محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

وعدّة من الأعراض ، ووضعوا الهيئات من المركبات والمشتقات للنسب والروابط ، ووضعوا الحروف للأعراض النسبية الإضافية. فكلمة ( في ) مثلاً في قولنا : زيد في الدار ، تدل على العرض الأيني العارض على موضوعه كزيد ، والهيئة تدل على ربط هذا العرض بموضوعه وهكذا.

وإن شئت قلت : إنّ المعاني منحصرة بالجواهر والأعراض وربطها بمحلّها ولا رابع لها ، ومن المعلوم أنّ الحروف لم توضع للُاولى ولا لبعض الأقسام الثانية ، لأنّ الموضوع لها الأسماء ، ولا للثالثة لأنّ الموضوع لها الهيئات ، فلا محالة تكون موضوعة للأعراض النسبية الاضافية. فكلمة ( في ) وضعت للأين الظرفي ، وكلمة ( من ) للأين الابتدائي وهكذا. ولا فرق في ذلك بين أقسام الحروف مطلقاً من الداخل على المركبات الناقصة والداخل على المركبات التامّة كحروف التمني والترجي والتشبيه ونحوها (١).

والجواب عنه : يظهر بما ذكرناه من الجواب عن القول الرابع ، وتوضيح الظهور :

أوّلاً : أنّا نقطع بعدم كون الحروف موضوعة للأعراض النسبية الاضافية ، لصحّة استعمالها فيما يستحيل فيه تحقّق عرض نسبي كما في صفات الواجب تعالى والاعتبارات والانتزاعيات ، فانّ العرض إنّما هو صفة للموجود في الخارج فلا يعقل تحققه بلا موضوع محقق خارجاً ، وعليه فيستحيل وجوده في تلك الموارد.

وكيف كان ، فلا شبهة في فساد هذا القول ، فانّ صحّة استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شيء منها ، تكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الموضوع لها المعنى الجامع الموجود في جميع هذه

__________________

(١) بدائع الأفكار ١ : ٤٩.

٨١

الموارد على نحو واحد ، لا خصوص الأعراض النسبية الإضافية.

وثانياً : أنّ ذلك أفسد من القول السابق ، بل لا يترقب صدوره من مثله قدس‌سره والوجه فيه : هو ما بيّناه من أنّ للأعراض التسعة جميعاً مفاهيم مستقلة بحد ذاتها وأنفسها في عالم مفهوميتها من دون فرق بين الأعراض النسبية وغيرها ، غاية الأمر أنّ الأعراض النسبية تتقوّم في وجودها بأمرين ، وغير النسبية لا تتقوّم إلاّبموضوعها ، وكيف فانّ الأعراض جميعاً موجودات في أنفسها وإن كان وجودها لموضوعاتها.

وقد تلخّص من ذلك : أنّ الحروف والأدوات لم توضع للأعراض النسبية الاضافية ، بل الموضوع لها هي الأسماء ككلمة الظرفية والابتداء والاستعلاء ونحوها ، هذا كلّه بالاضافة إلى معاني الحروف.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره بالاضافة إلى معاني الهيئات وأ نّها موضوعة لأنحاء النسب والروابط ، فيرد عليه عين ما أوردناه على القول المتقدم من عدم الدليل على وجود النسبة في الخارج في مقابل وجود الجوهر أو العرض أوّلاً ، وعدم وضع اللفظ لها ثانياً ، وعدم ثبوتها في جميع موارد استعمالاتها ثالثاً ، على تفصيل تقدم (١).

والنتيجة لحدّ الآن : ظهور بطلان جميع الأقوال والآراء التي سبقت ، وعدم امكان المساعدة على واحد منها.

__________________

(١) في ص ٧٧.

٨٢

[ المختار في المعنى الحرفي ]

وعلى ذلك فيجب علينا أن نختار رأياً آخر في مقابل هذه الآراء.

التحقيق : أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وإن كانت مرتكزة في أذهان كل أحد ومعلومة لديه إجمالاً ، ولذا يستعملها فيها عند الحاجة إلى تفهيمها ، إلاّ أنّ الداعي إلى البحث عنها في المقام حصول العلم التفصيلي بها.

وبيان ذلك : أنّ الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقة ، ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد. وقد تبيّن حكم هذه الناحية من مطاوي كلماتنا فيها ، وأ نّه لا شبهة في تباين المعنى الاسمي والحرفي بالذات فلا حاجة إلى الاعادة والبيان.

ونتكلم فيها فعلاً من ناحية اخرى بعد الفراغ عن تلك الناحية ، وهي أنّ المعاني الحرفية التي تباين الاسمية بتمام الذات ما هي؟

فنقول : إنّ الحروف على قسمين :

أحدهما : ما يدخل على المركبات الناقصة والمعاني الافرادية كمن وإلى وعلى ونحوها.

والثاني : ما يدخل على المركبات التامّة ومفاد الجملة كحروف النداء والتشبيه والتمني والترجي وغير ذلك.

