محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

بحالة اخرى ، بل له ذلك في شيء واحد بجعله علامة لارادة أمرين أو امور من جهة اختلاف حالاته وطوارئه ، كما إذا فرض أنّ السيِّد قد تبانى مع عبده أنّه إذا وضع العمامة عن رأسه في وقت كذا فهو علامة لارادته أمر كذا ، وإذا وضعها عنه في الوقت الفلاني فهو علامة لارادته الأمر الفلاني. ومن ثمة كانت الآلية والاستقلالية خارجتين عن حريم المعنى وليستا من مقوّماته وقيوده ، بل من قيود العلقة الوضعية ومقوّماتها ، فلذا كان استعمال كل واحد من الحرف والاسم في موضع الآخر بلا علقة وضعية ، وإن كان طبيعي المعنى واحداً فيهما كما عرفت ، ولأجله لا يصحّ ذلك الاستعمال.

وبتعبير واضح : أنّ القيد تارة من الجهات الراجعة إلى اللفظ ، واخرى من الجهات الراجعة إلى المعنى ، وثالثة من الجهات الراجعة إلى الوضع نفسه.

أمّا على الأوّل : فيختلف اللفظ باختلافه ، كالحركات والسكنات والتقدم والتأخّر بحسب الحروف الأصلية الممتازة بالذات عمّا عداها أو بالترتيب ، ـ مثلاً ـ كلمة ( بر ) تختلف باختلاف الحركات والسكنات : ( بِر ) بالكسر و ( بُر ) بالضم و ( بَر ) بالفتح ، فللكلمة الاولى معنى وللثانية معنى آخر وللثالثة معنى ثالث ، مع أنّه لا تفاوت فيها بحسب حروفها الأصلية أصلاً. وكلمة ( علم ) يختلف معناها بتقدم بعض حروفها الأصلية على بعضها الآخر وتأخره عنه كعمل أو لمع ، وهكذا في بقية الموارد.

وأمّا على الثاني : فيختلف المعنى باختلافه فانّ هيئة القاعد مثلاً هيئة واحدة ، ولكنّها مع ذلك تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات الطارئة عليها ، فإذا كانت مسبوقة بالقيام يطلق عليها لفظ قاعد ، وإذا كانت مسبوقة بالاضطجاع يطلق عليها لفظ جالس ، وهكذا في غير ذلك من الموارد.

وأمّا على الثالث : فتختلف العلقة الوضعية باختلافه كلحاظ الآلية

٦١

والاستقلالية ، فانّها إذا قيّدت بالآلية تختلف عمّا إذا قيّدت بالاستقلالية ، وحينئذ فلمّا كانت العلقة مختصّة في الحروف بما إذا قصد المعنى آلة وفي الأسماء بما إذا قصد المعنى استقلالاً ، فمن الواضح أنّها تكون في الحروف والأدوات غير ما هي في الأسماء ، فتختص في كل واحدة منها بحالة تضاد الحالة الاخرى. ومن هنا قال قدس‌سره في مبحث المشتق : إنّ استعمال لفظ ( الابتداء ) في موضع كلمة ( من ) ليس استعمالاً في غير الموضوع له ، بل هو استعمال فيه ولكنّه من دون علقة وضعية (١).

فبالنتيجة : أنّ ذلك القول ينحل إلى نقطتين :

النقطة الاولى : هي نقطة الاشتراك ، وهي أنّ الحروف والأسماء مشتركتان في طبيعي معنى واحد ، فالاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى ، فالمعنى في نفسه لا مستقل ولا غير مستقل.

النقطة الثانية : هي نقطة الامتياز ، وهي أنّ ملاك الحرفية ملاحظة المعنى آلة ، وملاك الاسمية ملاحظة المعنى استقلالاً فبذلك يمتاز أحدهما عن الآخر.

هذا ، ولكن يرد على النقطة الاولى : أنّ لازمها صحّة استعمال كل من الاسم والحرف في موضع الآخر مع أنّه من أفحش الأغلاط ، والوجه في ذلك :

هو أنّ استعمال اللفظ في معنى غير المعنى الموضوع له إذا جاز من جهة العلقة الخارجية والمناسبة الأجنبية مع فرض انتفاء العلقة الوضعية بينه وبين ذلك المعنى ، كان مقتضاه الحكم بالصحّة بطريق أولى إذا كانت العلقة ذاتية وداخلية ، ضرورة أنّه كيف يمكن الحكم بصحّة الاستعمال إذا كانت المناسبة خارجية والعناية أجنبية ، وبعدم صحّته إذا كانت داخلية وذاتية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٢.

٦٢

وإن شئت فقل : إنّ القدر الجامع بين هذا الاستعمال ـ أي استعمال الحرف في موضع الاسم وبالعكس ـ وبين استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، هو انتفاء العلقة الوضعية في كليهما معاً ، ولكن لذاك الاستعمال مزيّة بها يمتاز ويتفوّق على ذلك الاستعمال ، وهي أنّ الاستعمال هنا استعمال في المعنى الموضوع له ، لفرض اشتراكهما في طبيعي معنى واحد ذاتاً ، وهذا بخلاف ذلك الاستعمال فانّه استعمال في غير المعنى الموضوع له بعناية من العنايات الخارجية ، فإذا صحّ ذلك فكيف لا يصحّ هذا ، مع أنّه من الغلط الواضح ، بل لو تكلم به شخص لرمي بالسفه والجنون.

