقد تقدّمت المناقشة في ذلك بصورة مفصّلة ، وأقمنا البرهان مضافاً إلى الوجدان على أنّ الارادة لاتعقل أن تكون علّةً تامّةً للفعل ، هذا من جانب. ومن جانب آخر :

قد أثبتنا أنّ الأفعال الاختيارية بكافّة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة.

السابعة : أنّ قاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد تختص بالمعاليل الطبيعية فلا تعم الأفعال الاختيارية ، وذلك لما بينّاه هناك من أنّ تلك القاعدة تقوم على أساس مسألة التناسب التي هي الحجر الأساسي لمبدأ تأثير العلّة الطبيعية في معلولها ، ولا مجال لها في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية ، وقد ذكرنا الفرق الأساسي بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية في ضمن البحوث السالفة.

الثامنة : أنّ الأفعال الاختيارية تصدر عن الانسان بالاختيار وإعمال القدرة ،وأمّا الاختيار فهو غير مسبوق باختيار آخر ، بل يصدر عن النفس بالذات ، أي بلا واسطة.

التاسعة : أنّ شيخنا المحقق قدس‌سره قد ناقش في الاختيار بعدّة مناقشات ، وقد تعرّضنا لتلك المناقشات واحدةً بعد اخرى ، مع نقدها بصورة موسّعة.

العاشرة : أنّ أفعال العباد لا يمكن أن تقع تحت إرادة الله تعالى ومشيئته مباشرةً لوجهين قد تقدّما منّا ، وإنّما الواقع تحت إرادته سبحانه مبادئ تلك الأفعال.

الحادية عشرة : أنّ علمه تعالى بوقوع أفعال العباد في الخارج لا يوجب الجبر والاضطرار ، بداهة أنّ حقيقة العلم انكشاف الأشياء على ما هي عليه ولا يكون من مبادئ وقوعها. ومن هنا ذكرنا أنّ ما أفاده صدر المتألهين من أنّ علمه سبحانه سبب لوجوب وقوعها في الخارج وإلاّ لكان علمه جهلاً وهو

٤٦٨

محال ، خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

الثانية عشرة : أنّ ما ذهب إليه الفلاسفة من أنّ الذات الأزلية علّة تامّة للأشياء وأ نّها بكافّة أنواعها تصدر منها على ضوء مبدأ التناسب خاطئ جداً ولا واقع له ، ومن هنا قد ناقشنا فيه بعدّة مناقشات.

الثالثة عشرة : أنّ المعتزلة قد استدلّوا على إثبات نظريّتهم ـ التفويض ـ باستغناء البقاء ـ أي بقاء الممكن عن الحاجة ـ إلى المؤثر بدعوى أنّ سرّ حاجة الممكن وفقره إلى العلّة إنّما هو حدوثه ، وبعده فلا يحتاج إليها ، وقد تقدّم نقد هذه النقطة بشكل موسّع في الأفعال الاختيارية ، والمعاليل الطبيعية معاً ، وقد أثبتنا أنّ سرّ حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلّة إنّما هو إمكانه لا حدوثه.

الرابعة عشرة : أنّ الصحيح المطابق للوجدان والواقع الموضوعي هو نظريّة الأمر بين الأمرين في أفعال العباد التي قد اختارت الطائفة الإمامية تلك النظريّة بعد رفضها نظريّتي الأشاعرة والمعتزلة فيها. وقد دلّت على صحّة تلك النظريّة الروايات الكثيرة التي تبلغ حدّ التواتر من ناحية ، وعلى بطلان نظريّتي الأشاعرة والمعتزلة من ناحية اخرى. هذا مضافاً إلى البراهين العقلية التي تقدّمت.

الخامسة عشرة : أنّ لأفعال العباد نسبتين حقيقيتين : إحداهما إلى فاعلها بالمباشرة. وثانيتهما إلى الله تعالى باعتبار أنّه سبحانه معطي مقدّماتها ومبادئها آناً بعد آن بحيث لو انقطع الاعطاء في آنٍ انتفت المقدّمات.

