محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

الملكية ليست من عوارض ذات المالك أو المملوك بمعنى العرض المقولي ، ولا وجود لها خارجاً ليقال إنّه ملحوظ لا بشرط ، وأنّ وجودها في نفسه عين وجودها لمعروضها.

تلخّص : أنّا لو سلّمنا اتحاد العرض مع موضوعه خارجاً ، فلا نسلّم الاتحاد في هذه الموارد. والتفكيك في وضع المشتقات بين هذه الموارد وتلك الموارد ـ التي يكون المبدأ فيها من الأعراض ، بأن نلتزم بوضعها في تلك الموارد لمعانٍ بسيطة متحدة مع موضوعاتها ، وفي هذه الموارد لمعانٍ مركبة ـ أمر لا يمكن ، ضرورة أنّ وضع المشتقات بشتى أنواعها وأشكالها على نسق واحد ، فالمعنى إذا كان بسيطاً أو مركباً كان كذلك في جميع الموارد.

ورابعاً : لو أغمضنا عن جميع ذلك وقلنا إنّ كل وصف متحد مع موصوفه ، سواء أكان من المقولات أم كان من الاعتبارات أو الانتزاعات ، إلاّ أنّا لا نسلّم ذلك في المشتقات التي لايكون المبدأ فيها وصفاً للذات كأسماء الأزمنة والأمكنة وأسماء الآلة ، فانّ اتحاد المبدأ فيها مع الذات غير معقول ، ضرورة أنّ الفتح لا يعقل أن يتحد مع الحديد ، والقتل مع الزمان أو المكان الذي وقع فيه ذلك المبدأ وهكذا ...

وعلى الجملة : أنّا لو سلّمنا اتحاد الوصف مع موصوفه في الوعاء المناسب له من الذهن أو الخارج باعتبار أنّ وصف الشيء طور من أطواره وشأن من شؤونه ، وشؤون الشيء لا تباينه ، فلا نسلّم اتحاد الوصف مع زمانه ومكانه وآلته وغير ذلك من الملابسات ، إذ كيف يمكن أن يقال : إنّ المبدأ إذا اخذ لا بشرط يتحد مع زمانه أو مكانه أو آلته ، فانّ وجود العرض إنّما يكون وجوداً لموضوعه لا لزمانه ومكانه وآلته ، إذن لا مناص للقائل ببساطة مفهوم المشتق أن يلتزم بالتركيب في هذه الموارد ، ولازم ذلك هو التفكيك في وضع المشتقات

٣٢١

حسب مواردها ، وهو باطل جزماً ، فانّ وضعها على نسق واحد ، ولم ينسب القول بالتفصيل إلى أحد.

ومن ذلك كلّه نستنتج أمرين :

الأوّل : بطلان ما استدلّوا على البساطة من الوجوه كما تقدّم.

الثاني : عدم إمكان تصحيح الحمل على البساطة بوجه ، وهذا بنفسه دليل قطعي على بطلان هذا القول ، وضرورة الالتزام بالقول بالتركيب كما هو واضح.

ومضافاً إلى هذا يدل على التركيب وجهان آخران :

الأوّل : أنّه هو المطابق للوجدان وما هو المتفاهم من المشتق عرفاً ، مثلاً المتمثل من كلمة « قائم » في الذهن ليس إلاّذات تلبست بالقيام ، دون المبدأ وحده ، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية عند العرف.

الثاني : أنّا لو سلّمنا أنّه يمكن تصحيح الحمل في حمل المشتق على الذات باعتبار اللاّ بشرط ، إلاّ أنّه لايمكن ذلك في حمل المشتق على مشتق آخر كقولنا :

الكاتب متحرك الأصابع ، أو كل متعجب ضاحك ، فانّ المشتق لو كان عين المبدأ فما هو الموضوع وما هو المحمول في أمثال هذه القضايا؟

ولا يمكن أن يقال : إنّ الموضوع هو نفس الكتابة التي هي معنى المشتق على الفرض ، أو نفس التعجب ، والمحمول هو نفس تحرك الأصابع أو نفس الضحك ، لأ نّهما متباينان ذاتاً ووجوداً ، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر ، لمكان اعتبار الاتحاد من جهةٍ في صحّة الحمل كما عرفت ، وبدونه فلا حمل.

وكذا لا يمكن أن يقال : إنّ الكتابة أو التعجب مع النسبة موضوع ، ونفس تحرك الأصابع أو الضحك محمول بعين الملاك المزبور ، وهو المباينة بينهما وجوداً وذاتاً. على أنّ النسبة أيضاً خارجة عن مفهوم المشتق على القول بالبساطة.

٣٢٢

إذن لا مناص لنا من الالتزام بأخذ الذات في المشتق ، ليصحّ الحمل في هذه الموارد ، وهذا بنفسه برهان على التركيب.

فالنتيجة من مجموع ما ذكرناه لحدّ الآن : أنّ أخذ مفهوم الذات في المشتق يمكن الوصول إليه من طرق أربعة :

١ ـ بطلان القول بالبساطة.

