محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

الأركان الخاصة ، ضرورة أنّه يصدق على الفرد الفاقد لبعض الأركان إذا كان ذلك الفرد واجداً للبقية من الأجزاء والشرائط ، ولا يصدق على الفرد الواجد لجميع الأركان إذا كان ذلك الفرد فاقداً لتمام البقية ، فلا يصح إذن دعوى وضعها لخصوص الأركان ، فانّه لا يدور صدق الصلاة مدارها وجوداً وعدماً ، كما لا يخفى.

والصحيح هو ما أفاده المحقق القمي قدس‌سره ولا يرد عليه شيء من هذه الايرادات.

أمّا الايراد الأوّل : فلأنّ فيه خلطاً بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية ، فانّ المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة ، ولكل واحد من الجزأين جهة افتقار بالاضافة إلى الآخر ، لا يعقل فيها تبديل الأجزاء بغيرها ، ولا الاختلاف فيها كمّاً وكيفاً ، فإذا كان شيء واحد جنساً أو فصلاً لماهية ، فلا يعقل أن يكون جنساً أو فصلاً لها مرّة ، ولا يكون كذلك مرّة اخرى ، ضرورة أنّ بانتفائه تنعدم تلك الماهية لا محالة ، مثلاً الحيوان جنس للانسان فلا يعقل أن يكون جنساً له في حال أو زمان ، ولا يكون جنساً له في حال أو زمان آخر وهكذا ، فما ذكره قدس‌سره تام في المركبات الحقيقية ولا مناص عنه ، وأمّا المركبات الاعتبارية التي تتركب من أمرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزأين جهة اتحاد حقيقة ، ولا افتقار ولا ارتباط ، بل إنّ كل واحد منهما موجود مستقل على حياله ، ومباين للآخر في التحصّل والفعلية ، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية ، لاستحالة التركب الحقيقي بين أمرين أو امور متحصّلة بالفعل ، فلا يتم فيها ما أفاده قدس‌سره ولا مانع من كون شيء واحد داخلاً فيها عند وجوده ، وخارجاً عنها عند عدمه.

وقد مثّلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ الدار فانّه موضوع لمعنى مركب وهو

١٨١

ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة وهي أجزاؤها الرئيسية ، ومقوّمة لصدق عنوانها ، فحينئذ إن كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو من أجزائها وداخلة في مسمّى لفظها ، وإلاّ فلا.

وعلى الجملة : فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ الدار معنى مركباً من أجزاء معيّنة خاصة ، وهي : الحيطان والساحة والغرفة ، فهي أركانها ، ولم يلحظ فيها مواداً معيّنة وشكلاً خاصاً من الأشكال الهندسية ، وأمّا بالاضافة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا بشرط ، بمعنى أنّ الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى ، وعلى تقدير عدمه خارج عنه ، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد.

ومن هذا القبيل لفظ القباء والعباء بالاضافة إلى البطانة ونحوها ، فانّها عند وجودها داخلة في المسمى ، وعند عدمها خارجة عنه وغير ضائر بصدقه.

ومن هذا القبيل أيضاً الكلمة والكلام ، فانّ الكلمة موضوعة للمركب من حرفين فصاعداً ، فان زيد عليهما حرف أو أزيد فهو داخل في معناها ، وإلاّ فلا ، والكلام موضوع للمركب من كلمتين فما زاد ، فيصدق على المركب منهما ومن الزائد على نحو واحد ، وهكذا.

وبتعبير آخر : أنّ المركبات الاعتبارية على نحوين :

أحدهما : ما لوحظ فيه كثرة معيّنة من جانب القلّة والكثرة ، وله حدّ خاص من الطرفين ، كالأعداد فانّ الخمسة مثلاً مركبة من أعداد معيّنة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة.

وثانيهما : ما لوحظ فيه أجزاء معيّنة من جانب القلّة فقط ، وله حد خاص من هذا الطرف ، وأمّا من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد اخذ لا بشرط ، وذلك

١٨٢

مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك ، فانّ فيها ما اخذ مقوّماً للمركب ، وما اخذ المركب بالاضافة إليه لا بشرط ، ومن الظاهر أنّ اعتبار اللاّ بشرطية في المعنى كما يمكن أن يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن أن يكون باعتبار دخول الزائد في المركب ، كما أنّه لا مانع من أن يكون المقوّم للمركب الاعتباري أحد امور على سبيل البدل ، وقد مثّلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ الحلوى ، فانّه موضوع للمركب المطبوخ من شكر وغيره ، سواء كان ذلك الغير دقيق ارز أو حنطة أو نحو ذلك.

ولما كانت الصلاة من المركبات الاعتبارية ، فانّك عرفت أنّها مركبة من مقولات متعددة ، كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوها ، وقد برهن في محلّه أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة ، لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين ، بل لايمكن بين أفراد مقولة واحدة ، فما ظنّك بالمقولات ، فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً.