السادسة عشرة : يمتاز ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعية عن ارتباط الفعل بالفاعل المختار في نقطة ، ويشترك معه في نقطة اخرى. أمّا نقطة الامتياز فهي أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة ، والمعلول في الفواعل الارادية يرتبط بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته ، وأمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ المعلول كما لا واقع موضوعي له ما وراء ارتباطه بذات العلّة ويستحيل تخلّفه عنها ، كذلك

٤٦٩

الفعل لا واقع له ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل واختياره ويستحيل تخلّفه عنها.

السابعة عشرة : أنّ الآيات الكريمة كقوله تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ) وما شاكله تدلّنا على نظريّة الأمر بين الأمرين وتصدّق تلك النظريّة ، ولا تدل على نظريّة الجبر ، ولا على التفويض.

الثامنة عشرة : أنّ ما أورده الفخر الرازي من الشبهة على خلقه تعالى العالم بالترتيب الموجود والشكل الحالي وعدم خلقه بترتيب آخر وشكل ثانٍ قد تقدّم نقده بشكل موسّع على ضوء كلتا النظريتين ، يعني نظريّة الفلاسفة ونظريّة الاختيار.

التاسعة عشرة : لا إشكال في صحّة استحقاق العبيد للعقاب على مخالفة المولى واستقلال العقل بذلك على ضوء كلٍ من نظريتي : الإمامية والمعتزلة ، وإنّما الاشكال في صحّة استحقاقهم له على ضوء نظريّة الأشاعرة [ والفلاسفة ] وقد تقدّم الاشكال في ذلك على ضوء استقلال العقل بقبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار.

العشرون : قد اجيب عن ذلك الاشكال بعدّة أجوبة. وقد ناقشنا في جميع تلك الأجوبة ، وقلنا إنّ شيئاً منها لا يعالج المشكلة ، فلا يمكن حلّ هذه المشكلة بصورة صحيحة وبشكل واقعي موضوعي إلاّعلى ضوء نظريّة الإمامية.

٤٧٠

صيغة الأمر

وأمّا المقام الثاني : هيئة افعل وما شاكلها من الهيئات فالكلام فيه يقع من جهات :

الاولى : قد ذكر لصيغة الأمر عدّة معان : الطلب ، التهديد ، الانذار ، الاحتقار ، الاهانة ، الترجي ، وغير ذلك.

ولكن ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ هذه المعاني ليست من معاني الصيغة ، وأ نّها لم تستعمل فيها وإنّما استعملت في إنشاء الطلب فحسب. وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه :

ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم تستعمل إلاّفي إنشاء الطلب ، إلاّ أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي يكون اخرى أحد هذه الامور ، وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداعي آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثاً حقيقةً وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً ، وهذا غير كونها مستعملةً في التهديد وغيره.

ثمّ ذكر بقوله : ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصيغ الانشائية ، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني والترجي والاستفهام بصيغها تارةً هو ثبوت هذه الصفات حقيقة ، يكون الداعي غيرها اخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه ( تبارك وتعالى ) ممّا لازمه العجز أو الجهل وأ نّه لا وجه له ، فانّ المستحيل إنّما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي الذي يكون بمجرّد

٤٧١

قصد حصوله بالصيغة ، كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضاً ، لا لاظهار ثبوتها حقيقةً ، بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبّة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك. ومنه ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً (١).

ملخّص ما أفاده قدس‌سره هو أنّ صيغة الأمر موضوعة لمعنى واحد وهو الطلب الانشائي وتستعمل فيه دائماً ، نعم يختلف الداعي إلى إنشائه ، فقد يكون هو الطلب الحقيقي ، وقد يكون التهديد ، وقد يكون الاحتقار ، وقد يكون أمراً آخر ، فبالأخرة يكون المورد من اشتباه الداعي بالمعنى ثمّ قال : إنّ الأمر في سائر الصيغ الانشائية أيضاً كذلك.

ولنأخذ بالمناقشة عليه : وهي أنّ ما أفاده قدس‌سره يرتكز على نظريّة المشهور في مسألة الانشاء وهي إيجاد المعنى باللفظ في مقابل الاخبار ، إذ على ضوء هذه النظريّة يمكن دعوى أنّ صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إيجاد الطلب وتستعمل فيه دائماً ، ولكن الداعي إلى إيجاده يختلف باختلاف الموارد وخصوصيات المقامات. ولكن قد ذكرنا في مبحث الانشاء (٢) أنّ هذه النظريّة ساقطة فلا واقع موضوعي لها ، وقلنا إنّ اللفظ لا يعقل أن يكون موجداً للمعنى لا حقيقةً ولا اعتباراً. ومن ذلك فسّرنا حقيقة الانشاء هناك بتفسير آخر وحاصله : هو أنّ الانشاء عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل ذلك.