أمّا القسم الأوّل : فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسمية في عالم المفهوم والمعنى وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع هذا لا نظر لها إلى النسب والروابط الخارجية ولا إلى الأعراض النسبية الاضافية ، فانّ التخصيص والتضييق إنّما هو في نفس المعنى سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن.

٨٣

توضيح ذلك : أنّ المفاهيم الاسمية بكليتها وجزئيتها وعمومها وخصوصها قابلة للتقسيمات إلى غير النهاية باعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها ، ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات ، سواء كان الاطلاق بالقياس إلى الحصص المنوّعة كاطلاق الحيوان مثلاً بالاضافة إلى أنواعه التي تحته ، أو بالقياس إلى الحصص المصنّفة أو المشخّصة كاطلاق الانسان بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده ، أو بالقياس إلى حالات شخص واحد من كمّه وكيفه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة على مرّ الزمن.

ومن البديهي أنّ غرض المتكلم في مقام التفهيم والافادة كما يتعلق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بتفهيم حصّة خاصّة منه فيحتاج حينئذ إلى مبرز لها في الخارج ، وبما أنّه لا يكاد يمكن أن يكون لكل واحد من الحصص أو الحالات مبرز مخصوص ، لعدم تناهي الحصص والحالات ، بل عدم تناهي حصص أو حالات معنى واحد فضلاً عن المعاني الكثيرة ، فلا محالة يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصد المتكلم تفهيمها ، وليس ذلك إلاّ الحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالة على النسب الناقصة ، كهيئات المشتقات وهيئة الاضافة والتوصيف.

فكل متكلم متعهد في نفسه بأ نّه متى ما قصد تفهيم حصّة خاصّة من معنى ، أن يجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه على نحو القضية الحقيقية ، لا بمعنى أنّه جعل بازاء كل حصّة أو حالة حرفاً مخصوصاً أو ما يحذو حذوه بنحو الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، لما عرفت من أنّه غير ممكن من جهة عدم تناهي الحصص. فكلمة ( في ) في جملة : الصلاة في المسجد حكمها كذا ، تدل على أنّ المتكلم أراد تفهيم حصّة خاصّة من الصلاة ، وفي مقام بيان حكم هذه الحصّة لا الطبيعة السارية إلى كل فرد. وأمّا كلمتا الصلاة والمسجد فهما مستعملتان

٨٤

في معناهما المطلق واللاّ بشرط بدون أن تدلا على التضييق والتخصيص أصلاً.

ومن هنا كان تعريف الحرف بما دلّ على معنى قائم بالغير من أجود التعريفات وأحسنها ، وموافقاً لما هو الواقع ونفس الأمر ومطابقاً لما ارتكز في الأذهان من أنّ المعنى الحرفي خصوصية قائمة بالغير وحالة له.

وإن شئت فعبّر : أنّ الأسماء بجواهرها وأعراضها وغيرهما تدل على المعاني المطلقة اللاّ بشرطية ، ولايدل شيء منها على تضييقات هذه المعاني وتخصيصاتها بخصوصيات ، فلا محالة انحصر أن يكون الدال عليها هو الحروف أو ما يقوم مقامها. مثلاً كلمة ( الدور ) موضوعة لمعنى جامع وسيع ودالّة عليه ، ولكن قد يتعلق الغرض بتفهيم حصّة خاصّة منه وهي خصوص الحصّة المستحيلة مثلاً ، فإذن ما الذي يوجب إفادتها ، وليس ذلك إلاّ الحرف أو ما يشبهه ، لعدم دالٍ آخر على الفرض ونفس الكلمة لا تدل إلاّعلى الطبيعي الجامع ، وهكذا.

وبكلمة واضحة : أنّ وضع الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع ، فانّ القول بالتعهد لا محالة يستلزم وضعها لذلك ، حيث عرفت أنّ الغرض قد يتعلق بتفهيم الطبيعي وقد يتعلق بتفهيم الحصّة ، والمفروض أنّه لايكون عليها دال ما عدا الحروف وتوابعها ، فلا محالة يتعهد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصّة خاصّة ، فلو قصد تفهيم حصّة من طبيعي الماء مثلاً ، كماء له مادة أو ماء البئر ، يبرزه بقوله : ما كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة ، أو : ماء البئر معتصم ، فكلمة اللاّم في الأوّل وهيئة الاضافة في الثاني تدلاّن على أنّ المراد من الماء ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد ، بل خصوص حصّة منه.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحصص موجودة في الخارج أو معدومة ، ممكنة كانت أو ممتنعة. ومن هنا يصح استعمالها في صفات الواجب تعالى