والوجه في ذلك : هو أنّ معنى كل مركب اعتباري لا بدّ أن يعرف من قبل مخترعه ، سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره ، وعليه فقد استفدنا من النصوص الكثيرة (١) أنّ حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجوداً وعدماً ، عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث على ما سنتكلم فيها عن قريب إن شاء الله تعالى ، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمّى ، وعند عدمها خارجة عنه وغير مضرة بصدقه ، وهذا معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى دخول الزائد ، وقد عرفت أنّه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية وكم له من نظير.

__________________

(١) الآتية في ص ١٨٦.

١٨٣

وإن شئت فقل : إنّ المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقاً بيد معتبرها ، فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو امور بشرط لا كما في الأعداد ، وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد ، كما هو الحال في كثير من تلك المركبات ، فالصلاة من هذا القبيل ، فانّها موضوعة للأركان فصاعداً.

وممّا يدلّ على ذلك : هو أنّ إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كمّاً وكيفاً على نسق واحد ، بلا لحاظ عناية في شيء منها ، فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا فلم يصح إطلاقها على الواجد لتمام الأجزاء والشرائط بلا عناية ، مع أنّا نرى وجداناً عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد وإطلاقها على الفاقد أصلاً.

وقد تلخص من ذلك : أنّ دخول شيء واحد في ماهية مركبة مرّة ، وخروجه عنها مرّة اخرى ، إنّما يكون مستحيلاً في الماهيات الحقيقية ، دون المركبات الاعتبارية.

وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضاً : فانّ لفظ الصلاة موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كمّاً وكيفاً ، وله عرض عريض ، فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد كصدق كلمة الدار على جميع أفرادها المختلفة زيادة ونقيصه كمّاً وكيفاً.

إذن لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال.

وبتعبير واضح : أنّ الأركان وإن كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلاّ أنّه لا يضر بما ذكرناه من أنّ لفظ الصلاة موضوع بازاء الأركان بعرضها العريض ، ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة فانّه موضوع لها كذلك على سبيل البدل ، وقد عرفت أنّه لا

١٨٤

مانع من أن يكون مقوّم المركب الاعتباري أحد الامور على سبيل البدل.

ومن ذلك يتبين : أنّ ما ذكرناه غير مبني على جواز التشكيك في الماهية أو في الوجود ، فانّه سواء قلنا به في الماهية أو الوجود أم لم نقل فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) من أنّ إدراك التشكيك في الوجود أمر فوق إدراك البشر فلا يعلم إلاّبالكشف والمجاهدة ، ففساده غني عن البيان ، كما لا يخفى على أهله.

وبما ذكرناه يظهر فساد الإيراد الثالث أيضاً ، وذلك لأنّ الأركان قد يصدق عليها الصلاة الصحيحة فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها حتّى على الأعم ، فلو كبّر المصلي ونسي جميع الأجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتّى فرغ منها يحكم بصحّة صلاته بلا إشكال ، ولم يستشكل في ذلك أحد من الفقهاء.

ومن هنا يظهر بطلان ما افيد ثانياً من أنّ لفظ الصلاة يصدق على الفاقد لبعض الأركان فيما إذا كان واجداً لسائر الأجزاء والشرائط ، ووجه الظهور : هو ما عرفت من أنّ الروايات الكثيرة قد دلّت على أن حقيقة الصلاة التي تتقوّم بها هي التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، والمراد منها أعم من المائية والترابية ، كما أنّ المراد من الركوع والسجود أعم ممّا هو وظيفة المختار أو المضطر كما عرفت.

فقد أصبحت النتيجة أنّه لا مانع من الالتزام بأنّ الموضوع له هو خصوص الأركان ولا يرد عليه شيء ممّا تقدّم.

١٨٥

تذييل :

قد نطقت روايات الباب والنصوص الكثيرة على أنّ الأركان أربعة ، وهي :

التكبيرة والركوع والسجود والطهارة.

أمّا الاولى : فقد دلّت نصوص عديدة (١) على أنّ التكبيرة ابتداء الصلاة وبها افتتاحها ، ومعنى هذا هو أنّ الصلاة لاتتحقق بدون ذلك ، فالمصلي لو دخل في القراءة من دون أن يكبّر ، لا يصدق أنّه دخل فيها ، ومن هنا يظهر أنّ عدم ذكر التكبيرة في حديث لا تعاد إنّما هو من جهة أنّ الدخول في الصلاة لا يصدق بدونها حتّى يصدق على الاتيان بها الإعادة ، فانّها عرفاً وجود ثانٍ للشيء بعد وجوده أوّلاً.

أو فقل : إنّ المستفاد من هذه الروايات هو أنّ الصلاة عمل خاص لا يمكن

__________________

(١) منها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : التكبيرة الواحدةفي افتتاح الصلاة تجزي والثلاث أفضل ، والسبع أفضل كلّه » الوسائل ٦ : ١٠ / أبواب تكبيرة الإحرام ب ١ ح ٤.