وعلى ضوء هذا التفسير لا مانع من الالتزام بتعدّد المعنى لصيغة الأمر ، بيان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٩.

(٢) في ص ٩٨.

٤٧٢

ذلك : أنّ الصيغة على هذا موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، ومن الطبيعي أنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد ويتعدّد بتعدّد المعاني ، ففي كل مورد تستعمل الصيغة في معنى يختلف عن استعمالها في معنى آخر في المورد الثاني ويغايره وهكذا ، فانّ المتكلم تارةً يقصد بها إبراز ما في نفسه من اعتبار المادة على ذمّة المخاطب. واخرى إبراز ما في نفسه من التهديد. وثالثة إبراز ما في نفسه من السخرية أو التعجيز أو ما شاكل ذلك ، فالصيغة على الأوّل مصداق للطلب والبعث الاعتباريين وعلى الثاني مصداق للتهديد كذلك ، وعلى الثالث مصداق للسخرية ، وهكذا ، ومن الواضح أنّها في كل مورد من تلك الموارد تبرز معنى يباين لما تبرز في المورد الثاني ويغايره.

ثمّ بعد أن كانت الصيغة تستعمل في معانٍ متعددة كما عرفت ، فهل هي موضوعة بازائها على نحو الاشتراك اللفظي ، أو موضوعة لواحد منها ويكون استعمالها في غيره مجازاً؟ وجهان ، الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ المتبادر من الصيغة عند إطلاقها هو إبراز اعتبار الفعل على ذمّة المكلف في الخارج ، وأمّا إرادة إبراز التهديد منها أو السخرية أو الاستهزاء أو نحو ذلك فتحتاج إلى نصب قرينة وبدونها لا دلالة لها على ذلك ، ومن الطبيعي أنّ ذلك علامة كونها موضوعةً بازاء المعنى الأوّل ، دون غيره من المعاني.

الجهة الثانية : لا ينبغي الشك في أنّ الأوامر الصادرة من الموالي ومنها أوامر الكتاب والسنّة على نحوين : أحدهما ما يراد منها اللزوم والحتم على نحو يمنع العبد عن مخالفتها. وثانيهما ما يراد منها البعث المقرون بالترخيص على نحو يجوز مخالفتها وعدم مانع عنها ، ويسمى الأوّل بالوجوب ، والثاني بالندب. وعلى هذا فان قامت قرينة حالية أو كلامية على تعيين أحدهما لزم اتباعها ، وإن لم تقم قرينة على ذلك فهل الصيغة بنفسها ظاهرة في المعنى الأوّل بحيث تحتاج

٤٧٣

إرادة المعنى الثاني منها إلى قرينة تدل عليها ، أو ظاهرة في المعنى الثاني وتحتاج إرادة المعنى الأوّل إلى قرينة ، أو في الجامع بينهما وتحتاج إرادة كل منهما إلى قرينة ، أو فيهما على نحو الاشتراك اللفظي؟ وجوه وأقوال :

قد اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) القول الأوّل بدعوى أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ومجاز في غيره ، واستدلّ على ذلك بأنّ المتبادر منها عرفاً عند إطلاقها وتجردها عن القرينة المقالية والحالية هي الوجوب ، ومن الطبيعي أنّ التبادر المستند إلى نفس اللفظ علامة الحقيقة ، فلو كانت حقيقة في الندب أو مشتركة لفظية أو معنوية لم يتبادر الوجوب منها.

ثمّ أيّد ذلك بقيام السيرة العقلائية على ذم الموالي عبيدهم عند مخالفتهم لامتثال أوامرهم ، وعدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالتها عليه بحال أو مقال.

ثمّ أورد على نفسه بكثرة استعمال الصيغة في الندب ، وهي مانعة عن ظهورها في الوجوب وتبادره منها ، لوضوح أنّها لو لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا شبهة في أنّها مانعة عن انفهام الوجوب منها ، فإذن لا يمكن حملها عليه عند إطلاقها مجرّدةً عن القرينة.