٨٥

والانتزاعيات كالامكان والامتناع ونحوهما ، والاعتباريات كالأحكام الشرعية والعرفية بلا لحاظ عناية في البين ، مع أنّ تحقق النسبة في تلك الموارد حتى بمفاد هل البسيطة مستحيل ، وجه الصحّة : هو أنّ الحروف وضعت لافادة تضييق المعنى في عالم المفهومية مع قطع النظر عن كونه موجوداً في الخارج أو معدوماً ، ممكناً كان أو ممتنعاً ، فانّها على جميع التقادير تدل على تضييقه وتخصيصه بخصوصية ما على نسق واحد ، فلا فرق بين قولنا : ثبوت القيام لزيد ممكن ، وثبوت القدرة لله تعالى ضروري ، وثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع ، فكلمة اللام في جميع ذلك استعملت في معنى واحد ، وهو تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى ، بلا نظر لها إلى كونه محكوماً بالامكان في الخارج أو بالضرورة أو بالامتناع ، فان كل ذلك أجنبي عن مدلولها ، ومن هنا يكون استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شيء منها.

نعم ، إنّها تحدث الضيق في مقام الاثبات والدلالة ، وإلاّ لبقيت المفاهيم الاسمية على إطلاقها وسعتها ، وهذا غير كون معانيها إيجادية ، وكم فرق بين الايجادية بهذا المعنى والايجادية بذلك المعنى.

وأمّا بحسب مقام الثبوت فهي تكشف عن تعلق قصد المتكلم بافادة ضيق المعنى الاسمي ، فما يستعمل فيه الحرف ليس إلاّ الضيق في عالم المفهومية من دون لحاظ نسبة خارجية ، حتى في الموارد الممكنة كما في الجواهر والأعراض فضلاً عما يستحيل فيه تحقق نسبة ما كما في صفات الواجب تعالى وما شاكلها.

وعلى الجملة : حيث إنّ الأغراض تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات فالمستعملون بمقتضى تعهداتهم النفسانية يتعهدون أن يتكلموا بالحروف أو ما يشبهها عند تعلق أغراضهم بتفهيم حصص المعاني وتضييقاتها ،

٨٦

فلو أنّ أحداً تعلق غرضه بتفهيم الصلاة الواقعة بين زوال الشمس وغروبها يبرزه بقوله : الصلاة فيما بين الحدّين حكمها كذا ، وهكذا.

وملخص ما ذكرناه في المقام : هو أنّ المفاهيم الاسمية وإن كان بعضها أوسع من بعضها الآخر ، مثلاً مفهوم الممكن أوسع من مفهوم الوجود وهو أوسع من مفهوم الجوهر ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى مفهوم لا يكون تحته مفهوم آخر ، ولكل واحد منها لفظ مخصوص يدل عليه عند الحاجة إلى تفهيمه ، إلاّ أنّ حصصها أو حالاتها غير المتناهية لم يوضع بازاء كل واحدة منها لفظ خاص كي يدل عليها عند الحاجة وذلك لعدم تناهيها ، فإذن ما هو الذي يوجب إفادتها في الخارج ، وليس ذلك إلاّ الحروف أو ما يشبهها بالتقريب الذي قدّمناه من أنّ الواضع تعهّد بذكر حرف خاص عند قصد تفهيم حصّة خاصّة من المعنى ، ففي كل مورد قصد ذلك جعل مبرزه حرفاً من الحروف على اختلاف الموارد والمقامات.

يتلخص نتيجة ما ذكرناه في امور :

الأمر الأوّل : أنّ المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتاً ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، فانّها متدليات بها بحد ذاتها وهي مستقلاّت في أنفسها ولا جامع بين الأمرين أصلاً.

الأمر الثاني : أنّ معانيها ليست بإيجادية ، ولا بنسبة خارجية ، ولا بأعراض نسبية إضافية ، بل هي عبارة عن تضييقات نفس المعاني الاسمية في عالم المفهومية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ، بلا نظر إلى أنّها موجودة في الخارج أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة ، ومن هنا قلنا : إنّ استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.

والذي دعاني إلى اختيار ذلك القول أسباب أربعة :

٨٧

السبب الأوّل : بطلان سائر الأقوال والآراء.

السبب الثاني : أنّ المعنى الذي ذكرناه مشترك فيه بين جميع موارد استعمال الحروف ، من الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد ، وليس في المعاني الاخر ما يكون كذلك كما عرفت.

السبب الثالث : أنّ ما سلكناه في باب الوضع من أنّ حقيقة الوضع هي : التعهّد والتباني ، ينتج الالتزام بذلك القول لا محالة ، ضرورة أنّ المتكلم إذا قصد تفهيم حصّة خاصّة فبأيّ شيء يبرزه ، إذ ليس المبرز له إلاّ الحرف أو ما يقوم مقامه.

السبب الرابع : موافقة ذلك للوجدان ومطابقته لما ارتكز في الأذهان ، فانّ الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى ، غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها ، وعن إمكان تحقق النسبة بينها أو عدم إمكانها ، ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك يكذّبها صريح الوجدان والبداهة كما لا يخفى ، فهذا يكشف قطعياً عن أنّ الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره.

