محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

٢ ـ أن تبقى الذات بعد انقضاء المبدأ عنها ، فإذا اجتمعت هاتان الركيزتان في شيء دخل في محل البحث ، وإلاّ فلا.

الثالث : أنّ محل النزاع هنا يتمحض في وضع هيئات المشتقات وسعة معانيها وضيقها ، بلا نظر إلى موادها أصلاً ، واختلافها لا يوجب الاختلاف في محل البحث كما تقدّم.

الرابع : أنّ الأفعال جميعاً لاتدل على الزمان حسب وضعها.

نعم ، إذا اسندت إلى الزماني دلّت على وقوع الحدث في زمنٍ ما ، إلاّ أنّ هذه الدلالة خارجة عن مداليلها ، ومستندة إلى خصوصية اخرى كما سبق.

الخامس : أنّ نقاط الميز بين الأفعال بعد خروج الزمان عن مداليلها هي : أنّ الفعل الماضي يدل على تحقق الحدث قبل زمن التكلم ، والمضارع يدل على تحقق الحدث في زمن التكلم أو ما بعده ، والأمر يدل على الطلب حال التلفظ ، فهذه النقاط هي النقاط الرئيسية للفرق بينها ، وهي توجب تعنون كل واحد منها بعنوان خاص واسم مخصوص ، وتمنع عن صحّة استعمال أحدها في موضع الآخر ، وموجودة في جميع موارد استعمالاتها كما مرّ بيانه.

السادس : أنّ المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة هو فعلية تلبس الذات بالمبدأ ، لا زمان النطق ، كما سبق من أنّ الزمان مطلقاً ـ سواء كان زمان النطق أم غيره ـ لم يؤخذ في مفاهيم المشتقات.

السابع : أنّه لا أصل موضوعي يرجع إليه عند الشك في وضع المشتق للأعم أو الأخص.

الثامن : أنّ الأصل الحكمي في المقام هو البراءة مطلقاً ولو كان للحكم حالة سابقة.

هذا تمام الكلام في المقدّمات.

٢٨١

الأقوال في المسألة

قال المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره إنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت ، إلاّ أنّها حدثت بين المتأخرين بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين ، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال ، وقد مرت الإشارة إلى أنّه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده (١).

أقول : الصحيح كما أفاده قدس‌سره وذلك لما عرفت من أنّ مركز البحث والنزاع هنا في وضع هيئة المشتق وفي سعة معناه وضيقه واختلافه من كل من الناحيتين المزبورتين أجنبي عن المركز بالكلية.

ولشيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) في المقام كلام وحاصله : هو أنّ النزاع في وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً أو للأعم منه مبتنٍ على البساطة والتركب في المفاهيم الاشتقاقية ، فعلى القول بالتركب حيث إنّه قد اخذ في مفهوم المشتق انتساب المبدأ إلى الذات ، ويكفي في صدق الانتساب التلبّس في الجملة ، فلا محالة يكون المشتق موضوعاً للأعم ، وعلى القول بالبساطة فمفهوم المشتق ليس إلاّنفس المبدأ المأخوذ لا بشرط فهو ملازم لصدق نفس المبدأ ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة ، ويكون حاله حينئذ حال الجوامد في أنّ المدار في صدق العنوان فعلية المبدأ ، وإن كان بينهما فرق من جهة اخرى ، وهي أنّ شيئية الشيء حيث إنّها بصورته لا بمادته ، فالمادة لا تتصف بالعنوان أصلاً ، ولذا لا يصح استعمالها في المنقضي عنه وما لم يتلبس به بعد ولو مجازاً.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١١٠ وما بعدها.

٢٨٢

وهذا بخلاف المشتقات ، فانّ المتصف بالعناوين الاشتقاقية هي الذوات وهي باقية بعد الانقضاء وزوال التلبّس فيصحّ الاستعمال مجازاً ، وحيث إنّ المختار عندنا القول ببساطة المفاهيم الاشتقاقية ، فيتعين أنّ الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً ، هذا.

ثمّ عدل قدس‌سره عن هذه الملازمة ، أي استلزام القول بالتركب الوضع للأعم ، واستلزام القول بالبساطة الوضع للأخص وقال : الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس مطلقاً سواء قلنا بالبساطة أم بالتركب ، وأفاد في وجه ذلك ما ملخّصه :

أمّا على البساطة ، فلأنّ الركن الوطيد على هذا القول هو نفس المبدأ ، غاية الأمر أنّه ملحوظ على نحو لا بشرط ، ومعه لا يأبى عن الحمل على الذات ولا يكون مبايناً لها في الوجود الخارجي ، فالصدق حينئذ متقوّم بالمبدأ وجوداً وعدماً ، فإذا انعدم فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلاّبالعناية ، بل قال :

إنّ العناوين الاشتقاقية من هذه الجهة أسوأ حالاً من العناوين الذاتية ، فانّ العناوين الذاتية وإن كانت فعليتها بفعلية صورها والمادة غير متصفة بالعنوان أصلاً ، إلاّ أنّها موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه ، ومن هنا يكون الاستعمال فيها قبل الاتصاف وبعد انقضائه غلطاً ، لأنّ العلائق المذكورة في محلّها من الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان كلّها مختصة بباب المشتقات. وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية ، فانّها عين مبادئها ، وهي بسيطة سواء كانت المبادئ من إحدى المقولات أم كانت من غيرها ، وغير مركبة من صورة ومادة ، فإذا انعدمت المبادئ تنعدم العناوين بالكلية ، ولا يبقى منها شيء أبداً.