٢ ـ مطابقته للوجدان.

٣ ـ عدم إمكان تصحيح حمله على الذات بدون الأخذ.

٤ ـ عدم صحّة حمل وصف عنواني على وصف عنواني آخر بغيره.

ثمّ إنّ لشيخنا المحقق قدس‌سره في المقام كلاماً وحاصله : هو أنّه بعد ما اعترف بمغايرة المشتق ومبدئه وأنّ مفهوم المشتق قد اخذ فيه ما به يصح حمله على الذات ، ذكر أنّ المأخوذ فيه هو الأمر المبهم من جميع الجهات لمجرد تقوّم العنوان ، وليس من مفهوم الذات ، ولا من المفاهيم الخاصّة المندرجة تحتها في شيء ، بل هو مبهم من جهة انطباقه على المبدأ نفسه كما في قولنا : الوجود موجود أو البياض أبيض ، ومن جهة عدم انطباقه عليه كما في قولنا : زيد قائم (١).

وأنت خبير بأنّ الأمر المبهم القابل للانطباق على الواجب والممكن والممتنع لا محالة يكون عنواناً عاماً يدخل تحته جميع ذلك ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّا لا نجد في المفاهيم أوسع من مفهوم الشيء والذات. إذن لا محالة يكون المأخوذ في مفهوم المشتق هو مفهوم الذات والشيء وهو المراد من الأمر المبهم ، ضرورة أنّا لا نعقل له معنىً ما عدا هذا المفهوم.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٢٠.

٣٢٣

وإن شئت فقل : إنّ مفهوم الشيء والذات مبهم من جميع الجهات والخصوصيات ، ومنطبق على الواجب والممتنع والممكن بجواهره وأعراضه وانتزاعاته واعتباراته.

فما أفاده قدس‌سره من أنّ المأخوذ في مفهوم المشتق ليس من مفهوم الذات ولا مصداقه في شيء غريب ، والإنصاف أنّ كلماته في المقام لا تخلو عن تشويش واضطراب كما لا يخفى.

الفرق بين المشتق والمبدأ

المشهور بين الفلاسفة هو أنّ الفرق بين المبدأ والمشتق إنّما هو باعتبار اللاّ بشرط وبشرط اللاّ. وقع الكلام في المراد من هاتين الكلمتين : لا بشرط وبشرط لا.

وقد فسّر صاحب الفصول قدس‌سره مرادهم منهما بما يراد من الكلمتين في بحث المطلق والمقيد وملخصه :

هو أنّ الماهية مرةً تلاحظ لا بشرط بالإضافة إلى العوارض والطوارئ الخارجية. واخرى بشرط شيء. وثالثةً بشرط لا. فعلى الأوّل تسمى الماهية مطلقةً ولا بشرط. وعلى الثاني تسمى بشرط شيء. وعلى الثالث بشرط لا.

وعلى هذا فلو ورد لفظ في كلام الشارع ولم يكن مقيداً بشيء من الخصوصيات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة وشككنا في الإطلاق ثبوتاً فنتمسك باطلاقه في مقام الإثبات لاثبات الاطلاق في مقام الثبوت بقانون التبعية إذا تمّت مقدّمات الحكمة.

مثلاً لو شككنا في اعتبار شيء في البيع كالعربية أو اللفظ ، أو نحو ذلك ،

٣٢٤

لأمكن لنا التمسك باطلاق قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لاثبات عدم اعتباره فيه. وأمّا إذا كان مقيداً بشيء من الخصوصيات المتقدمة فنستكشف منه التقييد ثبوتاً بعين الملاك المزبور.

ثمّ أورد عليهم بأنّ هذا الفرق غير صحيح ، وذلك لأنّ صحّة الحمل وعدم صحّته لا تختلف من حيث اعتبار شيء لا بشرط أو بشرط لا ، لأنّ العلم والحركة والضرب وما شاكلها ممّا يمتنع حملها على الذوات وإن اعتبر لا بشرط ألف مرّة ، فان ماهية الحركة أو العلم بنفسها غير قابلة للحمل على الشيء ، فلا يقال : زيد علم ، أو حركة ، ومجرد اعتبارها لا بشرط بالإضافة إلى الطوارئ والعوارض الخارجية لا يوجب انقلابها عمّا كانت عليه ، فاعتبار اللاّ بشرط وبشرط اللاّ من هذه الناحية على حد سواء ، فالمطلق والمقيد من هذه الجهة سواء ، وكلاهما آبيان عن الحمل ، فما ذكروه من الفرق بين المشتق والمبدأ لا يرجع إلى معنىً صحيح (١).

ولايخفى أنّ ما ذكره ليس مراداً للفلاسفة من الكلمتين : اللاّ بشرط وبشرط اللاّ يقيناً كما سيتّضح ذلك. وعليه فما أورده قدس‌سره عليهم في غير محلّه.

