محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

والشرائط ، وعلى بقية المراتب كصلاة المضطر ونحوه ، على نسق واحد بلا لحاظ عناية تنزيلها منزلة الواجد ، أو اشتراكها مع المرتبة العليا في الأثر ، فلو كانت لفظة الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا لكان استعمالها في غيرها من المراتب النازلة كصلاة بدون قيام ، أو إلى غير القبلة مثلاً محتاجاً إلى لحاظ التنزيل ، أو الاشتراك في الأثر ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ المتشرعة يطلقون لفظ الصلاة على كل مرتبة من مراتبها ، غافلين عن لحاظ التنزيل ، أو اشتراك هذه المرتبة مع المرتبة العليا في الأثر ، ولا يرون التفاوت في مرحلة الاستعمال والإطلاق بينها وبين بقية المراتب أصلاً ، فهذا يكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الموضوع له هو الجهة الجامعة بين جميع المراتب ، لا خصوص المرتبة العليا ، من دون فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات فما أفاده قدس‌سره كما لا يتم في العبادات كذلك لا يتم في سائر المركبات.

وأمّا الثاني : فمع الاغماض عمّا أجبنا به عن الأمر الأوّل ، يرد عليه : أنّه فرق بين المركبات الشرعية وغيرها ، وهو أنّ للمراتب العليا من المركبات غير الشرعية حدوداً خاصّة وأجزاء معيّنة التي لا يطرأ عليها الاختلاف بالزيادة والنقيصة ، وتنعدم بفقدان واحد منها ، كما إذا فرض أنّها ذات أجزاء ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو عشرة أو أقل أو أزيد ، على اختلافها باختلاف المركبات ، فحينئذ يمكن دعوى أنّ اللفظ موضوع لخصوص المراتب العليا منها ، وإطلاقه على بقية المراتب من باب الادعاء والتنزيل ، أو من جهة الاشتراك في الأثر.

وهذا بخلاف العبادات ، فانّ المراتب العليا منها ليست لها أجزاء خاصّة بحيث لاتختلف زيادة ونقيصة ، فانّها بأنفسها مختلفة ومتشتتة من ناحية الكمّية أو الكيفية ، مثلاً المرتبة العليا من صلاة الصبح غير المرتبة العليا من صلاة الظهرين ، وكلتاهما غير المرتبة العليا من صلاة المغرب ، وكل ذلك غير المرتبة

١٦١

العليا من صلاة العشاء بحسب الكمّية أو الكيفية ، وهي بأجمعها غير المرتبة العليا من صلاة الآيات وصلاة العيدين وغيرهما.

وعلى الجملة : فلاشبهة في أنّ للصلاة عرضاً عريضاً باعتبار أصنافها العديدة ، ولكل واحد من أصنافها أيضاً عرض عريض باعتبار مراتبها الطولية ، ومن المعلوم أنّ المرتبة العليا من كل صنف من أصنافها مباينة للمرتبة العليا من صنف آخر ، وهكذا.

فالنتيجة : أنّ المراتب العالية أيضاً متعددة فلا بدّ من تصوير جامع بينها ، ليكون اللفظ موضوعاً بازاء ذلك الجامع ، للقطع بانتفاء الاشتراك اللفظي.

فقد ظهر أنّ الالتزام بالوضع لخصوص المرتبة العليا لا يغني عن تصوير الجامع ، فهو ممّا لا بدّ منه سواء قلنا بأنّ الموضوع له المرتبة العليا ، أم قلنا بأ نّه الجهة الجامعة بين جميع المراتب.

ومن هنا يظهر الجواب عن الأمر الثالث أيضاً ، وهو أنّ الحاجة إلى تصوير الجامع لاتختص بالقصر والإتمام ، بل لا بدّ من تصويره بين جميع المراتب العالية ، وقد عرفت أنّها كثيرة ولا تنحصر بالقصر والاتمام.

وأمّا الأمر الرابع : فقد تبيّن من ضوء بياننا المتقدم أنّ ثمرة النزاع بين الأعمى والصحيحي تظهر على هذا أيضاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ الأعمي لا محالة يدعي وضع اللفظ للجامع بين جميع المراتب العليا صحيحة كانت أو فاسدة ، والصحيحي يدعي وضعه لخصوص الصحيحة منها ، فعلى ذلك إذا فرض وجود مطلق في البين وشكّ في اعتبار شيء ما جزءاً أو شرطاً في المأمور به ، فبناءً على الصحيحي لا يجوز التمسّك باطلاقه ، لأنّ الشك في اعتباره مساوق للشك في صدق المسمّى ، ومعه لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، وبناءً على الأعمي لا مانع منه ، لأنّ صدق المسمّى محرز بالوجدان والشك إنّما هو في اعتبار أمر زائد

١٦٢

فيدفع بالإطلاق.

نعم ، لا يمكن التمسّك بالإطلاق بالإضافة إلى بقية المراتب ، لعدم إحراز الإطلاق من جهة عدم العلم بالتنزيل والادعاء ، كما ذكره قدس‌سره فلا يمكن التمسك باطلاق ما دلّ على وجوب الصلاة لاثبات وجوبها على المضطر أو نحوه ، وذلك من جهة عدم إحراز التنزيل والإدعاء بعد فرض أنّ الموضوع له لا يعم المشكوك فيه ، لأنّه خصوص المرتبة العليا.