ومنها : صحيحة زرارة قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح؟ قال : يعيد » الوسائل ٦ : ١٢ / أبواب تكبيرة الإحرام ب ٢ ح ١.

ومنها : موثقة عبيد بن زرارة قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن رجل أقام الصلاة فنسي أن يكبّر حتّى افتتح الصلاة ، قال : يعيد الصلاة » الوسائل ٦ : ١٣ / أبواب تكبيرة الإحرام ب ٢ ح ٣.

ومنها : صحيحة علي بن يقطين قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتّى يركع ، قال : يعيد الصلاة » الوسائل ٦ : ١٣ / أبواب تكبيرة الإحرام ب ٢ ح ٥.

١٨٦

الدخول فيه بدون الافتتاح بالتكبيرة ، ولذا ورد في بعض الروايات « لا صلاة بغير افتتاح » (١) وعليه فلو دخل المصلي بدونها نسياناً أو جهلاً فلايكون مشمولاً للحديث.

وأمّا الركوع والسجود والطهور : فقد دلّت صحيحة الحلبي أو حسنته ـ بابن هاشم ـ على أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث منها الطهور ، وثلث منها الركوع ، وثلث منها السجود ، الحديث (٢) فقد حصرت الصحيحة الصلاة بهذه الثلاثة ، ولكن لابدّ من رفع اليد عنها من هذه الجهة بما دلّ من الروايات على أنّ التكبيرة أيضاً ركن ومقوّم لها كما عرفت.

بقي هنا شيء : وهو أنّ التسليمة هل هي ركن للصلاة أيضاً أم لا؟ وجهان بل قولان ، فذهب بعضهم (٣) إلى أنّها أيضاً ركن واستدلّ على ذلك بعدّةٍ من الروايات (٤) الدالة على أنّ اختتام الصلاة بالتسليم ، فهي دالة على أنّ الصلاة

__________________

(١) الوسائل ٦ : ١٤ / أبواب تكبيرة الإحرام ب ٢ ح ٧.

(٢) رواها في الوسائل ٦ : ٣١٠ / أبواب الركوع ب ٩ ح ١ عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود ».

(٣) الناصريات : ٢٠٩.

(٤) منها : مضمرة علي بن أسباط عنهم عليهم‌السلام في حديث طويل إلى أن قال : « يسمي عند الطعام ويفشي السلام ويصلي والناس نيام ، وله كل يوم خمس صلوات متواليات ينادي إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار ويفتتح بالتكبيرة ويختم بالتسليم » [ الوسائل ٦ : ٤١٥ / أبواب التسليم ب ١ ح ٢ ].

ومنها : موثقة أبي بصير قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول في رجل صلّى الصبح فلمّا جلس في الركعتين قبل أن يتشهد رعف قال : فليخرج فليغسل أنفه ثمّ ليرجع فليتم صلاته فانّ آخر الصلاة التسليم » [ الوسائل ٦ : ٤١٦ / أبواب التسليم ب ١ ح ٤ ].

١٨٧

لا تتحقق بدون التسليم.

وذهب جماعة منهم السيِّد قدس‌سره في العروة إلى أنّها ليست بركن (١) وهذا هو الأقوى ، ودليلنا على ذلك هو أنّها لم تذكر في حديث لا تعاد ، فلو ترك المصلي التسليمة في الصلاة نسياناً لم تجب عليه الإعادة في الوقت ، فضلاً عن القضاء في خارجه. وكيف كان ، فان قلنا بعدم كون التسليمة من الأركان كانت التسليمة أيضاً خارجة عن المسمى.

فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن امور :

الأوّل : أنّ لفظ الصلاة موضوع للأركان فصاعداً ، وهذا على طبق الارتكاز العرفي كما هو الحال في كثير من المركبات الاعتبارية.

الثاني : أنّ اللفظ موضوع للأركان بمراتبها على سبيل البدل لا للجامع بينها ، فانّ الجامع غير معقول كما عرفت ، ولا لمرتبة خاصة منها ، وذلك من جهة أنّ إطلاق اللفظ على جميع مراتبها على نسق واحد ، هذا وقد تقدّم أنّه لا بأس بكون المقوّم للمركب الاعتباري أحد امور على نحو البدل.

الثالث : أنّ الأركان على ما نطقت به روايات الباب عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة ـ والمراد الأعم من المائية والترابية ـ كما أنّ المراد من الركوع والسجود أعم ممّا هو وظيفة المختار أو المضطر ، ولكن مع هذا كلّه يعتبر في صدق الصلاة الموالاة بل الترتيب أيضاً ، وأمّا الزائد عليها فعند الوجود داخل فيها وإلاّ فلا.

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٥١٤.