الأمر الثالث : أنّ معانيها جميعاً حكائية ومع ذلك لا تكون إخطارية ، لأنّ ملاك إخطارية المعنى الاستقلالية الذاتية في عالم المفهوم والمعنى ، وهي غير واجدة لذلك الملاك ، وملاك حكائية المعنى نحو من الثبوت في عالم المعنى ، هي واجدة له ، فلا ملازمة بين عدم كونها إخطارية وكونها إيجادية كما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

الأمر الرابع : في نقاط الامتياز بين رأينا وسائر الآراء :

يمتاز رأينا عن القول بأنّ معاني الحروف إيجادية في نقطة واحدة ، وهي أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي

ليس له واقع في أيّ وعاء ما عدا التراكيب

٨٨

الكلامية ، وأمّا على رأينا فله واقع في عالم المفهوم وثابت فيه كالمعنى الاسمي ، غاية الأمر بثبوت تعلقي لا استقلالي.

ويمتاز عن القول بأنّ الحروف وضعت بازاء النسب والروابط في نقطة واحدة أيضاً ، وهي أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي سنخ وجود خارجي ، وهو وجود لا في نفسه ، ولذا يختصّ بالجواهر والأعراض ولا يعمّ الواجب والممتنع ، وأمّا على رأينا فالمعنى الحرفي سنخ مفهوم ثابت في عالم المفهومية ويعمّ الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.

ويمتاز عن القول بأنّ الموضوع لها الحروف هي الأعراض النسبية في نقطتين :

النقطة الاولى : أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي مستقل بالذات ، وأمّا على رأينا فهو غير مستقل بالذات.

النقطة الثانية : أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي سنخ معنى يخصّ الجواهر والأعراض ولا يعمّ غيرهما ، وأمّا على رأينا فهو سنخ معنى يعمّ الجميع ، هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الحروف.

وأمّا القسم الثاني من الحروف : وهو ما يدخل على المركبات التامة أو ما في حكمها ـ كمدخول حرف النداء ، فانّه وإن كان مفرداً إلاّ أنّه يفيد فائدة تامة ـ فحاله حال الجمل الانشائية ، بيان ذلك : أنّ الجمل على قسمين : أحدهما :

إنشائية. والثاني : خبرية ، والمشهور بينهم أنّ الاولى موضوعة لايجاد المعنى في الخارج ، ومن هنا فسّروا الانشاء بايجاد ما لم يوجد. والثانية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.

والصحيح ـ على ما سيأتي بيانه (١) ـ أنّ الجملة الانشائية وضعت للدلالة

__________________

(١) في ص ٩٧.

٨٩

على قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند إرادة تفهيمه.

والجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الواقع ثبوتاً أو نفياً.

توضيح ذلك : أنّ هذا القسم من الحروف كالجملة الانشائية ، بمعنى أنّه وضع للدلالة على قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند قصد تفهيمه ، فحروف النداء ك ( يا ) مثلاً ، وضعت لابراز قصد النداء وتوجيه المخاطب إليه ، وحروف الاستفهام موضوعة لابراز طلب الفهم ، وحروف التمني موضوعة لابراز التمني ، وحروف الترجي موضوعة لابراز الترجي وكذا حروف التشبيه ونحوها.

وبتعبير آخر : أنّ وضع هذا القسم من الحروف لذلك المعنى أيضاً من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع ، فان لازم القول بالتعهد والالتزام هو تعهد كل متكلم بأ نّه متى ما قصد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص ، فاللفظ مفهم له ودال على أنّه أراد تفهيمه به ، فلو قصد تفهيم التمني يتكلم بلفظ خاص وهو كلمة ( ليت ) ، ولو قصد تفهيم الترجي يتكلّم بكلمة ( لعل ) وهكذا. فالواضع تعهد ذكر هذا القسم من الحروف عند إرادة إبراز أمر من الامور النفسانية من التمني والترجي ونحوهما.

ومن هنا يظهر بطلان ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ معاني هذه الحروف أيضاً إيجادية ، ووجهه ما تبين لك من أنّ معانيها ثابتة في عالم المفهومية كمعاني الجمل الانشائية ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة. فالنتيجة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥.

٩٠

هي : أنّ حال هذا القسم من الحروف حال الجمل الانشائية ، كما أنّ القسم الأوّل منها حاله حال الهيئات الناقصة. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا الكلام في المقام الثاني :

وهو أنّ الموضوع له في الحروف عام أو خاص ، فيتضح ممّا بيّنّاه في المقام الأوّل ، فان نتيجة ذلك أنّ الموضوع له فيها خاص والوضع عام.