وقد أصبحت النتيجة بوضوح أنّ تصوير الجامع على كلا القولين قد أصبح ضرورياً ، وعليه فإن أمكن تصويره في مقام الثبوت على كلا القولين فللنزاع في مقام الاثبات مجال ، وإن لم يمكن تصويره إلاّعلى أحد القولين دون الآخر فلا مناص من الالتزام بذلك القول. فعلى ذلك يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة فقط.

الثاني : في تصويره بين الأعم من الصحيحة والفاسدة.

[ تصوير الجامع على الصحيح ]

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد ذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى أنّ وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة ممّا لا بدّ منه ، وقد استدلّ على ذلك بقاعدة فلسفية وهي : أنّ الواحد لا يصدر إلاّمن الواحد ، إذ لا بدّ من السنخية بين العلّة ومعلولها ، والواحد بما هو واحد لا يعقل مسانخته للكثير بما هو كثير ، إذن لا بدّ من الالتزام بأنّ العلّة هو الجامع بين الكثير وهو أمر واحد ، ثمّ طبّق

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤.

١٦٣

( قدس‌سره ) هذه القاعدة على المقام بتقريب أنّ الأفراد الصحيحة من الصلاة مثلاً تشترك جميعها في أثر وحداني وهو النهي عن الفحشاء والمنكر بمقتضى قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١) كما هي تشترك في أنّها عماد الدين ومعراج المؤمن ، كما في عدّة من الروايات ، ولا يعقل أن يكون المؤثر في ذلك الأثر الوحداني جميع الأفراد الصحيحة على كثرتها ، لما عرفت من أنّ الواحد لا يسانخ الكثير ، فلا محالة يستكشف كشفاً قطعياً عن وجود جامع وحداني بين تلك الأفراد الصحيحة يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني ، ومن هنا قال قدس‌سره إنّ تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة بمكان من الامكان بل هو ضروري ، دون الأعم لعدم تحقق صغرى هذه القاعدة على قول الأعمي وبدونها لا طريق لنا إلى كشف الجامع من ناحية اخرى.

ولكن لا يخفى ما فيما أفاده قدس‌سره بل لم يكن يترقب صدوره منه ، وذلك من وجوه.

الأوّل : أنّ هذه القاعدة وإن كانت تامّة في العلل الطبيعية لا محالة ، دون الفواعل الارادية ، ولكن ذلك فيما إذا كان المعلول واحداً بوحدة شخصية ، وأمّا إذا كان واحداً بوحدة نوعية فلا تجري فيه هذه القاعدة ، وقد مرّ الكلام في ذلك في البحث عن حاجة العلوم إلى وجود الموضوع فليراجع (٢). وحيث إنّ وحدة الأثر في المقام وحدة نوعية لا شخصية ، فانّ النهي عن الفحشاء كلّي له أفراد وحصص بعدد أفراد الصلاة وحصصها في الخارج ، فلا شيء هناك يكشف عن وجود جامع بين أفرادها ، مثلاً صلاة الصبح يترتب عليها نهي عن

__________________

(١) العنكبوت ٢٩ : ٤٥.

(٢) ص ١٦.

١٦٤

منكر ، وصلاة المغرب يترتب عليها نهي آخر ، وهكذا ، فلا كاشف عن جهة جامعة بين الأفراد والحصص بقانون أنّ الامور المتباينة لا تؤثر أثراً واحداً.

الثاني : لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا تمامية القاعدة حتى في الواحد النوعي ، فانّها لا تتم في المقام ، لأنّها لو تمّت فيما إذا كانت الوحدة وحدة ذاتية مقولية فلا تتم فيما إذا كانت الوحدة وحدة بالعنوان ، دون الحقيقة والذات ، ولمّا كانت وحدة النهي عن الفحشاء وحدة عنوانية لا وحدة مقولية ، ضرورة أنّ النهي عن الفحشاء عنوان ينتزع عن ترك الأعمال القبيحة بالذات ، أو من جهة النهي الشرعي ، فكل واحد من هذه الأعمال حصّة من الفحشاء والمنكر ، ويعبّر عن النهي عنه بالنهي عن الفحشاء ، ولا مانع من أن ينتزع الواحد بالعنوان عن الحقائق المختلفة ، والامور المتباينة خارجاً.

وعليه فلا كاشف عن جهة جامعة ذاتية مقولية ، وغاية ما هناك وجود جامع عنواني بين الأفراد الصحيحة كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، مع الاختلاف في الحقيقة والذات ، ومن الضروري عدم وضع لفظ الصلاة لنفس العنوان.

الثالث : أنّا نعلم بالضرورة أنّ الأثر في المقام غير مترتب على الجامع بين الأفراد ، وإنّما هو مترتب على أفراد الصلاة بخصوصياتها من الأجزاء والشرائط المعتبرة فيها ، فان ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلاة ليس كترتب الإحراق على النار ، أو كترتب سائر الآثار الخارجية على أسبابها ، فانّ الأثر في جميع هذه الموارد مترتب على الجامع من دون دخل لأيّة خصوصية من الخصوصيات الفردية.