وعلى ضوء بياننا هذا يتّضح لك جلياً أنّ المعنى الحرفي والاسمي ليسا بمتحدين ذاتاً ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، بل هما متباينان بالذات والحقيقة ، فانّ هذا هو الموافق للوجدان الصحيح ، ولأجله لا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر.

ويرد على النقطة الثانية : أنّ لازمها صيرورة جملة من الأسماء حروفاً ، لمكان ملاك الحرفية فيها وهو لحاظها آلة ومرآة ، كالتبين المأخوذ غاية لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ... ) الآية (١) فانّه قد اخذ مرآة وطريقاً إلى طلوع الفجر ، من دون أن يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها ، فبذلك يعلم أنّ كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظه آلياً.

وبتعبير آخر : إذا كان الملاك في كون المعنى حرفياً تارة واسمياً اخرى هو اللحاظ الآلي والاستقلالي وكان المعنى بحد ذاته لا مستقلاً ولا غير مستقل ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.

٦٣

فكل ما كان النظر إليه آلياً فهو معنى حرفي فيلزم محذور صيرورة جملة من الأسماء حروفاً ، هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ ما هو المشهور من أنّ المعنى الحرفي ملحوظ آلة لا أصل له ، وذلك لأنّه لا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في ذلك ، إذ كما أنّ اللحاظ الاستقلالي والقصد الأوّلي يتعلقان بالمعنى الاسمي في مرحلة الاستعمال كذلك قد يتعلقان بالمعنى الحرفي فانّه هو المقصود بالافادة في كثير من الموارد ، وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنّه كان جاهلاً بخصوصيتهما فسأل عنها فاجيب على طبق سؤاله ، فهو والمجيب إنّما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية.

مثلاً إذا كان مجيء زيد معلوماً ولكن كانت كيفية مجيئه مجهولة عند أحد فلم يعلم أنّه جاء مع غيره أو جاء وحده فسأل عنها ، فقيل إنّه جاء مع عمرو ، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الافادة والاستفادة في مثل ذلك إنّما هو هذه الخصوصية التي هي من المعاني الحرفية ، دون المفهوم الاسمي فانّه معلوم ، بل إنّ الغالب في موارد الافادة والاستفادة عند العرف النظر الاستقلالي والقصد الأوّلي بافادة الخصوصيات والكيفيات المتعلقات بالمفاهيم الاسمية.

القول الثاني : أنّ الحروف لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لتكون علامة على كيفية إرادة مدخولاتها ، نظير حركات الاعراب التي لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لتكون قرينة على إرادة خصوصية من خصوصيات مدخولها من الفاعلية والمفعولية ونحوهما. فكما أنّ كل واحد من حركات الاعراب يفيد خصوصية متعلقة بمدخوله ، فانّ الفتحة تفيد خصوصية في مدخولها ، والكسرة تفيد خصوصية اخرى فيه ، والضمّة تفيد خصوصية ثالثة فيه ، فكذلك كل واحد من الحروف ، فانّ كلمة في تفيد إرادة خصوصية في مدخولها غير ما تفيده كلمة على من

٦٤

الخصوصية وهكذا ، من دون أن تكون لها معانٍ مخصوصة قد وضعت بازائها (١).

ولكن هذا القول لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّ الخصوصيات التي دلّت عليها الحروف والأدوات هي بعينها المعاني التي وضعت الحروف بازائها ، إذ المفروض أنّ تلك المعاني ليست ممّا تدلّ عليه الأسماء ، لعدم كونها مأخوذة في مفاهيمها ، فانحصر أن يكون الدال عليها هو الحروف ، ومن الواضح أنّ دلالتها عليها ليست إلاّمن جهة وضعها بازائها ، وعليه فلا معنى للقول بأ نّها لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لكذا ، بل هذا يشبه الجمع بين المتناقضين. وعلى كل حال فبطلان هذا القول من الواضحات الأوّلية. ومنه ظهر حال المقيس عليه وهو حركات الاعراب بلا زيادة ونقيصة.

القول الثالث : ما اختاره جماعة من المحققين قدس‌سرهم وهو أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الاسمية متباينتان بالذات والحقيقة ، ولكنّهم اختلفوا في كيفية هذا التباين وما به الامتياز.

فقد ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلى التباين بينهما بالايجادية والاخطارية بمعنى أنّ المفاهيم الاسمية بأجمعها مفاهيم إخطارية ومتقررة في عالم المفهومية ومستقلة بحد ذاتها وهويتها في ذلك العالم ، والمعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية بأجمعها معان إيجادية في الكلام ولا تقرر لها في عالم المفهومية ولا استقلال بذاتها وحقيقتها.

وبيان ذلك : أنّ الموجودات في عالم الذهن كالموجودات في عالم العين ، فكما أنّ الموجودات في عالم العين على نوعين :

أحدهما : ما يكون له وجود مستقل بحد ذاته في ذلك العالم ، كالجواهر

__________________

(١) تشريح الاصول : ٤٠.

٦٥

بأنواعها من النفس والعقل والصورة والمادة والجسم ، ولذا قالوا : إنّ وجودها في نفسه لنفسه يعني لا يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج.