وأجاب عن ذلك أوّلاً : بأنّ استعمالها في الندب لا يزيد على استعمالها في الوجوب ، لتكون كثرة الاستعمال فيه مانعة عن ظهورها في الوجوب.

وثانياً : أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي مع القرينة لا تمنع عن حمله على المعنى الحقيقي عند إطلاقه مجرّداً عنها ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ كثرة استعمال الصيغة في الندب مع القرينة لا تمنع عن حملها على الوجوب إذا كانت

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٠.

٤٧٤

خاليةً عنها.

ثمّ استشهد على ذلك بكثرة استعمال العام في الخاص حتّى قيل ما من عام إلاّ وقد خصّ ، ومع هذه الكثرة لا ينثلم ظهور العام في العموم إذا ورد في الكتاب والسنّة ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخاص.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا ما ذكره من أنّ المتبادر من الصيغة عرفاً الوجوب ، فيمكن نقده بأ نّه إنّما يكون علامةً للحقيقة إذا كان مستنداً إلى حاق اللفظ ونفسه ، ضرورة أنّ مجرد انفهام المعنى من اللفظ لا يكون علامةً لكونه حقيقة فيه ، وفيما نحن فيه المتبادر لدى العرف من الصيغة وإن كان هو الوجوب إلاّ أنّا لا نعلم استناده إلى حاق اللفظ ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة الاطلاق ومقدّمات الحكمة كما اختاره بعض الأعاظم (١) ، ويحتمل أن يكون ذلك من جهة حكم العقل كما اخترناه ، ومن الطبيعي أنّ التبادر مع هذا الاحتمال لا يكون دليلاً على الحقيقة.

ومن هنا يظهر الكلام فيما ذكره من التأييد بقيام السيرة العقلائية على الذم عند المخالفة ، فانّه وإن كان مسلّماً إلاّ أنّه لا يدل على كون الوجوب مدلولاً وضعياً للصيغة ومتبادراً منها عرفاً ، بل لعلّه لحكم العقل بذلك ، أو للاطلاق ومقدّمات الحكمة.

وعلى الجملة : فقيام السيرة إنّما يدل على كون الوجوب مستفاداً منها ، وأمّا كون ذلك بالوضع أو بالاطلاق ، أو من ناحية حكم العقل فلا يدل على شيء منها.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّ استعمال الصيغة في الندب أكثر من

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ١٦٢.

٤٧٥

استعمالها في الوجوب فهو غير بعيد.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّ كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كانت مع القرينة لا تمنع عن الحمل على الحقيقة إذا تجرد الكلام عنها ، وإن كان متيناً جداً بحسب الكبرى ، إلاّ أنّ استشهاده قدس‌سره على تلك الكبرى بالعام والخاص في غير محلّه ، وذلك لأنّ كثرة الاستعمال في المقام إذا افترضنا أنّها مانعة عن الحمل على الحقيقة إلاّ أنّها لا تمنع في العام والخاص ، وذلك لأنّ لصيغ العموم أوضاعاً متعددة حسب تعدد تلك الصيغ ، وعليه فلا بدّ من ملاحظة كثرة الاستعمال في كل صيغة على حدة وبنفسها. ومن الطبيعي أنّ كثرة الاستعمال في الخاص في إحدى هذه الصيغ لاتمنع عن حمل الصيغة الاخرى على العموم. مثلاً كثرة استعمال لفظة الكل في الخاص لا تمنع عن ظهور الجمع المحلى باللام في العموم ، وهكذا.

وبكلمة اخرى : أنّ كثرة استعمال العام في الخاص تمتاز عن كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب بنقطة : وهي أنّ القضيّة الاولى تنحل بانحلال صيغ العموم وأدواته ، فيكون لكل صيغة منها وضع مستقل غير مربوط بوضع صيغة اخرى منها. ولذلك لا بدّ من ملاحظة الكثرة في كل واحدة منها بنفسها مع قطع النظر عن الاخرى ، وهي تمنع عن الحمل على الحقيقة فيها دون غيرها. وهذا بخلاف صيغة الأمر حيث إنّ لها وضعاً واحداً فبطبيعة الحال كثرة استعمالها في الندب تمنع عن حملها على الوجوب بناءً على الفرضية المتقدمة.