وهذا بخلاف المقام ، فانّ النهي عن الفحشاء والمنكر ممّا يترتب على أفراد الصلاة وحصصها بخصوصياتها الخاصّة المعتبرة في صحّتها خارجاً ، ولا ريب

١٦٥

في أنّ صحّة صلاة الصبح منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثانية ، وصحّة صلاة المغرب منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثالثة ، وعدم وقوعها في الركعة الثانية ، وصحّة صلاة الظهرين أو صلاة العشاء متوقفة على خصوصية وقوع التسليمة في الركعة الرابعة ، ومشروطة بعدم وقوعها في الركعة الثالثة ، وهكذا بقية الخصوصيات ، فالمؤثر في جهة النهي عن الفحشاء حقيقة تلك الخصوصيات ، ومع هذا كيف يمكن القول بأنّ المؤثر فيه الجامع بين الأفراد ، فانّ الالتزام بذلك إنّما هو فيما إذا لم يكن دخل للخصوصيات في ترتب الأثر ، وهذا لايعقل في المقام ، إذ كيف يمكن وجود جامع بين المشروط بشيء والمشروط بعدمه.

فتلخّص : أنّ الجامع الذاتي المقولي ولو سلّمنا إمكان تعقّله بين الأفراد الصحيحة ، لم يكن لنا طريق إليه في مقام الاثبات.

الرابع : أنّ هذا الجامع الذي فرضه قدس‌سره لا يخلو من أن يكون مركباً أو يكون بسيطاً ، ولا ثالث لهما.

والأوّل : لا يعقل ، لأنّ الصحّة والفساد كما عرفت مفهومان إضافيان ، ومن المعلوم أنّ كل مركب فرض جامعاً فذلك المركب يتداخل فيه الصحّة والفساد ، سواء كان المركب من المراتب العالية كصلاة المختار أو من المراتب الدانية ، أو من المراتب الوسطى ، فعلى جميع التقادير كان ذلك المركب صحيحاً بالقياس إلى شخص أو زمان أو حالة ، وفاسداً بالقياس إلى غير ذلك ، مثلاً الصلاة قصراً صحيحة من المسافر وفاسدة من غيره ، والصلاة قاعداً صحيحة للعاجز عن القيام ، وفاسدة للقادر عليه ، والصلاة مع الطهارة المائية صحيحة من واجد الماء وفاسدة من فاقده ، ومع الطهارة الترابية بعكس ذلك ، وهكذا ، وعليه فكيف يعقل أن يكون المركب بما هو جامعاً.

١٦٦

وعلى الجملة : قد ذكرنا سابقاً أنّ للصلاة مراتب عريضة ، ومن المعلوم أنّ تلك المراتب بأجمعها متداخلة صحّة وفساداً ، فما من مرتبة من مراتب الصحيحة إلاّ وهي فاسدة من طائفة ، حتّى المرتبة العليا فانّها فاسدة ممّن لم يكلف بها فلا يعقل أن يؤخذ منها جامع تركيبي.

فقد أصبحت النتيجة أنّ استحالة تصوير الجامع التركيبي بين الأفراد الصحيحة أمر بديهي.

والثاني : وهو فرض الجامع بسيطاً أيضاً غير معقول ، والوجه في ذلك هو أنّ الجامع المقولي الذاتي لا يعقل أن ينطبق على مركب من حقيقتين متباينتين بالذات والهوية ، بداهة استحالة تحقق جامع ماهوي بين الحقيقتين المتباينتين ذاتاً ، وإلاّ فلا تكونان متباينتين ، بل كانتا مشتركتين في حقيقة واحدة ، وهذا خلف ، ومقامنا من هذا القبيل بعينه ، لأنّ الصلاة مركبة وجداناً من مقولات متباينة بحد ذاتها ، كمقولة الوضع والكيف ونحوهما.

وقد برهن في محلّه أنّ المقولات متباينات بتمام ذاتها وذاتياتها فلا اشتراك لها في حقيقة واحدة ، ومن هنا كانت المقولات أجناساً عالية ، فلو كانت مندرجة تحت مقولة واحدة لم تكن أجناساً عالية ، ومع ذلك كيف يعقل جامع مقولي بين الأفراد الصحيحة ، بل لا يعقل فرض جامع لمرتبة واحدة منها فضلاً عن جميع مراتبها المختلفة ، والمركب بما هو مركب لا يعقل أن يكون مقولة على حدة ، ضرورة اعتبار الوحدة الحقيقية في المقولة وإلاّ لم تنحصر المقولات ، بل لا يعقل تركب حقيقي بين أفراد مقولة واحدة فضلاً عن مقولات متعددة.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لايعقل تصور الجامع الحقيقي البسيط لمرتبة واحدة من الصلاة فضلاً عن جميع مراتبها ، كما كان الأمر كذلك في الجامع التركيبي.

الخامس : قد ذكرنا سابقاً أنّ الصحّة في المقام بمعنى تمامية الشيء في نفسه ،

١٦٧

أعني بها تماميته من حيث الأجزاء والشرائط ، وقد تقدّم (١) أنّ الصحّة من جهة قصد القربة ، أو من جهة عدم النهي أو المزاحم ، خارجة عن محل النزاع وغير داخلة في المسمّى ، فانّه في مرتبة سابقة قد يوجد له مزاحم وقد يقصد به التقرب وقد ينهى عنه ، ولكن مع ذلك لهذه الامور دخل في الصحّة وفي فعلية الأثر ، فلو كان للصلاة مثلاً مزاحم واجب ، أو أنّها نهي عنها ، أو لم يقصد بها التقرّب ، لم يترتب عليها الأثر ، وعليه فما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ يقيناً ، وما وضع له اللفظ ليس إلاّما يكون مقتضياً وقابلاً لترتب الأثر عليه ، وهذا كما يمكن صدقه على الأفراد الصحيحة يمكن صدقه على الأفراد الفاسدة ، لأنّها أيضاً قد تقع صحيحة بالإضافة إلى شخص أو زمان أو حالة لا محالة.