وثانيهما : ما يكون له وجود غير مستقل كذلك في هذا العالم ، بل هو متقوّم بالموضوع ، كالمقولات التسع العرضية ، فان وجوداتها متقوّمة بموضوعاتها ، فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع يتقوّم به ، ولذا قالوا : إنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين :

أحدهما : ما يكون له استقلال بالوجود في عالم المفهومية والذهن ، كمفاهيم الأسماء بجواهرها وأعراضها واعتبارياتها وانتزاعياتها ، فان مثل مفهوم الانسان والسواد والبياض وغيرها من المفاهيم المستقلة ذاتاً ، فانّها تحضر في الذهن بلا حاجة إلى أيّة معونة خارجية ، سواء كانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن ، بل لو فرضنا فرضاً أنّه لم يكن في العالم مفهوم ما عدا مفهوم واحد مثلاً ، لما كان هناك ما يمنع من خطوره في الذهن ، فظهر أنّ حال المفاهيم الاسمية في عالم المفهوم والذهن حال الجواهر في عالم العين والخارج.

وثانيهما : ما لا استقلال له في ذلك العالم ، بل هو متقوّم بالغير كمعاني الحروف والأدوات ، فانّها بحد ذاتها وأنفسها متقوّمة بالغير ومتدلية بها ، بحيث لا استقلال لها في أيّ وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيه لنقصان في ذاتها ، فعدم الاستقلالية من ناحية ذلك النقصان لا من ناحية اللحاظ فقط ، فلذا لا تخطر في الذهن عند التكلم بها وحدها ـ أي من دون التكلم بمتعلقاتها ـ فلو اطلق كلمة ( في ) وحدها ـ أي من دون ذكر متعلقها ـ فلا يخطر منها شيء في الذهن.

فتبيّن : أنّ حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية في عالم المفهوم ، حال المقولات التسع العرضية في عالم العين.

٦٦

إذا عرفت ذلك فنقول : قد اتّضح من ضوء هذا البيان أنّ المفاهيم الاسمية حيث إنّها كانت إخطارية ومتقررة ومستقلة في عالم المفهوم والمعنى ، فيستحيل أن تكون الأسماء موجدة إيّاها في الكلام ، ضرورة عدم إمكان كونها إيجادية بهذا المعنى ، لما عرفت من أنّ معانيها تخطر في الذهن عند التكلم بها ، سواء كانت مفردة أم كانت في ضمن تركيب كلامي ، ولكن لمّا لم تكن بينها رابطة ذاتية توجب ربط بعضها ببعض ، دعت الحاجة في مقام الإفادة والاستفادة إلى روابط تربط بعضها ببعضها الآخر ، وليست تلك الروابط إلاّ الحروف وتوابعها ، فانّ شأنها إيجاد الربط بين مفهومين مستقلين ، ولذا قلنا إنّ معانيها إيجادية محضة ، نسبية كانت كحرف من وعلى وإلى ونحوها ، أو غير نسبية كحرف النداء والتشبيه والتمني والترجي ، فانّها في كلا القسمين موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية. مثلاً كلمة ( في ) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين الظرف والمظروف. وكلمة ( على ) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين المستعلي والمستعلى عليه. وكلمة ( من ) لإيجاده بين المبتدأ به والمبتدأ منه.

وبعبارة جامعة : أنّ كل واحد منها موضوع لايجاد معنى ربطي خاص في تركيب مخصوص ، ولا واقع له سواه ، فلولا وضع الحروف لم توجد رابطة بين أجزاء الكلام أبداً ، بداهة أنّه لا رابطة بين مفهوم زيد ومفهوم الدار في أنفسهما ، لأ نّهما مفهومان متباينان بالذات ، فلا بدّ من رابط يربط أحدهما بالآخر ، وليس ذلك إلاّكلمة ( في ) مثلاً التي هي الرابطة بينهما ، كما أنّ كلمة ( من ) رابطة بين المبتدأ به والمبتدأ منه ، وكلمة ( على ) رابطة بين المستعلي والمستعلى عليه ، وهكذا.

وعلى الجملة : أنّ المعاني الحرفية بأجمعها معان إيجادية ، وليس لها واقع في أيّ وعاء من الذهن والخارج وعالم الاعتبار ما عدا التراكيب الكلامية ، ونظيرها

٦٧

صيغ العقود والايقاعات بناءً على ما ذهب إليه المشهور فيها من أنّها آلات وأسباب لايجاد مسبباتها ، كالملكية والزوجية والرقية ونحوها ، ولكن الفرق بينها وبين المقام من ناحية اخرى وهي أنّها بتوسط الاستعمال توجد مسبباتها في عالم الاعتبار فوعاؤها هو عالم الاعتبار ، وأمّا الحروف فهي موجدة لمعانيها غير الاستقلالية في وعاء الاستعمال. على أنّ معاني صيغ العقود والايقاعات مستقلة في موطنها دون معاني الحروف ، فالفرق إذن من جهتين :

الاولى : أنّ المعاني الانشائية مستقلة في أنفسها دون المعاني الحرفية.