وتوهم : أنّه لابدّ على هذا أن لا يصح استعمال العنوان الاشتقاقي في المنقضي عنه وما لم يتلبس بعد ولو مجازاً بطريق أولى ، لأنّه أسوأ حالاً من العنوان

٢٨٣

الذاتي ، والمفروض كما عرفت عدم جواز استعماله فيهما مطلقاً ، مدفوع بأ نّه وإن كان أسوأ حالاً منه ، إلاّ أنّ المتصف بالعناوين الاشتقاقية حين الاتصاف هي الذوات ، وحيث إنّها موجودة قبل الاتصاف وبعده ، فيصحّ الاستعمال بعلاقة الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان ، فبقاء الموصوف فيها هو المصحح لجواز الاستعمال وإن لم يؤخذ في المعنى.

وهذا بخلاف العناوين الذاتية ، فانّها كما عرفت عناوين لنفس الصور دون المادة ، فالمادة لاتتصف بها في حال من الأحوال ، مثلاً إنسانية الانسان بصورتها النوعية والمادة المشتركة لا تتصف بالانسانية أبداً ، ولا يصدق عليها عنوانها ، وتلك المادة وإن كانت موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه ، إلاّ أنّها لا تتصف بالانسانية في حال ، ولذا لا يصحّ الاستعمال في المنقضي وما لم يتلبس بعد حتّى مجازاً ، لعدم تحقق شيء من العلائق المزبورة.

فقد أصبحت النتيجة أنّ البراهين القائمة على البساطة تدل بالملازمة على وضع المشتق لخصوص المتلبس فعلاً ، دون الأعم.

وأمّا على التركب ، فلأنّ الذات المأخوذة في المفاهيم الاشتقاقية لا تكون مطلق الذات ، بل خصوص ذات متلبسة بالمبدأ ومتصفة بصفة ما على أنحائها المختلفة من الجواهر والأعراض وغيرهما ، ومن الواضح أنّه لا جامع بين الذات الواجدة لصفة ما والذات الفاقدة لها ، فانّ مفهوم المشتق على القول بالتركب مركب من الذات والمبدأ وليس مركباً من المبدأ والنسبة الناقصة ، ليكون المفهوم مركباً من مفهوم اسمي وحرفي ، وإلاّ لم يصح حمله على الذات أبداً ، ولم يصح استعماله إلاّفي ضمن تركيب كلامي ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، لصحّة الحمل على الذات ، وصحّة الاستعمال منفرداً ، بل هو كما عرفت مركب من الذات والمبدأ ، غاية الأمر أنّ المفهوم على هذا متضمن لمعنى حرفي كأسماء الاشارة

٢٨٤

والضمائر ونحوهما ، ومن هنا قلنا إنّه بناءً على التركب فالذات هي الركن الوطيد ، ولكنها لم تؤخذ مطلقة ، بل المأخوذ هو حصّة خاصة منها وهي الذات المتلبسة بالمبدأ والمتلونة بهذا اللون فعلاً ، ولا يكون جامع بينها وبين الذات المنقضية عنها المبدأ ، ليصدق عليهما صدق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه.

أو فقل : إنّ وضع المشتق للأعم يتوقف على تصوير جامع بين المنقضي والمتلبس في الواقع ومقام الثبوت ،

ولمّا لم يعقل وجود جامع بينهما ثبوتاً ، فلا مجال لدعوى كون المشتق موضوعاً للأعم إثباتاً.

نعم ، لو كان الزمان مأخوذاً في مدلول المشتق بأن يقال إنّه وضع للدلالة على المتلبس في زمنٍ ما ، وهو صادق على المتلبس في الحال وفي الماضي وجامع بينهما ، لأمكن أن يدعى بأ نّه موضوع للجامع بين الفردين. ولكن قد تقدّم أنّ الزمان خارج عن مفهومه وغير مأخوذ فيه لا جزءاً ولا قيداً ولا خاصّاً ولا عامّاً ، بل لو قلنا بأخذ النسبة الناقصة في مداليلها فهي لم توضع إلاّللمتلبس ، وذلك لأنّ النسبة الناقصة هنا حالها حال سائر النسب التقييدية والاضافات ، وهي لاتصدق إلاّفي موارد التلبّس الفعلي ، ومن الظاهر أنّه لا جامع بين النسبة في حال التلبّس والنسبة في حال الانقضاء ، ليكون المشتق موضوعاً بازاء ذلك الجامع.

تلخّص على ضوء ما بيّناه : أنّ المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ فعلاً على كلا القولين ، ولا مجال حينئذ للنزاع في مقام الإثبات أبداً ، فانّه متفرع على إمكان تصوير الجامع في مقام الثبوت ، وقد عرفت عدم إمكانه.

وغير خفي أنّه يمكن تصوير الجامع على القول بالتركب بأحد الوجهين :

الأوّل : أن يقال إنّ الجامع بين المتلبس والمنقضي اتصاف الذات بالمبدأ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتصف به بعد ، فانّ الذات في الخارج على قسمين :

٢٨٥

قسم منها لم يتلبس بالمبدأ بعد وهو خارج عن المقسم.