هذا ، مضافاً إلى أنّ ذلك ينافي ما التزمه قدس‌سره في مبحث العموم والخصوص من أنّ التخصيص لا يوجب التجوّز في العام واستعماله في الخاص ، بل هو دائماً استعمل في معناه العام سواء أورد عليه التخصيص أم لا ، على

٤٧٦

تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى (١).

وذهب إلى القول الثاني بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) وأفاد : أنّ الصيغة وإن لم تدل على الوجوب بالوضع ، ولكنّها تدل عليه بالاطلاق ومقدّمات الحكمة ، بيان ذلك : أنّ الارادة المتعلقة بفعل الغير تختلف شدّةً وضعفاً حسب اختلاف المصالح والأغراض الداعية إلى ذلك ، فمرّةً تكون الارادة شديدةً وأكيدةً بحيث لايريد المولى تخلّف إرادته عن المراد ، ولايريد تخلّف العبد عن الاطاعة والامتثال.

واخرى تكون ضعيفةً على نحو لا يمنع المولى العبد من التخلّف ، ولا يكون العبد ملزماً بالفعل ، بل له أن يشاء الفعل ، وله أن يشاء الترك.

فعلى الأوّل يطلب المولى الفعل على سبيل الحتم والالزام ، ويعبّر عنه بالوجوب ، فيكون الوجوب في واقعه الموضوعي طابعاً مثالياً للارادة الشديدة الأكيدة ومرآةً لها ، فهي روح الوجوب وواقعه الموضوعي.

وعلى الثاني يطلب ذلك طلباً ضعيفاً على سبيل الندب وعدم الحتم ، ويعبّر عنه بالاستحباب ، فيكون الاستحباب مثالاً موضوعياً لتلك المرتبة من الارادة ، وهي روحه وواقعه الموضوعي.

وهذا الاختلاف في الارادة أمر وجداني ، حيث إنّنا نرى بالوجدان أنّ إرادة العطشان مثلاً باتيان الماء البارد أشد وآكد من إرادته باتيان الفاكهة مثلاً بعد الغذاء ، هذا من ناحية.

__________________

(١) في المجلد الرابع من هذا الكتاب ص ٣١٧.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ١٦٢.

٤٧٧

ومن ناحية اخرى : أنّ شدّة الارادة ليست بأمر زائد على الارادة ، بل هي عين تلك المرتبة في الخارج ونفسها ، فما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز ، نظير السواد والبياض الشديدين حيث إنّ ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز.

ومن ناحية ثالثة : أنّ صفة الضعف في الارادة حدّ عدمي ، وعليه فبطبيعة الحال تكون تلك الصفة أمراً زائداً عليها ، وتحتاج في بيانها إلى مؤونة زائدة في مقام الاثبات.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّ المولى إذا أمر بشيء وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على إرادة الجامع بين الارادة الشديدة والضعيفة ، فقضيّة الاطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة المرتبة الضيعفة هي حمل الأمر على بيان المرتبة الشديدة ، حيث قد عرفت أنّ بيانها لا يحتاج إلى مؤونة زائدة دون بيان المرتبة الضعيفة ، وبذلك نثبت إرادة الوجوب الذي هو طابع مثالي لتلك المرتبة من الارادة.

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ الوجوب ليس بمدلول وضعي للصيغة ، وإنّما هو مستفاد من الاطلاق ومقدّمات الحكمة.

الثاني : أنّ مدلولها الوضعي إنّما هو الطلب الجامع فلا تدل بالدلالة الوضعية إلاّ عليه.

ولنأخذ بالمناقشة عليه من وجوه :

الأوّل : أنّ ما أفاده قدس‌سره من اختلاف الارادة باختلاف الأوامر وجوباً وندباً لا يتم في الأوامر الشرعية ، وإنّما يتم في الأوامر العرفية.

فلنا دعويان : الاولى : عدم تمامية ما أفاده قدس‌سره في الأوامر الشرعية.