الثانية : أنّ معانيها موجودة في عالم الاعتبار ، فوعاؤها ذلك العالم دون المعاني الحرفية ، فان وعاءها عالم الاستعمال. وإلى ما ذكرناه من أنّ المعنى الحرفي إيجادي ، أشارت الرواية المنسوبة إلى أمير المؤمنين ( عليه الصلاة والسلام ) وهي :

« أنّ الحرف ما أوجد معنى في غيره » (١) وقال قدس‌سره : إنّ هذا التعريف أجود تعريفات الباب من حيث اشتماله على أركان المعاني الحرفية كلّها.

وقد اتّضح ممّا قدّمناه : أنّ المعاني إمّا إخطارية مستقلة بحد ذاتها في عالم مفهوميتها ، وإمّا إيجادية غير مستقلّة كذلك في ذلك العالم فلا ثالث لهما ، فالاخطارية تلازم الاستقلالية بالذات ، والايجادية تلازم عدمها كذلك ، وعليه فحكمة الوضع دعت إلى وضع الأسماء للطائفة الاولى من المعاني ، ووضع الحروف والأدوات للطائفة الثانية منها ، لتكون رابطة بين الطائفة الاولى بعضها ببعض ، وبذلك يحصل الغرض من الوضع.

ومن هنا أجاد أهل العربية عندما عبّروا في مقام التفسير عن المفاهيم الحرفية بأن كلمة ( في ) للظرفية ، ولم يقولوا بأنّ ( في ) هي الظرفية ، كما هو ديدنهم في مقام التعبير عن المفاهيم الاسمية ، وإن تسامحوا من جهة عدم التصريح بالنسبة ،

__________________

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ٦٠.

٦٨

بأن يقولوا كلمة ( في ) للنسبة.

ثمّ قال قدس‌سره : يشبه المعاني الحرفية جميع ما يكون النظر فيه آلياً ، كتعظيم شخص لأجل تعظيم آخر ، أو إهانة شخص لأجل إهانة آخر ، وهكذا (١).

ويتلخّص ما أفاده قدس‌سره في امور :

الأوّل : أنّ المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة ، ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد.

الثاني : أنّ المفاهيم الاسمية مفاهيم استقلالية بحد ذاتها وأنفسها ، والمفاهيم الحرفية مفاهيم غير استقلالية كذلك ، بل هي متقوّمة بغيرها ذاتاً وهوية.

الثالث : أنّ معاني الأسماء جميعاً معان إخطارية ومعاني الحروف معان إيجادية ، ولا يعقل أن تكون إخطارية كمعاني الأسماء وإلاّ لكانت مثلها في الافتقار إلى وجود رابط يربطها بغيرها ، فيلزم أن يكون في مثل قولنا : زيد في الدار ، مفاهيم ثلاثة إخطارية : كمفهوم زيد ومفهوم الدار ومفهوم الظرفية ، دون أن تكون هناك رابطة بين هذه المفاهيم التي لا يرتبط بعضها ببعض ، فإذن لا يتحقق التركيب ولا يصحّ الاستعمال ، لتوقفهما على وجود الرابط بين المفاهيم الاستقلالية ، ومن الواضح أنّه ليس إلاّ الحروف أو ما يشبهها.

الرابع : أنّ حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية حال الألفاظ في مرحلة الاستعمال ، فكما أنّ الألفاظ في حال الاستعمال ملحوظة آلةً والمعاني ملحوظة استقلالاً ، فكذلك المعاني الحرفية فانّها في مقام الاستعمال ملحوظة آلة والمعاني الاسمية ملحوظة استقلالاً.

الخامس : أنّ جميع ما يكون النظر إليه آلياً يشبه المعاني الحرفية كالعناوين

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥ وما بعدها.

٦٩

الكلية المأخوذة معرّفات وآليات لموضوعات الأحكام أو متعلقاتها.

أقول : أمّا ما أفاده قدس‌سره أوّلاً وثانياً ، من أنّ المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة ، ومن أنّ المعاني الاسمية مستقلة بحد ذاتها في عالم المفهومية والمعاني الحرفية ليست كذلك ، ففي غاية الصحّة والمتانة ، بل ولا مناص من الالتزام بذلك كما سيأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره ثالثاً ، من أنّ معاني الأسماء إخطارية ومعاني الحروف إيجادية ، ففيه : أنّ المعاني الاسمية وإن كانت إخطارية تخطر في الأذهان عند التكلم بألفاظها ـ سواء كانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن ـ إلاّ أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية ليست بإيجادية ، وذلك لأنّ المعاني الحرفية وإن كانت غير مستقلّة في أنفسها ومتعلقة بالمفاهيم الاسمية بحد ذاتها وعالم مفهوميتها بحيث لم تكن لها أيّ استقلال في أيّ وعاء فرض وجودها من ذهن أو خارج ، إلاّ أنّ هذا كلّه لايلازم كونها إيجادية بالمعنى الذي ذكره قدس‌سره لأنّ ربط الحروف بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض ، إنّما هو من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بازائها ، لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي.

مثلاً كلمة ( في ) في قولهم : زيد في الدار ، باعتبار دلالتها على معناها الموضوع له ، رابطة بين جزئي هذا الكلام غير المربوط أحدهما بالآخر ذاتاً ، لا أنّها توجد الربط في نفس ذلك التركيب ، ولا واقع له في غير التركيب الكلامي ، فكما أنّ الأسماء تحكي عن مفاهيمها الاستقلالية في حد أنفسها في عالم مفهوميتها ، كذلك الحروف تحكي عن المفاهيم غير المستقلة كذلك.