وقسم منها متصف به ، ولكنّه اعم من أن يكون الاتصاف باقياً حين الجري والنسبة أم لم يكن باقياً ، وهو جامع بين المتلبس والمنقضي ، وصادق عليهما صدق الطبيعي على أفراده ، فالموضوع له على القول بالأعم هو صرف وجود الاتصاف العاري عن أيّة خصوصية ، كما هو شأن الجامع والمقسم في كل مورد ، وهو كما ينطبق على الفرد المتلبس حقيقة ، كذلك ينطبق على الفرد المنقضي ، فان هذا المعنى موجود في كلا الفردين.

أو فقل : إنّ الجامع بينهما خروج المبدأ من العدم إلى الوجود ، فانّ المبدأ كما خرج من العدم إلى الوجود في موارد التلبس ، كذلك خرج في موارد الانقضاء ، فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده وبقائه جامع بين الفردين ، وخصوصية البقاء والانقضاء من خصوصيات الأفراد ، وهما خارجتان عن المعنى الموضوع له.

الثاني : أنّا لو سلّمنا أنّ الجامع الحقيقي بين الفردين غير ممكن ، إلاّ أنّه يمكننا تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما ، نظير ما ذكرناه في بحث الصحيح والأعم من تصوير الجامع الانتزاعي بين الأركان. ولا ملزم هنا لأن يكون الجامع ذاتياً ، لعدم مقتضٍ له ، إذ في مقام الوضع يكفي الجامع الانتزاعي ، لأنّ الحاجة التي دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بازائه ، وهو لا يستدعي أزيد من تصوير معنى ما ، سواء كان المعنى من الماهيات الحقيقية أم من الماهيات الاعتبارية ، أم من العناوين الانتزاعية. إذن للواضع في المقام أن يتصور المتلبس بالمبدأ فعلاً ويتصور المنقضي عنه المبدأ ، ثمّ يتعهد على نفسه بأ نّه متى ما قصد تفهيم أحدهما يجعل مبرزه هيئة ما من الهيئات الاشتقاقية على سبيل الوضع العام والموضوع له العام أو الخاص.

٢٨٦

فالنتيجة : أنّ تصوير الجامع على القول بالأعم بأحد هذين الوجهين بمكان من الامكان.

وعلى هذا الضوء يظهر أنّ للنزاع في مقام الاثبات مجالاً واسعاً.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّه على البساطة لا يتصور الجامع بين المتلبس والمنقضي والواجد والفاقد ، فالأمر كما أفاده لو كان مفهوم المشتق بعينه هو مفهوم المبدأ ، وكان الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ ـ أي اعتباره لا بشرط وبشرط لا ـ إذ حينئذ كان الركن الوطيد هو المبدأ ، فإذا زال زال العنوان الاشتقاقي لا محالة ، إلاّ أنّ هذا القول باطل ، فان مفهوم المشتق كما سيأتي بيانه ليس بسيطاً ، وعلى تقدير أنّه كان بسيطاً فلا يكون عين مفهوم المبدأ ، بل هو مباين له ، هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

وأمّا الكلام في مقام الاثبات ، فلا ينبغي الشك في أنّ المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ فعلاً ، ويدل على ذلك امور :

الأوّل : أنّ المتبادر من المشتقات والمرتكز منها عند أذهان العرف والعقلاء خصوص المتلبس لا الأعم ، وهذا المعنى وجداني لكل أهل لغة بالقياس إلى لغته ، فهم يفهمون من المشتقات عند إطلاقاتها واستعمالاتها المتلبس بالمبدأ فعلاً ، ولاتصدق عندهم إلاّمع فعلية التلبس والاتصاف ، وصدقها على المنقضي عنه المبدأ وإن أمكن ، إلاّ أنّه خلاف المتفاهم عرفاً ، فلا يصار إليه بلا قرينة.

وهذا التبادر والارتكاز غير مختص بلغة دون اخرى ، لما ذكرناه غير مرّة أنّ الهيئات في جميع اللغات وضعت لمعنى واحد على اختلافها باختلاف اللغات ، مثلاً هيئة ضارب في لغة العرب وضعت لعين المعنى الذي وضعت هيئة ( زننده ) في لغة الفرس له وهكذا. ومن هنا يفهم من تبادر عنده من كلمة ( زننده ) خصوص المتلبس أنّ كلمة ضارب أيضاً كذلك.

٢٨٧

نعم ، تختلف المواد باختلاف اللغات ، فيختص التبادر فيها بأهل كل لغة ، فلا يتبادر من لفظ العجمي للعربي شيء وبالعكس ، نظراً إلى اختصاص الوضع بأهله ، وهذا هو السر في رجوع أهل كل لغة في فهم معنى لغة اخرى إلى أهلها وتبادره عنده ، فالعجمي يرجع في فهم اللغة العربية إلى العرب ، وهكذا بالعكس ، وهذا بخلاف الهيئات ، فانّها على اختلاف اللغات مشتركة في معنى واحد ، فالهيئات الاشتقاقية بشتّى أنواعها وأشكالها وضعت لمعنى واحد وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً.