وعلى الجملة : أنّ ما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ قطعاً ، وما يترتب عليه الأثر بالاقتضاء جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة جميعاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلوات الصحيحة بالفعل لايفي باثبات القول بوضع الألفاظ للجامع بين الأفراد الصحيحة بخصوصها ، فانّه سواء قلنا بذلك القول أم لم نقل ، فترتبه متوقف على اعتبار شيء زائد على المسمّى لا محالة.

السادس : أنّ الجامع لا بدّ من أن يكون أمراً عرفياً ، وما ذكره من الجامع على تقدير تسليم وجوده والاغماض عن جميع ما ذكرناه ، لا يكون معنى عرفياً حتّى يكون مسمّى بلفظ الصلاة ومورداً للخطاب ، ضرورة أنّ اللفظ لا يوضع لمعنى خارج عن المتفاهم العرفي ، ولا يكون مثله متعلقاً للخطاب الشرعي ،

__________________

(١) في ص ١٥٦.

١٦٨

فانّ الخطابات الشرعية كلّها منزّلة على طبق المفاهيم العرفية ، فلو فرض معنى يكون خارجاً عن الفهم العرفي لم يقع مورداً للخطاب الشرعي أو العرفي ، ولا يوضع اللفظ بازائه ، وحيث إنّ الجامع في المقام ليس أمراً عرفياً فلا يكون مسمّى بلفظ الصلاة مثلاً ، ضرورة أنّ محل كلامنا ليس في تصوير جامع كيف ما كان ، بل في تصوير جامع عرفي يقع تحت الخطاب ، لا في جامع عقلي بسيط يكون خارجاً عن متفاهم العرف.

وبتعبير آخر : أنّ المصلحة الداعية إلى وضع الألفاظ إنّما هي الدلالة على قصد المتكلم تفهيم معنى ما ، فتلك المصلحة إنّما دعت إلى وضعها للمعاني التي يفهمها أهل العرف والمحاورة ، وأمّا ما كان خارجاً عن دائرة فهمهم فلا مصلحة تدعو إلى وضع اللفظ بازائه ، بل كان الوضع بازائه لغواً محضاً لا يصدر من الواضع الحكيم.

ولما لم يكن الجامع الذي فرضه بين الأفراد الصحيحة جامعاً عرفياً ، فانّ كثيراً من الناس لا يعلم بتأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر فضلاً عن العلم بكشفه عن جامع ذاتي مقولي ، لم يكن ذلك الجامع موضوعاً له لمثل كلمة الصلاة ونحوها ، بل المتفاهم منها عرفاً في مثل قولنا : فلان صلّى أو يصلّي أو نحو ذلك ، غير ذلك الجامع.

فالنتيجة من جميع ما ذكرناه : أنّ تصوير جامع ذاتي مقولي بين الأفراد الصحيحة غير معقول.

وأمّا تصوير جامع عنواني بينها فهو وإن كان ممكناً ، كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر أو نحوه ، إلاّ أنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء هذا العنوان يقيناً ، ضرورة أنّ لفظ الصلاة لو كان موضوعاً لذلك العنوان لكان مرادفاً لكلمة الناهي عن الفحشاء والمنكر ، ولازم ذلك أن يكون حمل ذلك العنوان على الصلاة

١٦٩

من الحمل الأوّلي الذاتي ، لا الشائع الصناعي وهو باطل قطعاً.

لا يقال : إنّ لزوم الترادف يبتني على أن يكون لفظ الصلاة موضوعاً لنفس العنوان المذكور ، وأمّا إذا فرضنا أنّه موضوع لواقع ذلك العنوان ومعنونه فلا يلزم ذلك.

فانّه يقال : إن اريد بالمعنون ما يكون جامعاً بين الأفراد الخارجية ، ليكون صدقه عليها صدق الطبيعة على أفرادها ، فقد عرفت أنّه لا دليل عليه ، بل البرهان قائم على خلافه. وإن اريد بالمعنون نفس الأفراد الخارجية ليكون الوضع من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص ، فهو باطل جزماً ، وذلك لأنّ إطلاق كلمة الصلاة على جميع أقسامها بشتّى أنواعها وأشكالها على نسق واحد ، وليس استعمالها في نوع أو صنف أو فرد مغايراً لاستعمالها في نوع أو صنف أو فرد آخر.

ومن هنا يكون حمل كلمة الصلاة بما لها من المعنى المرتكز في أذهان المتشرعة على جميع أقسامها وأفرادها ، من قبيل حمل الكلي على أفراده ، والطبيعي على مصاديقه ، فوحدة النسق في إطلاق الكلمة ، وكون الحمل شائعاً صناعياً ، يكشفان كشفاً قطعياً عن أنّ المعنى الموضوع له عام لا خاص.