وقال المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في مقام الفرق بينهما ما هذا لفظه : الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ولا يعصى عن الجري عليه ، لما هما عليه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ فانّه بمعناه يأبى عن ذلك ، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو ، وملاك الحمل والجري إنّما هو نحو من الاتحاد والهوهوية ، وإلى هذا

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

٣٢٥

المعنى يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما (١).

أقول : ظاهر عبارته قدس‌سره أنّ الفرق بينهما ذاتي ، بمعنى أنّ مفهوم المشتق سنخ مفهوم يكون في حد ذاته لا بشرط فلا يأبى عن الحمل. ومفهوم المبدأ سنخ مفهوم يكون في حد ذاته بشرط لا فيأبى عن الحمل ، لا أنّ هنا مفهوماً واحداً يلحظ تارةً لا بشرط ، واخرى بشرط لا ، ليكون الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ.

ويرد عليه : أنّ هذا لا يختص بالمشتق ومبدئه ، بل هو فارق بين كل مفهوم آبٍ عن الحمل وما لم يأب عن ذلك ، بل إنّ هذا من الواضحات الأوّلية ، ضرورة أنّ كل شيء إذا كان بمفهومه آبياً عن الحمل فهو لا محالة كان بشرط لا. وكل شيء إذا لم يكن بمفهومه آبياً عنه فهو لا محالة كان لا بشرط ، ومن الواضح أنّ الفلاسفة لم يريدوا بهاتين الكلمتين هذا المعنى الواضح الظاهر ، فانّه غير قابل للبحث ، ولا أن يناسبهم التصدي لبيانه كما لا يخفى.

فالصحيح أن يقال : إنّ مرادهم كما هو صريح كلماتهم هو أنّ ماهية العرض والعرضي ـ المبدأ والمشتق ـ واحدة بالذات والحقيقة ، والفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ ، من جهة أنّ لماهية العرض في عالم العين حيثيتين واقعيتين : إحداهما حيثية وجوده في نفسه. واخرى حيثية وجوده لموضوعه.

فهي تارةً تلاحظ من الحيثية الاولى وبما هي موجودة في حيالها واستقلالها وأ نّها شيء من الأشياء في قبال وجودات موضوعاتها ، فهي بهذا اللحاظ والاعتبار عرض ومبدأ بشرط لا ، وغير محمول على موضوعه لمباينته معه ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٥.

٣٢٦

وملاك الحمل الاتحاد في الوجود.

وتارةً اخرى تلاحظ بما هي في الواقع ونفس الأمر ، وأنّ وجودها في نفسه عين وجودها لموضوعها ، وأنّ وجودها ظهور الشيء وطور من أطواره ومرتبة من وجوده ، وظهور الشيء لا يباينه ، فهي بهذا الاعتبار عرضي ومشتق لا بشرط فيصح حملها عليه.

وبعين هذا البيان قد جروا في مقام الفرق بين الجنس والمادة والفصل والصورة ، حيث قالوا : إنّ التركيب بين المادة والصورة تركيب اتحادي لا انضمامي وهما موجودان في الخارج بوجود واحد حقيقةً ، وهو وجود النوع كالانسان ونحوه ، فانّ المركبات الحقيقية لا بدّ لها من جهة وحدة حقيقية ، وإلاّ لكان التركيب انضمامياً. ومن الظاهر أنّ الوحدة الحقيقية لا تحصل إلاّ إذا كان أحد الجزأين قوّةً صرفةً والآخر فعلية محضة ، فانّ الاتحاد الحقيقي بين جزأين فعليين ، أو جزأين كلاهما بالقوّة غير معقول ، لإباء كل فعلية عن فعلية اخرى ، وكذا كل قوّة عن قوّة اخرى ، ولذلك صحّ حمل الجنس على الفصل وبالعكس ، وحمل كل منهما على النوع وكذا العكس ، فلو كان التركيب انضمامياً لم يصح الحمل أبداً ، لمكان المغايرة والمباينة.

وعلى هذا الضوء فالتحليل بين أجزاء المركبات الحقيقية لا محالة تحليل عقلي ، بمعنى أنّ العقل يحلّل تلك الجهة الواحدة إلى ما به الاشتراك وهو الجنس وما به الامتياز وهو الفصل ، فالجهة المميّزة لتلك الحقيقة الواحدة عن بقية الحقائق هي الفصل ، وإلاّ فالجنس هو الجهة الجامعة والمشتركة بينها وبين سائر الأنواع والحقائق ويعبّر عن جهة الاشتراك بالجنس مرّةً وبالمادة اخرى ، كما أنّه يعبّر عن جهة الامتياز بالفصل تارة وبالصورة تارة اخرى ، وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ اللحاظ مختلف.

فقد تلاحظ جهة الاشتراك بما لها من المرتبة الخاصّة والدرجة المخصوصة

٣٢٧

من الوجود الساري ، وهي كونها قوّةً صرفة ومادّةً محضة.