ثمّ إنّ هذا التبادر لا يختص بالجمل التامة ، ليقال إنّ منشأه ظهور الحمل في التلبس الفعلي ، بل إنّ حال هيئة المشتق حال هيئة المركبات التقييدية كالاضافة والتوصيف ، فكما أنّ المتبادر عند أهل العرف من تلك المركبات فعلية النسبة والقيد ، ولا تصدق خارجاً إلاّمع فعلية الاتصاف ، فكذلك المتبادر عندهم من المشتقات ذلك. فهذا التبادر يكشف كشفاً قطعياً عن الوضع لخصوص المتلبس ، لأ نّه غير مستند إلى القرينة على الفرض ، ولا إلى كثرة الاستعمال ، ضرورة أنّ العرف حسب ارتكازهم يفهمون من المشتقات المتلبس من دون ملاحظة الكثرة وحصول الانس منها ، فالنتيجة : دعوى أنّ هذا التبادر مستند إلى كثرة الاستعمال دون الوضع دعوى جزافية.

الثاني : صحّة سلب المشتق عمّن انقضى عنه المبدأ ، فيقال زيد ليس بعالم بل هو جاهل ، وهي أمارة أنّ المشتق مجاز فيه وإلاّ لم يصحّ السلب عنه.

وقد يورد عليه : أنّ المراد من صحّة السلب إن كان صحّة السلب مطلقاً فغير صحيح ، ضرورة صحّة حمل المشتق على المنقضي عنه المبدأ بمعناه الجامع.

وإن كان مقيداً فغير مفيد ، لأنّ علامة المجاز صحّة سلب المطلق دون المقيد.

ولا يخفى أنّ هذا صحيح فيما إذا تردد المفهوم العرفي للفظ بين السعة والضيق

٢٨٨

ولم يعلم أنّه موضوع للمعنى الموسّع أو المضيق كلفظ العمى مثلاً لو تردد مفهومه عرفاً ودار بين أن يكون مطلق عدم الابصار ولو من جهة أنّه لا عين له كبعض أقسام الحيوانات ، وبين خصوص عدم الابصار مع وجود عين له ومع شأنية الابصار ، ولم يثبت أنّه موضوع للثاني ، لم يمكن إثبات أنّه وضع للمعنى الثاني بصحّة السلب.

وذلك لأنّه إن اريد بصحّة السلب صحّة سلب العمى عما لا عين له بالمعنى المطلق فهو غير صحيح ، بداهة صحّة حمله عليه بهذا المعنى. وإن اريد بها صحّة سلبه عنه بالمعنى الثاني ـ عدم الابصار مع شأنيته ـ فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لايثبت أنّ العمى لم يوضع للأعم ، لأن سلب الأخص لا يلازم سلب الأعم ، وقد ثبت في المنطق أنّ نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم ، فسلب الأوّل حيث إنّه أعم لا يستلزم سلب الثاني. إلاّ أنّ ذلك لا يتم في محل كلامنا ، وذلك لما تقدّم من أنّ المتبادر عرفاً من المشتق خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً ، وهو آية الحقيقة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : إذا صحّ سلب المشتق بما له من المفهوم العرفي عن المنقضي عنه المبدأ ، فهو كاشف عن عدم وضعه للجامع ، وإلاّ لم يصح سلبه عن مصداقه وفرده في حين من الأحيان ، فإذا صحّ سلب المشتق بمفهومه العرفي عمّن انقضى عنه المبدأ ، ثبت أنّه موضوع للمتلبس.

نعم ، مع قطع النظر عن التبادر لا يمكن إثبات أنّ المشتق موضوع للمتلبس بصحّة سلبه عن المنقضي كما عرفت.

الثالث : لا ريب في تضاد مبادئ المشتقات عرفاً بما لها من المعاني الثابتة في الأذهان المرتكزة في النفوس ،

كالقيام والقعود ، والحركة والسكون ، والسواد والبياض والعلم والجهل وما شاكلها ، ضرورة أنّ اثنين منها لا يجتمعان في الصدق في آن واحد ، وعليه فطبعاً تكون العناوين الاشتقاقية المنتزعة عن

٢٨٩

اتصاف الذات بها متضادة ، ومن هنا يرى العرف التضاد بين عنوان العالم والجاهل ، والأسود والأبيض ، والمتحرك والساكن ... وهكذا ، وهو بنفسه يدل على أنّ المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم ، وإلاّ لم يكن بينها مضادة عرفاً بما لها من المعاني ، بل كان مخالفة ، وأمكن صدق عنوانين منها معاً على الذات في زمن واحد فيما إذا كان التلبّس بأحدهما فعلياً وبالأخير منقضياً ، فيجتمعان في الصدق في آنٍ واحد ، فلا مضادة.

وبتعبير آخر : أنّ المشتق لو كان موضوعاً للأعم لم يلزم اجتماع الضدّين عند صدق عنوانين على الذات حقيقة ، بل يصح أن يقال عرفاً : هذا أسود وأبيض ، أو عالم وجاهل في آن واحد ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ هذا من اجتماع الضدّين حقيقة ، كما أنّ قولنا : هذا سواد وبياض ، أو علم وجهل ، كذلك.

نعم ، لو كان الصدق مختلفاً في الزمان ، بأن كان صدق أحدهما في زمان وضدّه الآخر في زمان آخر ، أو لم يكن الإطلاق في كلا الحملين حقيقياً ، بل كان في أحدهما بالحقيقة ، وفي الآخر بالعناية فلا تضاد ، إذ المعتبر في تحقق التضاد أو التناقض في أي مورد كان وحدة الزمان مع اعتبار بقية الوحدات ، ومع الاختلاف فيه أو في غيره من الوحدات ، أو لم يكن الإطلاق في كليهما على نحو الحقيقة ، ينتفي التضاد.