فالكاشف في مقام الاثبات عن تعلّق قصد المتكلم في مقام الثبوت بافادة المعاني الاستقلالية هو الأسماء ، والكاشف عن تعلّق قصده كذلك بافادة المعاني

٧٠

غير الاستقلالية هو الحروف وما يحذو حذوها.

ونتيجة ذلك : عدم الفرق بين الاسم والحرف إلاّفي نقطة واحدة ، وهي أنّ المعنى الاسمي مستقل بحد ذاته في عالم المعنى وبذلك يكون إخطارياً ، والمعنى الحرفي غير مستقل كذلك فلا يخطر في الذهن إلاّبتبع معنى استقلالي ، وهذا لا يستلزم كونه إيجادياً.

ومن هنا يظهر فساد ما أفاده قدس‌سره من أنّ المعنى إمّا إخطاري مستقل وإمّا إيجادي غير مستقل ولا ثالث لهما ، فالأوّل معنى اسمي والثاني معنى حرفي.

وتوضيح الفساد : هو أنّ المعنى الحرفي وإن لم يكن إخطارياً في نفسه ، لعدم استقلاله في نفسه إلاّ أنّه ليس بإيجادي أيضاً ، لما قدّمناه من أنّ له نحو ثبوت في وعاء المفاهيم كالمعنى الاسمي.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أمران :

الأوّل : بطلان القول بأنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية إيجادية محضة وليس لها ثبوت في أيّ وعاء ، إلاّ الثبوت في ظرف الاستعمال ، وأنّ المعاني الحرفية تساوي المعاني الاسمية في أنّها متقررة في عالم المفهومية والتعقل.

الثاني : أنّ عدم استقلالية المعاني الحرفية في حد أنفسها وتقوّمها بالمفاهيم الاسمية المستقلة لا يستلزم كونها إيجادية ، لامكان أن يكون المعنى غير مستقل في نفسه ، ومع ذلك لا يكون إيجادياً.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره رابعاً ، من أنّ المعاني الحرفية مغفول عنها في حال الاستعمال ، دون المعاني الاسمية ، فلا أصل له أيضاً ، وذلك لأنّهما من واد واحد من تلك الجهة ، فكما أنّ اللحاظ الاستقلالي يتعلق بافادة المعاني الاسمية عند الحاجة إلى إبرازها والتعبير عنها ، فكذلك يتعلّق بالمفاهيم الحرفية من

٧١

دون فرق بينهما في ذلك ، بل كثيراً ما يتعلّق اللحاظ الاستقلالي بالمعاني الحرفية ، وإنّما يؤتى بغيرها في الكلام مقدّمة لافادة تلك الخصوصية والتضييق ، فيقال في جواب السائل عن كيفية مجيء زيد مع العلم بأصله : إنّه جاء في يوم كذا ، ومعه كيف يمكن القول بأنّ المعاني الحرفية ملحوظة آلة في حال الاستعمال ، ومغفول عنها في تلك الحال.

فقد تحصّل ممّا بيّناه : أنّ الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي في نقطة واحدة ، وهي استقلال المعنى بالذات في الاسم وعدم استقلاله في الحرف ، وأمّا من بقية الجهات فلا فرق بينهما أصلاً.

وبذلك يتّضح فساد ما أفاده قدس‌سره من أنّ الفرق بينهما في أركان أربعة ، وتوضيح الفساد : أنّ الأركان التي جعلها ملاك الفرق في المقام كلّها فاسدة.

أمّا الركن الأوّل : فلأنّه يبتني على المقابلة بين إيجادية المعاني وإخطاريتها ، فنفي الأولى يستلزم إثبات الثانية. ولكنّك عرفت أنّه لا مقابلة بينهما أصلاً ، ومعه لا يكون نفي الايجادية عن المعاني الحرفية مستلزماً لاخطاريتها ، فان ملاك إخطارية المعنى الاستقلال الذاتي ، فإذا كان كذلك يخطر في الذهن عند التعبير عنه ، سواء كان في ضمن تركيب كلامي أم لم يكن ، وملاك عدم الاخطارية عدم الاستقلال كذلك ، ولذا لا يخطر في الذهن عند التكلم به منفرداً ، وهذا غير كونه إيجادياً وعليه فلا مقابلة بينهما.

وأمّا الركن الثاني : وهو أنّه لا واقع للمعاني الحرفية بما هي معان حرفية فيما عدا التراكيب الكلامية ، فلما بيّناه من أنّها كالمعاني الاسمية ثابتة ومتقررة في عالم المفهومية ، سواء استعملت الحروف والأدوات فيها أم لم تستعمل ، غاية الأمر لا استقلال لها بحسب الذات.

٧٢

وأمّا الركن الثالث : وهو الفرق بين الايجاد في الانشاء والايجاد في الحروف ، فيظهر فساده بما ذكرناه من أنّ معانيها ليست إيجادية ليكون الفرق بينهما مبتنياً على ما ذكره قدس‌سره من أنّه لا وعاء لها غير الاستعمال والتركيب الكلامي ، وهذا بخلاف الايجاد في الانشاء فانّ له وعاءً مناسباً وهو عالم الاعتبار.