وقد تلاحظ جهة الامتياز بما لها من الحد الخاص الوجودي وهو كونه فعلية وصورة ، ومن الظاهر تباين الدرجتين والمرتبتين بما هما درجتان ومرتبتان ، فلا يصح حمل إحداهما على الاخرى ، ولا حمل كلتيهما على النوع ، ضرورة أنّ المادة بما هي مادة وقوّة محضة كما أنّها ليست بانسان كذلك ليست بناطق ، كما أنّ الصورة بما هي صورة وفعلية كذلك ، فكل جزء بحدّه الخاص يباين الجزء الآخر كذلك حقيقة وواقعاً ، كما أنّه يباين المركب منهما ، وملاك صحّة الحمل الاتحاد ، والمباينة تمنع عنه ، وهذا مرادهم من لحاظهما بشرط لا.

وقد تلاحظ كل واحدة من جهتي الاشتراك والامتياز بما لهما من الاتحاد الوجودي في الواقع ، نظراً إلى شمول الوجود الواحد لهما وهو الساري من الصورة وما به الفعلية إلى المادة وما به القوّة ، ومتحدتان في الخارج بوحدة حقيقية ، لأنّ التركيب بينهما اتحادي لا انضمامي كما مرّ. وبهذا اللحاظ صحّ الحمل ، كما أنّه بهذا الاعتبار يعبّر عن جهة الاشتراك بالجنس وعن جهة الامتياز بالفصل ، وهذا مرادهم من لحاظهما لا بشرط.

فتبيّن معنى اتحاد الجنس والمادة والفصل والصورة بالذات والحقيقة ، واختلافهما بالاعتبار واللحاظ ، كما أنّه تبيّن من ذلك معنى اتحاد جهتي الاشتراك والامتياز وجوداً وعيناً ، وأ نّهما حيثيتان واقعيتان اختلفتا مفهوماً ولحاظاً واتحدتا عيناً وخارجاً.

وعلى هذا الضوء يتّضح لك الفرق بين الجنس والفصل والعرض وموضوعه ، فانّ التركيب بين الأوّلين حقيقي ، ولهما جهة واحدة بالذات والحقيقة كما عرفت ، والتركيب بين الأخيرين اعتباري ، والمغايرة حقيقية ، وذلك لاستحالة التركيب الحقيقي بين العرض والجوهر من جهة فعلية كل واحد منهما خارجاً ، وهي تمنع

٣٢٨

عن حصول الاتحاد بينهما واقعاً.

وعلى نهج هذه النقطة الرئيسية للفرق بين العرض وموضوعه والجنس والفصل قد ظهر أمران :

الأوّل : أنّ ما ذكره الفلاسفة من أنّ جهتي الاشتراك والامتياز إن لوحظتا لا بشرط صحّ الحمل ، وإن لوحظتا بشرط لا لم يصح فهو صحيح.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الاولى من كلامهم ، فلمكان ملاك الحمل وهو الاتحاد والهوهوية.

وأمّا بالنسبة إلى النقطة الثانية منه ، فلمكان المغايرة بين المادة بدرجتها الخاصّة والصورة كذلك ، فانّ

الدرجتين بما هما درجتان متباينتان حقيقة ، فلا ملاك للحمل وإن كانتا مشتركتين في وجود واحد ، والوجود الواحد شامل لهما معاً ، فهاتان الحيثيتان ـ حيثية اتحاد المادة مع الصورة وحيثية مغايرتها معها ـ حيثيتان واقعيتان لهما مطابق في الخارج ، وليستا بمجرّد اعتبار لا بشرط وبشرط لا ، ليقال كما أنّ اعتبار لا بشرط لا يجدي مع المغايرة ولا ينقلب الشيء به عمّا كان عليه كما تقدّم ، كذلك اعتبار بشرط لا لا يجدي مع الاتحاد حقيقة ، ولا يوجب انقلاب الشيء عمّا كان عليه ، لأنّ الاتحاد ليس بالاعتبار لينتفي باعتبار طارئ آخر ، بل المراد هنا هو أنّ اعتبار لا بشرط اعتبار موافق لحيثية لها مطابق في الواقع ، واعتبار بشرط لا اعتبار موافق لحيثية اخرى لها مطابق فيه أيضاً ، لا أنّ الواقع ينقلب عمّا هو عليه بالاعتبار.

الثاني : أنّ لهم دعويين :

الاولى : أنّ مفهوم المشتق بسيط ذاتاً وحقيقةً ، ولا فرق بينه وبين مفهوم المبدأ بالذات ، وإنّما الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ.

٣٢٩

الثانية : أنّ اعتبار لا بشرط يصحّح الحمل ، فالمبدأ إذا لوحظ لا بشرط فهو مشتق وعرضي ويصح حمله على موضوعه ، وإن اعتبر بشرط لا فهو عرض فلا يصح ، كما هو الحال في الجنس والفصل والمادة والصورة.

ولا يخفى ما في كلتا الدعويين :

أمّا الدعوى الاولى : فلما ذكرناه سابقاً من أنّ مفهوم المشتق مركب من ذات لها المبدأ ، وقد أثبتناه بالوجدان والبرهان ، وناقشنا في جميع ما يستدل على البساطة واحداً بعد واحد على ما تقدّم (١).