فالنتيجة : أنّ ارتكاز التضاد بين العناوين بما لها من المعاني قرينة عرفية على الوضع للمتلبس.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه من الأدلة على الوضع لخصوص المتلبس لا يختص بهيئة دون اخرى ، وبلغة دون ثانية ، بل يجري في الجميع ، ولا أثر لاختلاف المبادئ في ذلك ، كما أنّه لا أثر لاختلاف الطوارئ والحالات ، وهذا واضح.

وعليه فما ذكره القوم من التفصيلات باعتبار اختلاف الطوارئ والحالات

٢٩٠

تارة ، وباعتبار اختلاف المبادئ تارة اخرى ، لا يرجع إلى معنىً محصل.

فقد تحصّل ممّا ذكرناه : أنّه لا مناص من الالتزام بوضع المشتق لخصوص المتلبس.

وممّا يؤيد ما ذكرناه من الإختصاص : أنّ الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) لم يلتزموا بترتيب الآثار في موارد الانقضاء ، ومن هنا لم يحكموا بوجوب الانفاق على الزوجة بعد انقضاء الزوجية عنها بطلاق أو نحوه ، وكذا بجواز النظر إليها.

أدلّة القول بالأعم

وقد استدلّ على القول بالأعم بأنّ استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر من استعماله في موارد التلبس ، فيقال : هذا قاتل زيد وذاك مضروب عمرو ...

وهكذا. فلو كان المشتق موضوعاً للمتلبس لزمه أن تكون هذه الاستعمالات وما شاكلها استعمالات مجازية ، وهذه بعيدة في نفسها. مع أنّها تنافي حكمة الوضع التي دعت إلى وضع الألفاظ لغرض التفهيم ، فانّ الاستعمال في موارد الانقضاء إذا كان أكثر ، فالحاجة تدعو إلى الوضع بازاء الجامع دون خصوص المتلبس.

ويردّه أوّلاً : أنّ ذلك مجرد استبعاد ، ولا مانع من أن يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي أكثر من استعماله في المعنى الحقيقي مع القرينة ، ولا محذور في ذلك أبداً ، كيف فان باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، ومن هنا تستعمل التشبيه والكناية والاستعارة والمبالغة التي هي من أقسام المجاز في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم ، والسر في كثرة الاستعمال في المعاني المجازية أنّ استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له حيث إنّه يجوز بأدنى مناسبة فلا محالة يتكثر بتكثر المناسبات على

٢٩١

حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها ، ومن ثمّ لا يكون لذلك ضابط كلّي ، فقد يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي ، وقد يكون بالعكس ، وقد يكون لمعنى واحد حقيقي معانٍ متعددة مجازية ، بل ربّما تزداد المعاني المجازية بمرور الزمن.

وثانياً : أنّ استعمال المشتق في موارد الانقضاء وإن كان كثيراً ولا شبهة فيه ، إلاّ أنّه لم يعلم أنّ هذه الاستعمالات بلحاظ حال الانقضاء ، بل الظاهر أنّها كانت بلحاظ حال التلبس ، ولا إشكال في أنّ هذه الاستعمالات على هذا حقيقة ، فانّها استعمالات في المتلبس واقعاً ، فاطلاق ( ضارب عمرو ) على زيد باعتبار زمان تلبسه به لا باعتبار اتصافه به فعلاً ... وهكذا. إذن فلا صغرى للكبرى المذكورة ، وهي أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي لا تلائم حكمة الوضع ، فانّه لا مجاز على هذا ليكون الاستعمال فيه أكثر.

والنتيجة : أنّ الاستعمالات التي جاءت في كلمات الفصحاء في موارد الانقضاء ليس شيء منها بلحاظ حال الانقضاء ، بل إنّ جميعها بلحاظ حال التلبّس فتكون حقيقة لا مجازاً.

ثمّ إنّ استعمال المشتق في المنقضي بلحاظ حال الانقضاء وإن كان محتملاً في القضايا الخارجية في الجملة ، إلاّ أنّه في القضايا الحقيقية غير محتمل ، فانّ الاستعمال فيها دائماً في المتلبس دون المنقضي ، بل لا يعقل فيها حال الانقضاء ، وهذا كما في قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (١) وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) فانّ المقصود منهما أنّ

__________________

(١) النور ٢٤ : ٢.

(٢) المائدة ٥ : ٣٨.

٢٩٢

كل شخص فرض متلبساً بالزنا أو السرقة فهو محكوم عليه بجلده أو بقطع يده ، فالمشتق في كلتا الآيتين استعمل في المتلبس ، وهو تمام الموضوع للحكم المذكور فيهما ، وقد ذكرناه غير مرّة أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لا بدّ من أخذه مفروض الوجود في الخارج ، ومن هنا ترجع كل قضية حقيقية إلى قضيّة شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، فالموضوع في الآيتين كل إنسان فرض متلبساً بالزنا أو السرقة في الخارج ، فعنوان الزاني أو السارق مستعمل في من تلبس بالمبدأ ، غاية ما في الباب أنّ زمان القطع والجلد متأخر في الخارج عن زمن التلبّس بأحد المبدأين المزبورين ، فانّهما يتوقفان على ثبوت التلبّس بأحدهما عند الحاكم بأحد الطرق المعتبرة كالبيّنة أو نحوها.