أمّا في الطائفة الاولى ، فلأ نّها لم توضع بازاء مفاهيم التضييقات والتحصصات ، لأ نّها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها ، بل لواقعها وحقيقتها ـ اي ما هو بالحمل الشائع تضييق وتحصص ـ ومفاهيمها ليست بهذا الحمل تضييقاً وإن كان كذلك بالحمل الأوّلي الذاتي. نعم ، لا بدّ من أخذ تلك المفاهيم بعنوان المعرّف والآلة للحاظ أفرادها ومصاديقها إجمالاً حتى يمكن الوضع بازائها.

وبتعبير آخر : أنّه كما لا يمكن أن يكون وضعها خاصاً كالموضوع له ، لما تقدم (١) من أنّ حصص المعنى الواحد غير متناهية فضلاً عن المعاني الكثيرة ، فلا يمكن تصور كل واحد منها على وجه التفصيل ، كذلك لا يمكن أن يكون الموضوع لها عاماً كالوضع ، فانّه لا يعقل ذلك إلاّ أن توضع لمفاهيم الحصص والتضييقات ، والمفروض أنّها من المفاهيم الاسمية وليست من المعاني الحرفية في شيء ، ولا جامع مقولي بين أفراد التضييق وأنحائه لتوضع بازائه ، فلا بدّ حينئذ من أن نلتزم بكون الموضوع له فيها خاصاً والوضع عاماً ، بأن نقول :

إن كل واحد من هذه الحروف موضوع لسنخ خاص من التضييق في عالم المعنى ، فكلمة ( في ) لسنخ من التضييق ، وهو سنخ التضييق الأيني ، وكلمة ( على ) لسنخ آخر منه ، وهو سنخ التضييق الاستعلائي ، وكلمة ( من ) لسنخ ثالث منه وهو سنخ التضييق الابتدائي ، وهكذا سائر هذه الحروف.

ومن هنا يظهر أنّ الموضوع له في الهيئات الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة

__________________

(١) في ص ٨٤.

٩١

الإضافة والتوصيف أيضاً من هذا القبيل ـ يعني أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص ـ لما عرفت من عدم الفرق بينها وبين هذا القسم من الحروف أصلاً.

وأمّا القسم الثاني منها فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّ الحروف في هذا القسم لم توضع لمفهوم التمني والترجي والتشبيه ونحوه ، لأنّها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية.

على أنّ لازمه أن تكون كلمة لعل مرادفاً للفظ الترجي ، وكلمة ليت مرادفاً للفظ التمني وهكذا ، وهو باطل يقيناً ، كما أنّها لم توضع بازاء مفهوم إبراز هذه المعاني ، فانّه أيضاً من المفاهيم الاسمية ، بل وضعت لما هو بالحمل الشائع إبراز للتمني والترجي والاستفهام ونحو ذلك ، ولا جامع ذاتي بين مصاديق الابراز وأفراده ليكون موضوعاً بازاء ذلك الجامع ، ولأجل ذلك في هذا القسم أيضاً يكون الموضوع له خاصاً والوضع عاماً ، بمعنى أنّ الواضع تصور مفهوماً عاماً كابراز التمني مثلاً فوضع كلمة ليت بازاء أفراده ومصاديقه ، وتعهد بأ نّه متى ما قصد تفهيم التمني يتكلم بكلمة ليت وهكذا. هذا تمام الكلام في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وما يشبهها.

الإنشاء والإخبار

قال المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بعد ما اختار أنّ المعنى الحرفي والاسمي متحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي : لايبعد أن يكون الاختلاف بين الانشاء والخبر أيضاً من هذا القبيل ، بمعنى أنّ طبيعي المعنى الموضوع له واحد فيهما والاختلاف بينهما إنّما هو في الداعي ، فانّه في

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢.

٩٢

الانشاء قصد إيجاد المعنى ، وفي الخبر قصد الحكاية عنه ، وكلاهما خارجان عن حريم المعنى.

توضيح ذلك : أنّ الصيغ المشتركة كصيغة : بعت وملكت وقبلت ونحوها ، تستعمل في معنى واحد مادة وهيئة في مقام الإخبار والإنشاء.

أمّا بحسب المادة فظاهر ، لأن معناها الطبيعي اللاّ بشرط وهي تستعمل في ذلك الطبيعي دائماً ، سواء كانت الهيئة الطارئة عليها تستعمل في مقام الاخبار أو الانشاء.

وأمّا بحسب الهيئة ، فلأ نّها تستعمل في نسبة إيجاد المادة إلى المتكلم في كلا المقامين ، غاية الأمر أنّ الداعي في مقام الانشاء إنّما هو إيجادها في الخارج وفي مقام الاخبار الحكاية عنها ، فالاختلاف بينهما في الداعي لا في المستعمل فيه.

وإن شئت قلت : إنّ العلقة الوضعية في أحدهما غير العلقة الوضعية في الثاني ، فإنّها في الجمل الانشائية تختص بما إذا قصد المتكلم إيجاد المعنى في الخارج ، وفي الجمل الخبرية تختص بما إذا قصد الحكاية عنه (١).