وعلى الجملة : أنّ القول بكون الموضوع له خاصاً يشترك مع القول بالاشتراك اللفظي في البطلان ، بل لا فرق بحسب النتيجة ، حيث إنّ الموضوع له متعدد على كلا القولين ، وإنّما الفرق بينهما في وحدة الوضع وتعدده.

فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه : أنّ تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح غير معقول ، وتصوير جامع عنواني وإن كان شيئاً معقولاً إلاّ أنّ اللفظ لم يوضع بازائه ولا بازاء معنونه كما عرفت ، هذا.

١٧٠

وفي تقريرات بعض الأعاظم قدس‌سره بيان آخر لتصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة ، وملخّصه : هو أنّ الجامع لاينحصر بالجامع المقولي ولا بالجامع العنواني ، بل هنا جامع ثالث وهو المرتبة الخاصة من الوجود الساري ، فانّ الصلاة مثلاً مركبة من مقولات متباينات ، وتلك المقولات وإن لم تندرج تحت جامع مقولي حقيقي ، إلاّ أنّها مندرجة تحت مرتبة خاصّة من الوجود الساري إليها ، وتلك المرتبة الخاصّة البسيطة وجود سار إلى جملة من المقولات ، ومحدود من ناحية القلّة بالأركان على سعتها ، وأمّا من ناحية الزيادة فهو لا بشرط ، وهذه جهة جامعة بين جميع الأفراد الصحيحة ، فالصلاة عبارة عن تلك المرتبة الخاصّة من الوجود ، وعلى هذا كانت الصلاة أمراً بسيطاً خاصاً يصدق على القليل والكثير والقوي والضعيف ، وهكذا (١).

ويردّه أوّلاً : أنّه لا ريب في أنّ لكل مقولة من المقولات وجود في نفسه في عالم العين ، فكما أنّه لا يعقل أن يكون بين مقولتين أو ما زاد جامع مقولي واحد ، بأن تندرجا تحت ذلك الجامع ، فكذلك لا يعقل أن يكون لهما وجود واحد في الخارج ، ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة اخرى في الوجود.

وعلى الجملة : فكل مركب اعتباري عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر ، فالوحدة بين أجزائه وحدة اعتبارية ، ومن الضروري أنّه ليس لمجموع تلك الأجزاء المتباينة بالذات والحقيقة حصّة خاصة من الوجود حقيقة سارية إليها ، فالصلاة مثلاً مركبة من مقولات متباينة كمقولة الوضع والكيف ونحوهما ، وليست تلك المقولات مشتركة في مرتبة خاصة بسيطة من الوجود لتكون وجوداً للجميع.

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٨٢.

١٧١

وعلى ذلك فانّه قدس‌سره إن أراد به اشتراك تلك المقولات في مفهوم الوجود فهو لا يختص بها ، بل يعم جميع الأشياء ، وإن أراد به اشتراكها في حقيقة الوجود فالأمر أيضاً كذلك ، وإن أراد أنّ لتلك المقولات وحدها مرتبة خاصة من الوجود ، ففيه : أنّه غير معقول كما عرفت ، وقد برهن في محلّه أنّ الاتحاد الحقيقي في الوجود بين أمرين أو امور متحصلة مستحيل ، ولو اعتبر الوحدة بينهما أو بينها ألف مرة ، وكيف ما كان ، فلا نعقل لذلك معنى متحصّلاً أصلاً.

وثانياً : أنّه لو سلّم ذلك فانّ الصلاة ليست عبارة عن تلك المرتبة الخاصة الوجودية ، ضرورة أنّ المتفاهم منها عند المتشرعة ليس هذه ، بل نفس المقولات والأجزاء والشرائط ، وهذا واضح.

وثالثاً : أنّا قد ذكرنا سابقاً أنّ الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية ، بل وضعت للماهيات القابلة لأن تحضر في الأذهان ، وعليه فلا يعقل أن يوضع لفظ الصلاة لتلك المرتبة الخاصة من الوجود ، فانّها غير قابلة لأن تحضر في الذهن.

ولشيخنا المحقق قدس‌سره بيان ثالث في تصويرالجامع بين الأفراد الصحيحة ، وإليك نصّه :

والتحقيق أنّ سنخ المعاني والماهيات ، وسنخ الوجود العيني الذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم ، في مسألة السعة والإطلاق متعاكسان ، فان سعة سنخ الماهيات من جهة الضعف والابهام ، وسعة سنخ الوجود الحقيقي من فرط الفعلية ، فلذا كلّما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر كان الإطلاق والشمول أوفر ، وكلّما كان الوجود أشد وأقوى كان الإطلاق والسعة أعظم وأتم.

فان كانت الماهية من الماهيات الحقيقية كان ضعفها وإبهامها بلحاظ الطوارئ

١٧٢

وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها ، كالانسان مثلاً فانّه لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل المقوّمين لحقيقته ، وإنّما الإبهام فيه من حيث الشكل ، وشدّة القوى وضعفها وعوارض النفس والبدن ، حتّى عوارضها اللازمة لها ماهية ووجوداً.