١٨٨

الرابع : أنّ دخول شيء واحد في مركب مرّة ، وخروجه عنه مرّة اخرى ممّا لابأس به في المركبات الاعتبارية ، بل هو على طبق الفهم العرفي كما لا يخفى.

الوجه الثاني من وجوه تصوير الجامع : ما قيل من أنّ لفظ الصلاة موضوع بإزاء معظم الأجزاء ، ويدور صدقه مداره وجوداً وعدماً ، وقد نسب شيخنا العلاّمة الأنصاري (١) قدس‌سره هذا الوجه إلى المشهور ، وكيف ما كان ، فقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بوجهين :

الأوّل : ما أورده قدس‌سره ثانياً على الوجه الأوّل من أنّ لازم ذلك هو أن يكون استعمال لفظ الصلاة فيما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه مجازاً ، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، لا من باب إطلاق الكلي على فرده والطبيعي على مصداقه ، وهذا ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم.

الثاني : أنّه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى ، فكان شيء واحد داخلاً فيه تارة ، وخارجاً عنه اخرى ، بل مردداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء ، وهو كما ترى سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات (٢).

توضيحه : هو أنّه لا ريب في اختلاف الصلاة باختلاف حالات المكلفين من السفر والحضر والاختيار والاضطرار ونحو ذلك ، كما أنّه لاريب في اختلافها في نفسها باختلاف أصنافها من حيث الكم والكيف ، وعليه فمعظم الأجزاء يختلف من هاتين الناحيتين ، فيلزم دخول شيء واحد فيه مرّة وخروجه عنه مرّة اخرى ، بل عند اجتماع تمام الأجزاء لا تعين لما هو الداخل عمّا ليس هو

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٨.

(٢) كفاية الاصول : ٢٥ ـ ٢٦.

١٨٩

بداخل ، فانّ نسبة كل جزء إلى المركب على حد سواء ، بل لا واقع له حينئذ ، إذ جعل عدّة خاصة من معظم الأجزاء دون غيرها ترجيح بلا مرجح ، فيكون المركب حينئذ من قبيل الفرد المردد الذي لا واقع له.

ولكن بما حققناه (١) في الوجه الأوّل من أنّ المسمّى قد اعتبر لا بشرط بالإضافة إلى الزائد ، قد تبين الجواب عن الإيراد الأوّل ، فانّ معظم الأجزاء الذي اخذ مقوّماً للمركب مأخوذ لا بشرط بالقياس إلى بقية الأجزاء ، فهي داخلة في المسمّى عند وجودها وخارجة عنه عند عدمها.

وبهذا يظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضاً ، فانّ عند اجتماع تمام الأجزاء كان المسمّى هو تمام الأجزاء ، لا خصوص بعضها ليقال إنّه أمر مردد بين هذا وذاك.

وإن شئت فقل : إنّ اللفظ لم يوضع بازاء مفهوم معظم الأجزاء وإلاّ لترادف اللفظان وهو باطل قطعاً ، بل هو موضوع بازاء واقع ذلك المفهوم ومعنونه ، وهو يختلف باختلاف المركب نفسه ، مثلاً معظم أجزاء صلاة الصبح بحسب الكم غير معظم أجزاء صلاة العشاء ، فلو كان المعظم لصلاة الصبح أربعة أجزاء مثلاً ، فلا محالة كان المعظم لصلاة المغرب ستّة أجزاء وهكذا ، وعلى هذا فاللفظ موضوع بازاء المعظم على سبيل وضعه للأركان ، بمعنى أنّ المقوّم للمركب أحد امور على نحو البدل ، فقد يكون المقوّم أربعة أجزاء ، وقد يكون ثلاثة أجزاء ، وقد يكون خمسة أجزاء وهكذا ، وقد تقدّم أنّه لا مانع من الالتزام بذلك في المركبات الاعتبارية ، وكم له من نظير فيها ، بل هو على وفق الارتكاز كما عرفت.

وأمّا الزائد على المعظم فعند وجوده يدخل في المسمى وعند عدمه يخرج

__________________

(١) في ص ١٨٢.

١٩٠

عنه ، فالموضوع له حينئذ هو مفهوم وسيع جامع لجميع شتاته ومتفرقاته ، لا خصوص المعظم بشرط لا ، ولا مرتبة خاصة منه ، ومن هنا يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد. نظير لفظ الكلمة ، فانّه موضوع في لغة العرب لما تركب من حرفين فصاعداً ، فالحرفان مقوّمان لصدق عنوان الكلمة في لغة العرب ، وأمّا الزائد عليهما من حرف أو حرفين أو أزيد ، فعند وجوده داخل في المسمى ، وعند عدمه خارج عنه.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين : أنّه لا بأس بهذا الوجه أيضاً مع الإغماض عن الوجه الأوّل ، بأن يكون اللفظ موضوعاً للمعظم لا بشرط ، هذا مع اعتبار الموالاة والترتيب أيضاً في المسمّى ، إذ بدونهما لايصدق على المعظم عنوان الصلاة.