__________________

(١) وقد أورد عليه بعض الأعاظم قدس‌سره على ما نسب إليه بعض مقرري بحثه : من أنّ لازم تقوّم الانشاء بقصد الإيجاد وتقوّم الخبر بقصد الحكاية ، أن يكون الكلام الصادر من المتكلم إذا لم يقصد به أحد الأمرين لا إنشاء ولا خبراً. وهذا فاسد لانحصار الكلام الذي يصحّ السكوت عليه فيهما وإن لم يكن قاصداً لأحدهما ، هذا أوّلاً.

وثانياً : لزوم تعلّق القصد بالقصد في مقام الإنشاء والإخبار ، لأنّهما فعلان اختياريان محتاجان إلى القصد ، والمفروض أنّ هنا قصداً سابقاً عليه مقوّماً لهما فيلزم

٩٣

أقول : ما ذكره قدس‌سره مبني على ما هو المشهور بينهم بل المتسالم عليه ، من أنّ الجمل الخبرية موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه ، فان طابقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية فصادقة وإلاّ فكاذبة ، وأنّ الجمل الانشائية موضوعة لايجاد المعنى في الخارج الذي يعبّر عنه بالوجود الانشائي ، كما صرّح قدس‌سره به في عدّة من الموارد (١) وقال : إنّ الوجود الانشائي نحو من الوجود ، ولذا لا تتصف بالصدق أو بالكذب ، فانّه على هذا لا مانع من أن يكون المعنى واحداً في كلتا الجملتين ، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال.

أقول : يقع الكلام هنا في مقامين :

المقام الأوّل : في الجملة الخبرية.

والمقام الثاني : في الجملة الانشائية.

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالصحيح هو أنّ الجملة الخبرية موضوعة

__________________

تعلّقه به ، وهذا خلاف الوجدان والبرهان. [ نهاية الأفكار ١ : ٥٧ ].

ولكن لا يمكن المساعدة عليه ، فلأن ما ذكره أوّلاً يرد عليه : أنّ الكلام المفيد الذي يصحّ السكوت عليه لا ينفك عن قصد الحكاية أو الإنشاء كما هو ظاهر.

ويرد على ما ذكره ثانياً : أنّه مبني على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فانّ المعنى الموضوع له على ما هو عليه من الإطلاق والسعة من دون تقييده بقصد الحكاية والإيجاد ، بل هي مأخوذة في العلقة الوضعية بمعنى أنّها تقيدت في الإنشاء بقصد الإيجاد في مقام الاستعمال ، وبقصد الحكاية في الاخبار.

(١) منها ما في الكفاية : ٦٦.

٩٤

للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع ، ولم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، وذلك لسببين :

السبب الأوّل : أنّها لا تدل على ثبوت النسبة خارجاً أو على عدم ثبوتها ولو ظنّاً مع قطع النظر عن حال المخبر وعن القرائن الخارجية ، مع أنّ دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع ، وإلاّ لم يبق للوضع فائدة ، فإذا فرضنا أنّ الجملة بما هي لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها عنه أصلاً حتّى ظناً ، فما معنى كون الهيئة موضوعة لها ، بل يصبح ذلك لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم. نعم ، إنّها وإن كانت عند الإطلاق توجب تصور الثبوت أو النفي في الواقع ، إلاّ أنّه ليس مدلولاً للهيئة ، فانّ التصور لا يكون مدلولاً للجملة التصديقية بالضرورة. وعلى الجملة : أنّ قانون الوضع والتعهد يقتضي عدم تخلف اللفظ عن الدلالة على معناه الموضوع له في نفسه ، فلو كانت الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على النسبة الخارجية لدلّت عليها لا محالة.

السبب الثاني : أنّ الوضع على ما سلكناه عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني ، ومقتضاه تعهد كل متكلم من أهل أيّ لغة أنّه متى ما قصد تفهيم معنى خاص أن يتكلم بلفظ مخصوص ، فاللفظ مفهم له ودال على أنّ المتكلم أراد تفهيمه بقانون الوضع ، ومن الواضح أنّ التعهد والالتزام لا يتعلقان إلاّ بالفعل الاختياري ، إذ لا معنى للتعهد بالاضافة إلى أمر غير اختياري ، وبما أنّ ثبوت النسبة أو نفيها في الواقع خارج عن الاختيار فلا يعقل تعلّق الالتزام والتعهّد به ، فالذي يمكن أن يتعلق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الاخبار وإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية في الانشاء ، لأنّهما أمران اختياريان داعيان إلى التكلم باللفظ في الجملة الخبرية والانشائية.

إذا عرفت ذلك فنقول : على ضوء هذا البيان قد أصبحت النتيجة أنّ الجملة

٩٥

الخبرية لم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها عنه ، بل وضعت لابراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع ونفس الأمر.