وإن كانت الماهية من الامور المؤتلفة من عدّة امور بحيث تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً ، فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها مع تفرقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفية بعض العناوين غير المنفكة عنها ، فكما أنّ الخمر مثلاً مائع مبهم من حيث اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما ، ومن حيث اللون والطعم والريح ، ومن حيث مرتبة الإسكار ، ولذا لا يمكن وصفه إلاّلمائع خاص ، بمعرفية المسكرية من دون لحاظ الخصوصية تفصيلاً ، بحيث إذا أراد المتصور تصوّره لم يوجد في ذهنه إلاّمصداق مائع مبهم من جميع الجهات إلاّحيثية المائعية بمعرفية المسكرية ، كذلك لفظ الصلاة مع هذا الاختلاف الشديد بين مراتبها كمّاً وكيفاً ، لا بدّ من أن يوضع لسنخ عمل معرّفه النهي عن الفحشاء ، أو غيره من المعرّفات ، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل خاص مبهم ، إلاّمن حيث كونه مطلوباً في الأوقات الخاصة ، ولا دخل لما ذكرناه بالنكرة ، فانّه لم يؤخذ فيه الخصوصية البدلية ، كما اخذت فيها.

وبالجملة : الإبهام غير الترديد ، وهذا الذي تصورناه فيما وضع له الصلاة بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي ، وجامع عنواني ، ومن دون الالتزام بالاشتراك اللفظي ، ممّا لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعيناً.

ثمّ قال قدس‌سره بقوله : وقد التزم بنظيره بعض أكابر فن المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية ، جواباً عن تصور شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة والمتوسطة والناقصة ، حيث قال : نعم ، الجميع مشترك في سنخ واحد

١٧٣

مبهم غاية الإبهام بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ، ونقصها وراء الإبهام الناشئ فيه عن اختلاف في الأفراد بحسب هوياتها انتهى. مع أنّ ما ذكرناه أولى به ممّا ذكره في الحقائق المتأصلة ، والماهيات الواقعية ، كما لا يخفى.

ثمّ قال قدس‌سره وأمّا على ما تصوّرنا الجامع ، فالصحيحي والأعمي في إمكان تصوير الجامع على حد سواء ، فانّ المعرّف إن كان فعلية النهي عن الفحشاء فهي كاشفة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة ، وإن كان اقتضاء النهي عن الفحشاء فهو كاشف عن الجامع بين الأعم (١) هذا.

يتلخص نتيجة ما أفاده قدس‌سره في ضمن امور :

الأوّل : أنّ الماهية والوجود متعاكسان من جهة السعة والإطلاق ، فالوجود كلّما كان أشد وأقوى كان الإطلاق والشمول فيه أوفر ، والماهية كلّما كان الضعف والإبهام فيها أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أعظم وأوفر.

الثاني : أنّ الجامع بين الماهيات الاعتبارية كالصلاة ونحوها سنخ أمر مبهم في غاية الإبهام ، فانّه جامع لجميع شتاتها ومتفرقاتها ، وصادق على القليل والكثير والزائد والناقص ، مثلاً الجامع بين أفراد الصلاة سنخ عمل مبهم من جميع الجهات ، إلاّمن حيث النهي عن الفحشاء والمنكر ، أو من حيث فريضة الوقت.

الثالث : أنّ الماهيات الاعتبارية نظير الماهيات المتأصلة التشكيكية من جهة إبهامها ذاتاً ، بل إنّ ثبوت الابهام في الاعتباريات أولى من ثبوته في المتاصلات.

الرابع : أنّ القول بالصحيح والأعم في تصوير الجامع المزبور على حد سواء.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١٠١ ـ ١٠٣ ، ١١٣.

١٧٤

أمّا الأمر الأوّل : فهو وإن كان متيناً إلاّ أنّه خارج عن محل كلامنا في المقام.

وأمّا الأمر الثاني : فيردّه أنّ الماهيات الاعتبارية لا تكون مبهمة أصلاً ، ضرورة أنّ للصلاة مثلاً حقيقة متعيّنة من قبل مخترعها ، وهي أجزاؤها الرئيسية التي هي عبارة عن مقولة الكيف والوضع ونحوهما ، ومن المعلوم أنّه ليس فيها أيّ إبهام وغموض ، كيف فانّ الابهام لا يعقل أن يدخل في تجوهر ذات الشيء ، فالشيء بتجوهر ذاته متعيّن ومتحصّل لا محالة ، وإنّما يتصور الابهام بلحاظ الطوارئ وعوارضه الخارجية كما صرّح هو قدس‌سره بذلك في الماهيات المتأصلة.

فحقيقة الصلاة حقيقة متعيّنة بتجوهر ذاتها ، وإنّما الابهام فيها بلحاظ الطوارئ وعوارضها الخارجية ، وعليه فالعمل المبهم إلاّمن حيث النهي عن الفحشاء ، أو فريضة الوقت ، لا يعقل أن يكون جامعاً ذاتياً ، ومنطبقاً على جميع مراتبها المختلفة زيادة ونقيصة انطباق الكلّي على أفراده ، ومتحداً معها اتحاد الطبيعي مع مصاديقه ضرورة ، إذ قد عرفت أنّ الصلاة مركبة من عدّة مقولات متباينة فلا تندرج تحت جامع ذاتي ، فلا محالة يكون ما فرض جامعاً عنواناً عرضياً لها ومنتزعاً عنها ، إذ لا ثالث بين الذاتي والعرضي ، ومن الواضح جدّاً أنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء هذا العنوان ، وإلاّ لترادف اللفظان وهو باطل يقيناً ، ومن هنا يظهر بطلان قياس المقام بمثل كلمة الخمر ونحوها ممّا هو موضوع للعنوان العرضي ، دون الذاتي.