وأمّا الركن الرابع : وهو أنّ حال المعاني الحرفية حال الألفاظ حين استعمالاتها فيتّضح بطلانه أيضاً بما تقدّم.

ثمّ إنّ من الغريب جدّاً أنّه قدس‌سره جعل هذا الركن هو الركن الوطيد في المقام ، وذكر أنّ بانهدامه تنهدم الأركان كلّها ، فانّ المعنى الحرفي لو كان ملتفتاً إليه لكان إخطارياً وكان له واقع غير التركيب الكلامي ، وذلك لأنّه مضافاً إلى ما بيّناه من أنّ المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي مقصود في مقام التفهيم ، أنّ الملاك في إخطارية المعنى استقلاليته بالذات كما عرفت لا الالتفات إليه واللحاظ الاستقلالي ، ضرورة أنّ الالتفات إلى المعنى لا يجعله إخطارياً إذا لم يكن مستقلاً بحد ذاته ، بحيث كلّما يطلق يخطر في الذهن ولو كان وحده ولم يكن في ضمن تركيب كلامي ، ومن هنا قلنا : إنّ المعنى الحرفي مع كونه ملتفتاً إليه غير إخطاري ، لعدم استقلاله في عالم مفهوميته.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره خامساً ، من أنّ جميع ما يكون النظر إليه آلياً يشبه المعاني الحرفية ، فيرد عليه :

أوّلاً : ما ذكرناه الآن من أنّ النظر إلى المعنى الحرفي كالنظر إلى المعنى الاسمي استقلالي.

وثانياً : لو تنزلنا عن ذلك ، وسلّمنا أنّ النظر إليه آلي ، إلاّ أنّه لا يكون ملاكاً لحرفية المعنى ، كما أنّ اللحاظ الاستقلالي لا يكون ملاك الاسمية بل ملاك المعنى

٧٣

الحرفي التبعية الذاتية ، وأ نّها تعلّقية محضة ، وملاك الثانية الاستقلالية الذاتية وأ نّها بحد ذاتها غير متقوّمة بالغير.

وبتعبير آخر : أنّه على المبنى الصحيح كما بنى قدس‌سره عليه من أنّ المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة لا يدور المعنى الحرفي والاسمي بما هما كذلك مدار اللحاظ الآلي والاستقلالي ، بداهة أنّ المعنى حرفي وإن لوحظ استقلالاً ، واسمي وإن لوحظ آلة ، لعدم كونهما متقومين بهما ليختلف باختلافهما.

القول الرابع : ما اختاره بعض مشايخنا المحققين قدس‌سرهم (١) من أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية عبارة عن النسب والروابط الخارجية التي ليس لها استقلال بالذات ، بل هي عين الربط لا ذات له الربط.

وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه : أنّ المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتاً بدون أن تشتركا في طبيعي معنى واحد ، فانّ الفرق بين الاسم والحرف لو كان بمجرّد اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وكانا متحدين في المعنى ، لكان قابلاً لأن يوجد في الخارج على نحوين ، كما يوجد في الذهن كذلك ، مع أنّ المعاني الحرفية كأنحاء النسب والروابط لا توجد في الخارج إلاّعلى نحو واحد ، وهو الوجود لا في نفسه.

وبيان ذلك : أنّ الفلاسفة قد قسّموا الوجود على أقسام أربعة :

القسم الأوّل : وجود الواجب ( تعالى شأنه )، فانّ وجوده في نفسه ولنفسه وبنفسه ، يعني أنّه موجود قائم بذاته وليس بمعلول لغيره ، فالكائنات التي يتشكل منها العالم بشتى ألوانها وأشكالها ، معلولة لوجوده ( تعالى وتقدس ) ، فانّه سبب أعمق وإليه تنتهي سلسلة العلل والأسباب بشتّى أشكالها وأنحائها.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٥١.

٧٤

القسم الثاني : وجود الجوهر، وهو وجود في نفسه ولنفسه ، ولكن بغيره ، يعني أنّه قائم بذاته لكنّه معلول لغيره ، ولذا يقال : الجوهر ما يوجد في نفسه لنفسه.

القسم الثالث : وجود العرض، وهو وجود في نفسه ولغيره ، يعني أنّه غير قائم بذاته بل متقوّم بموضوع محقق في الخارج وصفة له ، فان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع موجود في العين ، ولذا يقال : العرض ما يوجد في نفسه لغيره ، ويسمى ذلك الوجود بالوجود الرابطي في الاصطلاح.

القسم الرابع : الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي، وهو وجود لا في نفسه ، فان حقيقة الربط والنسبة لا توجد في الخارج إلاّبتبع وجود المنتسبين من دون نفسية واستقلال لها أصلاً ، فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها ، وهذا بخلاف العرض فان ذاته غير متقوّمة بموضوعه ، بل لزوم القيام به ذاتي وجوده.

وقد استدلّوا على ذلك ، أي على الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي :

بأن كثيراً ما كنّا نتيقن بوجود الجوهر والعرض ولكن نشك في ثبوت العرض له ، ومن الواضح جداً أنّه لا يعقل أن يكون المتيقن بعينه هو المشكوك فيه ، بداهة استحالة تعلق صفة اليقين والشك بشيء في آن واحد ، لتضادهما غاية المضادة ، وبذلك نستدل على أن للربط والنسبة وجوداً في مقابل وجود الجوهر والعرض ، وهو مشكوك فيه دون وجودهما.