ثمّ لو فرضنا أنّ مفهوم المشتق بسيط فلا مناص من الالتزام بكونه غير مفهوم المبدأ ومبايناً له ذاتاً ، وذلك لما عرفت من استحالة حمل مفهوم المبدأ على الذات في حال من الحالات ، وضرورة صحّة حمل المشتق بما له من المفهوم عليها في كل حال ، ونتيجة ذلك أنّ مفهوم المشتق على تقدير تسليم أن يكون بسيطاً فلا محالة يكون مبايناً لمفهوم المبدأ بالذات.

وأمّا الدعوى الثانية : فيردّها الوجوه المتقدمة (٢) جميعاً ، وإليك ملخصها :

١ ـ أنّ هذا الفرق ليس فارقاً بين المشتق ومبدئه ، بل هو بين المصدر واسمه.

٢ ـ أنّ وجود العرض مباين لوجود الجوهر ذاتاً فلا يمكن الاتحاد بينهما باعتبار اللاّ بشرط.

٣ ـ أنّ هذا لو تمّ فانّما يتم فيما إذا كان المبدأ من الأعراض المقولية دون غيرها.

__________________

(١) في ص ٣٠٥ وما بعدها.

(٢) في ص ٣١٨ وما بعدها.

٣٣٠

٤ ـ أنّا لو سلّمنا أنّه تمّ حتّى فيما إذا كان المبدأ أمراً اعتبارياً أو انتزاعياً ، إلاّ أنّه لا يتمّ في مثل اسم الآلة والزمان والمكان وما شاكل ذلك.

ما هي النسبة بين المبدأ والذات؟

المبدأ قد يكون مغايراً للذات كما في قولنا : زيد ضارب مثلاً ، واخرى يكون عين الذات كما في الصفات العليا له تعالى فيقال : الله قادر وعالم.

لا إشكال في صحّة إطلاق المشتق وجريه على الذات على الأوّل ، وإنّما الكلام في الثاني وأ نّه يصح إطلاقه على الذات أم لا؟ فيقع الإشكال فيه من جهتين :

الاولى : اعتبار التغاير بين المبدأ والذات ، ولا يتم هذا في صفاته تعالى الجارية عليه ، لأنّ المبدأ فيها متحد مع الذات بل هو عينها خارجاً ، ومن هنا التزم صاحب الفصول قدس‌سره (١) بالنقل في صفاته تعالى عن معانيها اللغوية.

الثانية : اعتبار تلبس الذات بالمبدأ وقيامه بها بنحو من أنحاء القيام ، وهذا بنفسه يقتضي التعدد والاثنينية ، ولا اثنينية بين صفاته تعالى وذاته ، بل فرض العينية بينهما يستلزم قيام الشيء بنفسه ، وهو محال.

لا يخفى أنّ هذه الجهة في الحقيقة متفرّعة على الجهة الاولى ، وهي اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات ، فانّه بعد الفراغ عن اعتبارها يقع الكلام في الجهة الثانية ، وأنّ ما كان المبدأ فيه متحداً مع الذات بل عينها خارجاً كيف يعقل

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

٣٣١

قيامه بالذات وتلبس الذات به ، لأنّه من قيام الشيء بنفسه وهو محال. إذن لا يعقل التلبّس والقيام في صفاته تعالى.

وقبل أن نصل إلى البحث عن هاتين الجهتين نقدّم مقدّمةً : وهي أنّ الصفات الجارية عليه تعالى على قسمين :

أحدهما : صفاته الذاتية ، وهي التي يكون المبدأ فيها عين الذات كالعالم والقادر والحي والسميع والبصير ، وقد ذكرنا في بحث التفسير أنّ مرجع الأخيرين إلى العلم ، وأ نّهما علم خاص وهو العلم بالمسموعات والمبصرات (١).

وثانيهما : صفاته الفعلية ، وهي التي يكون المبدأ فيها مغايراً للذات كالخالق والرازق والمتكلم والمريد والرحيم والكريم وما شاكل ذلك ، فانّ المبدأ فيها وهو الخلق أو الرزق أو نحوه مغاير لذاته تعالى.

ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من الخلط بين صفات الذات وصفات الفعل ، حيث عدّ قدس‌سره الرحيم من صفات الذات مع أنّه من صفات الفعل.

وكيف كان ، إذا اتّضح لك هذا فنقول : إنّ صاحب الفصول قدس‌سره قد التزم في الصفات العليا والأسماء الحسنى الجارية عليه تعالى بالنقل والتجوّز.

١ ـ من جهة عدم المغايرة بين مبادئها والذات.

٢ ـ من جهة عدم قيامها بذاته المقدّسة وتلبّسها بها لمكان العينية (٣).

__________________

(١) [ لم نعثر عليه في كتاب البيان في تفسير القرآن ].

(٢) كفاية الاصول : ٥٦.

(٣) الفصول الغروية : ٦٢.