فقد تحصّل : أنّ الاستعمال في المنقضي في القضايا الحقيقية غير معقول ، بل يكون الاستعمال دائماً في المتلبس.

وعلى هذا الضوء يظهر فساد ما ذكره بعضهم من أنّ المشتق في الآيتين وما شاكلهما استعمل في من انقضى عنه المبدأ ، وفي ذلك دلالة على أنّ المشتق وضع للأعم ، كما أنّه يظهر بذلك أنّه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في مقام الجواب عن هذا الاستدلال من أنّ الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبّس دون الانقضاء ، وذلك لما عرفت من أنّ حالة الانقضاء في أمثال المقام لاتتصوّر ، ليكون الاستعمال بلحاظ حال التبس دونها ، وهذا نظير قولك : الجنب أو الحائض يجب عليهما الغسل ، فانّ المراد بالجنب أو الحائض هو كل إنسان فرض متلبساً بالجنابة أو الحيض خارجاً فهو محكوم عليه بالغسل ، فعنوان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٠.

٢٩٣

الجنب أو الحائض قد استعمل في من تلبس بالمبدأ ولا يتصور فيه الانقضاء ، غاية الأمر أنّ الامتثال يقع متأخراً عن زمان الوجوب كما كان هو الحال في الآيتين.

فالنتيجة قد أصبحت أنّه لا وجه للاستدلال على الوضع للأعم بالآيتين المزبورتين.

وقد استدلّ ثانياً على القول بالأعم بما استدلّ الإمام عليه‌السلام بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )(١) على عدم لياقة من عبد الأصنام للخلافة ولو بعد دخوله في الإسلام (٢) ، وتقريب الإستدلال به أنّ المشتق لو كان موضوعاً لخصوص المتلبس لم يتم استدلال الإمام عليه‌السلام بالآية المباركة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهية ، لأنّهم في زمن دعواهم لمنصب الخلافة كانوا متشرّفين بقبول الاسلام ، وغير متلبسين بالظلم وعبادة الوثن ظاهراً ، وإنّما كان تلبسهم به قبل التشرف بالاسلام وفي زمن الجاهلية ، فالاستدلال بالآية لا يتم إلاّعلى القول بالوضع للأعم ، ليصدق عليهم عنوان الظالم فعلاً فيندرجوا تحت الآية.

ولا يخفى أنّ النزاع كما عرفت لا يتأتى في الآية المباركة ، فانّها من القضايا الحقيقية التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود ، فانّ فعلية الحكم فيها تابعة لفعلية موضوعه ، ولا يعقل تخلف الحكم عنه ، فانّه كتخلف المعلول عن علّته التامة.

نعم ، يجري النزاع في القضايا الخارجية التي يكون الموضوع فيها أمراً موجوداً خارجياً ، فانّه يمكن أن يؤخذ الحكم فيها باعتبار خصوص المتلبس ، أو الأعم

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٢٤.

(٢) البرهان في تفسير القرآن ١ : ٣٢١.

٢٩٤

منه ومن المنقضي عنه المبدأ ، فالترديد في استعمال المشتق في المتلبس أو الأعم إنّما يتأتى في القضايا الخارجية دون القضايا الحقيقية ، مثلاً عنوان العالم في قولنا : يجب إكرام العالم ، يستعمل في من تلبس بالمبدأ أبداً ، سواء تحقق التلبّس في الخارج أم لم يتحقق ، فانّه قد فرض فيه وجود شخص متلبس بالعلم وحكم بوجوب إكرامه ولا نعقل الانقضاء فيه ليتنازع في عموم الوضع له.

وعلى هذا الضوء يظهر أنّ استدلال الإمام عليه‌السلام بالآية المباركة على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة غير مبتن على كون المشتق موضوعاً للأعم ، ليصدق على من انقضى عنه المبدأ حقيقة ، بل هو مبتن على نزاع آخر أجنبي عن نزاع المشتق ، وهو أنّ العناوين التي تؤخذ في موضوعات الأحكام ومتعلقاتها في القضايا الحقيقية هل تدور الأحكام مدارها حدوثاً وبقاءً ، أم تدور مدار حدوثها فقط؟

والصحيح أنّ الأحكام المترتبة على تلك العناوين تختلف حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها ، ففي غالب الموارد تدور مدارها حدوثاً وبقاءً ، وهذا هو المتفاهم منها عرفاً ، فإذا ورد النهي عن الصلاة خلف الفاسق ، يفهم منه عرفاً أنّ عدم جواز الاقتداء به يدور مدار فسقه حدوثاً وبقاءً ، فلو انتفى عنه الفسق فلا محالة ينتفي الحكم المترتب عليه أيضاً.

وفي بعض الموارد لا يدور بقاء الحكم مدار بقاء عنوان موضوعه ، بل يبقى بعد زوال العنوان أيضاً ، فالعنوان وإن كان دخيلاً في حدوث الحكم إلاّ أنّه لا دخل له في بقائه ـ ويعبّر عنه بأنّ حدوثه علّة محدثة ومبقية ـ وهذا كما في آيتي الزنا والسرقة ، فان وجوب القطع والجلدة يحدثان عند حدوث التلبّس بهذين المبدأين ، ولكنهما لا يدوران مدار بقاء العنوان أصلاً ، ولا دخل لهذا بوضع المشتق للأعم أو للأخص.