أمّا أنّ وجوده وجود لا في نفسه ، فلأنّ النسبة والربط لو وجدت في الخارج بوجود نفسي ، لزمه أن لا يكون مفاد القضيّة الحملية ثبوت شيء لشيء ، بل ثبوت أشياء ثلاثة ، فيحتاج حينئذ إلى الرابطة بين هذه الموجودات الثلاثة ،

٧٥

فإذا كانت موجودة في نفسها احتجنا إلى رابطة ، وهكذا إلى ما لا يتناهى.

ويترتب على ذلك : أنّ الأسماء موضوعة للماهيات القابلة للوجود المحمولي ـ الوجود في نفسه ـ بجواهرها وأعراضها على نحوين ، كما توجد في الذهن كذلك ، والتي تقع في جواب ما هو إذا سئل عن حقيقتها.

والحروف والأدوات موضوعة للنسب والروابط الموجودات لا في أنفسها المتقوّمة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط ، ولا تقع في جواب ما هو ، فانّ الواقع في جواب ما هو ، ما كان له ماهية تامة ، والوجود الرابط سنخ وجود لا ماهية له ، ولذا لا يدخل تحت شيء من المقولات ، بل كان وجوده أضعف جميع مراتب الوجودات.

ومن هنا يظهر أنّ تنظير المعنى الحرفي والاسمي بالجوهر والعرض في غير محلّه ، إذ العرض موجود في نفسه لغيره.

ثمّ إنّ الحروف والأدوات لم توضع لمفهوم النسبة والربط فانّه من المفاهيم الإسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها ، وإنّما الموضوع لها الحروف واقع النسبة والربط ـ أي ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط ـ الذي نسبة ذلك المفهوم إليه نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وفرده ، فإنّه متّحد معه ذهناً وخارجاً ، دون العنوان فانّه لا يتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ومغاير للمعنون ذاتاً ووجوداً ، نظير مفهوم العدم ، وشريك الباري ( عزّ وجلّ ) ، واجتماع النقيضين ، بل مفهوم الوجود على القول بأصالة الوجود ، فانّ نسبة هذه المفاهيم إلى واقعها نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وأفراده ، لأنّ تلك المفاهيم لا تتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ولأجل ذلك لا يصحّ حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي ، فمفهوم النسبة والربط نسبة وربط بالحمل الأوّلي الذاتي ولا يكون كذلك بالحمل الشائع الصناعي ، فان ما كان بهذا الحمل نسبة وربطاً

٧٦

معنون هذا العنوان وواقعه.

ومن ثمة كان المتبادر من إطلاق لفظ الربط والنسبة واقعه لا مفهومه ، فانّ إرادته تحتاج إلى عناية زائدة ، كما هو الحال في قولهم : شريك الباري ممتنع ، واجتماع النقيضين مستحيل ، والمعدوم المطلق لا يخبر عنه ، فانّ المحكوم به بهذه الأحكام معنونات هذه الامور ، لا مفاهيمها فانّها غير محكومة بها ، كيف وأ نّها موجودة وغير معدومة ولا ممتنعة.

تحصّل ممّا ذكرناه : أنّ الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقاً ، سواء كانت بمفاد هل المركبة ، أم بمفاد هل البسيطة ، أم كانت من النسب الخاصة المقوّمة للأعراض النسبية ، ككون الشيء في الزمان أو المكان ، أو نحو ذلك.

وأمّا الموضوع بازاء مفاهيمها فهي ألفاظ النسبة والربط ونحوهما من الأسماء ، المحكية عنها بتلك الألفاظ ، لا بالحروف والأدوات ، هذا ملخّص ما أفاده شيخنا المحقق قدس‌سره.

أقول : يقع الكلام هنا في مقامين :

المقام الأوّل : في أنّ للنسبة والربط وجوداً في الخارج في مقابل وجودي الجوهر والعرض ، أم لا؟

المقام الثاني : على تقدير تسليم أنّ لها وجوداً ، فهل الحروف موضوعة لها؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالصحيح هو أنّه لا وجود لها في الخارج في قبال وجود الجوهر أو العرض ، وإن أصرّ على وجودها جماعة من الفلاسفة.

والوجه في ذلك : هو أنّه لا دليل على ذلك سوى البرهان المذكور وهو غير تام ، وذلك لأنّ صفتي اليقين والشك وإن كانتا صفتين متضادتين فلا يكاد يمكن أن تتعلّقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة ، إلاّ أنّ تحققهما في الذهن لايكشف

٧٧

عن تعدد متعلقهما في الخارج ، فانّ الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجاً ، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلقاً لصفة اليقين والآخر متعلقاً لصفة الشك ، كما إذا علم إجمالاً بوجود إنسان في الدار ولكن شكّ في أنّه زيد أو عمرو ، فلا يكشف تضادّهما عن تعدّد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي ، فانّهما موجودان بوجود واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق لليقين ، ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك. أو إذا أثبتنا أنّ للعالم مبدأ ، ولكن شككنا في أنّه واجب أو ممكن على القول بعدم استحالة التسلسل فرضاً ، أو أثبتنا أنّه واجب ولكن شككنا في أنّه مريد أو لا ، إلى غير ذلك ، مع أنّ صفاته تعالى عين ذاته خارجاً وعيناً كما أن وجوبه كذلك.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر ، والشك متعلق بثبوت حصّة خاصّة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن من جهة اخرى.