على أنّ الكلام في هذه المسألة كما مرّ (١) إنّما هو في تعيين مسمّى لفظ الصلاة الذي هو متعلق للأمر الشرعي ، لا في تعيين المسمّى كيف ما كان ، ومن الظاهر

__________________

(١) في ص ١٦٨.

١٧٥

أنّ الجامع المزبور لايكون متعلق الأمر ، بل المتعلق له هو نفس الأجزاء المتقيدة بقيود خاصة ، فانّها هي التي واجدة للملاك الداعي إلى الأمر بها ، كما لا يخفى.

ومن هنا كان المتبادر عرفاً من لفظ الصلاة هذه الأجزاء المتقيدة بتلك الشرائط لا ذلك الجامع. ومن الغريب أنّه قدس‌سره قال : إنّ العرف لا ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل مبهم ، إلاّمن حيث كونه مطلوباً في الأوقات المخصوصة ، كيف فانّ العرف لا يفهم من إطلاق لفظ الصلاة إلاّكمّية خاصة من الأجزاء والشرائط التي تعلق الأمر بها وجوباً أو ندباً ، وفي الأوقات الخاصة ، أو في غيرها ، ومن هنا كان إطلاق لفظ الصلاة على صلاة العيدين وصلاة الآيات إطلاقاً حقيقياً من دون إعمال عناية أو رعاية علاقة.

وبما ذكرناه يظهر حال ما أفاده قدس‌سره في الأمر الثالث فلا حاجة إلى الإعادة.

وأمّا الرابع : فيرد عليه ما تقدّم من أنّ النهي عن الفحشاء إنّما يترتب فعلاً على ما يتصف بالصحّة بالفعل ، وهو غير المسمّى قطعاً ، فلا يمكن أن يكون ذلك جامعاً بين الأفراد الصحيحة.

وقد تلخص من جميع ما ذكرناه : أنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة إمّا أنّه غير معقول ، أو هو معقول ولكن اللفظ لم يوضع بازائه.

تبصرة :

[ في كيفية تأثير الصلاة في الانتهاء عن الفحشاء ]

إذا لم يعقل جامع بين الأفراد الصحيحة فما هو المؤثر في النهي عن الفحشاء والمنكر؟

والجواب عنه : هو أنّ حديث كيفية تأثير الصلاة في الانتهاء عن الفحشاء

١٧٦

والمنكر يمكن أن يكون بأحد وجهين :

الأوّل : أنّ الصلاة باعتبار أجزائها المختلفة كمّاً وكيفاً ، مشتملة على أرقى معاني العبودية والرقية ، ولأجل

ذلك تصرف النفس عن جملة من المنكرات وتؤثر في استعدادها ، للانتهاء عنها من جهة مضادة كل جزء من أجزائها لمنكر خاص ، فانّ المصلي الملتفت إلى وجود مبدأ ومعاد إذا قرأ قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) التفت إلى أنّ لهذه العوالم خالقاً هو ربّهم ، وهو رحمن ورحيم ، وإذا قرأ قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) التفت إلى أنّ الله يسأل عمّا ارتكبه من القبائح ويجازي عليه في ذلك اليوم ، وإذا قرأ قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) التفت إلى أنّ العبادة والاستعانة منحصرتان به تعالى وتقدس ، ولا يصلح غيره للعبادة والاستعانة.

وإذا قرأ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) التفت إلى أنّ طائفة قد خالفوا الله وعصوه عناداً ، ولأجله وقع عليهم غضبه تعالى وسخطه ، أو أنّهم خالفوه بغير عناد فصاروا من الضالِّين.

وهناك طائفة اخرى قد أطاعو الله ورسوله فوقعوا في مورد نعمائه تعالى ورضاه ، ففاتحة الكتاب بمجموع آياتها تكون عبرة وعظة للمصلين الملتفتين إلى معاني هذه الآيات ، ثمّ إذا وصل المصلي إلى حدّ الركوع والسجود فركع ثمّ سجد ، التفت إلى عظمة مقام ربّه الجليل ، وأنّ العبد لا بدّ أن يكون في غاية تذلل وخضوع وخشوع إلى مقامه الأقدس ، فانّهما حقيقة العبودية وأرقى معناها ، ومن هنا كانت عباديتهما ذاتية.

ومن هنا كان في الركوع والسجود مشقة على العرب في صدر الاسلام ، فالتمسوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع عنهم هذا التكليف ويأمرهم بما شاء ، وذلك لتضادهما الكبر والنخوة ، وبما أنّ الصلاة تتكرر في كل يوم وليلة

١٧٧

عدّة مرّات ، فالالتفات إلى معانيها في كل وقت اتي بها لا محالة تؤثر في النفس وتصرفها عن الفحشاء والمنكر.

الثاني : أنّ الصلاة باعتبار أنّها مشروطة بعدّة شرائط فهي لا محالة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فانّ الالتزام باباحة المكان واللباس وبالطهارة من الحدث والخبث مثلاً ، يصرف المكلف عن كثير من المحرمات الإلهية.