٣٣٢

وقد أجاب عن المحذور الأوّل صاحب الكفاية (١) وشيخنا الاستاذ (٢) قدس‌سرهما بأنّ المبدأ في الصفات العليا له تعالى وإن كان عين ذاته المقدّسة ، إلاّ أنّ الاتحاد والعينية في الخارج لا في المفهوم واللحاظ ، فانّ مفهوم المبدأ كالعلم أو القدرة مغاير لمفهوم ذاته تعالى ، وتكفي المغايرة المفهومية في صحّة الحمل والجري ، ولا يلزم معها حمل الشيء على نفسه.

وعلى هذا الضوء أوردا على الفصول قدس‌سره بأ نّه لا وجه للالتزام بالنقل والتجوّز في الصفات الذاتية له تعالى ، فانّ مبادءها كما عرفت مغايرة للذات مفهوماً.

وأورد شيخنا الاستاذ قدس‌سره ثانياً بعين ما أورد في الكفاية على الجهة الثانية ، وهو أنّ الالتزام بالنقل والتجوّز يستلزم تعطيل العقول عن فهم الأوراد والأذكار بالكلّية ، ويكون التكلم بها مجرّد لقلقة اللسان.

وأورد في الكفاية على الجهة الثانية ، وهي أنّ اعتبار التلبّس والقيام يقتضي الاثنينية ، بأ نّه لا مانع من تلبس ذاته تعالى بمبادئ صفاته العليا ، فانّ التلبّس على أنحاء متعددة : تارةً يكون التلبّس والقيام بنحو الصدور. واخرى بنحو الوقوع. وثالثةً بنحو الحلول. ورابعةً بنحو الانتزاع كما في الاعتبارات والاضافات.

وخامسةً بنحو الاتحاد والعينية كما في قيام صفاته العليا بذاته المقدّسة ، فانّ مبادءها عين ذاته الأقدس ، وهذا أرقى وأعلى مراتب القيام والتلبّس وإن كان خارجاً عن الفهم العرفي (٣).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٢٥.

(٣) كفاية الاصول : ٥٧.

٣٣٣

وقد ذكرنا غير مرّة أنّ نظر العرف لا يكون متبعاً إلاّفي موارد تعيين مفاهيم الألفاظ سعةً وضيقاً ، والمتبع في تطبيقات المفاهيم على مواردها النظر العقلي ، فإذا كان هذا تلبساً وقياماً بنظر العقل ، بل كان من أتم مراتبه ، لم يضر عدم إدراك أهل العرف ذلك.

وعليه ، فلا وجه لما التزم به في الفصول من النقل في الصفات الجارية عليه تعالى عمّا هي عليه من المعنى ، كيف فانّ هذه الصفات لو كانت بغير معانيها جارية عليه تعالى ، فلا بدّ أن تكون صرف لقلقة اللسان وألفاظاً بلا معانٍ ، فانّ غير هذه المفاهيم العامّة غير معلوم لنا إلاّما يقابل هذه المعاني العامّة ويضادها ، وإرادته منها غير ممكنة.

والتحقيق في المقام يقتضي التكلم في جهات ثلاث :

الاولى : في اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات في المشتقات حقيقةً وذاتاً ، أو تكفي المغايرة اعتباراً أيضاً؟

الثانية : في صحّة قيام المبدأ بالذات فيما إذا كانا متحدين خارجاً.

الثالثة : أنّه على تقدير الالتزام بالنقل في صفاته العليا هل يلزم أحد المحذورين المتقدمين أم لا؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فقد تقدّم أنّه يعتبر في صحّة حمل شيء على شيء التغاير بينهما من ناحية ، والاتحاد من ناحية اخرى ، وأمّا بين الذات والمبدأ فلا دليل على اعتبار المغايرة حتّى مفهوماً فضلاً عن كونها حقيقةً ، بل قد يكون مفهوم المبدأ بعينه هو مفهوم الذات وبالعكس ، كما في قضيّة الوجود فهو موجود والضوء مضيء وهكذا ... فالمبدأ في الموجود هو الوجود وفي المضيء هو الضوء ، فلا تغاير بين المبدأ والذات حتّى مفهوماً.

٣٣٤

وعلى الجملة : فالمبدأ قد يكون عين الذات خارجاً وإدراكاً ، بل إطلاق العنوان الاشتقاقي عليها حينئذ أولى من إطلاقه على غيرها ، وإن كان خارجاً عن الفهم العرفي ، مثلاً إطلاق الموجود على الوجود أولى من إطلاقه على غيره ، لأ نّه موجود بالذات وغيره موجود بالعرض.

وعلى هذا الضوء لا مانع من إطلاق صفاته العليا عليه تعالى حقيقةً وإن كانت مبادؤها عين ذاته الأقدس.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فالمراد بالتلبّس والقيام ليس قيام العرض بمعروضه وتلبسه به وإلاّ لاختصّ البحث عن ذلك بالمشتقات التي تكون مبادؤها من المقولات التسع ، ولا يشمل ما كان المبدأ فيه من الاعتبارات أو الانتزاعات كما لا يخفى ، مع أنّ البحث عنه عام.