تلخّص : أنّ تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلاّتعدد متعلقهما في افق النفس ، وأمّا في الخارج عنه فقد يكون متعدداً وقد يكون متحداً.

وإن شئت فقل : إنّ الممكن في الخارج إمّا جوهر أو عرض ، وكل منهما زوج تركيبي ـ يعني مركب من ماهية ووجود ـ ولا ثالث لهما ، والمفروض أنّ ذلك الوجود ـ أي الوجود الرابط ـ سنخ وجود لا ماهية له ، فلا يكون من أقسام الجوهر ولا من أقسام العرض ، والمفروض أنّه ليس في الخارج موجود آخر لا يكون من أقسام الجوهر ولا العرض.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فعلى تقدير تسليم أنّ للنسبة والرابط وجوداً في الخارج في مقابل الجوهر والعرض ، لا نسلّم أنّ الحروف والأدوات موضوعة

٧٨

لها ، لما بيّناه سابقاً من أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيات لا للموجودات الخارجية ولا الذهنية ، فانّ الاولى غير قابلة للاحضار في الذهن وإلاّ فلا تكون بخارجية ، والثانية غير قابله للاحضار ثانياً ، فانّ الموجود الذهني لا يقبل وجوداً ذهنياً آخر ، والمفروض أنّ الغرض من الوضع التفهيم والتفهم وهو لا يجتمع مع الوضع للموجود الذهني أو الخارجي ، بل لا بدّ أن يكون الوضع لذات المعنى القابل لنحوين من الوجود.

وبتعبير آخر : أنّ اللفظ موضوع بازاء المعنى اللاّ بشرطي ، سواء كان موجوداً في الخارج أم معدوماً ، ممكناً كان أو ممتنعاً ، وقد يعبّر عنه بالصور المرتسمة العلمية أيضاً ، وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط ، لأنّها كما عرفت سنخ وجود لا ماهية لها فلا تكون قابلة للاحضار في الذهن ، وأمّا مفاهيم نفس النسب والروابط فهي من المفاهيم الاسمية وليست ممّا وضعت لها الحروف والأدوات.

هذا ، ولو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا إمكان وضع اللفظ للموجود بما هو ، ولكنّا نقطع بأنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد يستحيل فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد هل البسيطة فضلاً عن المركّبة ، فلا فرق بين قولنا : ( الوجود للانسان ممكن ) و ( لله تعالى ضروري ) و ( لشريك الباري مستحيل ) فان كلمة اللام في جميع ذلك تستعمل في معنى واحد ، وهو تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى على نسق واحد ، بلا عناية في شيء منها ، وبلا لحاظ أيّة نسبة في الخارج حتى بمفاد كان التامة ، فان تحقق النسبة بمفاد كان التامة إنّما هو بين ماهية ووجودها كقولك : زيد موجود. وأمّا في الواجب تعالى وصفاته وفي الانتزاعيات والاعتبارات فلا يعقل فيها تحقق أيّة نسبة أصلاً.

٧٩

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : هو أنّ صحة استعمال الحروف في موارد يستحيل فيها ثبوت أيّة نسبة خارجية كما في صفات الواجب تعالى وغيرها من دون لحاظ أيّة علاقة ، تكشف كشفاً يقيناً عن أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج.

ومن هنا يظهر : أنّ حكمة الوضع لا تدعو إلى وضع الحروف لتلك النسب ، وإنّما تدعو إلى وضعها لما يصح استعمالها فيه في جميع الموارد. فهذا القول لو تمّ فانّما يتم في خصوص الجواهر والأعراض ، وما يمكن فيه تحقق النسبة بمفاد هل البسيطة ، وأمّا في غير تلك الموارد فلا.

القول الخامس : ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من أنّ الحروف والأدوات وضعت للأعراض النسبية الإضافية كمقولة الأين والاضافة ونحوهما ، وملخّص ما أفاده قدس‌سره هو أنّ الموجود في الخارج على أنحاء ثلاثة :

النحو الأوّل : ما يكون وجوده وجوداً لنفسه كالجوهر بأصنافه.

النحو الثاني : ما يكون وجوده في نفسه وجوداً لغيره كالأعراض التسعة التي قد يعبّر عن وجودها بالوجود الرابطي ، وهي على طائفتين :

إحداهما : ما يحتاج في تحققه إلى موضوع واحد في الخارج ويستغنى به كالكم والكيف ونحوهما.

والثانية : ما يحتاج في تحققه إلى موضوعين ليتقوّم بهما كالعرض الأيني والاضافي وغير ذلك.

النحو الثالث : ما يكون وجوده لا في نفسه كأنحاء النسب والروابط.

وعلى ذلك فنقول : إنّ الحاجة دعت العقلاء إلى وضع الألفاظ التي تدور عليها الإفادة والاستفادة ، وبعد أن فحصنا وجدنا أنّهم وضعوا الأسماء للجواهر

٨٠