وتوضيح ذلك على وجه أبسط : هو أنّ الانسان لمّا كان محتاجاً في تنظيم حياته المادية والمعنوية إلى آلات بها يبرز مقاصده وأغراضه ، والإشارة ونحوها لا تفي بجميع موارد الحاجة في المحسوسات فضلاً عن المعقولات ، فلا مناص من التعهد والمواضعة بجعل ألفاظ خاصة مبرزة لها في موارد الحاجة ، ودالّة على أنّ الداعي إلى إيجاد تلك الألفاظ إرادة تفهيمها.

وعليه ، فالجملة الخبرية بمقتضى تعهد الواضع بأ نّه متى ما قصد الحكاية عن الثبوت أو النفي في الواقع أن يتكلم بها ، تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها ذلك ، فتكون بنفسها مصداقاً للحكاية ، وهذه الدلالة لا تنفك عنها حتّى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقام التفهيم والافادة في مقام الثبوت والواقع إذا لم ينصب قرينة على الخلاف في مقام الاثبات ، غاية ما في الباب أنّ تكلمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهده والتزامه ، وأمّا الدلالة فهي موجودة لا محالة ويكون كلام المتكلم حجّة عليه ببناء العقلاء من جهة التزامه وتعهده.

نعم ، تنتفي هذه الدلالة فيما إذا نصب قرينة على الخلاف ، كما إذا نصب قرينة على أنّه في مقام الإرشاد أو السخرية أو الاستهزاء أو الهزل ، أو في مقام تعداد الجمل وذكرها من باب المثال ، فانّ الجملة حينئذ لا تدل على قصد الحكاية عن الواقع ، بل تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها أمر آخر غير قصد الحكاية.

ويترتب على ما ذكرناه : أنّ الجملة الخبرية من جهة الدلالة الوضعية لا تتصف بالصدق أو الكذب ، فانّها ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب ، فقولنا : زيد عادل ، يدل على أنّ المتكلم في مقام قصد الحكاية عن ثبوت العدالة لزيد ، أمّا أنّه مطابق للواقع أو غير مطابق فهو أجنبي عن دلالته على

٩٦

ذلك بالكلية.

ومن هنا يظهر أنّه لا فرق بينها وبين الجمل الانشائية في الدلالة الوضعية ، فكما أنّ الجملة الإنشائية لا تتصف بالصدق أو الكذب ، بل إنّها مبرزة لأمر من الامور النفسانية ، فكذلك الجملة الخبرية فانّها مبرزة لقصد الحكاية عن الواقع نفياً أو إثباتاً ، حتى فيما إذا علم المخاطب كذب المتكلم في إخباره ، فالجملة الانشائية والإخبارية تشتركان في أصل الإبراز والدلالة على أمر نفساني ، وإنّما الفرق بينهما فيما يتعلق به الابراز ، فانّه في الجملة الانشائية أمر نفساني لا تعلق له بالخارج ، ولذا لا يتصف بالصدق أو الكذب ، بل يتصف بالوجود أو العدم ، وفي الجملة الخبرية أمر متعلق بالخارج فان طابقه فصادق وإلاّ فكاذب.

ومن هنا يتّضح أنّ المتصف بالصدق والكذب إنّما هو مدلول الجملة لا نفسها ، واتصاف الجملة بهما إنّما هو بتبع مدلولها وبالعرض والمجاز ، ولذا لو أمكن فرضاً الحكاية عن شيء بلا دال عليها في الخارج لكانت الحكاية بنفسها متصفة بالصدق أو الكذب لا محالة.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا فرق في إبراز الحكاية بين اللفظ وغيره من الاشارة أو الكتابة أو نحوهما ، فان كل ذلك بالإضافة إلى إبراز الحكاية في الخارج على نسق واحد ، كما أنّه لا فرق في ذلك بين الجملة الاسمية والفعلية.

ثمّ ليعلم أنّ مرادنا من الخارج هو واقع نفس الأمر المقابل للفرض والتقدير أعم من الخارج والذهن ، بل كل وعاء مناسب لثبوت النسبة وعدمها ، فان موارد استعمالات الجملة الخبرية كما عرفت لا تنحصر بالجواهر والأعراض ، بل تعم الواجب والممكن والممتنع والامور الاعتبارية على نحو واحد ، هذا تمام الكلام في تحقيق معنى الجملة الخبرية.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فالصحيح هو أنّ الجملة الإنشائية موضوعة

٩٧

لابراز أمر نفساني غير قصد الحكاية ولم توضع لايجاد المعنى في الخارج ، والوجه في ذلك : هو أنّهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني كايجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات التي لا تقبل النزاع ، بداهة أنّ الموجودات الخارجية بشتى أشكالها وأنواعها ، ليست ممّا توجد بالإنشاء ، كيف والألفاظ ليست واقعة في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.

وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك ، فيردّه : أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلّم به ، ضرورة أنّ اللفظ في الجملة الإنشائية لا يكون علّة لإيجاد الأمر الاعتباري ، ولا واقعاً في سلسلة علته ، فانّه يتحقق بالاعتبار النفساني ، سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.