٢٩٥

وبتعبير واضح : أنّ العناوين التي تؤخذ في القضايا على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن تلاحظ معرّفة إلى الأفراد ومشيرة إليها من دون كونها دخيلة في الحكم أصلاً ، وهذا يتفق في القضايا الخارجية ، فانّ العناوين التي تؤخذ فيها قد تلاحظ معرفة إلى الأفراد ، فيقال : صلّ خلف ابن زيد ، فعنوان ابن زيد قد اخذ معرّفاً إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.

الثاني : تلاحظ دخيلة في الحكم ، بمعنى أنّ الحكم يدور مدارها حدوثاً وبقاءً ، وهذا هو الظاهر عرفاً من العناوين المأخوذة في القضايا الحقيقية ، فقوله عزّ من قائل (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) ظاهر في أنّ وجوب السؤال يدور مدار صدق هذا العنوان وجوداً وعدماً.

الثالث : تلاحظ دخيلة في الحكم حدوثاً لا بقاءً ، بمعنى أنّ بقاء الحكم لا يدور مدار بقاء العنوان ، فيكون حدوث العنوان علّة محدثة ومبقية معاً ، فعناوين القضايا الحقيقية لا تخلو عن القسمين الأخيرين وإن كان القسم الأوّل منهما هو الغالب والكثير فيها ، ومن ثمّ لم نجد لحدّ الآن مورداً يكون العنوان في القضيّة الحقيقية لوحظ معرّفاً إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.

وعلى ضوء معرفة هذا يقع الكلام في أنّ عنوان الظالم المأخوذ في موضوع الآية المباركة هل لوحظ دخيلاً في الحكم على النحو الأوّل أو على النحو الثاني؟

فالاستدلال بالآية الكريمة على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة إلى الأبد مبتن على أن يكون دخله على النحو الثاني دون الأوّل.

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٧.

٢٩٦

ولا يخفى أنّ الارتكاز الناشئ من مناسبة الحكم والموضوع يستدعي أنّ التلبّس بهذا العنوان آناً ما كافٍ لعدم نيل العهد والخلافة أبداً.

والوجه فيه : أنّ جبّلة الناس على أنّ المتقمص لمنصب الخلافة والإمامة التي هي أعظم منصب إلهي بعد الرسالة ، لا بدّ أن يكون مثالاً سامياً للمجتمع في سيرته وأخلاقه ، ومعرّاً عن أيّة منقصة خَلقية وخُلقية ، وقدوة للناس وقائداً مثالياً لهم ، فلو أنّ أحداً اعتاد شرب الخمر والزنا أو اللواط في زمان ثمّ ترك وتاب ، وبعد ذلك ادّعى منصب الخلافة من الله تعالى لم تقبل دعواه ، لأجل أنّ الناس لا يرونه قابلاً لأن يتصدى هذا المنصب الإلهي ، بل يعتقدون أنّ الله تعالى لا يجعله خليفة لهم ، فانّ الخليفة هو ممثّل من قبله تعالى ، والممثّل من قبله لا بدّ أن يكون مثالاً روحياً للبشر ، ومربياً لهم في سيرته وداعياً إلى الله تعالى بأخلاقه وأعماله ، ليكون أثره أثراً طيباً وسامياً في النفوس. وهذا كنبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الأطيبين عليهم‌السلام وليس معنى هذا اعتبار العصمة قبل الخلافة ، ليقال إنّها لا تعتبر قبلها ، بل من جهة أنّ الخلافة لعلوّ شأنها وجلالة قدرها ومكانتها لا بدّ أن يكون المتصدي لها مثالاً أعلى للمجتمع الإنساني ، في علوّ الشأن وجلالة القدر والمكانة ، فمن عبد الوثن في زمن معتد به كيف يكون أهلاً لذلك ، وكيف يجعله الله تعالى ممثّلاً وهادياً للُامّة ، والحال أنّه كغيره من أفراد الامّة ، ولا امتياز له عن البقية في شيء. وهذا ممّا تستدعيه مناسبة الحكم والموضوع.

ويؤكده أمران آخران أيضاً :

الأوّل : نفس إطلاق الحكم في الآية المباركة ، فانّ الإتيان بصيغة المضارع وهي كلمة (لا يَنالُ) بلا تقييدها بوقت خاص ، يدل على عدم اختصاص الحكم بزمن دون زمن ، وأ نّه ثابت أبداً لمن تلبس بالظلم ولو آناً ما.

٢٩٧

الثاني : قد ورد في عدّة من الروايات (١) النهي عن الصلاة خلف المحدود والمجذوم والأبرص وولد الزنا والأعرابي ، فتدل على أنّ المتلبس بأحد هذه العناوين لايليق أن يتصدى هذا المنصب الكبير ، لعدم المناسبة بينهما. وبالأولوية القطعية تدل على أنّ المتلبس بالظلم وعبادة الوثن أولى بعدم اللياقة للجلوس على كرسي الخلافة ، لعلو المنصب وعظم المعصية ، بل إنّ المحدود بالحد الشرعي في زمان ما لا يليق للمنصب المزبور إلى الأبد وإن تاب بعد ذلك وصار من الأتقياء الخيار.