الوجه الثالث : ما قيل من أنّ لفظ الصلاة موضوع للمعنى الذي يدور مداره التسمية عرفاً.

وفيه : أنّ هذا الوجه بظاهره لا يرجع إلى معنى محصّل ، وذلك لأنّ الصدق العرفي تابع لوجود المسمّى في الواقع ومقام الثبوت ، فلا يعقل أن يكون وجود المسمّى في الواقع ونفس الأمر تابعاً للصدق العرفي.

ولكن قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ مرجع هذا الوجه إلى الوجه الثاني ، فانّ المراد منه هو أنّ الكاشف عن وجود المسمّى ليس إلاّ الفهم العرفي ، فانّه طريق وحيد في مقام الإثبات إلى سعة المعنى أو ضيقه في مقام الثبوت ، وحيث إنّ لفظ الصلاة يصدق عند العرف على معظم أجزائها ولا يصدق على غير المعظم ، يكشف عن أنّه موضوع بازاء المعظم على الكيفية التي تقدّمت ، مثلاً لفظ الماء في لغة العرب موضوع لمعنىً في الواقع ، ولكنّ الكاشف في مقام الاثبات عن مقدار سعته أو ضيقه لا يكون إلاّ الصدق العرفي ، فلو رأينا إطلاق العرف لفظ الماء على ماء الكبريت ، نستكشف عن أنّه موضوع لمعنى وسيع في الواقع.

١٩١

وعلى الجملة : فالمتبع في إثبات سعة المعنى أو ضيقه إنّما هو فهم العرف ، والصدق عندهم دليل على سعة المعنى بالقياس إلى ذلك المورد ، كما أنّ عدم الصدق دليل على عدم السعة.

تتلخص نتيجة جميع ما ذكرناه لحدّ الآن في خطوط :

الخط الأوّل : فساد توهم الاشتراك في وضع ألفاظ العبادات كما سبق.

الخط الثاني : فساد توهم كون الوضع فيها عاماً والموضوع له خاصاً.

الخط الثالث : عدم إمكان تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح.

الخط الرابع : إمكان تصوير جامع عنواني على هذا القول ، إلاّ أنّه ليس بموضوع له كما عرفت.

الخط الخامس : جواز تصوير جامع ذاتي بين الأعم من الصحيحة والفاسدة.

فالنتيجة على ضوء هذه الخطوط الخمسة قد اصبحت أنّ ألفاظ العبادات كالصلاة ونحوها ، موضوعة للجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة ، لا لخصوص الجامع بين الأفراد الصحيحة.

ومن هنا لا مجال للنزاع في مقام الإثبات عن أنّ الألفاظ موضوعة للصحيح أو للأعم ، فانّ النزاع في هذا المقام متفرع على إمكان تصوير الجامع على كلا القولين معاً ، فإذا لم يمكن تصويره إلاّعلى أحدهما فلا مجال له أصلاً. إذن لا بدّ من الالتزام بالقول بالأعم ولا مناص عنه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المرتكز في أذهان المتشرعة هو أنّ إطلاق لفظ الصلاة على جميع أفرادها الصحيحة والفاسدة على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها ، ضرورة أنّهم يستعملون هذا اللفظ في الجميع غافلين عن لحاظ قرينة المجاز والعناية في موارد إطلاقه على الفرد الفاسد ، فلو كان اللفظ موضوعاً

١٩٢

لخصوص الصحيح فلا محالة كان إطلاقه على الفاسد محتاجاً إلى لحاظ عناية وقرينة ، مع أنّ الأمر على خلاف ذلك ، وأنّ الاستعمال في الجميع على نسق واحد ، فلا فرق بين قولنا : فلان صلّى صلاة صحيحة ، أو تلك الصلاة صحيحة ، وبين قولنا : فلان صلّى صلاة فاسدة ، أو هذه الصلاة فاسدة وهكذا ، وحيث إنّ استعمالات المتشرعة تابعة للاستعمالات الشرعية ، فتكشف تلك عن عموم المعنى الموضوع له عند الشارع المقدس أيضاً.

ثمرة المسألة

ذكروا لها ثمرات :

الاولى : ما اشتهر فيما بينهم من أنّ الأعمي يتمسك بالبراءة في موارد الشك في الأجزاء والشرائط، والصحيحي يتمسك بقاعدة الاشتغال والاحتياط في تلك الموارد.

ولكن التحقيق أنّ الأمر ليس كذلك ، ولا فرق في التمسك بالبراءة أو الاشتغال بين القولين أصلاً.