نعم ، اللفظ مبرز له في الخارج لا أنّه موجد له ، فوجوده بيد المعتبر وضعاً ورفعاً ، فله أن يعتبر الوجوب على ذمة أحد وله أن لا يعتبر ، وله أن يعتبر ملكية مال لشخص وله أن لا يعتبر ذلك ، وهكذا.

وأمّا الاعتبارات الشرعية أو العقلائية فهي وإن كانت مترتبة على الجمل الانشائية ، إلاّ أنّ ذلك الترتب إنّما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقاً ، والمفروض في المقام أنّ الكلام في تحقيق معانيها ، وفيما يترتب عليه تلك الاعتبارات.

وبتعبير آخر : أنّ الجمل الإنشائية وإن كانت ممّا يتوقف عليها فعليّة تلك الاعتبارات وتحققها خارجاً ، ولكن لا بما أنّها ألفاظ مخصوصة ، بل من جهة أنّها استعملت في معانيها.

على أنّ في كل مورد من موارد الانشاء ليس فيه اعتبار من العقلاء أو من الشرع ، فان في موارد انشاء التمني والترجي والاستفهام ونحوها ليس أيّ

٩٨

اعتبار من الاعتبارات لا من الشارع ولا من العقلاء ، حتّى يتوصل بها إلى ترتبه في الخارج.

إذا عرفت ذلك فنقول : قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الجملة الإنشائية ـ بناءً على ما بيّناه من أنّ الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني ـ موضوعة لابراز أمر نفساني خاص ، فكل متكلم متعهد بأ نّه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلم بالجملة الإنشائية ، مثلاً إذا قصد إبراز اعتبار الملكية يتكلم بصيغة بعت أو ملكت ، وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجية يبرزه بقوله : زوّجت أو أنكحت ، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المخاطب يتكلم بصيغة إفعل ونحوها ، وهكذا.

ومن هنا قلنا إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبرية في الدلالة الوضعية والابراز الخارجي ، فكما أنّها مبرزة لاعتبار من الاعتبارات كالملكية والزوجية ونحوهما ، فكذلك تلك مبرزة لقصد الحكاية والاخبار عن الواقع ونفس الأمر.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّه لا وجه لما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ طبيعي المعنى في الإنشاء والاخبار واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال ، فانّك عرفت اختلاف المعنى فيهما ، فانّه في الجملة الخبرية شيء وفي الجملة الانشائية شيء آخر.

وممّا يؤكّد ما ذكرناه : أنّه لو كان معنى الانشاء والاخبار واحداً بالذات والحقيقة ، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي ، كان اللازم أن يصح استعمال الجملة الاسمية في مقام الطلب كما يصح استعمال الجملة الفعلية فيه ، بأن يقال :

المتكلم في الصلاة معيد صلاته ، كما يقال إنّه يعيد صلاته أو إنّه إذا تكلم في صلاته أعاد صلاته ، مع أنّه من أفحش الأغلاط ، ضرورة وضوح غلطية استعمال زيد قائم في مقام طلب القيام منه ، فانّه ممّا لم يعهد في أيّ لغة من اللغات.

٩٩

نعم ، يصح إنشاء المادة بالجملة الاسمية ، كما في جملة أنت حر في وجه الله أو هند طالق ، ونحو ذلك.

أسماء الإشارة والضمائر

قال صاحب الكفاية قدس‌سره يمكن أن يقال : إنّ المستعمل فيه في أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما أيضاً عام ، وأنّ تشخصه إنّما جاء من قبل طور استعمالها ، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها ، وكذا بعض الضمائر ، وبعضها ليخاطب بها المعنى ، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى ، فدعوى أنّ المستعمل فيه في مثل : هذا وهو وإيّاك ، إنّما هو المفرد المذكر ، وتشخصه إنّما جاء من قبل الإشارة والتخاطب بهذه الألفاظ إليه ، فانّ الاشارة والتخاطب لايكاد يكون إلاّ إلى الشخص أو معه ، غير مجازفة انتهى (١).

والتحقيق : أنّا لو سلّمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي ذاتاً وحقيقة ، واختلافهما باللحاظ الآلي والاستقلالي ، لم نسلّم ما أفاده قدس‌سره في المقام ، والوجه فيه : هو أنّ لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال ممّا لا بدّ منه ولا مناص عنه ، ضرورة أنّ الاستعمال فعل اختياري للمستعمل فيتوقف صدوره على تصور اللفظ والمعنى ، وعليه فللواضع أن يجعل العلقة الوضعية في الحروف بما إذا لوحظ المعنى في مقام الاستعمال آلياً ، وفي الأسماء بما إذا لوحظ المعنى استقلالاً ، ولا يلزم على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى آلياً كان أو استقلالياً قيداً للموضوع له ، بل هذا لغو وعبث بعد ضرورة وجوده ، وأ نّه في مقام الاستعمال ممّا لا بدّ منه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢.

١٠٠