فقد أصبحت نتيجة ما ذكرناه حول الآية المباركة : أنّ الاستدلال بها على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة أبداً لا يبتني على النزاع في وضع المشتق للأعم أو للمتلبس بالمبدأ.

بل ومن مطاوي ما ذكرناه يستبين أنّه لا تترتب ثمرة على النزاع في وضع المشتق أصلاً ، بيان ذلك : أنّ الظاهر من العناوين الاشتقاقية المأخوذة في موضوعات الأحكام أو متعلقاتها بنحو القضايا الحقيقية ، هو أنّ فعلية الأحكام تدور مدار فعليتها حدوثاً وبقاءً ، وبزوالها تزول لا محالة. وإن قلنا بأنّ المشتق موضوع للأعم ، فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتية.

نعم ، قد ثبت في بعض الموارد بمناسبة داخلية أو خارجية أنّ حدوث العنوان

__________________

(١) منها : حسنة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لايصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا ، والأعرابي لايؤمّ المهاجرين » [ الوسائل ٨ : ٣٢٥ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٦ ].

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنّه قال : خمسة لا يؤمّون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرص والمجذوم وولد الزنا والأعرابي حتّى يهاجر ، والمحدود » [ الوسائل ٨ : ٣٢٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٣ ] ، وما شاكلهما من الروايات.

٢٩٨

علّة محدثة ومبقية معاً كما تقدّم.

وكيف ما كان ، فلا أثر للقول بأنّ المشتق وضع للأعم أو للأخص ، إذ على كلا التقديرين كانت الأحكام في فعليتها تابعة لفعلية العناوين المأخوذة في موضوعاتها ، وبانقضائها وزوال التلبّس عنها تنقضي بتاتاً.

ومن هنا لم يلتزم الفقهاء بترتب أحكام الحائض والنفساء والمستحاضة والزوجة وما شاكلها بعد انقضاء المبدأ عنها ، حتّى على القول بكون المشتق موضوعاً للأعم ، بل لم يحتمل ابتناء هذه المسائل وما شابهها على النزاع في مسألة المشتق ، فتصبح المسألة بلا ثمرة مهمّة.

وما نسبه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) إلى الفخر الرازي غير صحيح ، من أنّه اعترف بدلالة الآية الشريفة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهية أبداً ، لأنّهم كانوا عابدين للوثن في زمان معتد به ، وفي ذلك الزمان شملهم قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فدلّت على عدم اللياقة إلى الأبد (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٢١.

(٢) وإليك نص كلامه :

المسألة الرابعة : الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر من ثلاثة أوجه :

الأوّل : أنّ أبا بكر وعمر كانا كافرين ، فقد كانا حال كفرهما ظالمين ، فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أنّهما لا ينالان عهد الإمامة البتّة ، وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت أنّهما لا ينالان عهد الإمامة البتّة ولا في شيء من الأوقات ، ثبت أنّهما لا يصلحان للإمامة.

الثاني : أنّ مَن كان مذنباً في الباطن كان من الظالمين ، فإذن ما لم يعرف أنّ أبا بكر

٢٩٩

______________________________________________________

وعمر ما كانا من الظالمين المذنبين ظاهراً وباطناً وجب أن لا يحكم بإمامتهما ، وذلك إنّما يثبت في حق من تثبت عصمته ، ولمّا لم يكونا معصومين بالاتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتّة.

الثالث : قالوا كانا مشركين ، وكل مشرك ظالم ، والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا ينالهما عهد الإمامة ، أمّا أنّهما كانا مشركين فبالاتفاق ، وأمّا أنّ المشرك ظالم فلقوله تعالى « إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » وأمّا أنّ الظالم لايناله عهد الإمامة فبهذه الآية.

لا يقال : إنّهما كانا ظالمين حال كفرهما ، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم.

لأنّا نقول : الظالم من وجد منه الظلم ، وقولنا وجد منه الظلم أعم من قولنا وجد منه الظلم في الماضي أو في الحال ، بدليل أنّ هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين ، ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين ، وما كان مشتركاً بين القسمين لا يلزم انتفاؤه لانتفاء أحد القسمين ، فلا يلزم من نفي كونه ظالماً في الحال نفي كونه ظالماً.

والذي يدل عليه نظراً إلى الدلائل الشرعية : أنّ النائم يسمى مؤمناً ، والإيمان هو التصديق ، والتصديق غير حاصل حال كونه نائماً ، فدلّ على أنّه يسمى مؤمناً لأنّ الإيمان كان حاصلاً قبل ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالماً لظلم وجد من قبل.

وأجاب عنه بقوله : كل ما ذكرتموه معارض بما أنّه لو حلف لا يسلّم على كافر فسلّم على إنسان مؤمن في الحال إلاّ أنّه كان كافراً قبل بسنين متطاولة ، فانّه لايحنث ، فدلّ على ما قلناه ولأنّ التائب عن الكفر لايسمّى كافراً ، والتائب عن المعصية لايسمّى عاصياً ، انتهى كلامه ، تفسير الرازي ٤ : ٤٥ ـ ٤٦.

وغير خفي : أنّ ما ذكره من الجواب عن دلالة الآية أجنبي عنها بالكلية ، بل هما في

٣٠٠