والوجه في ذلك : هو أنّا إذا قلنا بالوضع للأعم فالتمسك بالبراءة مبتن على القول بانحلال العلم الإجمالي في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، فانّه إن قلنا بالانحلال وأنّ العلم الاجمالي ينحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن وجوب الأكثر والتقييد الزائد ، فانّ مسألتنا هذه من إحدى صغريات كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك لأنّ تعلق التكليف في المقام بالطبيعي الجامع بين المطلق والمقيد معلوم لنا تفصيلاً ـ وهو الماهية المهملة العارية عن جميع الخصوصيات ـ وإنّما شكنا هو في تعلّقه به على

١٩٣

نحو الإطلاق بمعنى عدم تقييده بشيء لا جزءاً ولا شرطاً ، أو على نحو التقييد به بأحد النحوين المزبورين ، فحينئذ إن قلنا بانحلال العلم الإجمالي في تلك المسألة والرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد عن المقدار المعلوم كما هو كذلك ، فنقول هنا أيضاً بالانحلال والرجوع إلى البراءة عن التقييد الزائد. وأمّا لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجمالي في تلك المسألة فلا بدّ من الاحتياط والرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، وعلى ذلك فلا ملازمة بين قول الأعمي والرجوع إلى البراءة.

وأمّا على الصحيحي : فإن قلنا بأنّ متعلق التكليف عنوان بسيط ، وخارج عن الأجزاء والشرائط ، وإنّما هي سبب لوجوده ، فلا محالة يكون الشك في جزئية شيء أو شرطيته شكّاً في المحصّل ، فلا بدّ من القول بالاشتغال ، إلاّ أنّ هذا مجرّد فرض غير واقع في الخارج ، بل إنّه خلاف مفروض البحث ، إذ المفروض أنّ متعلق التكليف هو الجامع بين الأفراد الصحيحة ، ونسبته إلى الأجزاء والشرائط نسبة الطبيعي إلى أفراده أو نسبة العنوان إلى معنونه ، وعلى كلا التقديرين فلا يكون المأمور به مغايراً في الوجود مع الأجزاء والشرائط ومسبباً عنها.

وعلى الجملة : أنّ كلا من السبب والمسبب موجود في الخارج بوجود مستقل على حياله واستقلاله ، كالقتل المسبب عن مقدمات خارجية ، أو الطهارة الخبثية المسببة عن الغسل ، بل الحدثية المسببة عن الوضوء والغسل والتيمم على قول ، فإذا كان المأمور به أمراً بسيطاً مسبباً عن شيء آخر ، ومترتباً عليه وجوداً ، فلا محالة يرجع الشك في جزئيه شيء أو شرطيته بالإضافة إلى سببه إلى الشك في المحصّل ، ولا إشكال في الرجوع معه إلى قاعدة الاشتغال في مورده.

ولكن المقام لا يكون من ذلك الباب ، فانّ الجامع الذي فرض وجوده بين الأفراد الصحيحة لا يخلو أمره من أن يكون من الماهيات المتأصلة المركبة ، أو

١٩٤

البسيطة ، أو من الماهيات الاعتبارية والعناوين الانتزاعية ، وعلى كل تقدير لا بدّ من أن يكون منطبقاً على الأجزاء والشرائط الخارجية انطباق الكلي على أفراده ، ومعه لا يرجع الشك إلى الشك في المحصّل ليكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال.

أمّا على الأوّل : فلأنّ المفروض أنّ الجامع هو عين الأجزاء والشرائط ، فالأجزاء مع شرائطها بأنفسها متعلقة للأمر ، ووحدتها ليست وحدة حقيقية ، بل وحدة اعتبارية ، بداهة أنّه لاتحصل من ضم ماهية الركوع إلى ماهية السجود ماهية ثالثة غير ماهيتهما ، وعليه فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عند الشك في اعتبار شيء زائد على المقدار المعلوم ، بناءً على صحّة الانحلال في مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنّ تعلق التكليف حينئذ بالمقدار المتيقن من الأجزاء وقيودها معلوم ، والشك في غيره شك في التكليف ، فالمرجع فيه البراءة ، وبناءً على عدم الانحلال في تلك المسألة فالمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

وأمّا على الثاني : فكذلك ، لأنّ الطبيعي عين أفراده خارجاً ومتحد معها عيناً ، فالأمر المتعلق به متعلق بالأجزاء مع شرائطها ، سواء قلنا بأنّ متعلق الأوامر الطبائع أم قلنا بأ نّه الأفراد ، أمّا على الثاني واضح. وأمّا على الأوّل ، فلاتحاد الطبيعي معها ، غاية الأمر أنّ الخصوصيات الفردية غير دخيلة في ذلك ، فعلى كلا القولين يرجع الشك في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً إلى الشك في إطلاق المأمور به وتقييده ، لا إلى أمر خارج عن دائرة المأمور به ، فبناءً على الانحلال في تلك المسألة كان المرجع فيه البراءة عن التقييد المشكوك فيه.