بل المراد منه واجدية الذات للمبدأ في قبال فقدانها له ، وهي تختلف باختلاف الموارد.

فتارةً يكون الشيء واجداً لما هو مغاير له وجوداً ومفهوماً كما هو الحال في غالب المشتقات.

واخرى يكون واجداً لما هو متحد معه خارجاً وعينه مصداقاً ، وإن كان يغايره مفهوماً ، كواجدية ذاته تعالى لصفاته الذاتية.

وثالثةً يكون واجداً لما يتحد معه مفهوماً ومصداقاً وهو واجدية الشيء لنفسه ، وهذا نحو من الواجدية ، بل هي أتم وأشد من واجدية الشيء لغيره ، فالوجود أولى بأن يصدق عليه الموجود من غيره ، لأنّ وجدان الشيء لنفسه ضروري.

فتلخّص : أنّ المراد من التلبّس الواجدية ، وهي كما تصدق على واجدية

٣٣٥

الشيء لغيره ، كذلك تصدق على واجدية الشيء لنفسه ، ومن هذا القبيل واجدية الله تعالى لصفاته الكمالية ، وإن كانت الواجدية بهذا المعنى خارجة عن الفهم العرفي إلاّ أنّه لا يضر بعد الصدق بنظر العقل.

وعلى هذا فلا أصل لاشكال استحالة تلبس الشيء بنفسه.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة : وهي استلزام النقل تعطيل العقول عن فهم الأوراد والأذكار ، فالظاهر أنّه لا يتم في محل الكلام وإن تمّ في مقام إثبات أنّ مفهوم الوجود واحد ومشترك معنوي بين الواجب والممكن كما ذكره السبزواري في شرح منظومته (١) وغيره.

أمّا أنّه لا يتم في المقام ، فلأنّ المغايرة بين المبدأ والذات حسب المتفاهم العرفي واللغوي من المشتقات الدائرة في الألسن أمر واضح لا ريب فيه ، وقد مرّ أنّ الاتحاد والعينية بينهما خارج عن الصدق العرفي ، فلا يصح حينئذ إطلاق المشتق عليه تعالى بهذا المعنى المتعارف.

وإن شئت فقل : إنّ المبدأ فيه عين ذاته المقدّسة فلا تغاير بينهما أصلاً ، فلا محالة يكون إطلاقه عليه بمعنى آخر مجازاً ، وهو ما يكون المبدأ فيه عين الذات ، فلايراد من كلمتي العالم والقادر [ في ] قولنا يا عالم ويا قادر مثلاً معناهما المتعارف ، بل يراد بهما من يكون علمه وقدرته عين ذاته ، وإليه أشار بعض الروايات (٢) إنّ الله تعالى علم كلّه وقدرة كلّه وحياة كلّه ، ولعل هذا هو مراد الفصول من النقل والتجوّز. وعليه فلا يلزم من عدم إرادة المعنى المتعارف من صفاته العليا لقلقة اللسان وتعطيل العقول.

__________________

(١) شرح المنظومة ( الحكمة ) : ١٧.

(٢) بحار الأنوار ٤ : ٨٤ ح ١٧ ، ١٨ ( نقل بالمضمون ).

٣٣٦

وأمّا أنّه يتم في مفهوم الوجود ، فلأجل أنّ إطلاق الموجود عليه تعالى إمّا أن يكون بمعناه المتعارف وهو الشيء الثابت ، ويعبّر عنه في لغة الفرس « هستي » وإمّا أن يكون بما يقابله وهو المعدوم. وإمّا أن لايراد منه شيء أو [ يراد ] معنى لا نفهمه ، فعلى الثاني يلزم تعطيل العالم عن الصانع. وعلى الثالث يلزم تعطيل العقول وأن يكون التلفظ به مجرد لقلقة اللسان وألفاظاً بلا معنى ، وكلا الأمرين غير ممكن ، فيتعين الأوّل.

ما هو المتنازع فيه في المشتق؟

إنّ كلامنا في مسألة المشتق ، والغرض من البحث عنها إنّما هو معرفة مفهومه ومعناه سعةً وضيقاً ، كما هو الحال في سائر المباحث اللفظية ، بمعنى أنّه موضوع لمفهوم وسيع منطبق على المتلبس والمنقضي معاً ، أو لمفهوم ضيق لا ينطبق إلاّ على المتلبس فقط.

وأمّا تطبيق هذا المفهوم على موارده وإسناده إليها هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز ، فهو خارج عن محل الكلام ، فانّ الإسناد إن كان إلى ما هو له فهو حقيقة ، وإن كان إلى غير ما هو له فهو مجاز. ولا يلزم مجاز في الكلمة في موارد الادعاء والإسناد المجازي ، فانّ الكلمة فيها استعملت في معناها الحقيقي ، والتصرف إنّما هو في الاسناد والتطبيق.

مثلاً لو قال : زيد أسد ، فلفظ الأسد استعمل في معناه الموضوع له وهو الحيوان المفترس ، فيكون حقيقة ، ولكن في تطبيقه على زيد لوحظ نحو من التوسعة والعناية ، فيكون التطبيق مجازاً.