٤٧٨

الثانية : تماميته في الأوامر العرفية.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ الارادة التكوينية التي هي عبارة عن الشوق النفساني المحرّك للانسان نحو المراد إنّما يعقل تعلّقها بفعل الغير إذا كانت فيه مصلحة عائدة إلى ذات المريد أو إلى إحدى قواه ، ولا يعقل تعلّقها بما لا تعود مصلحته إليه ، بداهة أنّ الشوق النفساني إلى شيء بنفسه لا يعقل إلاّعن فائدة عائدة إلى الفاعل ، وذلك غير متحقق في الأحكام الشرعية ، فانّ مصالح متعلقاتها تعود إلى المكلفين دون الشارع. نظير أوامر الطبيب حيث إنّ مصالح متعلقاتها تعود إلى المرضى دونه.

ومن الطبيعي أنّ اختلاف أوامره إلزاماً وندباً لا ينشأ عن اختلاف إرادته شدّةً وضعفاً ، لما عرفت من عدم تعلّقها بما يعود نفعه إلى غيره دونه ، إلاّ أن يكون ملائماً لإحدى قواه ، فعندئذ يكون منشأً لحدوث الشوق في نفسه ، ولكنّه خلاف الفرض.

وأضف إلى ذلك : أنّ الارادة بمعنى الشوق النفساني لا تعقل في ذاته ( سبحانه وتعالى ) والارادة بمعنى المشيئة لا تعقل أن تتعلق بفعل الغير وإن افترض أنّ نفعه يعود إليه.

وبكلمة اخرى : أنّ ملاك شدّة الارادة وضعفها تزايد المصلحة في الفعل وعدم تزايدها ، وحيث إنّ تلك المصلحة بشتّى مراتبها من القويّة والضعيفة تعود إلى العباد دون المولى لاستغنائه عنها تمام الاستغناء ، فلا يعقل أن تكون منشأً لحدوث الارادة في نفس المولى فضلاً عن أن يكون اختلافها منشأً لاختلافها شدّةً وضعفاً.

على أنّ اختلاف تلك المصلحة العائدة إلى العباد لا يعقل أن يكون سبباً لاختلاف إرادة المولى كذلك ، نظير إرادة الطبيب حيث إنّها لا تعقل أن تختلف

٤٧٩

شدّةً وضعفاً باختلاف المصلحة التي تعود إلى المريض فتأمل. وعلى هذا الضوء فلا يكون إطلاق الصيغة بمعونة مقدّمات الحكمة قرينة على إرادة الوجوب.

وأمّا الدعوى الثانية : فحيث إنّ مصالح متعلقات الأوامر العرفية تعود إلى المولى دون العبيد ، فبطبيعة الحال تكون سبباً لحدوث الارادة في نفسه ، وبما أنّ تلك المصالح تختلف شدّةً وضعفاً ، فلا محالة تكون منشأً لاختلاف إرادته كذلك.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده هذا القائل لو تمّ فانّما يتم في الأوامر العرفية دون الأوامر الشرعية.

الثاني : لو تنّزلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مردّ اختلاف الوجوب والندب إلى اختلاف الارادة شدّة وضعفاً ، إلاّ أنّ دعوى كون الارادة الشديدة لا تزيد على الارادة بشيء ، فهي إرادة صرفة ، دون الارادة الضعيفة فانّها لمكان ضعفها زائدة على الارادة وهي صفة ضعفها ، فانّها حدّ عدمي ، خاطئة جداً ، وذلك لأنّ الارادة بشتّى ألوانها وأشكالها محدودة بحد ، من دون فرق في ذلك بين الارادة الشديدة والضعيفة ، كيف فانّهما مرتبتان متضادتان من الارادة ، وعليه فبطبيعة الحال يكون لكل منهما حد خاص.

وإن شئت فقل : إنّ الارادة التي هي واقع الوجوب ، روحه من الامور الممكنة ، ومن البديهي أنّ كل ممكن محدود بحد خاص ، غاية الأمر يزيد الوجوب على الندب بشدّة الارادة.

وعلى هذا الضوء فكما لايمكن التمسك باطلاق الصيغة لاثبات الندب ، فكذلك لايمكن التمسك باطلاقها لاثبات الوجوب ، بل لابدّ من التوقف ، لفرض احتياج كل منهما إلى بيان زائد.

الثالث : لو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ الارادة الشديدة غير محدودة بحد بخلاف الارادة الضعيفة ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن التمسك باطلاق الصيغة

٤٨٠