وأمّا على الثالث : فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّ الأمر الانتزاعي لا وجود له خارجاً ليتعلق به الأمر ، وإنّما الموجود حقيقة هو منشأ انتزاعه ، فالأمر في الحقيقة متعلق بمنشأ الانتزاع ، وهو في المقام نفس الأجزاء والشرائط ، وأخذ

١٩٥

ذلك الأمر الانتزاعي في لسان الدليل متعلقاً للأمر إنّما هو لأجل الاشارة إلى ما هو متعلق الحكم في القضيّة.

فالنتيجة : أنّ الشك في اعتبار جزء أو قيد على جميع التقادير يرجع إلى الشك في تقييد نفس المأمور به بقيد زائد على المقدار المتيقن ، فبناءً على ما هو الصحيح من انحلال العلم الاجمالي عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر نرجع هنا إلى البراءة.

وبتعبير آخر : أنّا قد بيّنا في مبحث النهي عن العبادات وأشرنا فيما تقدّم (١) أيضاً أنّ الصحّة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً لا يعقل أخذها في متعلق الأمر لتأخرها عنه ، فالمتعلق على كلا القولين نفس الأجزاء مع قيودها الخاصة ، غاية الأمر أنّه على القول بالوضع للصحيح كان المسمّى تمام الأجزاء مع تمام القيود ، وعلى القول بالوضع للأعم كان هو الأعم ، وعلى هذا كان الشك في اعتبار أمر زائد على المقدار الذي نعلم بتعلق الأمر به من الأجزاء والشرائط مورداً للبراءة ، بلا فرق في ذلك بين القول بالصحيح والقول بالأعم.

فتلخّص : أنّ أخذ الصحّة بمعنى التمامية في المسمّى لا يمنع عن جريان البراءة على القول بالانحلال كما هو القوي.

فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه : أنّ القول بوضع الألفاظ للأعم لا يلزمه جريان البراءة دائماً ، كما أنّ القول بوضعها للصحيح لا يلزمه الالتزام بالاشتغال كذلك ، بل هما في ذلك سواء ، فان جريان البراءة وعدمه مبنيان على الانحلال وعدمه في تلك المسألة ، لا على الوضع للصحيح أو الأعم.

__________________

(١) في ص ١٥٥.

١٩٦

وعلى ضوء هذا يستبين فساد ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّه على الصحيحي لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، كما أنّه على الأعمي لا مناص من الرجوع إلى البراءة ، بتقريب أنّ تصوير الجامع على الصحيحي لا يمكن إلاّبتقييد المسمّى بعنوان بسيط خاص ، إمّا من ناحية علل الأحكام أو من ناحية معلولاتها ، وأنّ هذا العنوان خارج عن المأتي به ومأخوذ في المأمور به ، وعليه فالشك في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً لا محالة يوجب الشك في حصول العنوان المزبور ، فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في المحصّل ، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال دون البراءة.

والوجه في فساده : هو ما سبق من أنّ الجامع على القول بالصحيح على كل تقدير لا بدّ من أن ينطبق على الأجزاء والشرائط انطباق الكلي على فرده ، وعليه كان الشك في اعتبار جزء أو قيد في المأمور به من دوران المأمور به نفسه بين الأقل والأكثر ، فعلى القول بالانحلال كان المرجع فيه البراءة عن وجوب الأكثر ، فنتيجة ذلك هي أنّ المأمور به بتمام أجزائه وشرائطه هو الأقل دون الأكثر ، وقد عرفت أنّ القول بالاشتغال مبني على أن يكون المأمور به عنواناً بسيطاً مسبباً عن الأجزاء والشرائط الخارجيتين ومتحصلاً منهما ، وهو خلاف المفروض.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّه على الصحيحي لا بدّ من تقييد المسمّى بعنوان بسيط ، إمّا من ناحية العلل أو من ناحية المعلولات ، فيردّه : أنّه خلط بين الصحّة الفعلية التي تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج ، والصحّة بمعنى التمامية ، فالحاجة إلى التقييد إنّما تكون فيما إذا كان النزاع بين الصحيحي والأعمي في أخذ الصحّة الفعلية في المسمّى وعدم أخذها فيه ، فانّه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٦٦.

١٩٧

على الصحيحي لا بدّ من تقييده بعنوان خاص كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، أو نحوه ممّا هو مؤثر في حصول الغرض.

ولكن قد تقدّم أنّه لا يعقل أخذها في المأمور به فضلاً عن أخذها في المسمّى ، فلا تكون الصحّة بهذا المعنى مورداً للنزاع ، فانّ النزاع كما عرفت مراراً إنّما هو في الصحّة بمعنى التمامية ، ومن المعلوم أنّها ليست شيئاً آخر وراء نفس الأجزاء والشرائط بالأسر ، ولا هي موضوع للآثار ، ولا مؤثرة في حصول الغرض ، وعليه فلا حاجة إلى تقييد المسمّى بعنوان بسيط خارج عنهما.