وأوضح من ذلك : موارد الخطأ ، فإذا قيل : هذا زيد ثمّ بان أنّه عمرو ، فلفظ زيد ليس بمجاز ، لأنّه استعمل فيما وضع له ، والخطأ إنّما هو في التطبيق ، وهو

٣٣٧

لا يضر باستعماله فيه. أو قيل : هذا أسد ثمّ بان أنّه حيوان آخر. أو إذا رأى أحد شبحاً من بعيد ، وتخيل أنّه إنسان فقال : هذا انسان ثمّ ظهر أنّه ليس بانسان وهكذا ...

فاللفظ في أمثال هذه الموارد استعمل في معناه الموضوع له ، والتوسع إنّما هو في التطبيق والإسناد إمّا ادعاءً وتنزيلاً ، أو خطأً وجهلاً. وكذا المشتقات فان كلمة الجاري في مثل قولنا : النهر جارٍ ، أو الميزاب جارٍ ، قد استعملت في معناها الموضوع له وهو المتلبس بالجريان ، والمجاز إنّما هو في إسناد الجري إلى النهر أو الميزاب ، لا في الكلمة ، وهذا من دون فرق بين أن يكون مفهوم المشتق مركباً أو بسيطاً ، كما هو واضح.

ومن هنا يظهر ما في كلام الفصول (١) من أنّه يعتبر في صدق المشتق واستعماله فيما وضع له حقيقةً أن يكون الاسناد والتطبيق أيضاً حقيقياً ، فاستعمال المشتق في مثل قولنا : الميزاب جار ، ليس استعمالاً في معناه الحقيقي ، فانّ التلبّس والاسناد فيه ليس بحقيقي ، وذلك لأنّ ما ذكره قدس‌سره مبني على الخلط بين المجاز في الكلمة ، والمجاز في الاسناد ، بتخيل أنّ الثاني يستلزم الأوّل ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ كلمتي سائل وجار في مثل قولنا : الميزاب جار ، أو النهر سائل ، استعملتا في معناهما الموضوع له ، وهو المتلبس بالمبدأ فعلاً ، غاية الأمر تطبيق هذا المعنى على النهر أو الميزاب إنّما هو بنحو من التوسعة والعناية ، وهذا معنى مجاز في الاسناد دون الكلمة. فما أفاده قدس‌سره من اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة في غير محلّه.

يتلخص البحث حول الموضوعات المتقدمة في عدّة امور :

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

٣٣٨

الأوّل : أنّ محل البحث في مفاهيم المشتقات هو بساطتها وتركيبها بحسب الواقع والتحليل العقلي ، ابحسب الإدراك واللحاظ كما يظهر من الكفاية على ما مرّ.

الثاني : أنّ الذات المأخوذة فيها مبهمة من جميع الجهات والخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها ، لذا تصدق على الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.

الثالث : أنّ جميع الوجوه التي أقاموها على بطلان القول بالتركيب باطلة فلا يمكن الاعتماد على شيء منها.

الرابع : أنّ القول بوضع المشتق للمعنى المركب من مفهوم الذات والمبدأ دون البسيط هو الصحيح ، دلالة الوجدان والبرهان عليه كما سبق.

الخامس : أنّ ما ذكره الفلاسفة وغيرهم من أنّ الفرق بين المشتق ومبدئه هو لحاظ الأوّل لا بشرط ولحاظ الثاني بشرط لا غير صحيح ،

لوجوه قد تقدّمت. نعم ، ما ذكروه من الفرق بين المادة والجنس والصورة والفصل ـ وهو اعتبار أحدهما لا بشرط والآخر بشرط لا ـ صحيح.

السادس : أنّه لا دليل على اعتبار التغاير بين المبدأ والذات مفهوماً ،

فضلاً عن اعتبار التغاير خارجاً وحقيقةً كما في الوجود والموجود والبياض والأبيض وهكذا ... نعم ، المتبادر من المشتقات الدائرة في الألسنة هو تغاير المبدأ والذات مفهوماً وخارجاً ، ولذا قلنا إنّ إطلاق المشتق عليه تعالى ليس على نحو الإطلاق المتعارف بل هو على نحو آخر وهو كون المبدأ عين الذات ، وإن كان هذا المعنى خارجاً عن الفهم العرفي.

السابع : أنّ المراد من التلبس والقيام واجدية الذات للمبدأ ، لا قيام العرض بموضوعه كما عرفت.

٣٣٩

الثامن : لا يعتبر في استعمال المشتق فيما وضع له حقيقةً أن يكون الإسناد والتلبّس أيضاً حقيقياً كما عن الفصول.

وإلى هنا قد تمّ الجزء الأوّل (١) من كتابنا ( محاضرات في اصول الفقه ) وسيتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى ، وبعونه وتوفيقه.

الحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

__________________

(١) [ حسب التجزئة السابقة ].

٣٤٠