وقد نقل عن بعض السلاطين أنّه كان يمتنع عن شرب الخمر لأجل الصلاة ، وكيف ما كان فالصلاة باعتبار هاتين الجهتين ناهية عن عدّة من المنكرات لا محالة.

فتلخّص : أنّ تأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء باعتبار هاتين الجهتين واضح ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

[ تصوير الجامع على الأعم ]

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فيقع في تصوير الجامع على القول بالأعم ، وقد ذكر فيه عدّة وجوه :

الأوّل : ما عن المحقق القمي قدس‌سره من أنّ ألفاظ العبادات موضوعة بازاء خصوص الأركان ، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به دون المسمّى ، فلفظ الصلاة مثلاً موضوع لذات التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، فانّها أركان الصلاة واصولها الرئيسية ، وأمّا البقية فجميعاً معتبرة في مطلوبيتها شرعاً ، لا في تسميتها عرفاً (١) فيرجع حاصل ما أفاده قدس‌سره إلى أمرين :

__________________

(١) قوانين الاصول : ٤٣.

١٧٨

الأوّل : أنّ البقية بأجمعها خارجة عن المسمّى ودخيلة في المأمور به.

الثاني : أنّ الأركان هو الموضوع له.

وقد أورد شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) على كل واحد من الأمرين إيراداً.

أمّا الأوّل : فقد أورد عليه بأ نّه إن أراد بعدم دخول بقية الأجزاء والشرائط في المسمى ، عدم دخولها فيه دائماً ، فيردّه : أنّه ينافي الوضع للأعم ، فان لازمه عدم صدق لفظ الصلاة على الفرد الصحيح إلاّبنحو من العناية والمجاز ، ومن باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل. وإن أراد به دخولها فيه عند وجودها ، وخروجها عنه عند عدمها فهو غير معقول ، ضرورة أنّ دخول شيء واحد في ماهية عند وجوده ، وخروجه عنها عند عدمه أمر مستحيل ، لاستحالة كون شيء جزءاً لماهية مرّة ، وخارجاً عنها مرّة اخرى ، فان كل ماهية متقوّمة بجنس وفصل أو ما يشبههما ، فلا يعقل أن يكون شيء واحد مقوّماً لماهية عند وجوده ، ولا يكون كذلك عند عدمه. فإذن لا يعقل أن تكون البقية داخلة في المسمّى عند تحققها وخارجة عنه عند عدمها ، فأمرها لا محالة يدور بين الخروج مطلقاً أو الدخول كذلك ، وكلا الأمرين ينافي الوضع للأعم.

أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلأ نّه يناسب الوضع للصحيح لا للأعم كما لا يخفى.

ثمّ أورد قدس‌سره على نفسه بأنّ الالتزام بالتشكيك في الوجود ، وفي بعض الماهيات كالسواد والبياض ونحوهما يلزمه الالتزام بدخول شيء في الوجود أو الماهية عند وجوده ، وبعدم دخوله فيه عند عدمه ، فانّ المعنى الواحد على القول بالتشكيك يصدق على الواجد والفاقد والناقص والتام ، فالوجود يصدق على وجود الواجب ووجود الممكن على عرضه العريض ، وكذا السواد يصدق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦١ وما بعدها.

١٧٩

على الضعيف والشديد ، فليكن الصلاة أيضاً صادقة على التام والناقص والواجد والفاقد على نحو التشكيك.

وأجاب عنه بأنّ التشكيك في حقيقة الوجود لا ندرك حقيقته ، بل هو أمر فوق إدراك البشر ولا يعلم إلاّبالكشف والمجاهدة كما صرّح به أهله ، وأمّا التشكيك في الماهيات فهو وإن كان أمراً معقولاً إلاّ أنّه لا يجري في كل ماهية ، بل يختص بالماهيات البسيطة التي يكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز كالسواد والبياض ونحوهما ، وأمّا الماهيات التي تكون مركبة من جنس وفصل ومادة وصورة كالانسان ونحوه ، فلا يعقل فيها التشكيك ، وعليه فلا يعقل التشكيك في حقيقة الصلاة لأنّها على الفرض مركبة من أركان ومقولات عديدة ، فلا يعقل أن تكون بقية الأجزاء والشرائط داخلة فيها مرّة وخارجة عنها مرّة اخرى ، لتصدق الصلاة على الزائد والناقص.

وأمّا الثاني : فأورد عليه بأنّ الأركان أيضاً تختلف باختلاف الأشخاص من القادر والعاجز والغريق ونحو ذلك ، فلا بدّ حينئذ من تصوير جامع بين مراتب الأركان فيعود الاشكال ، وبيان ذلك : هو أنّ الشارع جعل الركوع والسجود بعرضهما العريض ركناً فهما يختلفان باختلاف الحالات من الاختيار والاضطرار ، وأدنى مراتبهما الاشارة والإيماء ، فحينئذ لا بدّ من تصوير جامع بين تلك المراتب ليوضع اللفظ بازاء ذلك الجامع ، فإذن يعود الإشكال.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين أنّ ما ذكره قدس‌سره لا يرجع عند التأمل إلى معنى محصّل ، هذا.

وأورد المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) على هذا الوجه من تصوير الجامع إيراداً ثالثاً ، وملخّصه : هو أنّا نقطع بأنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥.

١٨٠