ومن هنا يظهر أنّ هذه المسألة ليست من المسائل الاصولية ، والوجه في ذلك هو ما حقّقناه في أوّل الكتاب (١) في مقام الفرق بين المسائل الاصولية ومسائل بقية العلوم ، من أنّ كل مسألة اصولية ترتكز على ركيزتين أساسيتين :

الركيزة الاولى : أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي الإلهي ، وبهذه الركيزة امتازت المسائل الاصولية عن القواعد الفقهية بأجمعها على بيان تقدّم.

الركيزة الثانية : أن يكون وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ، أي بلا ضم كبرى أو صغرى اصولية اخرى إليها ، وبهذه الركيزة امتازت عن مسائل سائر العلوم الدخيلة في الاستنباط من النحو والصرف والرجال والمنطق واللغة ونحو ذلك ، فان مسائل هذه العلوم وإن كانت دخيلة في الاستنباط ، إلاّ أنّها ليست بحيث لو انضمّ إليها صغرياتها أنتجت نتيجة فقهية.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ هذه المسألة ليست من المسائل الاصولية ، بل هي من المسائل اللغوية ، فلا تقع في طريق الاستنباط بلا ضم كبرى اصولية

__________________

(١) في ص ٤.

١٩٨

إليها ، وهي كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويترتب على ذلك : أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة ، بل هي ثمرة لمسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وهي من مبادئ تلك المسألة ، فالبحث عنها محقق لموضوع البحث عن تلك المسألة ، وكذا الثمرة الآتية ،

فانّها ثمرة لمسألة المطلق والمقيد دون هذه المسألة.

نعم ، هي محققة لموضوع التمسك بالإطلاق ، فالبحث عن جواز التمسك بالاطلاق وعدم جوازه وإن كان بحثاً عن مسألة اصولية ، إلاّ أنّ البحث عن ثبوت الاطلاق وعدمه بحث عن المبادئ.

الثمرة الثانية : ما ذكره جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّه يجوز التمسّك بالإطلاق أو العموم على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً ، ولا يجوز التمسك به على القول بالصحيح ، بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى الاصول العملية ، بيان ذلك : أنّ التمسك بالإطلاق يتوقف على إثبات مقدّمات :

الاولى : أن يكون الحكم في القضيّة وارداً على المقسم بين قسمين أو أقسام ، بأن يكون له قابلية الانطباق على نوعين أو أنواع.

الثانية : أن يحرز كون المتكلم في مقام البيان ولو بأصل عقلائي ، ولم يكن في مقام الإهمال أو الإجمال.

الثالثة : أن يحرز أنّه لم ينصب قرينة على التعيين.

فإذا تمّت هذه المقدّمات استكشف بها الإطلاق في مقام الثبوت ، وأنّ مراده الاستعمالي مطابق لمراده الجدي ، وليس لأيّة خصوصية مدخلية فيه ، فإذا شكّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨.

١٩٩

في دخل خصوصية من الخصوصيات فيه يدفع ذلك بالإطلاق في مقام الاثبات ، وحيث إنّ هذه المقدمات تامّة على القول بالوضع للأعم ، فانّ الحكم حينئذ قد تعلق بالطبيعي الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة ، فإذا احرز أنّ المتكلم في مقام البيان ، ولم ينصب قرينة على التقييد ، فلا مانع من التمسك بالاطلاق لدفع ما شكّ في اعتباره جزءاً أو قيداً ، لأنّه شكّ في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ ، وفي مثله لا مانع عن التمسك بالإطلاق لاثبات عدم اعتباره.

وعلى الجملة : فعلى القول بالأعم إذا تمّت المقدمتان الأخيرتان يجوز التمسك بالإطلاق لدفع كل ما احتمل دخله في المأمور به جزءاً أو شرطاً ، لتمامية المقدمة الاولى على الفرض ، وعليه فما ثبت اعتباره شرعاً بأحد النحوين المزبورين فهو ، والزائد عليه حيث إنّه مشكوك فيه ولم يعلم اعتباره فالمرجع فيه الإطلاق ، وبه يثبت عدم اعتباره.

وهذا بخلاف القول بالوضع للصحيح ، فانّ المقدمة الاولى على هذا القول مفقودة ، إذ الحكم حينئذ لم يرد إلاّعلى الواجد لتمام الأجزاء والشرائط ، فلو شكّ في جزئية شيء أو شرطيته ، فلا محالة يرجع الشك إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للمشكوك فيه ، لاحتمال دخله في المسمّى ، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق.

فقد تحصّل من ذلك : جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم في موارد الشك في الأجزاء والشرائط ، وعدم جوازه على القول بالصحيح.

نعم ، على القول بالأعم لو شكّ في كون شيء ركناً للصلاة أم لم يكن ، فلا يجوز التمسك بالاطلاق ، لأنّ الشك فيه يرجع حينئذ إلى الشك في صدق اللفظ ، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق كما مرّ بيانه.

وقد يورد على هذه الثمرة بوجوه :

٢٠٠